الفصل العاشر

جمهور الغد

عصر المواطن الرقمي
هناك أسباب تجعلنا نؤمن بأن التطبيق الحالي لتعهيد الأعمال للجماهير ليس سوى تمهيد لتحول أوسع كثيرًا في الانتشار، والحقيقة هي أن هناك ما يقرب من ٢٠٠ مليون سبب لتصديق ذلك، وهذا هو العدد التقريبي للمراهقين والشباب حول العالم الذين لديهم اتصال بالإنترنت. صاغ مارك برينسكي كاتب ومطور ألعاب الفيديو مصطلح «المواطن الرقمي» لوصف الفئات العمرية التي تصل إلى سن البلوغ في عصر الإنترنت. أما بقيتنا فيصفنا ﺑ «المهاجرون الرقميون» وهو الوصف الملائم تمامًا. وشأننا شأن معظم المهاجرين، فإننا غالبًا ما نكافح من أجل فهم العادات غير المفهومة للسكان الأصليين.١

يعيش المواطنون الرقميون، الذين ترعرعوا وسط الإعلام الاجتماعي والاتصال بالإنترنت وكاميرات الهواتف المحمولة ومواقع ماشنيما ويوتيوب، على الكوكب نفسه كالمهاجرين الرقميين، إلا إنهم يسكنون عالمًا مختلفًا تمامًا؛ فبإمكانهم التركيز على مهام متعددة في الوقت نفسه، كما يتعاونون بسلاسة مع أشخاص لم يقابلوهم قط، والأهم من ذلك، يخلقون إعلامًا بنفس الحماسة التي استهلكته بها الأجيال السابقة. هذا هو جيل تعهيد الأعمال للجماهير؛ شريحة من السكان تأقلمت نموذجيًّا مع مستقبل ستحل فيه المجتمعات الإلكترونية محل الشركة التقليدية.

إذا كان من المقدر أن يقوم الأبناء بالثورة، فمن الملائم إذن أن يكون من أطلق أولى الطلقات مصمم ألعاب فيديو في سن المراهقة. ففي عام ١٩٩٩ كان مين لي مهاجرًا فيتناميًّا في السنة النهائية من برنامج علوم الحاسب الآلي بجامعة سايمون فريزر بمدينة فانكوفر بمقاطعة كولومبيا البريطانية. بعد الانتهاء من اليوم الدراسي، كان يعود إلى شقته ويمارس ألعاب كلعبة «دوم» (رجل يقتل الزومبي وهم الموتى الأحياء)، ولعبة «كويك» (رجل يقتل وحوشًا جاءت من أبعاد أخرى) ولعبة «هاف لايف» (رجل يقتل وحوشًا جاءت من أبعاد أخرى وزومبي). أحب لي لعب هذه الألعاب للغاية حتى إنه بدأ في إدخال «تعديلات» خاصة به على هذه الألعاب، ومن الممكن أن يتراوح التعديل من إنشاء سلاح بمواصفات خاصة إلى «تغيير كلي» أي كتابة لعبة جديدة تمامًا، لا يبقى فيها شيء كما هو إلا محرك اللعبة الأساسي فقط. في يونيو (حزيران) من ذلك العام، أطلق لي ومصمم ألعاب شاب آخر يدعى جيسي كليف تغييرًا كليًّا في لعبة هاف لايف أطلقوا عليها «كاونتر سترايك». عصفت لعبة «كاونتر سترايك» بلعبة «هاف لايف» تمامًا إذا جاز التعبير. فبدلًا من إطلاق النار على المخلوقات الغريبة، يلعب ممارس اللعبة ضمن فرق تتألف إما من إرهابيين أو رجال أمن. تحاول الفرقة الأولى القيام بأعمال مشينة، وتحاول الأخرى إيقافها، وينتج عن ذلك الكثير من إراقة الدماء. تجذب التعديلات في العموم جمهورًا محدودًا للغاية، لكن من ناحية أخرى، لم تكن كل التعديلات بنفس مستوى جودة وكفاءة تنفيذ لعبة «كاونتر سترايك». وفي غضون أسابيع نُزِّلت اللعبة آلاف المرات. عندما أمضيت شهرًا في أوزبكستان في مهمة عمل تابعة لمجلة وايرد عام ٢٠٠٢ كان من المستحيل تقريبًا العثور على وسيلة أتفقد من خلالها البريد الإلكتروني، لكن الأولاد بطشقند كانوا (شأنهم شأن الأولاد ببالي وبَوْلدر وبومباي) يلعبون «كاونتر سترايك».٢

تجاوبت شركة فالف — وهي شركة الألعاب التي أطلقت لعبة هاف لايف (التي تقوم عليها لعبة «كاونتر سترايك») — على نحو غريب مع الشعبية الهائلة للعبة «كاونتر سترايك». فبدلًا من إرسال خطابات بالتوقف والامتناع للي — الذي انتهك، في النهاية، حقوق الملكية الفكرية الخاصة بالشركة في سبيل إنشاء لعبته — شجعت شركة فالف الزيادة السريعة في شعبية اللعبة في واقع الأمر؛ فقد أتاحت شركة فالف لعبة «كاونتر سترايك» من خلال إصدار برنامج التعديلات مع ألعابها. إن التعديلات جزء حيوي من ثقافة الألعاب، والأهم من ذلك أن شركة فالف تفهمت أن التعديلات لم تضر بمبيعات اللعبة الأصلية بل ساعدتها؛ فمن أجل ممارسة لعبة «كاونتر سترايك»، لا بد من تشغيل لعبة «هاف لايف» على جهاز الحاسب الآلي، وسرعان ما رخصت شركة فالف حقوق بيع التعديل تجاريًّا وضمت لي إلى طاقم موظفيها.

كان ذلك إجراءً ينم عن نفاذ البصيرة، ويبشر بضروب من استراتيجيات تعهيد الأعمال للجماهير ستتبناها شركات أخرى بعد سنوات. لقد استخدمت شركة فالف عميلًا لإنشاء ابتكارات قائمة على منتجها، ويمكن الجدال بأن هذه الخطوة كانت من أذكى الإجراءات التي اتخذتها شركة فالف على الإطلاق؛ فبالعمل عن كثب مع لي، أصدرت الشركة النسخة الرسمية للعبة «كاونتر سترايك» في نوفمبر (تشرين الثاني) عام ٢٠٠٠، وبحلول عام ٢٠٠٣ أصبحت من أكثر الألعاب انتشارًا على الإنترنت مع ممارسة ٢٫٥ مليون فرد لها. كذلك ذكرت مجلة الألعاب الإلكترونية، جيم سباي، أن لعبة «كاونتر سترايك» هي السبب الرئيسي لاحتفاظ لعبة «هاف لايف» بشعبيتها الكبيرة في الألفية الثالثة. ويقول كريس بايكر المحرر الأول بمجلة وايرد إن اللعبة كانت واسعة الانتشار للغاية حتى إنها أدت إلى انخفاض مبيعات أجهزة الحاسب الآلي الشخصي في الأعوام الأولى من العقد الذي طرحت فيه، ويضيف: «تؤدي الألعاب الجديدة عامة إلى تطوير أجهزة الحاسب الآلي، لكن العديد من الأشخاص كانوا راضين عن لعبة «كاونتر سترايك»، ولم يكن هناك سبب لشراء جهاز كمبيوتر جديد.»

إن لعبة «كاونتر سترايك» استثنائية فيما يتعلق بالتعديلات، لكنها ليست فريدة من نوعها، فلطالما كانت التعديلات جزءًا رئيسيًّا من ثقافة اللاعب لعقود. ومع ذلك فإن إدخال التعديلات يتطلب في المعتاد وقتًا ومهارة كبيرين. إن ما يتغير هو أن صناعة الألعاب تبذل جهودًا مضنية لخفض معاييرها لإتاحة الفرصة لعدد أكبر من المستخدمين الصغار لتصميم ألعابهم الخاصة. على سبيل المثال: إن لعبة «هاف لايف» هي أكبر كثيرًا من كونها لعبة فيديو؛ فهي ثمرة تعاون دائم التطور بين العملاء والشركة، وهو ما يأتي مثالًا على إمكانية خلق تعهيد الأعمال للجماهير منتجات أفضل إلى جانب تطوير الناتج النهائي للشركة. كذلك فإن لعبة هاف لايف تمثل شيئًا آخر؛ فهي مستقبل العمل.

(١) البراعة الجديدة

يكد مايك ويبر في عمله، مع أن ذلك لا يتضح فورًا بالنظر إليه؛ فهو يجلس أمام ثلاث شاشات حاسب آلي كبيرة للغاية، ويدور المسلسل الكوميدي البريطاني الذي يدور حول الموتى الأحياء «أموات شون» على الشاشة الموجودة عن يساره، وفي الشاشة الموجودة عن يمينه يدور الفيلم الإغريقي الدموي «٣٠٠ محارب»، لكن ويبر ينحني نحو الشاشة الموجودة في المنتصف، التي تعرض الأروقة القذرة والساحات الفارغة والجدران المستوية المحفور بها آثار الطلقات التي تميز البيئة المادية للعبة «كاونتر سترايك». إن ويبر — شأنه شأن معظم الطلاب بالمدارس الثانوية الجالسين بجواره — يجري تعديلات خاصة به، وتحين منه التفاتة جهة اليسار في الوقت المناسب تمامًا ليرى أحد الموتى الأحياء وجسده مغروس في أنبوب، وتعلو أصوات الأنين منه ومن مراهقيَن آخريَن في وقت واحد؛ فيتمتم مايك: «هذا هو الجانب الأفضل على الإطلاق.» ثم يعود إلى بناء ساحة قتال أفضل.

يحضر ويبر — وهو صبي في السادسة عشرة من عمره له شعر مدبب الأطراف يرتدي قميصًا لفرقة ميتاليكا وسروالًا قصيرًا وصندلًا — الشكل الجديد المميز للمعسكرات الصيفية بين أفراد جيله؛ المعسكر الإلكتروني؛ فهو واحد من بين اثنين وعشرين مراهقًا يحضرون كل صباح إلى كافيتريا بالحرم الجامعي لجامعة أديلفي بمدينة لونج أيلاند بولاية نيويورك. تعقد شركة سايبركامبس أكاديمي ما يقرب من مائة وعشرين من مثل هذه المعسكرات في أنحاء أمريكا كل صيف، ويشمل المنهج كل شيء بدءًا من تصميم برامج الفلاش إلى علم الإنسان الآلي، لكن معظم الصبية بجامعة أديلفي حضروا إلى هنا لممارسة شغف دائم وهو إنشاء صور افتراضية ومستويات وأسلحة للعبة «هاف لايف» هائلة الشعبية.

تتراوح أعمار الصبية الحاضرين بالمعسكر بين عشرة أعوام وسبعة عشر عامًا، فيما توضع أجهزة الحاسب الآلي في نظام شديد على امتداد سلسلة من الطاولات القابلة للطي، وهناك مجموعة كبيرة من الأسلاك أسفل الأقدام، حجبت الستائر أشعة شمس أغسطس (آب) الساطعة، مما يضفي على الكافيتريا شعورًا بأنها الطابق السفلي بمنزل يسكنه فقط صبيان في السادسة عشرة من عمرهم. من الواضح أن هؤلاء المخيِّمين في مأمن من نبات اللبلاب السام أو ضربات الشمس. أمضيت اليوم في مراقبة الصبيان المراهقين أثناء اللعب والعمل، أتحدث معهم عن اهتماماتهم وأهدافهم.

ذكر قليل من المخيمين أنهم أرادوا تصميم ألعاب لكسب قوت يومهم، على الرغم من أنهم متحمسون للأمر بشدة بالفعل. بدا تصميم الألعاب بالنسبة لهم مهارة محبذة للغاية أكثر من كونه عملًا يقوم به الفرد لكسب قوت يومه، على غرار العزف على الجيتار أو الدوران في الهواء على ألواح التزلج. بصياغة أخرى، لقد أصبح تصميم الألعاب امتدادًا طبيعيًّا لممارستها؛ مهارة تكميلية لكنها ليست منفصلة. إن علاقتهم بألعاب الفيديو كانت أعقد من علاقتي بها، فقد كبرت وأنا أمارس هذه الألعاب وما يزعج زوجتي أنني ما زلت أمضي لياليَ كاملةً وأنا منهمك في لعب «هالو» أو «ميدل أوف أونر». لكن لم يطرأ ببالي قط أنه يمكنني أن أصل إلى نظام التحكم في اللعبة وإعادة تصميمها لتناسب رغباتي، مثلما لم يطرأ بذهن الصبية بجامعة أديلفي أنه لا يسعهم ذلك.

قد يكون من السهل النظر إليهم على أنهم الاستثناء وليسوا القاعدة. ألم يذهب المهووسون بالحاسب الآلي والإنترنت إلى معسكرات كمبيوتر على مدار عقود؟ لكن الأولاد بجامعة أديلفي ليسوا من المهووسين بالإنترنت؛ فهم ليسوا سوى صبية. يقول جوش بلوك مدرس علوم الحاسب الآلي بمدرسة ثانوية ومدير المعسكر الإلكتروني بمقاطعة ويستشستر بنيويورك: «لقد تغيرت بالفعل مجموعة مرتادي المعسكر منذ أن شرعت في إدارة المعسكرات، فهم عينة نموذجية لمجتمع المدارس؛ من المهووسين بالحاسب الآلي والألعاب الرياضية وكل شيء بين هذين المجالين.» تأسست شركة سايبركامبس عام ١٩٩٧ ﺑ ١٢٢ مخيمًا، وبعد مرور عشر سنوات سجلت ما يزيد عن ١٠٠٠٠ شاب بالبرنامج الذي يستغرق أسبوعًا، وهي زيادة تتطابق مع أداء الشركات المنافسة. وتُقَدَّرُ قيمة سوق «المعسكرات التكنولوجية» بما بين ٤٠٠ مليون و٥٠٠ مليون دولار.٣

إن الشباب المراهقين بأديلفي هم في العموم ثمرة مجتمعات ثرية ومثقفة للغاية، وقد يتوقع المرء أنهم يمتلكون مواهب وقدرات تتخطى بكثير نظراءهم في المجتمعات الأقل ثراءً. ولكن ما يدعو إلى الدهشة، وفقًا للكثير من الأبحاث المتعلقة بسلوكيات المراهقين والإعلام، هو مدى تمثيلهم لجيلهم بالفعل.

(٢) هؤلاء ليسوا شخصيات سميرفس التي تبحث عنها

يدرك مجال ألعاب الفيديو هذا الاتجاه جيدًا. في حقيقة الأمر تزود شركة فالف شركة سايبركامبس بإصدارات مخفضة لبرامج تسمح للاعبين بإنشاء تعديلات جديدة. لقد أدركت الشركة بحصافة أنه من خلال تشجيع هذا النوع من الإبداع يمكنها إطالة فترة بقاء الإصدارات التجارية بقدر كبير. فبعد أن يسأم العملاء المنتج الأولي بفترة طويلة، سيستمرون في إعادة تصميم نماذج مختلفة منه، وبذلك يحظى المتمرسون بتسلية وتكسب الشركة عملاءً جددًا.

لم تبتكر فالف هذه الاستراتيجية، مع أن الشركة تستحق الثناء لتبنيها لها بحماسة. يرجع تاريخ تعديل ألعاب الفيديو إلى وقت ظهور التكنولوجيا نفسها تقريبًا، فقد كان اللاعبون الأصليون من مخترقي أجهزة الحاسب الآلي في الأغلب. وعامةً فإن أول تعديل نُظِرَ إليه على أنه إعادة ابتكار للعبة استراتيجيات بسيطة تدعى «كاسل وولفينشتاين»، يحارب فيها اللاعب جنودًا نازيين. وفي عام ١٩٨٣ أدخل أحد المعجبين باللعبة أول تعديل بها (وضع شخصيات كرتونية من برنامج الأطفال سميرفس مكان الشخصيات) مما يظهر حس الفكاهة الجلي باللعبة وثقافة شعبية فطنة ستميز التعديلات على مدار سنوات قادمة.

ومع تطور الألعاب أصبحت نشاطًا يتطلب بقدر متزايد أيدي عاملة كثيرة ومعالجات مكثفة تقتضي آلافًا من ساعات العمل لإنتاجها. لكن بطريقة أو بأخرى استطاع الهواة مواكبة الأمر، وفي عام ١٩٩٢ اكتشفت شركة أبودجي — وهي شركة إصدار الألعاب أصدرت العبة الشهيرة ذاك الوقت «ديوك نيوكم» — أن اللاعبين لم يصمموا مستويات جديدة للعبة فحسب، بل أيضًا كتبوا برامج تحرير المستوى الخاص بهم وهي برامج منفصلة تساعد على تشغيل مهام الترميز الأساسية المُتَضَمَّنَة في تطوير البرمجيات آليًّا. يتذكر مؤسس شركة أبودجي، سكوت ميلر قائلًا: «لم نتوقع من اللاعبين أن يتكبدوا عناء الوقت والجهد لتصميم أدوات التطوير الخاصة بهم.»

لم يكن ذلك سوى البداية، فسيزدهر إدخال التعديلات تمامًا في التسعينيات أساسًا من خلال نوع الألعاب التي تصور قناصًا يجسد اللاعب. في عام ١٩٩٢ نشرت شركة أبودجي لعبة «ولفينشتاين» ثلاثية الأبعاد، أعادت فيها صياغة القصة الأساسية للمواجهة بين الحلفاء والجيش النازي في الحرب. حققت اللعبة نجاحًا فوريًّا، واتضح أيضًا على الفور — وفقًا لكتاب رائع يؤرخ للتعديلات كتبه المؤلف في مجال التكنولوجيا واجنر جيمز آو لمجلة صالون — الدور المهم الذي ستلعبه التعديلات في المصير التجاري للألعاب. كان جون كارماك المبرمج الأساسي للعبة يؤمن بشدة بمبادئ المصدر المفتوح، وعندما أصدر كارماك وزملاؤه لعبة «دوم» واسعة الشهرة في العام التالي، شجعوا بفاعلية قاعدة جمهور اللعبة على إنشاء تعديلاتهم الخاصة.٤
لعبة «دوم» والألعاب التي تلتها — على غرار «كويك»، ثم في عام ١٩٩٨ «هاف لايف» — لم تجعل من ألعاب اللاعب القناص (تسمى كذلك لأنه في الواقع يلعب اللاعب من وجهة نظر الشخصية الكرتونية) ألعابًا شعبية فحسب، لكنها أيضًا رسخت ثقافة التعديلات. مثّل هذا الأمر إدراكًا فطنًا لكيفية تطور حقوق النشر والتأليف إلى نماذج أكثر تسامحًا، لكنه كان أيضًا تجارة ذكية. يقدر كليف بليزينسكي المصمم الرئيسي لأحد أشهر ألعاب اللاعب القناص في هذا العقد وهي «أنريل تورنامنت» أن ما يقرب من نصف المليوني فرد٥ الذين اشتروا اللعبة لعبوا وفقًا لتعديلات أنشأها المستخدم. يشير آو في مجلة صالون: «يعتمد العديد من أفضل شركات الألعاب الآن على مدخلي التعديلات لإرشادها إلى الطريق الصحيح بطريقة إبداعية ولضمان بقائها في سوق تنافسي بضراوة.»

يتعارض كل هذا بشدة مع موقف حقوق النشر الذي تبنته قطاعات أخرى من مجال الترفيه، على غرار شركات الموسيقى والأفلام، التي تلاحق قضائيًا بشراسة حتى عمليات إعادة الاستخدام الإيجابية للمنتجات المحمية بحقوق الطبع والنشر. ووفقًا لدراسة أجرتها الجامعة الأمريكية، فإن معظم أفلام الفيديو التي يُنشئها المستخدم وتدعي الشركات المتخصصة في مجال الترفيه أنها تنتهك قانون حقوق الطبع والنشر محمية بموجب تأويل «الاستخدام العادل» للوائح حقوق الطبع والنشر. (يتيح الاستخدام العادل إنشاءات اشتقاقية تستخدم مقتطفات قصيرة من كتاب أو فيلم أو عمل آخر محمي بحقوق الطبع والنشر، فهي ما يتيح لي على سبيل المثال الاستشهاد بمؤلفين آخرين في هذا الكتاب.)

يمكن للمرء رؤية مدى نجاح استراتيجية الأرض المحروقة فيما يخص مجال التسجيل الموسيقي؛ فقد عانى من حالات تراجع كارثية في الفترة نفسها التي زادت فيها إيرادات مجال الألعاب بما يزيد عن ٣٠ في المائة. دعمت ألعاب اللاعب القناص سوقًا نشطة من خلال تعهيد الطاقة الإبداعية التي تُسْتَخْدَمُ في صنع ألعاب جديدة دون قيود إلى الجمهور. في الآونة الأخيرة، يبدو مجال صنع الألعاب بوجه عام متحمسًا لتبني ألعاب يُنشئها المستخدم. ففي خريف عام ٢٠٠٨ اعتمدت أضخم إصدارات بعض شركات الألعاب على فكرة أن ما يريده اللاعبون أكثر ليس ألعابًا جديدة بل الأدوات اللازمة التي تمكنهم من صنع ألعاب خاصة بهم. وستصدر شركة سوني لعبة لجهاز بلاي ستيشن ٣ تدعى «ليتل بيج بلانيت»، ينشئ فيها المستخدم أدوات خاصة به أو مسار تحديات أو بيئات كاملة. وفي الوقت نفسه تقريبًا، سيصدر ويل رايت — مصمم الألعاب الذي يحظى باستحسان كبير والذي صمم لعبة ذا سيمز — لعبة «سبور» التي طال انتظارها، والتي يرشد فيها اللاعبون المخلوقات الخاصة بهم عبر كل مرحلة من التطور، من كائنات حية أحادية الخلية إلى كائن حي يتنقل بين الكواكب. تمكن لعبةُ «سبور» اللاعبين من تحميل إبداعاتهم الخاصة على موقع يوتيوب وكذلك على موقع متخصص يدعى سبوربيديا، يصنف فيه اللاعبون إبداعات بعضهم بعضًا. ستجري كل نسخة من اللعبة مسحًا على موقع سبوربيديا بمفردها وتحصي عدد عشرات الآلاف من الكواكب في مجرة كل لاعب يملك محتوى حصل على أعلى التصنيفات. إن عالم سبور ذاته سيكون من إبداع الجمهور.

إن عرف التعاون بين منتجي اللعبة ومستهلكيها قوي للغاية إلى حد يهدد بتضليلنا إلى التفكير في أن هذه الآلية مستوطنة في الأصل في الألعاب، بدلًا من كونها تطبيقًا لظاهرة أكبر. إذا أمكن إيجاز هذا الكتاب في فكرة رئيسية واحدة، فستكون أن إزالة الخط الفاصل بين المنتج والمستهلك بدأ في التأثير بشدة على اقتصادنا وثقافتنا. لقد بدأ الجمهور في تقبل عبء تصميم المنتج بسرور وحماسة كبيرين، كما يوضح تطور ألعاب الفيديو. والشباب يكدون في شيء أكبر كثيرًا من صنع ألعاب الفيديو، كما سنرى سريعًا.

(٣) أبناء اليوم

في عام ٢٠٠٥ أصدر مشروع بيو إنترنت آند أمريكان لايف نتائج دراسة استقصائية واسعة النطاق تسمى «صانعو المحتوى المُقَدَّم للمراهقين ومستهلكوه»، وكشفت الدراسة عن أن ما يزيد كثيرًا عن نصف المراهقين كافة ممن لديهم اتصال بالإنترنت لم يكونوا يتصفحون الشبكة فحسب، بل كانوا ينشئون بدأب محتويات على الويب. إن الصورة التي تشكلت نتيجة لهذه الدراسة كانت توضح نظامًا بيئيًّا معلوماتيًّا موازيًا يعمل باستقلالية عن منتجي المحتوى على غرار إن بي سي، أو مجلة وايرد على سبيل المثال.٦ كان هؤلاء الأطفال ينشئون ويستهلكون القصص متعددة الوسائط الخاصة بهم والمُؤَلَّفَة من نصوص وصور وفيديوهات. كانت هذه الدراسة مؤثرة للغاية واسْتُشْهِدَ بها كثيرًا في الشهور التالية.

وبعد ذلك في أواخر ديسمبر (كانون الأول) عام ٢٠٠٧ أصدرت مؤسسة بيو تتمة للتقرير الأصلي، جاءت تحت عنوان «المراهقون والإعلام الاجتماعي». كانت نتائج هذه الدراسة، التي أجريت على مدار عام ٢٠٠٦، أشد إثارة للدهشة؛ فهي لا تعزز فحسب من النتائج الأصلية لدراسة بيو، بل برهنت على ذلك بوصفه اتجاهًا. إن إنشاء المراهقين للمحتويات أصبح أكثر شيوعًا وفي ازدياد مستمر عما أشير إليه في البداية، وكتب واضعو الدراسة: «إن الأدوات اللازمة لإنتاج وتوزيع وسائلَ إعلاميةٍ رقميةٍ متاحةٌ فعلًا ويستخدمها بطريقة ما معظم مستخدمي الإنترنت.» ووفقًا لمؤسسة بيو، فإن ما يقرب من ٩٣ في المائة من الأمريكيين البالغة أعمارهم من اثني عشر إلى سبعة عشر عامًا يستخدمون الإنترنت بانتظام، وهذا يعني أن ما يزيد عن ٢٣ مليون مراهق أمريكي متصلون بالإنترنت، ومن بينهم ما يقرب من ٦٤ في المائة — أي ١٥ مليون مراهق تقريبًا — ينشئون محتويات للإنترنت.

سألت مؤسسة بيو المشاركين في الدراسة عما إذا كانوا يسهمون في أنشطة مختلفة يعتبرها الباحثون «السمات المميزة لإنشاء المحتويات على الإنترنت»؛ أولًا: هل تعمل على تطوير صفحة ويب؟ ثانيًا: هل تساهم في تطوير صفحة ويب خاصة بشخص آخر؟ ثالثًا: هل تتبادل العمل الفني أو الصور أو القصص أو الفيديو الأصلي؟ وأخيرًا: هل تعيد مزج محتوى وجدته على الإنترنت؟ ما يزيد كثيرًا عن نصف المراهقين أجابوا بنعم لواحد من هذه الأسئلة. لكن الأمر المثير للانتباه أكثر من غيره هو أن ٤٠ في المائة، أي ما يزيد على ٩ ملايين مراهق في الولايات المتحدة فقط، مشتركون في ثلاثة من تلك الأنشطة على الأقل. لقد صار الأمر مختلفًا عن أي فترة سابقة بوجود عدد أكبر من المراهقين يقضون مزيدًا الوقت في إنشاء مزيد من المحتويات الإلكترونية بطرق أشد تنوعًا، وهو اتجاه يبدو أنه في نمو مستمر.

ينطوي هذا الأمر على دلالات ضمنية واضحة لاقتصادنا؛ فالمجتمعات الإلكترونية على غرار آي ستوك فوتو وإنوسنتِف وثريدلس تقدم بالفعل إسهامات مهمة في الاقتصاد ككل، ويشكل المراهقون نسبة ضئيلة من مستخدميها. وعندما تصل هذه الشريحة السكانية إلى سن البلوغ، فسيخلقون سلوكيات ومواقف تشكلت من خلال آلاف الساعات التي قضوها أمام الحاسب الآلي، يبنون فيها خبرتهم الخاصة ويتعاونون معًا في مجتمعات إلكترونية متعددة.

هناك نقلة عميقة جارية، تتضح أكثر ما تتضح في معسكرات أديلفي الإلكترونية. بدا معظم المخيِّمين أنهم يعملون في أربعة أو خمسة مشروعات معًا بعضها كان لا يتعلق كثيرًا بالمنهج؛ إذ يصنع صبي أشعث الشعر في الثالثة عشرة من عمره فيديو رسوم متحركة باستخدام برنامج فلاش وهو برنامج تحرير التطبيقات متعددة الوسائط التي تشغل معظم المحتويات على الويب. وعلى بعد مسافة قليلة منه هناك فتاة في العمر نفسه تقريبًا تستخدم تطبيقًا آخر لتصنع شخصية المانجا الكرتونية الكوميدية الخاصة بها. (في اللغة اليابانية، تعني كلمة مانجا «كوميدي»، لكنها أصبحت الآن تشير إلى أي شيء كوميدي يحمل الصفات الجمالية تلك على وجه التحديد). كان في أي وقت ما خمسة أو ستة من المخيمين على الأقل يستخدمون برنامج فوتوشوب لتعديل الصور من هواتفهم المحمولة، وعندما ذهب أحد المخيِّمين الأكبر سنًّا لتناول الغداء، تلاعب بضعة أولاد من مجموعته في صورة له ليبدو كرجل بالشيني، وهم سلالة من المخلوقات الغريبة في الجزء الثاني من فيلم «رجال في حلل سوداء»، وقد تلاعبوا في الصورة بحيث يظهر في مظهر مشين.

هؤلاء هم الصبية الذين ترعرعت أنت وأنا بجانبهم. حَبُ الشباب والنكات الفظة واستخدام الثقافة الشعبية لخلق هوية اجتماعية؛ أي أن التاريخ يعيد نفسه باستمرار. لكن في مكان ما في الخمسة عشر عامًا المنقضية عبرنا خطًّا لن يظل شيء على حاله بعده أبدًا. نحن — وهنا أقصد كل فرد يستقي أخباره من الصحف — نشاهد أشياء ونستمع إلى أشياء ونقرأ أشياء، أما هؤلاء الصبية فهم «يصنعون» أشياء. أظهرت دراسة استقصائية سريعة غير رسمية للمخيمين أن برامج فوتوشوب وفلاش والعديد من أدوات إنشاء المدونات أضحت المعرفة التكنولوجية القياسية لمعظم الصبية من الطبقة المتوسطة بأمريكا. يفسر جوش موران وهو أحد المخيمين الصغار بمعسكر أديلفي ذلك قائلًا: «إن برنامج فلاش باهظ التكلفة للغاية، لكن معظم الأولاد يقومون بتنزيله فحسب من الإنترنت»، أي يحصلون عليه بطريقة غير شرعية باستخدام إحدى شبكات مشاركة الملفات.

بدأ الأولاد في تسلية أنفسهم بطريقة جديدة كليةً تكرس ظهور ما أُطْلِقَ عليه «ثقافة المشاركة». كتب هنري جينكينز رئيس برنامج الدراسات الإعلامية المقارنة التابع لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا ومؤلف كتاب «ثقافة التقارب: عندما يصطدم الإعلام القديم بالحديث»:
«تنطوي ثقافة المشاركة على معايير منخفضة نسبيًّا للتعبير الفني والمشاركة المدنية، وعلى دعم قوي لصياغة إبداعات المرء وتبادلها مع الآخرين، وعلى نوع ما من التوجيه غير الرسمي الذي بواسطته تنتقل معرفة أصحاب الخبرة الأكبر إلى المبتدئين. كذلك فإنها ثقافة يؤمن فيها أفرادها بأهمية مشاركاتهم ويشعرون بقدر من التواصل الاجتماعي فيما بينهم.»٧

بعبارة أخرى، «يهمهم آراء الآخرين حيال ما يصنعونه». إن التعاون الإبداعي سمة قوية لثقافة العديد من المجتمعات الإلكترونية، إلا أن التباين في إحصاءات مؤسسة بيو يبرز المدى الذي يظهر فيه المراهقون هذا الباعث الجماعي؛ إذ يعمل ٣٣ في المائة بالكامل من المراهقين على الإنترنت في مواقع تخص أشخاصًا آخرين، مقارنة بنسبة ١٣ في المائة فحسب من البالغين، أي الأرجح أن يساعد المراهقون أشخاصًا آخرين على إنشاء مدونة أو موقع إلكتروني عن أن ينشئوا مدونة أو موقعًا إلكترونيًّا خاصًّا بهم.

تقدم الباحثة بجامعة كاليفورنيا دانا بويد مثالًا معبرًا لهذا الاتجاه نحو مشاركة — أو للتوضيح أكثر، النشر دون انتظار مقابل مالي — هذا النوع من المعرفة الفنية.٨ عندما بدأ موقع التواصل الاجتماعي ماي سبيس للمرة الأولى في اكتساب شعبية عام ٢٠٠٥، لاحظ أول أتباعه أنه يختلف عن سابقه، موقع فرندستر، فقد تجاهل موقع ماي سبيس غلق ثغرة أمنية تتيح للمستخدمين إجراء تعديلات بمواقعهم الإلكترونية من خلال إضافة ملفات بصيغ إتش تي إم إل وسي إس إس وجافا سكرِبت. كانت النتيجة — بخلاف إنشاء صفحات شخصية قياسية — أن تسنى للمراهقين إنشاء الأشكال الزاهية والصاخبة التي زينت في الماضي الخزانات والدفاتر المدرسية، لكنها تعرف الآن على أنها جماليات ماي سبيس. بدلًا من غلق هذه الثغرة، لم تشجع الشركة أو تعرقل هذه الممارسة، وكما كتبت بويد: «ظهرت ثقافة النسخ/اللصق، مع بداية متاجرة المراهقين بمعرفة كيفية إجراء تعديلات بالصفحات الشخصية لتبدو جذابة … في الأيام الأولى من إعجابهم بالأمر، قضى المراهقون ساعات لا تحصى في تعقب الشفرات وتبادل النصائح وإنشاء صفحات شخصية جذابة.»

وتذكر بويد أنه: «من خلال هذه العملية، يتعلمون كلًّا من السلوكيات التكنولوجية «و» الاجتماعية.» إنه أنا من شَدَّدَ على «و الإضافة» بالجملة، وذلك لأنه من الأهمية بمكان التأكيد على أن هذا التوجه نحو العمل بجدية ليس مع الآخرين فحسب بل لمصلحة آخرين أيضًا يرمز إلى ثقافة تعهيد الأعمال للجماهير. إن هذا النوع من التبادلية يحاكي ضروبًا من السلوكيات نراها في مجتمعات التعهيد الأخرى، حيث يحتل المال أهمية ضئيلة في قائمة المحفزات، ويأتي بعد اكتساب شهرة بين أفراد المجتمع وفرصة التعلم والتعليم. بل وإضافة إلى البراعة التكنولوجية التي يظهرها المواطنون الرقميون يأتي تبنيهم للسلوكيات الاجتماعية — التعاون ومشاركة الملفات والابتكارية المختلطة — التي تدفع محرك تعهيد الأعمال للجماهير. إن حقيقة أن عددًا كبيرًا من الصبية، يفوق عدد نظرائهم الراشدين، يظهرون هذا الاتجاه تشير إلى أن الجيل الأصغر لن يكون فحسب مستعدًا للعب دور نشط في ضروب المجتمعات الإلكترونية التي تشكل محل العمل القائم على التعهيد، بل سينجح في ذلك ويخلق نسيجًا اجتماعيًّا أكثر تمازجًا.

يتبادل الشباب ما هو أكثر من النصائح والخدع؛ فما يقرب من ٩ مليون مراهق يتبادلون أعمالًا فنية أو قصصًا أو مقاطع فيديو؛ وهي زيادة كبيرة عن دراسة مؤسسة بيو السابقة، فواحد من بين كل سبعة أشخاص نشر فيديو خاصًّا به. بعبارة أخرى، يصنع ملايين الأطفال مقاطع الفيديو الخاصة بهم وينشرونها على الإنترنت. ويظهر المراهقون أيضًا توجهًا ملحوظًا نحو إعادة مزج المحتوى الذي يجدونه على الإنترنت؛ فمثلما يتجه اللاعبون المتمرسون إلى التعامل مع ألعاب الفيديو على أنها شيء طوع أيديهم — شيء يمكن تشكيله وفقًا لخيالهم الإبداعي — فإن المراهقين الذين يصنعون أعمالًا فنية في وسائل إعلامية أخرى يميلون أيضًا إلى إبداع معارضة أدبية ساخرة أو محاكاة عبثية، أو محاكاة تهكمية لمقاطع الفيديو والصور والأعمال الفنية، أو القصص التي يصادفونها. ما يقرب من ٢٦ في المائة من الأشخاص الذين خضعوا للدراسة قالوا إنهم أخذوا محتويات من الويب وأعادوا مزجها لإنشاء عمل خاص بهم.

كل هذا برهان ليس فقط على ملاحظة جينكينز أن ثقافة المشاركة تقدم «معايير منخفضة للتعبير الفني» (والذي تسهله في الغالب الزيادة الهائلة في الأدوات الرخيصة وسهلة الاستخدام)، لكن أيضًا على الإيمان الشديد بأن «مشاركاتهم مهمة».

لا شك أن إسهاماتهم تحمل أهمية، لكن لمن، هذا مثار جدل واسع. ووفق ما أوضحته دراسة مؤسسة بيو فإن معظم هذا الازدهار الإبداعي الذي نشهده يجري في مواقع على غرار ماي سبيس وفيسبوك؛ فما يزيد كثيرًا عن نصف المراهقين الأمريكيين لديهم صفحات شخصية على موقع تواصل اجتماعي، وثلاثة أرباع هؤلاء المستخدمين يمارسون بنشاط كتابة الموضوعات، وتبادل الصور وأفلام الفيديو، وغير ذلك من طرق المشاركة في الأعمال الإبداعية.

تزدهر مواقع التواصل الاجتماعي من خلال القيام بمهام بسيطة للغاية، لكن من الصعب معرفة كيفية استغلال القدر الهائل من التعبير المرئي واللفظي الذي ينتج عن ذلك. فالمراهقون من ناحية ينشئون مواد إعلامية لتنشر في منابر عامة. لكن كما تلاحظ الباحثة دانا بويد فإن هذا يتطلب أن نعيد تعريف مفهومنا للفظ «عامة»؛ فقد يكون من الغباء افتراض أن جمهورهم المستهدف عامةً يتجاوز الدائرة المباشرة لمعارفهم. وهذا يذكرنا بتحريف عصري لقول آندي وارهول المأثور: في المستقبل سيحظى كل شخص بالشهرة بين خمسة عشر شخصًا.

لم تسأل مؤسسة بيو الأشخاص الذين أجرت عليهم الدراسة هل يعتبرون مواقع التواصل الاجتماعي أدوات أو مساحات لاستعراض الأعمال الإبداعية المعدة من قبل، وكان من الممكن أن تكون الإجابة مثيرة للاهتمام. هل من الأفضل أن يُنظر إلى الحالة الإبداعية المثمرة التي يلهم بها موقع ماي سبيس على أنها عامل محفز للإبداع الفني أم شكل من أشكال التعبير أكثر شبهًا بالملاحظات العابرة بين الطلبة وهم جلوس في فصل دراسي؟ جولة عبر مواقع عشوائية بماي سبيس قد تسبب الاكتئاب لأي شخص مهتم بمستقبل المعرفة بأمريكا؛ فمعظم الكتابات بالمدونات مليئة بالأخطاء النحوية (مقصودة وغير مقصودة) وأخطاء هجائية (مقصودة وغير مقصودة) ونوع من العاطفية الفارغة التي قد تجعل مدرسي اللغة الإنجليزية بالمدارس الثانوية ينكمشون خوفًا. لكن من ناحية أخرى، لا يدخل الفتية على موقع ماي سبيس لإبهار مدرسي اللغة الإنجليزية، فعلى حد تعبير تيفاني، إحدى مستخدمات موقع ماي سبيس من مدينة هيوستن: «اشتركت في موقع ماي سبيس من باب الاستمتاع ومقابلة أكبر قدر ممكن من الأشخاص الرائعين.»

لقد أصبحت مواقع على غرار ماي سبيس في أعين معظم هؤلاء الشباب عنصرًا لا يتجزأ من خلق الهوية والتواصل مع نظرائهم. بعبارة أخرى، لم يتغير المراهقون، لكن تكنولوجيتهم تغيرت. يقول ميمي إيتو، وهو متخصص في علم الإنسان يركز بحثه على كيفية تفاعل الأطفال مع الإعلام الجديد: «إذا نظرت إلى موقع ماي سبيس، فإن ما يقوم به الفتية من حيث القص واللصق والربط وإعادة توجيه الرسائل أمر مثير للاهتمام من منظور إبداعي.» إلا أنه يضيف: «لكنني أظن أن الفتية الذين يشتركون في ذلك المستوى لا يرون أنفسهم منتجين إعلاميين، بل هذه طريقة لإمضاء وقت طيب فحسب من وجهة نظرهم.»

هذه نقطة منطقية، لكن في حين أنهم قد يكونون «يمضون وقتًا طيبًا فحسب»، ينمي المراهقون سلوكيات اجتماعية وقدرات إدراكية، من شأنها بالتأكيد خلق تغييرات شاملة بمكان العمل عندما ينضمون إلى القوى العاملة في غضون خمس أو عشر سنوات على سبيل المثال. قد لا يثير معظم ما يصنعونه الكثير من الاهتمام — أو يستحقه — لأي شخص خارج دائرة النظراء، لكن هذا لا يغير حقيقة أن عددًا ضخمًا من الفتية يعون الأسس الجوهرية لتصوير أفلام الفيديو من بين مهارات أخرى يجيدونها. ومع تقدمهم في العمر، سيصبحون أكثر مهارة، وستستمر الأدوات في الانخفاض من حيث السعر وسهولة الاستخدام. في عام ٢٠٠٧ أطلقت آي ستوك فوتو خدمة منفصلة تطبق وصفتها السحرية على تسجيل أفلام الفيديو. وبما لا يدعو للدهشة، نجحت الخدمة بصورة لا مثيل لها، وحققت ١٢ مليون دولار عائداتٍ في العام الأول وحده. علاوة على ذلك فإن الاعتقاد بأنه مع أن التكنولوجيا تتغير، يظل الناس كما هم، اعتقاد يتجاهل كامل التأثيرات الاجتماعية والثقافية والنفسية، لا سيما تلك التي تطول هؤلاء الذين ترعرعوا في عصر متصلين فيه بالإنترنت على الدوام.

يذهب الكاتب ومصمم الألعاب مارك برينسكي إلى حد الادعاء بأن المواطنين الرقميين طوروا، نتيجة للتعرض شبه المستمر للإعلام الرقمي، بنيةً عصبية مختلفة عن تلك التي يمتلكها المهاجرون الرقميون. أجريتُ دراسة استقصائية غير رسمية أثناء زياراتي لمعسكرين إلكترونيين مختلفين، وسألتُ كل مخيِّم بالمعسكر متى استخدم الحاسب الآلي لأول مرة؛ فأجاب الفتية الذين تزيد أعمارهم عن خمسة عشر عامًا أن ذلك حدث في سن الرابعة أو الخامسة من العمر، في حين نظر إليَّ الفتية الأصغر وكأنني سألتهم عن أول وجبة تناولوها في حياتهم؛ إذ لم يتذكر أي منهم تجربته الأولى في استخدام الحاسب الآلي، أو حتى الاتصال بالإنترنت، فلطالما كان الحاسب الآلي والإنترنت حاضرَيْن دائمًا أمامهم، جزءًا ثابتًا من الحياة اليومية كالهواتف بالنسبة لنا.

ماذا يحدث عندما ينضم مراهقو معسكرات أديلفي الإلكترونية إلى القوى العاملة؟ في المقام الأول، سيسهمون في الإسراع من فناء تلك الثوابت بالشركات التقليدية على غرار الهرم الإداري والدوام الكامل من التاسعة إلى الخامسة. ويوضح توماس مالون الأستاذ بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا ومؤلف كتاب «مستقبل الأعمال» أن هذه التقاليد كانت من صنع عصر سابق عندما كانت المعلومات نادرة وكافة القرارات تأتي من المستويات العليا، لأسباب تتعلق بالكفاءة، أما الآن أصبحت المعلومات متوفرة لأي شخص لديه اتصال بالإنترنت. ويقول مالون إن النتيجة: «أصبح صنع القرار لامركزيًّا». ويذكر جوش بلوك مدير المعسكر الإلكتروني خلال العام الدراسي أنه «من المتوقع من طلاب المدارس الثانوية» الذين يدرس لهم «أن يكونوا قادرين على أداء الواجبات المدرسية معًا، بموقع حر المحتوى.» لا شك أنهم سيحملون هذه العادات معهم إلى العمل. حتى الذين سينتهي بهم الحال بالعمل في أماكن تقليدية ينتظر منهم تمامًا الاستعانة بنظرائهم لمساعدتهم. لا تحترم المواقع ذات المحتوى الحر (مواقع الويكي) نظم الحماية بالشركات (أو الحدود الوطنية)، وكذلك لن يحترم مستخدموها هذه الأشياء.

ولكن حتى هذا النقلة الهائلة لا تعبر أبدًا عن الضخامة الحقيقية للنتائج الثورية القادمة. لقد تسبب تعهيد الأعمال للجماهير بالفعل في ثورة في بضع مجالات منتقاة على غرار مجال الصور الجاهزة، وهذا يعود إلى أن الجمهور أنتج بوفرة موردًا كان نادرًا في السابق. ومع استمرار اكتساب المواطنين الرقميين المهارات اللازمة للبناء والتصميم والإنشاء، ستقل أيضًا ندرة العديد من السلع الأخرى، مما سيضع تحديات كبيرة أمام الشركات التي تتاجر بها. ويشير مالون قائلًا: «إن التقادم الفني في حد ذاته ليس بظاهرة جديدة، فالفتية الذين يترعرعون في ظل وجود مياه جارية، لن يعرفوا كيفية صنع مضخة يدوية. وفي هذا العالم الجديد الذي ندخله، كثير من الأشياء المألوفة ستلقى مصير المضخات اليدوية.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤