مقدمة

فجر الشبكة الإنسانية

لم يخطط جيك وجيك لجعل عالم تصميم الجرافيك ملكًا للجميع، بل أرادا صنع تي شيرتات جذابة فحسب. ففي عام ٢٠٠٠ كان جيك نيكيل وجيكوب ديهارت — حسب اسميهما الرسميين — شابين لم يكملا تعليمهما الجامعي ويعيشان في شيكاغو، ولم يعثر أي منهما على فرص عمل كثيرة يستثمر فيها خبرته التعليمية القصيرة. كان الاثنان من المتحمسين لثقافة آخذة في الانتشار تعاملت مع التي شيرتات البسيطة باعتبارها أقمشة لوحة زيتية يضعون عليها ما يشطح إليه خيالهم من رسومات. لذا عندما تقابلا بعد الاشتراك في مسابقة على الإنترنت لتصميم تي شيرت، كان يوجد بالفعل ما يجمع بينهما من العديد من السمات المشتركة. فبادئًا ذي بدء، رأى كلاهما أن إقامة مسابقة تصميم خاصة بهما فكرة سديدة، لكن بدلًا من الاستعانة بمحكمين، سيكون المصممون أنفسهم المسئولين عن اختيار الفائز. وفي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من ذلك العام ولدت شركتهما التي كانت ثمرة لمثالية الشباب والمجهود الشاق على حد سواء.١
أطلق الاثنان موقع ثريدلس Threadless.com بعد مرور بضعة أشهر بخطة عمل كانت لا تزال في المرحلة التمهيدية، وكانت الخطة تتمثل في أن يقدم الناس تصميمات لتي شيرتات جديدة، ثم يصوت المستخدمون على أفضل تي شيرت، ويحصل الفائز على تي شيرتات مجانية تحمل تصميمه الرابح، ويتسنى لباقي الأفراد فرصة شراء التي شيرت. في البداية، أدار الاثنان — اللذان يعرفان بين الناس بجيك وجيك — موقع ثريدلس من حجرة نوم نيكل، بيد أن الشركة نمت أكثر فأكثر. أحب الناس التصويت لأفضل التي شيرتات، وكانت التصميمات أقل وقارًا وتوافقًا مع أحدث خطوط الموضة المألوفة من تلك التي شيرتات التي تبيعها شركات إيربان أَوْتفيترز أو أولد نيفي. بدأت التصميمات الرابحة في الظهور بالبرامج التلفزيونية الناجحة وعلى أظهر قمصان مطربي الهيب هوب، وراحت أرباح الشركة تتضاعف تقريبًا كل عام منذ ذلك الحين. وحاليًّا يتلقى موقع ثريدلس ما يقرب من ألف تصميم أسبوعيًّا، ويصوت عليها جمهور الموقع الذي يبلغ ستمائة ألف فرد، ثم تختار الشركة بعد ذلك تسعة تصميمات لطباعتها من بين أفضل مائة تصميم، وتنفد الكميات الموجودة لكل تصميم، وهذا لا يدعو إلى الدهشة نظرًا لأن موقع ثريدلس يستشعر بدقةٍ حاجة المستهلكين قبل أن يرسل التصميم إلى المطبعة من الأساس.

•••

لم يؤثر إتاحة الفرصة للجمهور للاشتراك في تصميم التي شيرتات بالسلب على الأرباح الصافية كما اتضح بعد ذلك؛ فقد حقق موقع ثريدلس إيرادات تبلغ ١٧ مليون دولار عام ٢٠٠٦ (بحسب آخر عام أظهر فيه الموقع معدلات المبيعات)، وواصل معدل نموه السريع دون شك وفق كل المقاييس. ويؤكد جيفري كالميكوف، الرئيس التنفيذي للتصميم الإبداعي، أن الشركة تبيع حاليًّا تسعين ألف تي شيرت شهريًّا في المتوسط، وتحقق الشركة «هامش أرباح مذهل». تنفق شركة ثريدلس ٥ دولارات لصنع تي شيرت يباع بمبلغ يتراوح بين ١٢ دولار و٢٥ دولار. وليست الشركة بحاجة إلى ميزانية للإعلان أو التسويق، إذ يؤدي الجمهور هذه الوظائف على نحو رائع؛ فالمصممون ينشرون خبر المسابقة أثناء محاولاتهم إقناع الأصدقاء بالتصويت لتصميماتهم، ويكافئ موقع ثريدلس جمهوره بخصومات بالمتاجر في كل مرة يرسل فيها أي فرد صورة شخصية يرتدي فيها أحد تي شيرتات ثريدلس (خصومات قدرها ١٫٥ دولار) أو ينصح صديقًا بشراء تي شيرت (خصومات قدرها ٣ دولارات).

خلال ذلك لا تتعدى تكلفة التصميمات نفسها تكلفة تي شيرت واحد. رفع ديهارت ونيكل قيمة الجائزة المقدمة للمصممين الرابحين إلى ٢٠٠٠ دولار نقدًا و٥٠٠ دولار في صورة كوبونات، ومع ذلك لا يبلغ إجمالي تلك الجوائز إلا مليون دولار سنويًّا، وهو ما لا يشكل سوى جزء ضئيل من الدخل الإجمالي للشركة، وتحتفظ الشركة بكافة حقوق الملكية الفكرية.

بيد أن عددًا كبيرًا من الفائزين سيتطوع بكل سرور، فالأمر لا يتعلق بالمال، بل يتعلق بالمصداقية، أو إذا أردنا إضفاء صبغة نظرية، فإن الأمر يتعلق باقتصاد الشهرة الناشئ؛ إذ يعمل الناس حتى ساعات متأخرة من الليل في محاولة للإتيان بشيء مبتكر على أمل أن يقدر جمهورهم — يكون في هذه الحالة زملاؤهم من المصممين أو العلماء أو قراصنة الحاسب الآلي — إسهامهم بما يتمثل في منحهم تقديرًا أو شيئًا من الشهرة. أصبحت رؤية أفضل التي شيرتات مبيعًا لثريدلس (على غرار تي شيرت «الحزب الشيوعي» وهو تي شيرت أحمر مطبوع عليه صورة كارل ماركس وهو يرتدي قبعة على شكل مظلة مصباح فوق رأسه) مألوفة بالمقاهي والملاهي الليلية من لندن إلى لوس أنجلوس.

•••

صار جيك وجيك الآن يتمتعان بقدر من الشهرة. لقد أصبح نيكل وديهارت بطلين ورمزين بين مجموعة المصممين الهواة، حتى إنهما ألقيا محاضرات لطلبة ماجستير إدارة الأعمال بكلية سلون للإدارة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. وراح المدراء التنفيذيون الطامحون يشرحون لساعات ما قوضه جيك وجيك من ركائز أساسية لبناء المشروعات وذلك خلال رحلة تأسيسهما لشركة ثريدلس، ومن حسن الحظ أنهم لم يكونوا موجودين عندما أنشأ نيكل وديهارت شركتهما للمرة الأولى. إن نيكل وديهارت كانا يتمتعان بقدر كاف من الذكاء للتعرف على الأفكار السديدة عندما يصادفانها. لقد أنشأ الاثنان شركة أُمًّا وهي سكيني كوربالتي لم تضم ثريدلس فحسب بل شملت أيضًا قسمًا فرعيًّا مستقلًا يتبنى منهجًا ديمقراطيًّا مماثلًا في ابتكار كل شيء بدءًا من السترات الصوفية إلى الحقائب الكبيرة وملاءات السرير، ويقول نيكل: «نفكر الآن في صنع الأدوات المنزلية كخطوة تالية».

(١) اقتصاد عَرَضيّ

في أواخر عام ٢٠٠٥ نشرت مؤسسة بيو إنترنت آند أمريكان لايف ورقة بحثية تحت عنوان «صانعو المحتوى المقدم للمراهقين ومستهلكوه»،٢ ولم تجذب الدراسة التي تألفت من حوارات مع ما يزيد عن ألف ومائة أمريكي تتراوح أعمارهم بين الثانية عشرة والسابعة عشرة سوى القليل من الانتباه عند نشرها، بيد أن النتائج كانت غير عادية؛ فقد كشفت عن أن عدد المراهقين الذين يصممون محتوى للإنترنت يفوق ببساطة عدد المراهقين الذين يستهلكونه. وفي ذلك الوقت كان هناك افتراض شائع وهو أن التلفزيون قد خلق جيلًا من المستهلكين يتصف بسلبية ليس لها مثيل، غير أنه يبدو الآن أن الوضع هو العكس تمامًا. تنبأ الكاتب المستقبلي إلفين توفلر في كتابه «الموجة الثالثة» أن المستهلكين سيمارسون سيطرة أكبر في تصميم المنتجات التي يستهلكونها؛ أي سيصبحون باختصار «منتجين مستهلكين». في عام ١٩٨٠ العام الذي نشر فيه توفلر كتابه، بدا ذلك وكأنه ليس إلا مادة لروايات الخيال العلمي السيئة، ولكن من منظور عام ٢٠٠٥ بدا أن الكتاب أظهر بصيرة مدهشة للغاية في نفاذها.
أكدت نتائج دراسة مؤسسة بيو تجربتي الشخصية الأخيرة؛ فقبيل بضعة شهور من نشر الدراسة كنت أسافر عبر البلاد لأحضر حفلات مهرجان «واربت تُور»، وهي مجموعة كرنفالية من فرق موسيقية للبانك روك، وانتقلت مع المهرجان من بلدة إلى أخرى. كنت أكتب عن موقع التواصل الاجتماعي ماي سبيس MySpace، الذي كان يُعْرَفُ — بقدر ما كان يعرف في الأساس — بأنه ملتقى للتسويق القائم على الأشخاص العاديين لفرق الإيمو والممثلين الكوميديين غير الناجحين ونماذج جيل الألفية. وخلال الساعات التي أمضيتها مع المؤدين والمعجبين، لاحظت أن عددًا قليلًا للغاية عرف نفسه عازفًا أو فنانًا أو تحت أي من تلك الألقاب الأخرى. كان المطربون ينشرون كتبًا في الشعر، والطبالون كانوا مخرجي تلفزيون واعدين وعمال صيانة معدات الفرقة كانوا يعملون منتجي أسطوانات أيضًا. كان كل شيء ينشر على الإنترنت — حتى الصور المرسومة بالقلم الرصاص لأي من العازفين — بأدنى حد من الاهتمام بجودة الإنتاج، وهؤلاء هم من يطلق عليهم مارك برنسكي — وهو مصمم ألعاب ومعلم — مسمى «المواطنون الرقميون». أدى التدني السريع لتكلفة الأدوات اللازمة لإنتاج وسائل ترفيهية — بدءًا من تحرير البرامج إلى كاميرات الفيديو الرقمية — جنبًا إلى جنب مع شبكات توزيع مجاني عبر الويب؛ إلى ظهور جماعة ذات ثقافة مختلفة كليًّا عن أي شيء صادفناه من قبل: دولة داخل دولة قادرة تمامًا على الترفيه عن نفسها.

سمعت بعد ذلك عن الحملة الإعلانية لشركة كونفرز جاليري للأحذية، والتي تطلب فيها الوكالة الإعلانية القائمة بالحملة فقرة إعلانية قصيرة مدتها أربع وعشرون ثانية يعدها أي شخص بإمكانه استخدام كاميرا فيديو. كان لا بد أن تعبِّر المقاطع القصيرة بطريقة أو بأخرى عن ولع بطراز تشاك تايلرز، ولم يكن مطلوبًا منها أكثر من ذلك، ولم يكن المصورون في حاجة حتى إلى إظهار الحذاء. كانت أفضل الإعلانات غاية في الروعة؛ إذ كانت مثيرة ومفعمة بطاقات الابتكار، بيد أنها كانت غير واضحة المعالم حتى إن المنتجات المعروضة لم تبدُ حقيقية، مع أن المنتجات كانت حقيقية بالفعل. في غضون ثلاثة أسابيع، تلقت الشركة سبعمائة وخمسين عرضًا، وقد ارتفع هذا الرقم إلى الآلاف قبل أن توقف شركة كونفرز الحملة أوائل عام ٢٠٠٧، وقد اعتبرت الشركة ومجال صناعة الإعلانات أن الحملة حققت نجاحًا ساحقًا، إلى جانب كونها نموذجًا رائدًا لما يُطْلَقُ عليه الآن محتوى من صنع المستخدم.

كان ذلك عالم الإعلام الجديد للغاية: محتوى يصنعه الهواة. وكشف بحث صغير أن الهواة كانوا يقدمون إسهامات غير مسبوقة في مجالات العلوم أيضًا، وأصبح واضحًا أن النظر إلى شاب يصنع إعلانه الخاص لشركة كونفرز باعتباره شيئًا مختلفًا نوعيًّا عن عالم كيمياء يحاول اختراع نوع جديد من السماد العضوي في عطلته الأسبوعية يعد إساءة فهم للعوامل الفاعلة في هذين السياقين. فالعوامل الديناميكية — مثل تكاليف الإنتاج المنخفضة والزيادة في أعداد الموهوبين الذين يعملون بوظائف لا تستغل كامل مهاراتهم وطاقتهم الإبداعية والتنامي في عدد مجتمعات الإنترنت التي تضم مجموعات من المتحمسين لأفكار مشتركة — الفاعلة في الحالة الأولى هي العوامل نفسها الفاعلة في الحالة الثانية. كان من الواضح أن هناك ثورة وليدة آخذة في التبلور؛ ثورة سيكون لها بالغ الأثر في الكيمياء وصناعة الإعلانات بالإضافة إلى الكثير من المجالات الأخرى. في يونيو (حزيران) ٢٠٠٦ نشرت مقالة في مجلة وايَرْد وأطلقت اسمًا على هذه الثورة وهو: تعهيد (إسناد) الأعمال للجماهير عبر الإنترنت.٣ إلا أنني، في واقع الأمر، قللت من شأن السرعة التي يمكن لتعهيد الأعمال للجماهير عبر الإنترنت أن يشكل بها ثقافتنا واقتصادنا، ونطاق تلك التأثيرات. في حقيقة الأمر، سرعان ما سيكتب، ليس المواطنون الرقميون فحسب، بل أيضًا الوافدون الرقميون (الذين يمكن أن نعرفهم بأنهم الأشخاص الذين لا يزالون يستقون أخبارهم من الجرائد) نقدًا للكتب، ويبيعون صورهم الخاصة، ويبتكرون استخدامات جديدة لخرائط جوجل، بل يصممون التي شيرتات.

أثناء استمراري في تتبع ذلك الاتجاه، تعلمت الكثير عن مقومات نجاحه. إن لم يكن الأمر واضحًا بالفعل، يمكننا أن نوضحه بالقول إن مجال عمل شركة ثريدلس ليس مجال صنع التي شيرتات حقًّا؛ فسلعتها الجمهور. روس زايتس هو أحد المصممين بشركة ثريدلس ويبلغ من العمر سبعة وعشرين عامًا وقد استُقدم لإدارة جمهور الموقع بعد أن فازت تصميماته ثماني مرات وحطم بذلك الرقم القياسي، فيقول: «عندما قرأت أنه يوجد موقع يمكنك إرسال تصميماتك إليه وتحصل بعدها على تقييم، تبادر إلى ذهني على الفور أن هذا الأمر رائع.» وأردف قائلًا: «أتحدث الآن مع المصممين الآخرين، وقد استمدوا إلهامهم من الشيء نفسه مثلي، فالأمر شغف كالإدمان، لا سيما إذا كنت طالبًا بكلية تصميم أو موظفًا بشركة حيث تلتزم في إطار تعليمات صارمة.» إن القيد الوحيد بشركة ثريدلس، على النقيض، هو أن التصميم لا بد أن يصلح لوضعه على التي شيرتات.

أشار مؤسسا ثريدلس إلى أن الشركة نشأت بمحض الصدفة ليس إلا؛ فلم يتعمد أي من مؤسسيها «مضاعفة الأرباح» أو «استغلال الكفاءات التي صنعها الإنترنت» بل كان كل ما أراداه إعداد موقع إلكتروني رائع يمكن فيه للناس الذين يشاركونهما حب الشيء نفسه الشعور بالراحة وكأنهم وسط ذويهم. وأثناء سعيهما وراء تحقيق هذا الهدف المتواضع، انتهى بهما الحال إلى اكتشاف طريقة جديدة كليًّا لتأسيس شركة.

•••

وفي الوقت ذاته تقريبًا الذي عثر فيه جيك وجيك على المجال التجاري الملائم لهما، كان بروس ليفنجستون يعثر أيضًا على المجال التجاري الملائم له. لقد أنشأ ليفنجستون، وهو مصمم مواقع إنترنت وصاحب أعمال حرة وعازف بانك روك سابق؛ موقعًا إلكترونيًا عام ٢٠٠٠ يمكن من خلاله أن يتبادل هو ومصممون آخرون يعرفهم صورهم معًا. وبهذه الطريقة أمكنهم تجنب دفع مال لشركات الصور الجاهزة — التي كانت عادةً تأخذ بضع مئات من الدولار لكل صورة — وفي الوقت نفسه أمكنهم تطوير مهاراتهم. ازداد جمهور الموقع، الذي أطلق عليه آي ستوك فوتو iStockphoto، وكان أغلب رواده من المصورين الهواة. سرعان ما بدأ ليفنجستون في طلب رسوم رمزية — خمسة وعشرين سنتًا — لكل صورة، وكان جزء من المبلغ يذهب إليه فيما يذهب الجزء الآخر للمصور. ولما كان مديرو الموقع لا يعتمدون على الإيرادات مصدر رزق لهم، فقد كانت الأمور تسير بسلالة وكان هذا المبلغ دخلًا إضافيًّا لهم. كان العمل على ما يرام، بل أصبح أفضل فيما بعد. كان موقع آي ستوك فوتو يتحدى أسعار كبرى شركات الصور الجاهزة بنسبة تسعة وتسعين بالمائة، وفي الوقت نفسه كان يشجع ويدعم تيارًا متوهجًا من الفنون الإبداعية. أحدث ليفنجستون هزة شديدة في العالم الجامد لصناعة الصور الجاهزة. إن الصور الجاهزة — التي لا تتعدى كونها صورًا موجودة من قبل مصرح بإعادة استخدامها — هي الكذبة البيضاء في عالم النشر؛ لأنه يعاد نشر الصورة نفسها ولكن في كل مرة تصاحب موضوعًا مختلفًا عن الموضوعات الأخرى. إن صورة الأم السعيدة التي تهدهد رضيعها في مجلة نسائية هي صورة جاهزة، كذلك فإن صورة أولئك المديرين التنفيذيين المتأنقين من مختلف الأجناس المنشورة على غلاف نشرة شركة ميريل لينش، قد تراها مرة أخرى على أنها صورة وكلاء التأمين المتأنقين مختلفي الأجناس المطبوعة على غلاف نشرة لشركة أولستيت مثلًا.

أدركت شركة جيتي إيميدجز أن نمو شركة آي ستوك جاء على حساب أعمالها؛ من ثم قامت في عام ٢٠٠٦ بشراء شركة ليفنجستون مقابل ٥٠ مليون دولار. كانت صفقة رابحة؛ فقد باعت شركة آي ستوك فوتو ١٨ مليون صورة ورسم توضيحي ومقطع فيديو مما حقق أرباحًا لشركة جيتي بلغت ٧٢ مليون دولار. قدر بنك الاستثمار جولدمان ساكس أن إيرادات شركة آي ستوك ستقفز إلى ٢٦٢ مليون دولار بحلول عام ٢٠١٢، وفي غضون ذلك تتوقع شركة جيتي أن تواجه عروض الصور الجاهزة التقليدية الخاصة بها انخفاضًا شديدًا في الفترة نفسها.

ليست شركتا ثريدلس وآي ستوك فوتو بدعًا مستحدثة، بل تشكلان جزءًا من الموجة الأولى لثورة في التجارة والثقافة ستغير الطريقة التي ننظر بها إلى الإنترنت والتجارة، والأهم من ذلك إلى أنفسنا. على مدار الأعوام السبعة الماضية، بدأ الناس من مختلف أنحاء العالم في إظهار سلوك اجتماعي غير مسبوق تمامًا: فقد بدءوا في التعاون لتأدية المهام عادةً مقابل القليل من المال أو دون مقابل، وهو ما كان قاصرًا فيما سبق على الموظفين، وراحت هذه الظاهرة تنتقل سريعًا بين المجالات المختلفة من التصوير الاحترافي إلى الصحافة والعلوم.

لتعهيد الأعمال للجماهير عبر الإنترنت جذوره في مبدأ المصدر المفتوح في عالم برمجيات الحاسب الآلي. لقد برهن تطور نظام تشغيل لينكس على أن أي جمهور من ذوي الميول المشتركة يستطيع صنع منتج أفضل من شركة عملاقة كميكروسوفت، وكشفت برامج المصدر المفتوح عن حقيقة جوهرية تتعلق بالبشر لم ينتبه إليها أحد في أغلب الأحيان حتى أظهرتها بوضوح شديد قدرة الإنترنت على الربط: غالبًا يمكن تنظيم العمالة في سياق مجتمعي تنظيمًا أفضل منه في سياق عالم الشركات. إن أنسب شخص لإنجاز مهمة ما هو أكثر شخص يريد تنفيذ تلك المهمة، وأنسب الأشخاص لتقييم أدائه هم الأصدقاء والنظراء والذين سينضمون إليه في الأمر بحماس بغية تطوير الناتج النهائي، مقابل الحصول على المتعة الخالصة النابعة من مساعدة أحدهم الآخر وصنع شيء رائع سيفيدهم جميعًا.

ليس هذا كلامًا نظريًّا فقط، فالمجهودات المجانية لم تعادل أفضل الجهود التي تبذلها بعض من كبرى الشركات في العالم فحسب، بل تفوقت عليها، وهذا يفسر ضخ شركة آي بي إم مليارات الدولارات في تطوير مجالات المصدر المفتوح، ويعلم المحللون بشركة آي بي إم أن البرامج المجانية ستحقق عوائد.٤ ومن نظام تشغيل لينكس لبرنامج خادم الآباتشي لمتصفح الإنترنت فايرفوكس، تأسست غالبية البنية التحتية لاقتصاد المعلومات على يد فريق من المتطوعين المنظمين ذاتيًّا. والآن ينتقل هذا النموذج الإنتاجي سريعًا إلى مجالات من كل حدب وصوب.

هذا الانتقال لا يحدث فحسب على يد طلاب من كليات التصميم أو هواة التصوير أو المبرمجين؛ فقد أَثَّرَ تعهيد الأعمال للجماهير عبر الإنترنت في الطريقة التي تدير أعمالَها بها أفضلُ مائة شركة حسب تصنيف فورتشن كشركة بروكتر آند جامبل. حتى الآونة الأخيرة، كانت ثقافة شركة بروكتر آند جامبل تشتهر بالسرية والتعصب: فإذا لم يكن المنتج قد ابْتُكِرَ داخل الشركة، فهو ليس موجودًا. سارت هذه السياسة على ما يرام خلال الأعوام المائة والثلاثة والستين الأولى في تاريخ بروكتر آند جامبل، بيد أنه في منتصف عام ٢٠٠٠ انخفض نمو الشركة ومرت قدرتها على ابتكار وصنع منتجات جديدة بحالة من الركود. وفي غضون الأشهر الستة بين يناير (كانون الثاني) ويونيو (حزيران) من ذلك العام، فقد سهمها خمسين في المائة من قيمته، وخسرت خمسة وسبعين مليار دولار من القيمة السوقية المتداولة للأسهم.

تعامل مجلس إدارة الشركة مع المشكلة بإحضار إيه. جي. لافلي مديرًا تنفيذيًّا بتفويض لإصلاح الشركة الآيلة للسقوط. وضع لافلي الرئيس السابق لقسم المستحضرات التجميلية العالمي بشركة بروكتر آند جامبل تحديًا طموحًا أمام موظفيه وهو الانفتاح والتواصل وتدمير الجدران الداخلية التي عزلت قسم المبيعات عن قسم البحوث والتطوير وقسم الهندسة عن قسم التسويق، إلى جانب الجدران التي عزلت بروكتر آند جامبل عن الموردين وباعة التجزئة والعملاء. عندما تولى لافلي منصبه لم تكن المنتجات والابتكارات الجديدة القادمة من خارج الشركة تمثل سوى خمسة عشر في المائة من منتجات وابتكارات الشركة؛ فأطلق لافلي مبادرة تدعى «التواصل والتطوير» تهدف إلى رفع ذلك الرقم إلى خمسين في المائة بحلول عام ٢٠٠٧.٥
تخطت بروكتر آند جامبل الآن ذلك الحد، وهو إنجاز ارتكز عمومًا على واحدة من أقوى التغيرات الجذرية في تاريخ الشركة. وقال لافلي في كتاب عن تجاربه في قيادة شركة بروكتر آند جامبل بعنوان «مغير قواعد اللعبة»: «لدى بروكتر آند جامبل ما يقرب من ٨٥٠٠ باحث، وقَدَّرْنَا أنه يوجد ١٫٥ مليون باحث مماثل آخر بمجالات خبرة ذات صلة. لماذا لا نستمد منهم الأفكار ونطلب النصح منهم؟» للوصول إليهم كان يجب على الشركة إما إنشاء أو المشاركة فيما أطلق عليه لافلي «محركات مرتكزة على الإنترنت» قادرة على استغلال القوة العقلية الجماعية للعلماء حول العالم. وفي سبيل استغلال خبرات العلماء المتقاعدين من شركة بروكتر آند جامبل إلى جانب شركات أخرى، ساعد لافلي على إنشاء موقع يور إنكور YourEncore، وهو موقع يُمَكِّنُ هؤلاء العلماء من العمل بدوام جزئي على مشروعات تطرحها شركات كبروكتر آند جامبل على الموقع. وبعد أن أدركت شركة بروكتر آند جامبل أن رأس المال الفكري الحيوي يتزايد في الخارج من أوربا الشرقية إلى الصين والهند، استخدمت الشركة شبكة تتألف من ١٤٠٠٠٠ عالم تدعى إنوسنتِف. عندما يشعر فريق عمل البحث والتطوير الداخلي بالشركة بالحيرة، يمكنه عرض المشكلة على موقع إنوسنتِف. وإذا استطاع أحد علماء الموقع التوصل إلى حل للمشكلة، تقدم له شركة بروكتر آند جامبل مكافأة (وتحتفظ بحق الملكية الفكرية). أدركت شركة بروكتر آند جامبل أن عشرات الآلاف من العلماء الموهوبين على استعداد لتكريس الجهد والوقت في معاملهم المتواضعة مقابل الشعور بالرضا الناجم عن حل معضلة والتوصل إلى حل عملي، والأهم من ذلك مقابل تحقيق دخل إضافي. يمكن رؤية أهمية استراتيجية لافلي في ضوء النمو المستمر في كل من إيرادات شركة بروكتر آند جامبل وربحيتها؛ فمنذ أن تولى لافلي زمام أمور الشركة، تجاوز سعر السهم النسب المرتفعة السابقة وتضاعف صافي المكسب ثلاث مرات حتى وصل إلى ١٠ مليارات دولار عام ٢٠٠٧. وأدت أيضًا مبادرة التواصل والتطوير إلى إطلاق بعض من أبدع منتجات الشركة، بما في ذلك منتج سويفر واسع الانتشار الآن، وغيره الكثير.

•••

وعلى الرغم من الاختلافات الواضحة بين ثريدلس وآي ستوك فوتو وبروكتر آند جامبل، هناك عامل مشترك بينها وهو أن هذه الشركات تجسد حقيقة محورية ذكرها بوضوح لأول مرة بيل جوي المؤسس المشارك لشركة صَن ميكروسيستمز؛ إذ قال ذات مرة: «لا يهم من أنت، فأغلب الأذكياء يعملون لدى شخص آخر.» وهذا باختصار ما يدور حوله الكتاب. إذا توفر للجمهور مجموعة مناسبة من الظروف، فسيتفوقون في كثير من الأحيان على أي عدد من الموظفين، وهي حقيقة تدركها الشركات الآن وتحاول استغلالها يومًا بعد آخر.

(٢) ثورة من أجزاء صغيرة كثيرة

في حين يرتبط تعهيد الأعمال للجماهير بالإنترنت، فهو لا يتعلق في جوهره بالتكنولوجيا؛ فالتكنولوجيا نفسها تتألف من أسلاك ورقائق وكتيبات تشغيل مبهمة. بل الأسوأ من ذلك عند الكاتب أنها مثيرة للضجر. أما الأمر الأهم والأكثر تشويقًا فيما يتعلق بالتكنولوجيا فهو السلوكيات الإنسانية التي تولدها التكنولوجيا، لا سيما قدرة الإنترنت على دمج البشرية معًا في إطار نظام مزدهر قوي بلا حدود. إنه نهضة الشبكة التي تتيح لنا استغلال حقيقة تتعلق بالعمل الإنساني طالما سبقت الإنترنت ألا وهي القدرة على تقسيم مهمة صعبة — على غرار كتابة موسوعة شاملة — إلى أجزاء على قدر من الصِغَر يكفي لأن يكون إنجازها ليس ممكنًا فحسب بل ممتعًا أيضًا.

يمكننا رؤية هذا المبدأ عمليًّا في ضوء مجال فريد وهو البحث عن كائنات حية في الفضاء. تبحث جامعة كاليفورنيا ببيركلي عن مخلوقات فضائية منذ قرابة ثلاثين عامًا، فكان مشروع بيركلي «البحث عن معلومات عن المخلوقات الفضائية»٦ يفحص بيانات جمعتها تليسكوبات لاسلكية ضخمة على غرار مرصد إريسيبو الضخم في بورتريكو (الذي اشتهر بعد فيلم «اتصال» الذي قام ببطولته ماثيو ماكونهي وجودي فوستر). دائمًا تغزو الموجات اللاسلكية الغلاف الجوي للأرض، ومن خلال تسجيلها وتحليلها يأمل العلماء التعرف على الأصوات الغريبة — وهي إشارات وسط الضوضاء — التي قد تكشف عن وجود حياة ذكية بالكواكب الأخرى. بعبارة أخرى، من الممكن أن يكون لراش ليمبو نظير في الفضاء الخارجي، وإذا أصغينا السمع جيدًا فقد نتمكن من سماعه.
كانت بيركلي تستخدم أجهزة حاسب آلي فعالة لتحليل تلك البيانات، ثم في عام ١٩٩٧ اقترح عدد من علماء الفلك وعلماء الحاسب الآلي حلًّا جديدًا هو تجنيد مجموعة من العامة ليتبرعوا بوقت يجلسون خلاله أمام الحاسب الآلي لأداء هذه المهمة. يقوم المتطوعون بتنزيل شاشة توقف بسيطة، تعمل وقتما يتوقف المستخدم عن استخدام جهازه. وحالما ينتهي الحاسب الآلي من فحص مجموعة من البيانات، يرسلها تلقائيًّا مرة أخرى إلى خادم مركزي يعطي الحاسب الآلي مجموعة أخرى من البيانات للعمل عليها. سُمِّيَ المشروع سيتي آت هوم SETI@home، وأطلق في مايو (أيار) ١٩٩٩ لتحقيق ما بدا أنه هدف طموح: الحصول على مائة ألف شخص للمساعدة.

اتضح أن ذلك الهدف متواضع للغاية، بحلول عام ٢٠٠٥ أنزل ٥٫٢ ملايين مستخدم الشاشة المؤقتة للمشروع، وبلغ مقدار الوقت الذي استخدموا فيه الكمبيوتر ثلاثة ملايين عام تقريبًا. تذكر موسوعة جينيس للأرقام القياسية أن ذلك «كان أطول استخدام للحاسب الآلي في التاريخ.» إن الحوسبة الموزعة — وهو مصطلح يعني شبكة من عدة حاسبات آلية تؤدي مهمة واحدة — تُطَبَّقُ الآن على مجموعة واسعة من المشكلات المعقدة من ناحية استخدام الحاسب الآلي، بدءًا من محاكاة كيفية تجمع البروتينات داخل جسم الإنسان وانتهاءً بتشغيل وحدات التنبؤ بالطقس.

يُبرز مشروعُ سيتي آت هوم والحوسبةُ الموزعة القوةَ الهائلةَ للشبكات. من كان يمكنه التنبؤ أن الحاسبات الآلية الخارقة الأكثر كفاءة لن تكون في معمل تابع لمؤسسة، بل في منازلنا وحجرات نومنا؟ إن هذا المشروع يُسَخِّرُ «دورات الفائض» أو القدرة الزائدة للحاسبات الآلية المنفردة. ويعمل تعهيد الأعمال للجماهير عبر الإنترنت بالمبدأ ذاته، باستثناء أنه يستخدم الشبكة في تسخير دورات الفائض للأفراد ممثلةً في الوقت والجهد المتبقيين لنا بعد الوفاء بالتزاماتنا لأرباب العمل والأسرة.

مع ذلك، على العكس من نموذج الحوسبة الموزعة الذي توصل إليه مجموعة من الأساتذة الجامعيين بعد دراسة، ظهر تعهيد الأعمال للجماهير عبر الإنترنت بصورة طبيعية، فهو ليس حصيلة جهد عالم اقتصادي أو مستشار إداري أو خبير تسويقي؛ بل نشأ في الواقع نتيجة للأفعال غير المنسقة لآلاف من البشر، ممن كانوا يؤدون أعمالًا أحب الناس القيام بها، خاصة برفقة أشخاص آخرين. قدم لهم الإنترنت طريقة لممارسة اهتماماتهم معًا سواء أكانت التصوير الفوتوغرافي أم قصص الهواة أم الكيمياء العضوية أم السياسة أم الكوميديا أم علم الطيور أم أفلام الرسوم المتحركة اليابانية (الأنيمي) أم تصميم التي شيرتات أم تأليف المقطوعات الموسيقية ذات الصيغ غير التقليدية أم ألعاب الفيديو الكلاسيكية أم أفلام الهواة الإباحية. وأثناء قيامهم بذلك، صنع هؤلاء الأشخاص دون قصد معلومات وهي سلعة ذات قيمة لا يستهان بها في اقتصاد المعلومات.

وتقريبًا في الوقت الذي كان يشق فيه الإنترنت طريقه للمرة الأولى داخل الثقافة السائدة، نشرت صحيفة نيويوركر رسمًا كاريكاتوريًّا مشهورًا الآن يصور كلبًا يجلس أمام حاسب آلي شخصي ويقول لرفيقه الكلب: «لا يمكن لأحد معرفة أنك كلب في الحقيقة على الإنترنت.» مع تعهيد الأعمال للجماهير عبر الإنترنت، لا يعرف أحد أنك لا تملك شهادة في الكيمياء العضوية أو أنك لم تلتقط صورًا فوتوغرافية احترافيًّا أو أنك لم تدرس التصميم قط. إن تعهيد الأعمال للجماهير عبر الإنترنت له قدرة على تشكيل نوع مثالي من النظام القائم على الجدارة، وتنتهي معه معايير نَسَبِ الإنسان وعرقه ونوعه وعمره ومؤهلاته، وما يبقى هو جودة عمله نفسها. ومع إقصاء كافة الاعتبارات غير المرتبطة بالجودة، يعمل تعهيد الأعمال للجماهير في إطار أشد الافتراضات تفاؤلًا وهو أن كل فرد منا يمتلك نطاقًا من المواهب أوسع وأعقد مما نعبر عنه حاليًّا في إطار الهياكل الاقتصادية القائمة. بهذا المعنى فإن تعهيد الأعمال للجماهير نقيض لمذهب هنري فورد وهو عقلية خط التجميع التي هيمنت على عصر الصناعة. يعتمد تعهيد الأعمال للجماهير على افتراض أننا جميعًا مبدعون: فنانون وعلماء ومهندسون معماريون ومصممون، بأي تركيبة أو ترتيب مما سبق، وكذلك يحمل وعدًا بتحرير الإمكانيات الكامنة داخل الفرد في إجادة أكثر من مهنة، وفي استكشاف سبل جديدة للتعبير الخلاق. ولا شك أنه ينطوي على إمكانية — أو تهديد من زاوية أخرى — جعل فكرة المهنة نفسها بدعة إنسانية مرتبطة بالعصر الصناعي.

يستغل التعهيد الطبيعة الاجتماعية المتأصلة في البشر. وعلى العكس من وجهة النظر المنذرة بالسوء والسوداوية أن الإنترنت يسهم — في المقام الأول — في عزل الناس بعضهم عن بعض، يستعين التعهيد بالتكنولوجيا لتعزيز مستويات غير مسبوقة من التعاون والتحديات الهادفة بين أناس من كل خلفية يمكن تصورها ومن كل موقع جغرافي يمكن تصوره. إن مجتمعات الإنترنت تقع في صميم تعهيد الأعمال إلى جمهور من المتطوعين والهواة، وتزودنا بسياق وهيكل يُنْجَزُ «العمل» في إطاره. يقيم الأشخاص صداقات قوية عبر موقعي آي ستوك فوتو وثريدلس، كما يثرون أيضًا من خبرات الجميع من خلال نقد أعمال بعضهم بعضًا وتعليم ما يعرفونه للمشاركين الأقل خبرة. إلى جانب ذلك، يولد التعهيد صورة أخرى من التعاون، وهو التعاون القائم بين الشركات والعملاء. لقد كان توفلر محقًّا؛ إذ لا يريد الأشخاص الاستهلاك بسلبية؛ فهم يفضلون المشاركة في تطوير وصنع منتجات تحمل دلالة تخصهم. إن التعهيد مظهر واحد فحسب لاتجاه أوسع نحو إدخال قدر أكبر من مشاركة جمهور المستهلكين في التجارة. وبينما تتحرك الحكومات ببطء نحو الديمقراطية، فإن التمازج العشوائي الهائل للمعلومات التي يسّرها الإنترنت يحفز الحركة نفسها في عالم الأعمال، ويساعد على وجود تحرك نحو إلغاء المركزية التي بدأت في اقتحام كافة المجالات التي يمكن تصورها.

كشف تعهيد الأعمال للجماهير أنه على العكس مما هو سائد فإن البشر لا يتبنون دائمًا أنماطًا سلوكية يمكن توقعها تتسم بالحرص على المصلحة الذاتية؛ فالناس يساهمون عادة في مشروعات تعهيد الأعمال للجماهير عبر الإنترنت مقابل القليل من المال أو دون مقابل، أي يكدون دون كلل على الرغم من غياب المكافأة المادية. إن هذا السلوك يبدو غير منطقي عند النظر إليه من زاوية علم الاقتصاد التقليدي، غير أنه لا يمكننا قياس المكافأة بالدولار أو اليورو دائمًا. بحثت دراسة أجراها معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أسباب وهْبِ المبرمجين من ذوي المهارات العالية وقتهم لمشروعات برمجيات المصدر المفتوح. كشفت النتائج عن أن المبرمجين دفعتهم مجموعة معقدة ومتداخلة من الحوافز للمشاركة في ذلك، من بينها الرغبة في صنع شيء يستفيد منه قطاع أكبر من المجتمع إلى جانب المتعة الخالصة النابعة من ممارسة حرفة يبرعون فيها. يستمد الناس إلهامهم للمساهمة في أنشطة تعهيد الأعمال للجماهير عبر الإنترنت من دوافع مماثلة، مع أن الحافز المادي يلعب دورًا أيضًا، خاصة إذا كان المشاركون يعيشون في دول نامية. يشعر الناس بسعادة هائلة من صقل مواهبهم ونقل ما تعلموه إلى الآخرين؛ فالتعاون في سياق تعهيد الأعمال للجماهير عبر الإنترنت هو جائزة في حد ذاته.

هذا لا يعني أن الشركات تستخدم تعهيد الأعمال للجماهير لتحصل على عمل دون تكلفة. إن هؤلاء الذين ينظرون إلى الجمهور باعتباره قوة عمل رخيصة مصيرهم الفشل؛ فما يوحد كافة الجهود الناجحة لتعهيد الأعمال للجماهير هو التزام راسخ تجاه المجتمع، وهو ما ينطوي على شيء أكثر من الوعود الكاذبة ويقتضي تحولًا كبيرًا في الموقف الفكري للشركات التقليدية. إن الجماهير ترغب في أن تشعر بملكية ما تصنعه، وتدرك إدراكًا قويًّا متى يتم استغلالها. وفي هذا السياق، ليست الشركة سوى عضو في المجتمع، ولستَ مضطرًا لمشاهدة برامج تلفزيون الواقع على غرار برنامج «صراع البقاء» لتدرك أن من يتصرف بمكر يكون مصيره الطرد من الجزيرة.

يرسم تعهيد الأعمال للجماهير لوحة فنية رائعة للجنس البشري. نحن أذكى وأبدع وأعلى موهبةً مما نظن بأنفسنا؛ لقد رأيت حالات يحل فيها كهربائي مشكلات كيميائية صناعية معقدة، ورأيت سائقي روافع شوكية يظهرون براعة في الاستثمار في سوق الأوراق المالية. إن تعهيد الأعمال للجماهير — بتوجهه الاستثنائي إلى جذب أشخاص موهوبين من أبعد المجالات احتمالًا — يشبه آلية خارقة لاستكشاف المواهب. نرى هذا الأمر في موقع يوتيوب، حيث استطاع فنانون كوميديون وصانعو أفلام مغمورون نيل شعبية بين جمهور الإنترنت أولًا، ثم التواصل مع أشخاص ذوي نفوذ بالمجال وأخيرًا استطاعوا الحصول على مشروعات بارزة لتنفيذها مقابل أجر والحصول على تقدير عام من المجتمع. الأمر يفوق مجرد التعرف على المواهب التي تحتاج إلى صقلها؛ إذ يطور تعهيد الأعمال للجماهير ويعزز تلك المواهب. وبهذه الطريقة يضيف التعهيد إلى المخزون العام للرأسمال الفكري بثقافتنا.

تبنى الناس تعهيد الأعمال للجماهير عامةً بوصفه تطورًا إيجابيًّا، فقد امتدحوه بأنه قوة حيوية كامنة في شئون السياسة والحوكمة، حتى إنه شق طريقه نحو معاهد افتراضية لتعليم اللاهوت، حيث يرى علماء اللاهوت أنه يمكنه تيسير تعاون أعمق وأَقْيَم بين أبناء رعايا الكنيسة والقادة الدينيين. بيد أنه شأنه شأن أي تغير ثقافي واقتصادي كاسح، ستتسم النتائج الإيجابية لتعهيد الأعمال للجماهير بالاضطراب والإرباك؛ فتعهيد الأعمال للجماهير تحول خطير في كيفية إنجاز العمل في العديد من الصناعات خاصة تلك التي تتعامل مع المعلومات. من ثم ليس من الغريب أن يعتبره البعض نقمة أكثر من كونه نعمة. وبينما يزداد اتساع نطاق هذا الظاهرة وتأثيرها، يدخل المزيد والمزيد من المهن تحت طائلتها؛ فتنقل الشركات مهام الدعم الفني إلى منتديات المستخدمين، حيث يقدم المتطوعون بسرور شرحًا للتدريبات الأساسية الخاصة باستكشاف الأخطاء وإصلاحها لقليلي الخبرة من الجدد. وفي عالم الصحافة، بدأت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) وشركة جانيت ووكالة رويترز في تعهيد أعمال حيوية للجماهير على غرار التحقيق في التجاوزات الحكومية أو إجراء تحقيقات حول الأحداث المحلية التي طالما كانت مجالًا خاصًّا بالصحفيين المحنكين. يخشى الناس ألا تكون هذه التحركات سوى تمهيد لتسريح العمالة وخفض عدد العاملين؛ ففي حالة الصور الجاهزة، سلب تعهيد الأعمال للجماهير شركاتِ التصوير الفوتوغرافي التقليدية عملها بالفعل.

كذلك يحث تعهيد الأعمال للجماهير خطى عولمة العمل والخلل الاقتصادي اللذين نراهما في تصدير الوظائف للخارج. لا يعترف تعهيد الأعمال للجماهير بالحدود، شأنه شأن الإنترنت الذي يعمل من خلاله، ذلك أن شبكة الإنترنت لا تعبأ بما إذا كنت تقطن بالشارع المقابل أو بجنوب الولاية أو حتى في أقصى الأرض، فإذا كنت تستطيع أداء الخدمة أو تصميم المنتج أو حل المشكلة، فستحصل على الوظيفة. اتضح أن الأرض مسطحة أكثر مما تخيله أي إنسان على الإطلاق. وبالفعل، يتسبب تعهيد الأعمال للجماهير في تدفق الأموال من الدول المتقدمة إلى بلدان كالهند وروسيا (على سبيل المثال)، اللذين يضمان فئات مهنية على قدر عال من الكفاءة ولكنها لا تعمل بالشكل الملائم. من ثم هل تعهيد الأعمال للجماهير هو الشكل الجديد لتصدير الوظائف للخارج؟ ليس بالضبط، بيد أنه يستفيد بالفعل من التفاوت بين الاقتصاديات المتقدمة والنامية. في النهاية هناك مخاوف يمكن تَفَهُّمُهَا تفيد بأن تعهيد الأعمال للجماهير يعزز من وجود الجودة الثقافية المتوسطة لا الإبداعية. هل سينتج عن تعهيد الأعمال للجماهير مسرحية لشكسبير أو أغنية للبيتلز أو لوحة لبيكاسو؟ الإجابة نعم بما لا يدع مجالًا للشك، حسبما أرى، لكن مثل هذه الروائع من غير المحتمل أن تظهر بالطرق التي نتوقعها، أو من الأماكن المعتادة.

•••

ينقسم هذا الكتاب تقريبًا بين الماضي والحاضر والمستقبل. وفي الفصول الأربعة الأولى أناقش أربعة تطورات جوهرية: نهضة حركة الهواة وظهور حركة برمجيات المصدر المفتوح وزيادة توافر أدوات الإنتاج وأخيرًا نهضة مجتمعات للإنترنت تنبض بالقوة وتنتظم وفقًا لاهتمامات الناس، وهي المجتمعات التي جعلت تعهيد الأعمال للجماهير ليس ممكنًا فحسب، بل أمرًا حتميًّا.

الفصول الخمسة التالية مخصصة للوضع الحاضر؛ كيف يظهر تعهيد الأعمال للجماهير عبر الإنترنت في هذه اللحظة من التاريخ. إن تعهيد الأعمال للجماهير ليس سوى عنوان لمجموعة واسعة من الأنشطة، وما يجعله طاغيًا وفعالًا قدرتُه على التكيف مع الظروف، بيد أن هذه المرونة نفسها تجعل من مهمة تعريف وتصنيف تعهيد الأعمال للجماهير عبر الإنترنت تحديًا. عندما يستخدم ثمانية وعشرون ألف شخص غرباء بعضهم عن بعض الإنترنت لجمع مبالغ ضئيلة من النقود لشراء نادي كرة القدم البريطاني المنهار إبسفليت يونايتد، هل هذا تعهيد أعمال للجماهير؟ ما الحال عندما تتراكم قرارات آلاف من المستثمرين الصوريين لتوجه صندوقًا استثماريًّا تعاونيًّا حقيقيًّا فعلًا؟ الإجابة هي نعم لكلا الأمرين، بيد أنهما تطبيقان مختلفان للغاية.

وفي سبيل فهم هذا التفاوت، أحاول وضع تصنيف لتعهيد الأعمال للجماهير. لذا يركز الفصل الخامس والسادس على كيفية استخدامنا للذكاء الجمعي للتنبؤ بالمستقبل وحل المشكلات العسيرة بطريقة أخرى، فيما يستكشف الفصل السابع الطاقات الإبداعية للجماهير، وكيف يغير ذلك المورد الهائل من طريقة إنتاج كل شيء بدءًا من الصحافة إلى الترجمة إلى الترفيه. ويبحث الفصل الثامن في الإمكانية الخارقة للجماهير في فرز المخزون الهائل من المعلومات وتنظيمه، وهذه الإمكانية هي شبكة الإنترنت العالمية، أما الفصل التاسع فينظر في كيفية استخدام الموارد المالية الجماعية للجماهير لخلق سبل جديدة لتمويل كل شيء بدءًا من منظمات الائتمان الصغير إلى نجوم الروك الواعدين. ويقدم الفصل العاشر لمحة عن كيفية تغيير مراهقي اليوم — الذين لا يحتاجون بالتأكيد إلى قراءة كتاب ليعرفوا ما المقصود بتعهيد الأعمال للجماهير عبر الإنترنت — طبيعة العمل والإبداع.

إن ما نشهده في تعهيد الأعمال للجماهير هو ظاهرة التدمير الإبداعي وهي تحدث في الحاضر. وقعت التغيرات الاجتماعية والاقتصادية على غرار الانتقال من التصنيع إلى الخدمات عبر العقود، بيد أن التغير زادت سرعته جنبًا إلى جنب مع الابتكار المنطلق بسرعة الضوء، وأصبحت التحولات الناتجة جزءًا من حياتنا اليومية بوتيرة متزايدة، وهو الأمر الذي يمكن أن يشهد به أي شخص يعيش مع مراهق في منزل واحد. ما يمكن أن نراه أيضًا في المستقبل القريب هو أشخاص يجربون تعهيد الأعمال للجماهير بنفس سهولة عوم السمك في الماء؛ أي أنه سيصبح نشاطًا معتادًا نمارسه يومًا بعد آخر. مع أنه من المستحيل أن نرى على سبيل المثال شركة يو بي إس تستخدمه في مجال شحن البضائع، يمكننا أيضًا أن نرى تلك الشركة تستخدم التعهيد بحثًا عن حلول لوجستية جديدة أو لوضع هوية للشركة أكثر تأثيرًا.

أثق في أن الفوائد بعيدة المدى لبيئة أفسح نصبح فيها جميعًا مساهمين ذوي قيمة ستفوق الإشكاليات قصيرة المدى الآخذة في النمو التي ستصاحب بلا شك ذلك التحول. يحمل تعهيد الأعمال للجماهير عبر الإنترنت آفاق تصحيح مشكلة إنسانية دامت طويلًا. إن كمية المعلومات والموهبة المتناثرة بين أفراد عدة من البشر لطالما تجاوزت كثيرًا قدرتنا على استغلال تلك القدرات التي لا تقدر بثمن، وبدلًا من استغلال تلك القدرات التي تشبه الثمار الناضجة، نجدها تذبل على الأغصان في انتظار من يقطفها. إن تعهيد الأعمال للجماهير هو آلية تتوافق من خلالها الموهبة والمعرفة مع هؤلاء الذين يحتاجونها، وإلى جانب ذلك تطرح سؤالًا مُؤَرِّقًا: ماذا لو لم تكن حلول أكبر مشكلاتنا تنتظر تحديدها ومعرفتها، ولكنها موجودة بالفعل في مكان ما، تنتظر فحسب العثور عليها في نسيج تلك الشبكة الإنسانية النابضة بالحياة؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤