الفصل الأول

نهضة الهواة

دفع عجلة تعهيد الأعمال للجماهير عبر الإنترنت

هناك أيدي عاملة في أمريكا تعمل بعيدًا عن الأضواء؛ إنهم هؤلاء الأفراد الذين يكدون في أداء أعمال شاقة بصدر رحب، تتنوع هذه الأعمال بين تلقيح النباتات وإدخال «تعديلات» على السيارات بعد شرائها من الأسواق وترجمة روايات القرن التاسع عشر الفرنسية الغامضة إلى الإنجليزية. هؤلاء هم الهواة؛ أصحاب الهوايات والمتحمسون الذين طالما نظرنا إليهم على أن لديهم الشغف أكثر من الموهبة. لم يعد هذا تقييمًا منصفًا لهم، أو حتى دقيقًا؛ فعلى نحو متزايد أخذ الهواة من أصحاب المهارات والقدرة على التعاون المنظم رفيع المستوى يتنافسون بنجاح مع المحترفين في مجالات تتنوع من برمجة الكمبيوتر إلى الصحافة والعلوم. إن الطاقة والتفاني لدى الموهوبين يشكلان الوقود الذي يدفع محرك تعهيد الأعمال للجماهير عبر الإنترنت.

تتوافر الطاقة والتفاني هذان بكثرة في جوائز البلَج المستقلة للموسيقى، وهي جوائز تشبه جوائز الجرامي، فكلتاهما حفلات سنوية تقام لتكريم أفضل الإنجازات الموسيقية خلال العام، بيد أنها تختلف عن جوائز الجرامي في كافة الأوجه الأخرى؛ فيحضر حفلات الجرامي المئات من الأفراد البارزين في صناعة الموسيقى، أما حفلات البلَج فيحضرها بضع مئات من الأشخاص من وسط مدينة مانهاتن من ثائري الرأس واللحية الذين يرتدون سراويل لا تصل إلى خواصرهم كأحدث خطوط الموضة. وبينما تُبَثُّ حفلات الجرامي عبر ربوع الوطن، تُبَثُّ حفلات البلَج عبر الإنترنت إذا نجح المنظمون في تشغيل التقنية المستخدمة في الوقت المناسب. وتجذب حفلات الجرامي مواكب النجوم وتقدم للفائزين فونوغرافًا مطليًّا بالذهب تكريمًا لإنجازاتهم، أما الفائزون بجوائز البلَج فقد لا يعرفون أنهم رُشِّحُوا، ولا يتلقون أي شيء حتى إذا حضروا إلى الحفل.

من الواضح أن جوائز البلَج لا تأخذ الأمر على محمل الجد؛ إذ يغلب على الحفل الفوضوية واللامبالاة ومن الصعب وصف أي شخص في الحفل — سواء من العازفين أو المؤدين أو الفريق الفني خلف الكواليس — بالمحترف. وفي واقع الأمر لا يوجد بحفلات البلَج موظف واحد يعمل بدوام كامل وهذا بالطبع موطن الجمال في الأمر؛ إذ يضحك الجمهور ويهلل عند كل عطل فني. وفي عالم البلَج الغريب — الذي يقع في نطاق عالم ثقافة الفن الشعبي — تتفوق القيم الإنتاجية المنخفضة على المظاهر الجذابة.

كان أول حفل أحضره من حفلات البلج في فبراير (شباط) ٢٠٠٧؛ لم أحضر لمشاهدة الحفل — على ما فيه من عوامل جذب — بل لرصد المصورين الهواة البالغين من العمر اثنين وعشرين عامًا الذين اختارهم منظمو الحفل لتصوير الحدث. وافق المصورون من جانبهم على ألا يتقاضوا أجرًا مقابل وقتهم الذي أمضوه في تصوير الحفل فهم يعملون لمصلحة شركة آي ستوك فوتو، التي تسوق وتبيع صورًا من صنع خمسين ألف مصور جمعيهم تقريبًا من الهواة. لقد استغلت هذه الشركة حالة من عدم التوازن التي ظهرت في الاقتصاد الرقمي: فقد أصبحت الصور الجذابة عالية الدقة حاضرة في كل مكان، ومع ذلك كانت شركات التصوير المتخصصة لا تزال تتعامل معها وكأنها مصدر نادر غير كافٍ، فقامت آي ستوك بتعهيد منتجها للجماهير عبر الإنترنت، وباعت بأسعار أقل من منافسيها، وجنت ثروة في تلك الأثناء.

تكيف مصورو آي ستوك مع الموقف على الفور: إذ تكدسوا داخل منطقة مخصصة قبالة خشبة المسرح مباشرة ولولا تصريحات الدخول المتدلية من أعناقهم لتعذر تمييزهم عن الجمهور، وهو الأمر الملائم للمناخ العام لتلك الحفلات، إذ إن حفلات البلَج في جوهرها مهرجان لاستعراض جرأة وموهبة الجمهور، سواء أكان التعبير عن ذلك في صورة موسيقى أم صور أم فرق الغناء الرباعية التي تعتلي خشبة المسرح بين فقرات إعلان الجوائز. تحتفل البلَج بأفضل ما يعبر عن عالم الهواة؛ الأصالة والروح والشغف وما قد يكون الأهم بين كل ذلك وهو حس دعابة لافت بشأن مكانة الحدث المتواضعة في العالم. ففي إحدى المناسبات وداخل غرفة استراحة الفنانين هنأت أحد المؤسسين وهو جيري هارت على النجاح في تنظيم الحفل، فرد قائلًا: «حسنًا، لقد علمنا أننا لن نستطيع تنفيذ الأمر بالطريقة الصحيحة، لذا فكرنا في أن ننفذه بالطريقة الخاطئة.»

أردت التعرف مباشرة على القوة العاملة الفريدة لآي ستوك، لذا التقيت بين الفقرات مع أحد المصورين وهو نيك مونو في واحد من أركان المكان. كان مونو يبدو صغير السن بما يلائم كونه يصور الحفل لجريدة تصدر بمدرسة ثانوية، وفي الحقيقة لم يكن يبلغ من العمر إلا اثنين وعشرين عامًا. كان شابًّا طويلًا ووسيمًا وفطنًا تعلو وجهه تلك الابتسامة الودودة التي يمكن أن تؤهله للعمل بمهنة مربحة كبيع الأوراق المالية أو السيارات أو المنازل باهظة الثمن، ولا يمكنك أبدًا عند النظر إليه أن تخمن أنه يمثل أكبر تهديد لمهنة التصوير الفوتوغرافي الاحترافي منذ أن بدأت كاميرات كوداك من طراز إنستماتيك في إزاحة رسامي صور البورتريه عن الساحة.

يرغب مونو في أن يصير طبيبًا، للأسباب نفسها التي تجعل هذه المهنة محببةً لدى الجميع، وهو مقيد بالفرقة الثانية بكلية الطب بجامعة براون. ولد مونو في مسقط رأس والدته في مدينة كييف، ونشأ في مدينة لاجوس وذهب إلى المدرسة الثانوية في القسم الشمالي من ولاية نيويورك. أمضى معظم طفولته وهو يشاهد والديه — طبيبة أطفال وطبيب قلب — يعتنيان بالفقراء في العديد من العيادات الطبية بدول العالم الثالث، بيد أن والدة مونو جعلت ولديها الاثنين يدرسان الفن أيضًا، ويقول معلقًا: «اضطررنا نحن الاثنين إلى حضور دروس البيانو والرسم. كانت أمي شديدة الجدية والإصرار في هذا الشأن.» أحب مونو الرسم مبكرًا، وعندما ذهب إلى المدرسة الثانوية بدأ في التقاط الصور الفوتوغرافية، ويضيف: «كنت أرسم لوحات تنتمي إلى فن التصوير الفوتوغرافي الواقعي؛ لذا اشتريت كاميرا رقمية كي أنقل الصور إلى لوحة زيتية.» وسرعان ما أدرك مونو أنه أحب التقاط الصور أكثر مما أحب رسمها، فبدأ يمارس التصوير الفوتوغرافي بنفس الحماسة التي انتقلت بين المصورين الفوتوغرافيين المتحمسين من الهواة منذ أن قدمها لعامة الناس جورج إيستمان، الذي بدأ أيضًا مصورًا فوتوغرافيًّا هاويًا.

لو حدث ذلك عام ١٩٨٥ أو ١٩٩٥ أو حتى عام ٢٠٠١، ما كان التقاط الصور هذا قد مَثَّلَ لمونو سوى هواية، ولكن الآن تغطي ممارسة التصوير الفوتوغرافي تكاليف دراسته بكلية الطب، إلى جانب توفيرها قدرًا كبيرًا من المال لمصروفه الشخصي. ويعترف مونو بحرج وكأنه ارتكب حماقة ما فيقول: «جنيت عشرة آلاف دولار الشهر الماضي.» لكن هذا النجاح المادي لم يفقده صوابه أو يجعله متغطرسًا، فهو يقول: «لا أرى ثمة سببًا يحول دون ممارستي الطب والتقاطي الصور في الوقت ذاته.»

يرتبط مونو بعقد حصري لالتقاط الصور مع شركة آي ستوك فوتو، وحضر إلى حفل تسلم الجوائز بدعوة من بروس ليفنجستون، الرئيس التنفيذي لآي ستوك البالغ من العمر سبعة وثلاثين عامًا، الذي استطاع تأمين حقوق حصرية للمصورين لديه لالتقاط صور لحفل جوائز البلَج نظرًا لأنه ساعد على إطلاقه. في عام ٢٠٠١ قرر ليفنجستون وجيري هارت، وهو صديق قديم منذ أن كانا عازفين في فرقة للبانك روك؛ تحويل شغفهما بإعداد شرائط كاسيت من أغنيات متنوعة إلى حفل توزيع جوائز. وقال ليفنجستون أثناء جلوسنا في غرفة استراحة الفنانين مخاطبًا هارت وبضعة عازفين: «لقد نبعت الفكرة من بغض شديد لجوائز الإم تي في وكل حفلات الجوائز الأخرى.» وفي نهاية المطاف، عرجت على الطابق الرئيسي لمشاهدة الحدث. لقد عملت على تغطية الأحداث الموسيقية على مدار سنوات، وغالبًا ما كان يصحبني مصور فوتوغرافي. يلبي مصورو حفلات ومؤلفو أغاني الروك نداء هذا المجال للسبب نفسه: التفاني للموسيقى، بعد ذلك يتحول الانجذاب إلى مهنة، وفي وقت معين يصير وظيفة. أماكن الاحتفال المألوفة تفقد سحرها وتندمج الفرق بعضها في بعض. يأخذ الصحفيون المعنيون بشئون الموسيقى وضع عزلة متعمد، عادة يمكن التعرف عليهم وسط الجمهور بأنهم هؤلاء اللذين لا يتمايلون برأسهم أو ينقرون بأقدامهم، بل يكتبون في دفتر ملاحظات بابتسامة متكلفة مبهمة تعلو وجوههم.

لكن مونو وأبناء آي ستوك الآخرين يقدمون صورة مختلفة؛ فعند نهاية الفقرة الختامية، ألقى مصور فوتوغرافي أشعث الشعر يدعى لويس بحقيبة المعدات أرضًا وبدأ في تحريك رأسه على إيقاع الموسيقى، ورفع بكاميرته أعلى رأسه وبدأ في التقاط الصور الفوتوغرافية عشوائيًّا وبطريقة طائشة في سعادة، ونظر إليَّ وارتسمت ابتسامة عريضة على وجهه، وأشار بسبابته وخنصره على شكل قرني الشيطان، وهي الإشارة العالمية للانغماس التام في موسيقى الروك أند رول.

(١) نهضة الهواة

عندما يجني مصور فوتوغرافي ١٠٠٠٠ دولار شهريًّا من شيء يعتبره هواية، فلعل الوقت قد حان لإعادة تعريف كلمة «هاوٍ». وفقًا لإحدى الدراسات المتعلقة بالقوى العاملة بشركة آي ستوك فوتو، لا يحقق سوى أقل القليل من المشاركين بآي ستوك ما يحققه مونو، ولا يقول سوى ٤ في المائة منهم إن مهنة التصوير الفوتوغرافي هي مهنتهم الأساسية.١ يعرّف مكتب ضريبة الدخل الأمريكي المصور الفوتوغرافي المحترف بأنه شخص يحقق أكثر من ٥٠٠٠ دولار أمريكي من بيع صوره،٢ وهذا ما يمكن أن يكون بالمعلومة الجديدة لمونو، الذي ليس لديه أي نوايا للتضحية بطموحاته في مهنة الطب مقابل مهنة التصوير الفوتوغرافي.

إن الاعتماد على الدخل المالي للتمييز بين العمل الاحترافي وغير الاحترافي هو قاعدة عامة جيدة، إذا كانت وظيفتك إعداد العائدات الضريبية، أما إذا نظرت بتمعن إلى تعهيد الأعمال للجماهير عبر الإنترنت، فالأمر يسبب الحيرة. إن الجلي في تعهيد الأعمال للجماهير عبر الإنترنت هو أن الأشخاص الذين يتمتعون بمهارات شديدة التنوع وخلفيات مهنية يُجْتَذَبُونَ للمشاركة، في حين أن عددًا قليلًا للغاية من المصورين المتعاملين مع آي ستوك هم فقط المصورون المحترفون، تلقى ما يزيد عن نصفهم عامًا واحدًا على الأقل من التعليم الرسمي في «الفن أو التصميم أو التصوير الفوتوغرافي أو الفروع الإبداعية ذات الصلة».

في عصر مساهمة الجماهير التي أتاحها الإنترنت، نحتاج بالتأكيد إلى تعريف يتحلى بمزيد من المرونة لكلمة «هاوٍ». إذا حقق صيدلي لم يتلق أي تدريب في الطب البيولوجي إنجازًا مهمًّا في بحوث التوصل إلى دواء لمرض لو جيريج، فهل سنقول إنه هاوٍ؟ بالطبع ليس بالمعنى نفسه الذي سأعنيه إذا بدأت في مزاولة مهنة الكوميديا الارتجالية. يقول تشارلز ليدبيتر وبول ميلر في كتابهما «ثورة الهواة-المحترفين: كيف يغير المتحمسون اقتصادنا ومجتمعنا»: إن كم جهود الهواة وكيفها شهدا زيادة هائلة في الأعوام الأخيرة بحيث نحتاج إلى لقب ثالث: «الهواة-المحترفون؛ وهم الهواة الذين يعملون وفقًا لمعايير المحترفين.»٣ وأضافا في كتابهما أنه: «في القرن العشرين، أصبحت كلمة الهواة مصطلحًا مثيرًا للسخرية» في حين أن «مصطلح الاحتراف كان علامة على الجدية والمعايير العالية.» وبعد دراسة نماذج من الألعاب الرياضية والتمثيل والبستنة وغير ذلك من المجالات، رأيا أن نوعًا جديدًا من الهواة قد ظهر وهو «الهواة-المحترفون، وهم واسعو الاطلاع ومثقفون ويتمتعون بحس الالتزام وتجمع بينهم شبكة الاتصال.» سأطرح رأيًّا مختلفًا قليلًا: نحن بحاجة إلى استيعاب أن مصطلح الهواية هو نطاق أكثر من كونه لقب.

تجذب جهود تعهيد الأعمال للجماهير عبر الإنترنت عادة كلًّا من أصحاب الشهادات ومن لا يحملون شهادات مهنية. ومن الجوانب المعقدة الأخرى أن بعض المشروعات تدفع مالًا للمساهمين (كآي ستوك) والبعض الآخر لا يقدم مالًا للمساهمين (كويكيبديا)، ومع ذلك توجد صفتان مشتركتان بين كافة مشروعات تعهيد الأعمال للجماهير عبر الإنترنت تقريبًا: المال ليس المحرك الأساسي للمشاركين، ويتبرع المشاركون بوقت فراغهم للمشروع؛ أي يساهمون بطاقتهم الإضافية — أو ما يسمى «دورات الفائض» — للانغماس في فعل شيء يحبونه.

ليست بمصادفة أن يظهر تعهيد الأعمال للجماهير أثناء نهضة في نشاط الهواة في كافة أرجاء العالم، فقد ساهمت مجموعة من العوامل اتحدت معًا في هذه الوفرة الإبداعية المفاجئة، كذا تصادف حدوث زيادة سريعة للغاية في التعليم مع ظهور أعظم آلية لتوزيع المعرفة عرفها العالم: الإنترنت. بيد أنه لا بد أن تكدح القوى العاملة متنوعة المواهب وعالية المهارة في سوق عمل يتطلب درجات أعلى باستمرار من التخصص، وهذا الأمر يترك لدى الناس شعورًا بأنهم تلقوا تعليمًا أكثر من اللازم وأنهم أقل رضا مع تراجع معدلات الرضا عن الوظيفة إلى أدنى مستوى عُرِفَ من قبل.٤ هل من الغريب أنهم يسعون إلى عمل يمثل أهمية لهم خارج حدود مكان العمل؟
ليس هناك دليل أوضح على ذلك من شبكة الإنترنت، فمن الواضح أن هذه التكنولوجيا قد غيرت الطريقة التي نعمل بها وتلك التي نتسوق بها، وغيرت طريقة اللعب أيضًا. إن الوقت الذي كنا نكرسه فيما سبق لممارسة الهوايات على غرار البولينج أو لعبة البريدج نقضيه الآن وعلى نحو متزايد في إنتاج المعلومات، ككتابة مدونة، أو كتابة رأي نقدي على موقع للطعام على غرار تشاو هاوند Chowhound.com أو كتابة مشاركات في منتدى الرسائل بموقع لوست Lost.com، وهو موقع على الإنترنت مخصص للبرنامج الناجح الذي عرض على شبكة إيه بي سي. قام أصحاب هذه المواقع — التي تحقق مكاسب من خلال إيرادات الإعلانات — بتعهيد مهمة صنع المحتوى إلى الجماهير أساسًا.
ليس ثمة سبيل يسير لتحديد القدر الذي يسهم به غير المحترفين في الاقتصاد الآن، بيد أن مؤشرات نمو هذا القدر تحاصرنا من كل جانب، فهناك على سبيل المثال الزيادة السريعة في إنشاء صفحات على الويب. ففي عام ١٩٩٧ كان هناك ٢٠٠ مليون صفحة، وبحلول عام ٢٠٠٥ قفز هذا الرقم إلى ١١٫٥ مليارًا،٥ وهذه الزيادة ترجع إلى زيادة عدد المدونات، واعتبارًا من يناير (كانون الثاني) ٢٠٠٨ كان هناك ما يزيد عن ٨٠ مليون مقطع فيديو على اليوتيوب، نصفها على الأقل كان من صنع الهواة، ويضم موقع هاري بوتر فان فيكشن Harrypotterfanfiction.com المخصص لروايات هاري بوتر عددًا هائلًا يبلغ ٤٥٠٠٠ قصة كتبها عدد ضخم من الجمهور الذي حول شغفه بسلسلة روايات الأطفال المتميزة إلى ولع بكتابة القصص الإبداعية. إن الإنترنت في حد ذاته خزانة عملاقة مليئة بالعجائب، وذروة الإنجاز الذي حققه غير المحترفين.

هناك كذلك الزيادة المثيرة في فئة الفنون والحرف المعتمدة على المبادرة الذاتية. صدرت مجلة ريدميد — وهي «مجلة للأشخاص الذين يهوون صنع أي شيء» — عام ٢٠٠١ بمعدل انتشار أساسي يقدر بثلاثين ألفًا، واعتبارًا من يناير (كانون الثاني) عام ٢٠٠٨ ازداد انتشار المجلة ليبلغ ثلاثمائة ألف.

ليس هناك موضع آخر تتجلى فيه ظاهرة السلع منزلية الصنع كما في الموقع الإلكتروني التجاري إتساي Etsy «مكانك لشراء وبيع كل شيء منزلي الصنع». هل أنت مهتم بشراء صفارة مصنوعة من علبة من صفيح وغطاء زجاجة؟ ماذا عن «صابون ملون متغير الشكل برائحة الكمثرى يشبه الآيس كريم المثبت فوق العصا»؟ إنه أقل كثيرًا من أن يكون سوقًا متخصصة كما يبدو: في عام ٢٠٠٧ أنفق المتسوقون ٢٧ مليون دولار بالموقع. ولكن كل ما سبق ليس سوى قشور القضية، فدلائل نهضة الهواة تحدنا من كل جانب.
لنأخذ علم الطيور من بين العديد من الأمثلة. قبل ظهور الإنترنت، كانت مراقبة الطيور مجال اهتمام مجموعة صغيرة متحمسة من المهتمين المبتدئين، إلا أنه في الأعوام الأخيرة شهدت مراقبة الطيور نموًّا سريعًا في شعبيتها، وبحلول عام ٢٠٠٦ كان ما يقرب من ٥٠ مليون أمريكي قد شارك في شكل من أشكال «مراقبة الحياة البرية» وفقًا لهيئة الأسماك والحياة البرية الأمريكية. لعب انخفاض صيد الأسماك والحيوانات دورًا في الشعبية المتزايدة في علم مراقبة الطيور، بيد أنه يمكن إرجاع جزء كبير من هذه الزيادة إلى النمو المتزامن لمجتمعات الإنترنت المُكَرَّسَة لتعليم أسس مراقبة الطيور وتسجيل أعداد الطيور الفعلية.٦

لم يمر هذا الحراك مرور الكرام دون أن يلاحظه علماء الطيور؛ فمختبر كورنيل لعلم الطيور يجري إحصاءات للطيور على المستوى الوطني، وفي الإحصاء الأول للطيور عام ١٩٩٦ شارك أحد عشر ألف شخص بينما شارك في عام ٢٠٠٧ ما يزيد عن ثمانين ألف شخص في الحدث. كل هذه الملاحظات مورد ثمين، حيث يقول كريس وود، باحث في مختبر كورنيل: «نحن نؤمن بأنه سيحدث تغيير جوهري في الطريقة التي يدار بها علم الطيور الميداني.» إن الكم الهائل من البيانات التي يجمعها علماء الطيور الهواة يقدم لنا نظرة غير مسبوقة على أنماط الهجرة والتوزيع لأنواع كثيرة. ويقول وود: «ليس ثمة طريقة أخرى للتمتع بهذا النوع من التغطية، فمن جهة هناك عدد أقل جدًّا من المحترفين المشتركين بالعمل الميداني مقارنة بعدد مراقبي الطيور.» وأضاف: «في العديد من الحالات يكون مراقبو الطيور الهواة أكفأ في جمع الطيور وتحديد فصيلتها على النحو الصائب وتسجيل أعدادها من علماء الطيور المحترفين. إن هذه الطريقة الأساسية في جمع البيانات هي تحديدًا ما تخصص فيه مراقبو الطيور على الدوام.»

وعندما سألت عن مثال أخذ فيه الهواة مكان المحترفين، قال: «جزء كبير للغاية من معلوماتنا الآن عن الطيور ترد إلينا من مراقبي الطيور، ومن الصعب تحديد مثال واحد» لكن بعد أن صمت لحظة أعطاني مثالًا مذهلًا إذ قال: «إنه ذلك الطير الذي يدعى الدَرَّاس الكوزوميلي، الذي يعيش فوق جزيرة كوزوميل بالمكسيك. دمرت سلسلة من الأعاصير موطنه، وافترض الجميع أنه انقرض، ثم في عام ٢٠٠٤ أعاد بعض مراقبي الطيور اكتشافه، ونشروا نتائجهم في المطبوعات غير الرسمية.» وهي نشرات دورية خاصة بعلم الطيور لم تخضع لمراجعة الخبراء، «وبعد بضعة أعوام ذهبت مجموعة من العلماء إلى جزيرة كوزوميل، وشاهدت طائر الدَرَّاس وعادت إلى الولايات المتحدة، وأذاعت الخبر الهام بأنهم أعادوا اكتشاف هذا النوع.» كان لسان حال مراقبي الطيور الهواة يقول: «يا له من أمر مثير! لكننا اكتشفنا هذا الأمر منذ بضعة أعوام.» لقد تجاهل المحترفون مواكبة آخر المستجدات بمنشورات الهواة.

يهدف موقع إي بيرد eBird إلى القضاء على تكرار الجهود، لذا راح الموقع يوثق — منذ إطلاقه عام ٢٠٠٢ — الأعداد الغفيرة للطيور من خلال قوائم مراجعة، وهي الأداة الأساسية لمراقبي الطيور الهواة. بعد ذلك تدخل البيانات شبكة معلومات الطيور، وهي قاعدة بيانات رئيسية لمشاهدات الطيور يستخدمها الهواة والمحترفون على حدٍّ سواء. أراني وودز رسمًا بيانيًّا يوضح عدد المشاهدات التي تقدم في كل شهر مايو (أيار) من كل عام منذ عام ٢٠٠٣ وحتى ٢٠٠٨. في شهر مايو (أيار) من العام الأول، جمع موقع إي بيرد ما يزيد عن ١٠٠٠٠٠ مشاهدة، وهي مجموعة بيانات معقولة بكافة المقاييس، بيد أنها كانت أقل كثيرًا من المتوقع. ويعلق وودز قائلًا: «لقد أطلقنا الموقع كمشروع علمي يشارك فيه المتطوعون؛ أي تقديم وسيلة يتمكن من خلالها المواطنون من مساعدتنا. لذا غيرنا محور الاهتمام بدرجة كبيرة وأعدنا تصميم الموقع لمساعدة مراقبي الطيور.» يسمح وودز ورفاقه للناس بإنشاء صفحات رئيسية خاصة بهم يتسنى لهم من خلالها الاحتفاظ بقوائم التدقيق الخاصة بهم، ويقول في هذا الصدد: «توجد تلك الألعاب التي يحب مراقبو الطيور ممارستها فيما بينهم، ومن ثم قمنا بتطويرها ووضعناها هنا.» في مايو (أيار) عام ٢٠٠٨ جمع موقع إي بيرد ما يربو على ١٫١٥ مليون مشاهدة، وهو عشرة أضعاف العدد الذي جُمع عام ٢٠٠٣ تقريبًا.

إن هذا — إذا جاز التعبير — تعهيد أعمال للجماهير من نوع آخر. إذا كانت الصور الجاهزة المجال الأول الذي تغير بفضل تعهيد الأعمال للجماهير، فإن علم الطيور إذن فرع معرفة علمي يمر بهذه العملية. لقد أتاح الإنترنت الفرصة لحدوث تزاوج موفق بين الهواة والمحترفين من الباحثين في علم الطيور، فما كان يهيمن عليه المحترفون في الماضي أضحى يحمل قدرًا كبيرًا منه مجتمع منظم ذاتيًّا من الهواة. إن مهمة عالم الطيور في جزء كبير منها إجراء ملاحظات روتينية، فجمع البيانات البسيطة لا يقتضي الحصول على درجة الدكتوراه، بيد أنه قبل ظهور الإنترنت كان من المستحيل تقريبًا تنظيم التعاون البحثي بين العلماء والمتطوعين وتنسيقه، حتى إذا أراد المتطوعون تقديم المساعدة. إن استغلال هذه القاعدة البحثية للهواة المتحمسين يزود علماء الطيور بألف عين إضافية، والمعلومات الناتجة عن هذا الجهد التعاوني يستخدمها الهواة والمحترفون على حد سواءٍ بعد ذلك لإثراء معرفتهم في حلقة إيجابية لا تنتهي من التباحث.

(٢) عهد الهواة

مع أن التقنيات التي تقف وراء هذه الزيادة الكبيرة الأخيرة في نشاط الهواة جديدة، فالباعث نفسه له تاريخ طويل. قبل عصر التلفزيون أو الألعاب الرياضية ذات الحضور الجماهيري، أخذت وسائل التسلية أشكالًا من النادر أن تكون معروفة لنا اليوم؛ لذا فمن المفاجأة معرفة أن علم النبات — جمع كافة أنواع النباتات وتعيين نوعها وتصنيفها — كان أحد أكثر وسائل التسلية الشائعة بالقرن التاسع عشر. أطلق أصحابها على أنفسهم «مستكشفي النباتات»، وتشكلت أعداد غفيرة من الهواة الذين انتشروا عبر الغابات والمستنقعات والمراعي والصحراء الأمريكية الغناء مزودين بالكتيبات الإرشادية وأكياس لحفظ العينات. اكتشف علماء النبات الهواة عددًا هائلًا من الأنواع الجديدة وحصلوا على الدعم والتوجيه الملائمين من علماء النبات المحترفين القلائل في ذلك الحين.٧

تغير كل ذلك في السنوات الأخيرة بالقرن عندما اكتظت دراسة النباتات بفئات المحترفين الذين تملكهم شعور متزايد بالغيرة من المساهمات التي يقدمها نظراؤهم الهواة وعدم الاحترام لقدرات هؤلاء الهواة. في عام ١٨٩٧ نجح المحترفون في حذف «دراسة الطبيعة» من المنهج التعليمي بالمدارس الثانوية بأمريكا، ونتج عن ذلك تضاؤل فوري في الاهتمام بالمجال، وساد شعور بأن الهواة لوثوا مجالًا علميًّا رفيعًا، ومع أوائل القرن العشرين، أصبح علم النبات، إلى جانب غيره من المجالات العلمية، مجالًا تخصصيًّا.

ما يزيد عن قرن من التعليم الأكاديمي التخصصي ساهم في إخفاء جذور الهواية في الفنون والعلوم، التي تطورت من خلال إنجازات رجال ونساء اضطلعوا بدور الهواة بفخر كبير، وكان من الممكن أن يعتبروا لقب متخصص إهانة لهم. إن فرانسيس بيكون من الآباء المؤسسين للعلوم الحديثة: إبان أواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر أسس المنهج الاستقرائي في البحث العلمي ونشره، إلا أن العلوم كانت شيئًا ثانويًّا لبيكون، الذي اشتهر في عصره أكثر بوصفه محاميًا وكاتبًا وسياسيًّا وأحد رجال الحاشية.٨

وعلاوة على ذلك كان رجلًا أرستقراطيًّا، وفي إنجلترا كما في أرجاء القارة الأوربية، مقتت الطبقة الأرستقراطية ممارسة أي مهنة، ورأت أن كسب الرزق من خلال العمل أمر يقتصر على الطبقة الدنيا فحسب. بيد أن السعي وراء المعرفة في حد ذاتها — ليس معرفة محددة بل المعرفة بمعناها الأوسع نطاقًا — حاز الإطراء والإعجاب. وبطبيعة الحال، لم يستطع سوى الأثرياء تحمل الاستمتاع بهذا العناء الفكري الذي يستهلك وقتًا طويلًا ودون مقابل مادي. وبقدر ما وجد التعاون العلمي على الإطلاق — بما له من أهمية قصوى في الارتقاء بالإدراك — فقد اقتصر وجوده على نوادي النبلاء، وكانت المجلات العلمية غير موجودة.

أسس مجموعة من الفلاسفة والأطباء والهواة من علماء الفلك والرياضيات الذين تأثروا بكتاب بيكون الأبرز «الوسيلة الجديدة»٩ عام ١٦٤٦ «مؤسسة تعليمية» أطلقوا عليها «الجامعة الاعتبارية».١٠ جرت الندوات عبر البريد دون اللجوء إلى الجامعات أو الحاجة إليها، وقد كانت الجامعات بأي حال مكرسة إلى حد كبير لإعداد شباب أثرياء للعمل بساحات القضاء أو بيوت الكهنة. كان الغرض من الجامعة الاعتبارية «اكتساب المعرفة من خلال البحث التجريبي» وكان من بين أفرادها قادة الفكر البارزون لهذا العصر، وفيهم روبرت هوك (الذي طغت شهرته بوصفه عالمًا على إسهاماته في الفن المعماري)، وسير كريستوفر رين (الذي طغت شهرته بوصفه مهندسًا معماريًّا على إسهاماته في العلوم)، وروبرت بويل (الذي يعتبر مؤسس الكيمياء الحديثة، وكان أيضًا عالم لاهوت ذائع الصيت). هؤلاء الرجال كانوا هواة، وكان لهذه الكلمة دلالة حملت قدرًا من الإيجابية في عصرهم أكبر كثيرًا مما تحمله الآن في عصرنا. سادت ممارسات الهواة المستنيرة هذه في الفن أيضًا، وللاستشهاد بمثال واحد، يمكننا أن نشير إلى جان جاك روسو الذي يتذكره العالم بكتاباته الفلسفية التي ألهمت قيام الثورة الفرنسية، بيد أنه في عصره اشتهر بالأوبرا الكوميدية والنثر وأعماله القصصية.
بحلول عام ١٦٦٠ دخلت الجامعة الاعتبارية في إطار مؤسسات التعليم المعترف بها وأعيد تسميتها بالجمعية الملكية. وخلال المائة عام التالية كان أعضاء الجمعية الملكية — الذين كان جميعهم من الهواة وفقًا للتعريف المعاصر — مسئولين عن بعض من أعظم التطورات في المعرفة الإنسانية. تجسد نموذج الهواة — الأصل اللاتيني للكلمة هو amare وتعني الحب — في صورة باحث من طبقة النبلاء، بيد أن ذلك لم يكن ليستمر، فحتى المرحلة الأولى من الثورة الصناعية في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر تطلبت قَدْرًا متزايدًا من التخصص. في كتاب آدم سميث «بحث في طبيعة وأسباب ثروة الأمم»١١ تركزت الأطروحة الرئيسية على مبدأ المهن المتخصصة، وكتب سميث: «مع ذلك يتسبب تقسيم العمل — بالقدر الذي يمكن تطبيقه به — في زيادة تناسبية في الطاقة الإنتاجية للعمل في كل حرفة.» أدى التحول المتزايد للصناعة إلى التقليل من عمل كل فرد ليصل إلى مستوى أداء «عملية واحدة بسيطة»، وذلك كما تنبأ سميث.
بحلول القرن التاسع عشر، بدأت الجامعات في التحول عن الطبقة الأرستقراطية كمصدر رئيسي لتمويل الأبحاث، وظهرت طبقة من أساتذة الجامعة المحترفين في النظم الجامعية الأمريكية والأوربية المتنامية. أدت هذه العملية من إضفاء الطابع الاحترافي إلى انتشار مزيد من المنهجيات الصارمة، وتنامى حس عدائي تجاه ممارسات الهواة في العلوم والفنون، التي كانت تتحول أيضًا بدرجة متزايدة إلى الطابع الاحترافي مع ظهور السوق التجارية. وجه المقال الجدلي لعالم الرياضيات تشارلز بابيج «تأملات حول انهيار العلوم في إنجلترا وحول بعض أسبابه» عام ١٨٣٠ أصابع الاتهام إلى الجمعية الملكية بالانزلاق نحو الوهن والنفور من الثقافة الرفيعة عن طريق تلبية رغبات أغنى أعضائها وهم غالبًا يكونون أضعفهم إبداعًا. وبالمقارنة، أوضح بابيج أن نابليون بونابارت قدم لفرنسا نظامًا جامعيًّا مزدهرًا عزز الجدارة والتخصص، وبعد أن ابتعدت هذه الجامعات عن الرعاة التقليديين، اعتمدت في وجودها على التمويل الحكومي.١٢

كان لمقال بابيج تأثير خالد بدأ من عام ١٨٣١ عندما تأسست الجمعية البريطانية لتقدم العلوم لتقاوم التأثير التخريبي لثقافة مجتمع النبلاء بالجمعية الملكية، التي كانت خاضعة لإدارة رجال لا يتقاضون أجرًا (وغير مدربين في العموم) كانت ذريعتهم الوحيدة للاستعانة بهم اهتمام مزعوم بالمجال العلمي. تمثل بداية المستقبل المهني لتشارلز داروين نموذجًا لهذا الوعي الجديد تجاه الاحتراف؛ ففي سن صغيرة أصبح داروين مفتونًا فعلًا بعلم النباتات، وحمل هذا الاهتمام معه إلى الكلية. أصر والده — وكان طبيبًا مرموقًا — أن يشتغل ابنه بمهنة في الدين أو الطب، بيد أن الزمن قد تغير بالفعل بحلول منتصف القرن التاسع عشر، وكان داروين الصغير قادرًا على إقناع والده بالسماح له بالذهاب إلى رحلته القدرية على متن السفين الملكية بيجل مستشهدًا بنظرة الاحترام المتزايدة لمجتمع المحترفين في العلوم.

ومع مرور الوقت خلال القرن التاسع عشر، تجلت نظريات سميث بشأن تقسيم العمل في صورة الثورة الصناعية، التي هاجر فيها العمال إلى المدن لأداء وظائف ذات قدر أعلى من التخصص والاحترافية، التي وصلت في النهاية إلى ذروة رائعة على قدر مثير من الكفاءة بإنشاء خطوط تجميع بمصانع سيارات هنري فورد بمدينة هايلاند بارك بولاية ميتشجن. وبحلول العقود الأولى من القرن العشرين، ظهر تقسيم العمل في التعليم الجامعي أيضًا، الذي بلغ أوجه مع تأسيس الجامعات البحثية الحديثة. ساد الآن اختلاف واضح بين التعليم الجامعي والأساتذة الجامعيين المتوقع منهم أن يعملوا في عدد سريع الازدياد من الفروع العلمية.

إلا أنه في الوقت الذي قُسمت الفنون والمعارف إلى فروع متخاصمة، استمر التعليم الجامعي في التأكيد على مبدأ النهضة المثالي الذي ساد في عصر ما قبل الثورة الصناعية السابق. كان من المنتظر أن تُخرج الجامعات — التي هُيِّأَتْ لتناسب تعليم الطبقات العليا — شبابًا «ناضجين ذوي اهتمامات ومهارات متعددة»، بإمكانهم الاتجاه إلى العمل في مكاتب المحاماة ومقرات الشركات المرموقة. وعمومًا لا تزال جامعاتنا تقليدًا لأسس عصر النهضة، وهو نموذج لعصر تمكن فيه المواطن المثالي من حمل القلم والمحراث والمنقلة بالكفاءة نفسها، وهذا أمر رائع؛ إذ يساعد على وجود أفراد لافتين للاهتمام وأصحاب اهتمامات، بيد أن هؤلاء الأفراد سيسعون وراء حياة مليئة بالعمل الهادف، وهنا يظهر تعهيد الأعمال للجماهير.

(٣) زيادة انتشار التعليم بين الطبقة المتوسطة

تغير ديموغرافية طلاب الجامعات بعد الحرب العالمية الثانية، على الرغم من عدم تغير المناهج الدراسية. جعل ميثاقُ حقوق الجنود بالحرب العالمية الثانية التعليمَ بالكليات ميسور التكلفة للطبقات المتوسطة للمرة الأولى. ووفقًا لمجلس إدارة الكليات فإن «نسبة السكان البالغين من العمر ٢٥ إلى ٢٩ عامًا الذين أنهوا أربع سنوات دراسية بالكليات أو أكثر تضاعفت أربع مرات منذ عام ١٩٤٠.»١٣ وبحلول عام ٢٠٠٠ التحق ٦٣ في المائة بالكامل من خريجي المدارس الثانوية بالكليات.

هذا كذلك أمر رائع، فالتعليم بمنزلة المحرك الذي يدفع اقتصاد المعلومات إلى الأمام ويلبي طلبًا في ازدياد مستمر في مجالات تتراوح من الخدمات المالية إلى التسويق، بيد أن الدرجة المتزايدة من التخصص والاحترافية المطلوبة في أغلب الشركات تتعارض مع فكرة «التعليم التحرري». وعلى الرغم من وجود اتجاه حديث نحو درجات علمية أكثر قابلية للتطبيق الفوري كالهندسة والأعمال والاتصالات، لاحظت شيلا سلوتر أستاذة التعليم العالي بجامعة جورجيا أن ما يزيد عن ٥٠ في المائة من أعمال السنة للطلاب الجامعيين لا تزال تتألف من المواد الاختيارية، لذا حتى أكثر طلاب كليات إدارة الأعمال إصرارًا على النجاح سيكتشفون بداخلهم على الأرجح حبًّا لتاريخ الفن، وقد يتولد لدى طلاب كليات الدراسات الإنسانية الأكثر تفانيًا حب لعلم الأرصاد الجوية، كما كان الحال معي. تقول سلوتر: «تعيق الجامعات التخصص والاحترافية من حيث إنها تخلق «مساحات لهو» يُشَجَّعُ الطلاب في إطارها على التجريب بصورة واسعة وشاملة.» مشيرة إلى أن الطلاب قد يكتسبون مهارات على غرار صناعة أفلام الفيديو أو صناعة الملفات الرقمية المرئية والصوتية من خلال حصة دراسية، لكن من المحتمل أن يدمجوها في حياتهم الاجتماعية سريعًا للغاية. إن ما يبدأ كمادة اختيارية، سرعان ما يصبح اهتمامًا خارج المنهج وهواية إضافية بعد التخرج، خاصة إذا أُذْكِيَتْ من خلال منتديات الإنترنت التي تتشكل من أفراد متحمسين ذوي ميول مشتركة. يستفيد تعهيد الأعمال للجماهير من حقيقة أن اهتماماتنا متنوعة بقدر أكبر مما هو مكتوب على بطاقات أعمالنا على ما أعتقد.

حتى بقدر ما يتخصص طلاب الكليات عن طريق اختيار مادة تخصص أو أخرى، يحصل عدد أقل كثيرًا من الخريجين على وظائف تعكس مسار دراستهم؛ فعدد الدرجات العلمية في الفنون التي تمنح للطلاب زادت أسرع من عدد درجات الطلاب الجامعيين العامة، لكنَّ جزءًا من هؤلاء الطلاب سيكسبون قوت يومهم بوصفهم فنانين، وعدد ضئيل منهم سيحصل على وظيفة تدريس ثمينة بالجامعة، مع أنها لن تكون في أغلب الظن سوى وظيفة إضافية تقدم أجرًا شحيحًا وأمانًا قليلًا.١٤ ستجد أقلية أكبر على نحو طفيف عملًا في الفنون التطبيقية على غرار الرسوم الزيتية التوضيحية والتصميم، وستعتبر نفسها محظوظة. هذا السيناريو ليس مقصورًا على الفنون، فقليل من الطلاب ذوي التخصص الرئيسي في المواد العلمية سيمارس «العلوم البحتة»، ومن المحتمل أن يعمل خريج من كلية كيمياء في مصرف استثماري أو استشاري إدارة إضافة إلى عمله صيدليًّا، فلا بأس من تطبيق المهارات والمعرفة التي اكتسبها في تلك الفصول الدراسية البعيدة عن مجال تخصصه.

النتيجة أن عددًا كبيرًا من الناس يؤدون أكثر أعمالهم الهادفة والمجزية بعيدًا عن مكان عملهم. لقد نشأ تعهيد الأعمال للجماهير بطبيعة الحال للاستفادة من القيمة الاقتصادية التي تخلقها فئة الهواة، ومع حصول عدد متزايد من الناس على تعليم عالٍ، دربنا دون قصد غير محترفين يتنافسون على قدم المساواة تقريبًا مع المحترفين. هل من الغريب — في ضوء هذه البيئة — أن يرتاب الناس في المحترفين بدرجة غير مسبوقة وأن يرحبوا بالهواة بكل سرور؟ إن الأشخاص الذين شعروا في الماضي «بأن بإمكانهم تأدية هذه الوظيفة بنفس كفاءة ذلك الشخص المحترف» يقدمون الآن برهانًا على قناعاتهم. يحب الناسُ الأشخاصَ ممن ليسوا خبراء وليسوا واسعي العلم وليسوا ممن يخاطبون الناس عبر شاشات التلفزيون. إن شعبية تلفزيون الواقع بالطبع أحد شواهد هذا الولع الجماعي، لكن الفكرة الرئيسية تتغلغل عبر كل جانب من ثقافتنا. في واقع الأمر، لم تبلغ ثقة الناس في المحترفين هذه الدرجة من التدني من قبل؛ فوفقًا لاستطلاع رأي أجرته مؤسسة جالوب في ديسمبر (كانون الأول) ٢٠٠٦ تغلب الساسة على بائعي السيارات بنسبة ضئيلة فيما يتعلق بثقة الناس فيهم واحترامهم، وتغلب الصحافيون على الساسة بنسبة ضئيلة.

تضللنا مثل هذه الدراسات الاستقصائية وتقودنا إلى اعتقاد أن الناس تحرروا من وهم ما يمكن أن نطلق عليها «طبقة الخبراء»، بيد أن ذلك جزء فحسب من ديناميكية أعمق وهي أن الفجوة في المعرفة التي فصلت في السابق الخبراء تمامًا عن باقي عامة الناس قد تقلصت. يتاجر الخبراء في اكتساب المعلومات الحصرية وتفسيرها؛ فالمحامون يلتحقون بكليات الحقوق لفهم خبايا النظام القانوني لدينا، فيما يتودد الصحفيون للمصادر التي تزودهم بالمعلومات السرية لدعم مقالاتهم وأخبارهم، بينما يتمتع رجال السياسة بإمكانية وصول خاصة للمعلومات السرية، أو ببساطة، بنافذة داخل آلية الحكومة. على الأقل هكذا اعتادت أن تسير الأمور. غير أن بنية شبكة الإنترنت تتواطأ ضد الأنظمة المنغلقة، فالشبكة في طبيعتها تتألف من أعداد غفيرة من نقاط الاتصال، بحيث تتضاعف المعلومات سريعًا وبسهولة، إذ تمزق بنية الشبكة جميع الهرميات. كما لا تشير العبارة التي كثيرًا ما تكرر «المعلومات تريد أن تتحرر» — التي قالها لأول مرة الكاتب ستيوارت براند في مؤتمر عام ١٩٨٤ — إلى أي حرية إرادة من جانب المعلومات نفسها، بل إلى الطريقة التي أَبْطَلَ بها تصميمُ الشبكة هيكلَ التكلفة حول المعلومات، فعلى شبكة الإنترنت، يصبح كبح المعلومات عامةً أصعب من توزيعها.

بعبارة بسيطة، أصبح الناس متسلحين بمعرفة كافية تمكنهم من التعرف على أدق المعلومات السرية؛ فقد صار الهواة قادرين على استخدام شبكة الإنترنت لاكتساب القدر نفسه من المعلومات شأنهم شأن المحترفين. في مارس (آذار) ٢٠٠٧ طلبت المدونة السياسية اليسارية الشهيرة توكينج بوينتس ميمو من قرائها البحث في آلاف الصفحات من الوثائق التي أطلقتها وزارة العدل المتعلقة بالفصل غير القانوني المزعوم لوكيل وزارة العدل تحت إدارة وزير العدل ألبرتو جونزاليس، واستطاعت صفحة تي بي إم ماريكر — وهي قسم التحقيقات الصحفية بتلك المدونة — الكشف عن العديد من الحالات التي تُتَّخَذُ فيها إجراءات بدوافع سياسية داخل وزارة العدل، وذلك باستغلالها لقوة العديد من الأعين بنفس الفاعلية التي استغلها علماء الطيور في أودوبون أو كورنيل. كثيرًا ما يتجاوز تعميم المعلومات هذا حدود السياسة، وكذلك حدود القانون والإعلام والطب والسياسة.

وكما شاهدنا في حالة علم الطيور، يصل تأثير تعميم المعلومات إلى مجالات يمكن أن تكون أكثر المجالات التي تقاوم تعهيد الأعمال إلى الجماهير، على غرار البحث العلمي. علاوة على ذلك، ليست العلوم بمأمن من القوى الاجتماعية والاقتصادية التي تؤثر في المجالات الأخرى، فقد قال شون كارلسون، الذي فاز بمنحة النبوغ من مؤسسة ماك آرثر عن عمله في تأسيس جمعية العلماء الهواة: «يوجد العديد من الناس الذين يحملون درجة الدكتوراه في الفيزياء النظرية ويعملون بوول ستريت حيث يعدون تحليلات الأسهم. إن شغفهم الأول هو العلوم، وسينقضون على أي فرصة للعودة إلى مجالهم الأساسي والبدء في العمل في مجال العلوم فقط مرة ثانية.» كارلسون نفسه يحمل دكتوراه في الفيزياء الذرية، إلا أنه أسس جمعية العلماء الهواة عام ١٩٩٤ لاعتقاده الراسخ أنه «بإمكان الأشخاص العاديين المساهمة في العلوم غير العادية»، ويقول كارلسون إن التكنولوجيا برهنت أنها عامل مساواة رائع، مستشهدًا بمجالات كعلم الطيور وعلم الفلك اللذين يتزايد اعتمادهما على الهواة في جمع البيانات الأولية. ولما كان الإنترنت ينشر المعرفة، سيبدأ الهواة في المساعدة في تحليل البيانات أيضًا، وليس من المدهش أنه مثلما ظهرت شركة آي ستوك فوتو لاستغلال النمو المثير في عدد المصورين الماهرين ممن يعملون بوظائف دائمة بعيدة عن مجالهم، توصلت شركة تدعى إنوسنتِف إلى طريقة لاستغلال الطاقة الفائضة لدى العلماء الموهوبين الذين يجرون مشروعاتهم الغاية في الأهمية في معامل رديئة.

(٤) تجارب علمية خارج الجدران المعملية

ليست جيورجيا سجارجيتا١٥ عالمة هاوية في الواقع، مع أن هذا الوصف تحديدًا هو ما يطرأ بذهننا عندما تصف معملها بالمنزل. تعيش المرأة ضئيلة الحجم البالغة من العمر أربعة وثلاثين عامًا في مدينة صغيرة في إقليم أبروتسو بإيطاليا، وبعد أن تعد العشاء وتأوي ابنتها دايان ذات الثمانية أعوام وزوجها أليساندرو إلى الفراش، ترتدي سجارجيتا معطف المعمل الرث وتطرح أوعية الطهي بعيدًا، وتأخذ بحذر القوارير والأكواب وأنابيب الاختبار وميزانًا إلكترونيًّا بالغ الدقة صغير الحجم من علية المنزل.

قد لا تبدو التجهيزات غريبة في حصة علوم بمدرسة ثانوية، لكن سجارجيتا ليست هاوية فقط. في الأعوام القليلة الماضية، أمضت أمسياتها وهي تعمل على مشكلات بحثية أثارت حيرة بعض من أفضل العلماء بالشركات في العالم. إن سجارجيتا جزء من شبكة ممتدة من العلماء الذين يعملون لشركة إنوسنتِف، وهي شركة تعهيد أعمال للجماهير مقرها مدينة والثِم بولاية ماساتشوستس. من بين عملاء شركة إنوسنتِف أفضل خمسمائة شركة بتصنيف مجلة فورتشن كبروكتر آند جامبل ودو بونت وشركة بي إيه إس إف عندما يعجز فريق البحث والتطوير داخل الشركة عن حل مشكلة، يعهدون بها إلى المائة والأربعين ألف عالم فيما يزيد عن مائة وسبعين بلد يتصفحون موقع إنوسنتِف بحثًا عن عمل. تبلغ قيمة معظم الجوائز للحلول الناجحة ما بين ١٠٠٠٠ دولار و١٠٠٠٠٠ دولار، إلا أن المال ليس الحافز الرئيسي، كما أشارت سجارجيتا سريعًا.

تقول سجارجيتا: «لطالما أحببت المعمل، حتى وأنا طفلة.» تفوقت سجارجيتا في مشروع الدكتوراه، وتخصصت في تركيبات المنظفات والمواد الكيماوية الزراعية والكيمياء التحليلية. غير أنه في إيطاليا، كما هي الحال في أغلب البلدان الأخرى، من الصعب الحصول على وظائف في المجال البحثي. عوضًا عن ذلك، حصلت سجارجيتا على وظيفة مديرة جودة في مصنع للمبيدات الحشرية بالقرب من منزلها، وهي سعيدة بالعمل في مجالها، إلا أن العمل روتيني للغاية وهي تفتقد إلى التحديات التي تشكل جزءًا من عملها بالمعمل.

ليست سجارجيتا وحدها في هذا الأمر، إذ لا يتمكن سوى عدد محدود من العلماء من العمل في وظائف بحثية بحتة على غرار علم الفلك والفيزياء في نهاية المطاف، مثلما لا يتمكن سوى عدد محدود من خريجي كليات الفنون من الاعتماد على عمولات المعارض في كسب قوت يومهم. من عشرة أعوام كان من الممكن أن تعزو سجارجيتا الوضع إلى وقائع السوق وتمارس حبها للكيمياء الزراعية في حديقة منزلها، لكن في عصر الاتصال اللامتناهي، أصبحت قادرة على ممارسة هوايتها عمليًّا بطرق تفيد الشركات التي تستخدم شبكة إنوسنتِف وتفيدها على المستوى المادي.

في الأعوام الأربعة التي تلت تعرف سجارجيتا على شركة إنوسنتِف لأول مرة بالمصادفة، استطاعت حل مشكلتين. في واحدة منها اخترعت نوعًا من الصبغة يحول مياه غسل الصحون إلى الأزرق بعد إضافة الكمية الصحيحة من مسحوق التنظيف. ومع أنه من المفترض أن تبقى الشركات «الباحثة عن حل» في إنوسنتِف غير معروفة، اكتشفت سجارجيتا لاحقًا أن بروكتر آند جامبل حفظت براءة اختراع مسندة إليها وإلى اكتشافها، وحققت سجارجيتا ربحًا صافيًا يبلغ ٣٠٠٠٠ دولار عن ابتكارها الذي صنعته في المطبخ. وبعد ذلك، ربحت ١٥٠٠٠ دولار لإسهامها في إحراز تقدم في بحث خاص بالمؤشر الحيوي — مؤشر يستخدم لقياس آثار الدواء — يُسْتَخْدَمُ في علاج مرض التصلب الجانبي الضموري أو مرض لو جيريج. جدير بالملاحظة أن سجارجيتا ليس لديها أي خبرة سابقة مع مرض التصلب الجانبي الضموري أو حتى مع البحث الطبي.

كانت النقود إضافة مرحبًا بها لسجارجيتا ولدخل زوجها العادي، تقول سجارجيتا: «نرغب كثيرًا في الانتقال إلى مكان آخر يومًا ما، إن منزلنا يطل على مشهد رائع الآن، لكن الضوضاء القادمة من الشارع لا تطاق. إذا فزت مجددًا ربما سنكافئ أنفسنا بشراء مكان آخر في موقع أفضل.» وتضيف سجارجيتا أن الأفضل من المال هو الشعور بأنها تمارس علمًا حقيقيًّا مجددًا. منذ أن بدأت العمل على مشكلات إنوسنتِف عادت إلى البحث في الكتب الفنية ومسح الإنترنت بحثًا عن قواعد بيانات للمركبات الكيميائية وملء القوارير الخاصة بها بسوائل قابلة للاشتعال.

في حين أنه قد يُطْلَق على بعض أفراد القوى العاملة غير الرسمية التابعة لإنوسنتِف وصف الهواة بالمعنى المحدد للكلمة من ناحية أنهم ليسوا علماء مدربين على المستوى الاحترافي، فمعظمهم يشبه سجارجيتا؛ أي من حاملي درجات الدكتوراه الذين لديهم فضول وشغف وتواقين إلى استغلال وقت فراغهم من أجل تحديات فكرية. تعد المكافآت المالية التي تقدمها شركة إنوسنتِف ضخمة وفقًا لمعايير تعهيد الأعمال للجماهير، إلا أن هناك ملاحظة عامة يشير إليها حلالو المشكلات عند التطرق إلى نموذج شركة إنوسنتِف، وهي أن الأمر في المقام الأول متعة. وما يجده علماء إنوسنتِف ممتعًا هو — في معظم الحالات — معالجة مشكلات خارج المجال الذي تلقوا تدريبهم فيه. ليست بمصادفة أن عددًا ليس بقليل من أغلب حلالي المشكلات يعرّفون أنفسهم بأنهم علماء «ذوو خبرات عامة». يدرج ديفيد تريسي — وهو عالم فيزياء يعمل بدوام جزئي لأسباب صحية بمدينة نورووك بولاية كونيتيكت — هذه الاهتمامات البحثية المتفاوتة ﮐ «تطوير الخوارزميات» و«الهندسة البصرية» في سيرته الذاتية بالموقع الإلكتروني الخاص بشركة إنوسنتِف. وكتب تريسي: «لا شيء يثير اهتمامي أكثر من مشكلة مهمة تحتاج إلى حل جديد.» مضيفًا أنه يعمل الآن على تطوير نظام منخفض التكلفة لإحصاء الأشجار آليًّا لمصلحة منظمة غير ربحية محلية معنية بإدارة الغابات. إن الروح الشمولية فكريًّا لفرانسيس بيكون لا تزال حية داخل ديفيد تريسي.

وهكذا يكون بعض حلالي المشكلات هواة بمعنى الكلمة حقًّا، ولكن هذا لا يعني أن شركة إنوسنتِف تميز بينهم، فمثلما لا يعرف حلالو المشكلات الشركة التي فوضت المهمة البحثية، لا تكشف شركة إنوسنتِف هوية الشخص الذي توصل إلى حل المشكلة. ويقول جيل بانيتا، الرئيس التنفيذي للبحث العلمي بشركة إنوسنتِف: «نعمد إلى تعميم الأمر، بحيث لا يعرف العميل أبدًا هل الشخص الذي حل المشكلة حائز على جائزة نوبل أم معلم بمدرسة ثانوية.» لا تنكشف هوية صاحب حل المشكلة إلا بعد أن تقبل الشركة بالحل، وغالبًا ما تندهش الشركات عندما تعرف هوية صاحب الحل، ولدينا مثالان حقيقيان: مبرمج كمبيوتر من الأرجنتين، وطالب بجامعة دالاس.

يقول بانيتا: «ما نقوم به بسيط إلا أنه عميق، فالمؤسسات تتمكن من عرض مشكلتها أمام نسق شديد التنوع من الخلفيات البحثية.» ويبدو أن هذا النشاط يؤتي ثماره جيدًا لشركة إنوسنتِف، التي تضم ثلاثين من أفضل الشركات بين عملائها؛ إذ تبلغ أرباح شركة إنوسنتِف في المتوسط من الحل الناجح عشرين ضعف الأجر الذي يقدم لصاحب الحل. لقد أصبح تقديم جوائز مالية لحل مشكلة معقدة أمرًا يتزايد قبوله بوصفه وسيلة يمكن تنفيذها لحل معضلات علمية وتكنولوجية شائكة. «أعتقد أنه عندما أسسنا الشركة منذ ستة أعوام كنا في الطليعة. عندما اقتربنا للمرة الأولى من قائمة فورتشن لأفضل ٥٠٠ شركة اعتقدوا أننا مجانين، لكنهم الآن استوعبوا الأمر.»

في بعض المجالات، لا يملك العلماء خيارًا سوى استغلال غير المحترفين. دكتور راي أونيل جونيور أستاذ فيزياء بجامعة فلوريدا للهندسة الزراعية والميكانيكية، ولديه السجل الوظيفي — يحمل دكتوراه من جامعة ستانفورد، ويشغل منصبًا لأبحاث ما بعد الدكتوراه مع الإدارة الوطنية للطيران والفضاء (ناسا) — الذي يؤهله للحصول على منح نقدية سخية. غير أن أونيل يجري أبحاثًا عن الأشعة الكونية في عصر فقدت فيه ناسا والفيزياء الفلكية مكانتهما. يقول أونيل: «تعاني الجامعة التي أعمل بها نقص الموارد المالية باستمرار، فلا يوجد في معملي عشرة من طلاب أبحاث ما بعد الدكتوراه وعشرون خريجًا كما قد يظن البعض.»

عوضًا عن ذلك، قرر أونيل وباحث زميل في الأشعة الكونية — هو هليو تاكاي بمختبر بروكهافن الوطني — تعهيد مشروع بحثهما للجماهير عبر الإنترنت. إنهما الآن يبتكران جهازًا يمكنه الكشف عن الأشعة الكونية من الشمس وينقل البيانات لاسلكيًّا إلى المختبر ببروكهافن، وبالإضافة إلى ذلك يوظفان علماء متطوعين وطلاب جامعات وأي فرد آخر للحفاظ على محطات الكشف وصيانتها. ويقول مؤسس جمعية العلماء الهواة شون كارلسون: «نريدهم أن يتواجدوا في نهاية المطاف في جميع أنحاء العالم، فهذا الأمر قد يغير فهمنا لكيفية تفاعل الأشعة الشمسية مع الغلاف الجوي للأرض جذريًّا.» ويضيف أن هذه الشراكات ستزداد في النهاية إذ إن «لدينا كل هؤلاء الأشخاص الموهوبين الشغوفين بالعلم، وسيدرك مجتمع الاحترافيين أهمية هذا المورد، وسترى برامج كهذه تزداد بصورة مثيرة.»

إن إنوسنتِف وشركة آي ستوك فوتو بمنزلة نافذة صغيرة على كيفية عمل مصدر العمالة الموازي هذا والأيدي العاملة الظلية هذه. فمن ناحية، هي مُسْتَمَدَّة من قاعدة عالمية للمواهب. يهدم مثلُ هذه الشبكات الحواجزَ التي تقف أمام المشاركة، وتمنحنا إمكانية للوصول إلى رأس المال الفكري الهائل الموجود في مناطق مثل أوربا الشرقية والهند والصين. ومن هذا المنطلق، يشبه تعهيد الأعمال للجماهير تصدير الوظائف للخارج، لكنه أوسع انتشارًا منه. إن ما يقرب من ٤٥ في المائة من العاملين بآي ستوك يعيشون خارج أمريكا الشمالية، أما علماء إنوسنتِف فلهم تكوين أكثر عالمية: فما يقل عن ثلثهم يعيش في أمريكا الشمالية.١٦
من ناحية أخرى، لا يعير تعهيد الأعمال للجماهير أدنى انتباه للمؤهلات المهنية أو للجنسية، فشركتا إنوسنتِف وآي ستوك يرتكزان على نظام الجدارة؛ فكل ما يهم هو الناتج النهائي؛ وهذا مصدر قوتهما الأكبر. وقد كشفت دراسة مثيرة أجراها معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا عن شركة إنوسنتِف أن حلالي المشكلات كانوا أنجح عندما كانوا أقل خبرة في المجال ذي الصلة. بعبارة أخرى، يحالف الصيادلة التوفيق أكثر في حل مشكلات بيولوجية، والعكس صحيح.١٧ وهذا الأمر أقل إثارة للدهشة مما يبدو للوهلة الأولى، فإذا تمكن الصيادلة بشركة بروكتر آند جامبل من حل معضلة عسيرة في مجالهم، ما كان انتهى بالشركة الحال قط إلى نشر المعضلة بموقع إنوسنتِف. وهذا هو الجانب السحري الفعال في الأمر: غير المدربين غير متأثرين بالعوامل والخبرات السابقة أيضًا، ومصدر قوتهم الأكبر هو أنهم ينظرون إلى الموضوع بأعين جديدة، وهذا ببساطة إعادة صياغة للحقيقة البديهية التي تقول إنه عند وجود أكثر من عين تنظر للمشكلة، تتجلى كافة العيوب، ويسهل تصحيحها. بيد أن هذا المفهوم لم يكن واضحًا على الدوام، فقد اقتضى الأمر وجود حفنة مبرمجي كمبيوتر ثائرين على التقاليد لإثبات مدى الفاعلية التي يتمتع بها قانون الكَثْرَة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤