الفصل الثاني

انطلاقًا من بداية شديدة البساطة

رسم إطار لتعهيد الأعمال للجماهير
في البداية، كانت برامج المصدر جميعها مفتوحة المصدر؛ ويرجع هذا إلى الظروف أكثر من كونه أمرًا مقصودًا إحداثه في تصميم البرامج، ومع ذلك ترتب على هذا الأمر عواقب هائلة بعيدة كل البعد عن مجال برمجة الحاسب الآلي. إن شفرة المصدر تتألف من أوامر باللغة الإنجليزية، ما إن تترجم إلى أرقام حتى تخبر جهاز الحاسب الآلي ما عليه فعله. إن الشفرات مفتوحة المصدر هي ما يعنيه المصطلح تمامًا؛ فهي مفتوحة للجميع للاطلاع والنسخ والتعديل والاستخدام لأي غرض يرونه مناسبًا. ونظرًا لأن الشفرات كانت مفتوحة، تطورت روح التعاون والتبادل الحر للمعلومات في مجال برمجة الحاسب الآلي، ولأن الشفرات كانت مفتوحة في السابق، قررت مجموعة صغيرة من المبرمجين ذوي المبادئ أن تظل مفتوحة للجميع. لم يكن بإمكانهم إجبار شركة مايكروسوفت أو صن مايكروسيستمز أو آبل على الإفصاح عن شفرات برامجها، إلا أنه كان بوسعهم وضع بديل مجاني ومفتوح.١

وفي سبيل ذلك الهدف، كان على مؤسسي البرامج مفتوحة المصدر ابتكار سبيل جديد لتنفيذ الأمر. لم يكن بوسعهم تقديم مال لأي شخص، وكانت المهمة الماثلة أمامهم — وهي كتابة نظام تشغيل كامل يتطلب ساعات عمل هائلة من المبرمجين — على قدر من الضخامة يثبط الهمم. هل سيساهم أشخاص من ذوي المهارات العالية بأوقات فراغهم من أجل مشروع يبدو أن مصيره الفشل؟ في واقع الأمر سيساهمون بالفعل؛ سيساهم الكثير والكثير، ولأن الكثير من الأشخاص تطوعوا، لم يقع العبء بثقله على عدد قليل. وبحلول أوائل التسعينيات، أخرجت الجماهير أول عمل جوهري حقيقي لها وهو، نظام تشغيل لينكس الذي يفوق في العديد من الأوجه أفضل منتجات أي شركة. قدمت برامج المصدر المفتوح سابقة، وهي تقديم البرهان المادي على مفهوم مجرد. إذا كان الأشخاص الذين يعملون في وقت فراغهم — كيمائيون يعملون من المنزل وعازفو الآلات الموسيقية بالأدوار السفلية من المباني ومصورون هواة — هم من زود محرك تعهيد الأعمال للجماهير بالوقود، فحركة برامج المصدر المفتوح ما قدم إطار عمل له.

لم يكن أحد يعرف شيئًا عن هذا عام ١٩٦٩ بالطبع عندما وجد كين ثومبسون — مبرمج الحاسب الآلي بمعامل بيل — نفسه فجأة في حالة من الارتباك والحيرة. كان ثومبسون يعمل بمشروع تعاوني طموح استغرق خمسة أعوام بين معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وشركة جنرال إليكتريك وبيل، وكان من المفترض أن يبتكر المشروع نظام تشغيل أكفأ لأجهزة الحاسب الآلي المركزي في ذلك الوقت؛ أي نظام يكون قادرًا على أداء أكثر من مهمة في آن واحد — وهي الخاصية التي أبطأت كثيرًا من سرعة المعالجة حتى بأحدث الأجهزة وقتها. لكن بدلًا من أن يولد المشروع نظام تشغيل كفئًا ولد نظامًا مضطربًا؛ إذ كان دليل تشغيل نظام التشغيل الجديد يزيد عن ثلاثة آلاف صفحة، وبحلول فصل الربيع، فقدت معامل بيل الدافع وانسحبت من المشروع.

قرر ثومبسون بعد أن حصل على إجازة مدتها شهر أن يبدأ من الصفر مجددًا، وهذه المرة مسئولًا أمام نفسه فقط. وبدلًا من أن يضع أهدافًا كبيرة وطموحة، وضع أهدافًا صغيرة. وكرس ثومبسون أسبوعًا واحدًا لكتابة كل عنصر من العناصر الأربعة لنظام التشغيل. وكما كتب ستيفين ويبر، وهو خبير سياسي ومؤلف، في كتاب «نجاح المصدر المفتوح»: «دفعه العمل وحده بمساعدة أجهزة بدائية للغاية إلى التخلي عن فكر النظم الكبيرة وفعل شيء بسيط.» أو كما صاغها أحد زملاء ثومبسون في العمل في ذلك الوقت: «بناء أشياء صغيرة أنيقة بدلًا من بناء أشياء كبيرة وفخمة.»

وبحلول نهاية الشهر، كان ثومبسون قد انتهى من كتابة الخطوط العريضة الأساسية لنظام تشغيل يونكس، الذي قدر له أن يصبح أنجح نظم التشغيل وأدومها على الإطلاق. غير أنه لم تكن شعبية نظام يونكس فحسب ما جعل أعمال ثومبسون تحتل مكانها في التاريخ؛ بل كان قراره صنع نظام يونكس من برامج صغيرة ومنفصلة معدة لأداء مهمة واحدة لكن ببراعة، وسيسمح ذلك الأسلوب في النهاية لمئات المبرمجين بالعمل معًا بأسلوب لامركزي تمامًا، وبالطريقة التي تشبه كثيرًا عمل آلاف المساهمين اليوم بطريقة لامركزية لصياغة عمل مرجعي واحد، هو ويكيبديا. إن تقسيم العمل إلى وحدات أو أجزاء صغيرة هو أحد السمات المميزة لتعهيد الأعمال للجماهير، وقد سهل — في هذه الحالة — من تطبيق منهج «إذا انضم فرد، انضم الجميع» في مجال البرمجة مفتوحة المصدر.

هذا لا يعني أنه كان يوجد العديد من الأطراف المعنية في ذلك الوقت؛ إذ تطور مجال علوم الحاسب من المعامل البحثية الأكاديمية وشبه الأكاديمية على غرار بيل ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وامتثلت مشاركة شفرة الحاسب الآلي إلى العرف الأكاديمي العام للتبادل الحر للمعلومات، ولكنها علاوة على ذلك كانت طريقة فعالة وبسيطة؛ إذ كان ذلك السبيل الوحيد لإنجاز أي شيء. تكلف أول أجهزة الحاسب الآلي التجارية، وهو آي بي إم ٧٠٥، ١٫٦ مليون دولار عام ١٩٥٣، وهو العام الذي طرح فيه إلى الأسواق (أي ما يتعدى ١٢ مليون دولار عام ٢٠٠٨)، وبخلاف أنه كان باهظ التكلفة ويتطلب مساحة كبيرة ليوضع بها، تطلب أيضًا قدرًا هائلًا من الوقت لكتابة الشفرة التي تملي عليه الأوامر، ولزيادة مواردهم إلى الحد الأقصى، وَحَّدَ عدد قليل من الأفراد المؤهلين لإنجاز مثل تلك المهمة وقتَهم ومواهبَهم.

ظهرت ثقافة المبرمجين إبان تلك الأعوام الحاسمة، التي اتسمت بتفاعلات عبثية وتنافسية إلا أنها تعاونية بين متخصصين متفانين. قدرت الروحُ الناتجةُ الإبداعَ والابتكارَ حق قدرهما، والأهم من ذلك الوصولَ المجانيَّ إلى المعلومات، وخاصة شفرة الحاسب الآلي. لم يكن ممكنًا تمييز المستخدمين عن المبرمجين، وذلك لأن الأشخاص الوحيدين الذين استخدموا الحاسب الآلي هم من قاموا ببرمجته؛ فهؤلاء كانوا المحترفين الأصليين لاختراق أجهزة الحاسب الآلي. ومع أن هذا المصطلح اكتسب في النهاية دلالات سلبية، فقد عنى في الأصل شخصًا وصلت إجادته للكمبيوتر مستوى الفن.

لم تظهر الحاجة إلى برمجيات احتكارية حتى طرح أجهزة الحاسب الآلي الشخصية في الأسواق، وهو الأمر الذي ولد صراعًا. في عام ١٩٧٦ كتب بيل جيتس وبول آلن — المؤسسان المشاركان والموظفان الوحيدان بالشركة التي كان يطلق عليها حينها «مايكروسوفت» — «خطابًا مفتوحًا للهواة»، لم يستخدم الخطاب أسلوبًا متصنعًا على غرار «كما هو واضح لدى أغلبية الهواة، فإن غالبيتكم يسرقون البرامج التي ينتجونها»، بل كان إدانة صريحة لما أصبح بعد ذلك عادة مخترق الحاسب الآلي وهو المشاركة الحرة للبرامج وشفرة المصدر القائمة عليها. أشار جيتس إلى أن المقابل الذي تلقاه هو وآلن عن أول إصدار تجاري لمايكروسوفت بلغ في المتوسط ٢ دولار لكل ساعة، وتساءل جيتس عمن سيكتب برنامجًا بمثل هذا الحافز؟ احتاج الهواة مبرمجين محترفين نظرًا لأنه في النهاية «من ذلك الهاوي الذي يمكنه تكريس عمل ثلاث سنوات من برمجة وإيجاد كافة العيوب بالنظام، ثم يوثق منتجه ويوزعه مجانًا؟» ما كان بوسع جيتس قط توقع الإجابة عن سؤاله، التي كانت: لا يوجد هاوٍ منفرد يمكنه التفاني في العمل على مدار ثلاث سنوات لإنجاز تلك المهمة الشاقة بدرجة مثبطة للعزيمة؛ لكن آلاف الهواة استطاعوا فعل ذلك بسهولة.

(١) خوض المعركة النبيلة

في عام ١٩٨٣ قرر عالم كمبيوتر بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا يدعى ريتشارد ستولمان أن يشن حربًا بمفرده ضد صناعة البرامج التي ساهم جيتس في إنشائها. وبفعله هذا قدم مسمى لما كان في السابق ولعًا غامضًا في مجتمع مخترقي أجهزة الحاسب الآلي فحسب. وصل ستولمان إلى مدينة كامبريدج ليلتحق بجامعة هارفارد عام ١٩٧٠، وهو ثمرة تنشئة شديدة التحرر بمنطقة أبر ويست سايد بمدينة مانهاتن. ولما كان شابًّا غريب الأطوار على نحو عدواني وناضج قبل الأوان، فقد قال ستولمان إنه لم يكن لديه أصدقاء مقربين حتى وصل إلى مختبر الذكاء الاصطناعي بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. وهو المكان الذي سيقضي فيه الأعوام الثلاثة عشر التالية من حياته، بعد ذلك التاريخ ينام في مكتبه ويستيقظ لكتابة الشفرات.

في أوائل الثمانينيات، راقب ستولمان بعناية انهيار مجتمع مخترقي الحاسب الآلي الذي ازدهر في السابق داخل مختبر معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. ترك معظم أصدقائه وزملائه الدائرة الأكاديمية لإنشاء شركات مخصصة لتطوير برامج خاصة تخدم سوق الحاسب الآلي المزدهر. في تلك المرحلة، حتى نظام يونكس — أكثر ما عزز ثقافة اختراق أجهزة الحاسب الآلي — أصبح ملكية خاصة. احتجاجًا على ذلك أسس ستولمان مشروع جنو، وهو محاولة لإنشاء نظام تشغيل قائم على شفرة مصدر مفتوحة أو متوفرة مجانًا. (وجنو اختصار تكراري لعبارة «جنو وليس يونكس» GNU-Not-Unix، وهذا مثال رائع على الميل إلى التلاعب بالألفاظ لدى مخترقي الحاسب الآلي.)

كانت تلك المحاولة الأولى في ثورة غير عادية، إلا أن قليلًا من سمع بها في ذلك الوقت. أنهى ستولمان ارتباطاته كافة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (مع أن الجامعة واصلت السماح له باستخدام المعمل والنوم في مكتبه) وشرع في كتابة نظام تشغيل مرتكز على نظام يونكس، لكن بصيغة تسمح للمستخدمين الآخرين سرقة شفرة المصدر التي يكتبها ستولمان ونسخها وقصها ولصقها وتعديلها، والأهم من ذلك إضافة إسهاماتهم الخاصة إليها، وبدأ مبرمجون آخرون ممن انجذبوا إلى الوصول السهل الذي يوفره نظام ستولمان في العمل معه بمشروع جنو، قال ستولمان: «بدأ الناس في طلب تحسينات وكتابة تحسينات، وانتهى الحال به إلى أن أصبح أفضل مما خططت له في الأصل.» ولأن نظام تشغيل جنو كان معتمدًا على نظام يونكس، بما يضم من آلاف الملفات الصغيرة، كان من السهل للمبرمجين الآخرين انتقاء الأجزاء الصغيرة التي يمكنهم العمل عليها، وفقًا لمقدار الوقت الذي بوسعهم تخصيصه للمشروع. وفي عام ١٩٨٥ أسس ستولمان «مؤسسة البرمجيات الحرة» غير الربحية، بهدف «تعزيز حرية مستخدم الحاسب الآلي والدفاع عن حقوق مستخدمي البرامج المجانية كافة». ساعدت مؤسسة البرمجيات الحرة ستولمان في دعم عمله بمشروع جنو، بالإضافة إلى أنها ساعدته في التعبير عن أفكاره: «إن البرمجيات الحرة — في عام ١٩٩٨ أيدت مجموعة من رواد البرمجيات الحرة تبني مصطلح «برمجيات مفتوحة المصدر» (المصطلحان مترادفان في سياق هدف الكتاب) — مسألة حرية، وليست مسألة سعر، ولاستيعاب هذا المفهوم، ينبغي لك التفكير في الحرية من منظور حرية التعبير عن الرأي، وليس من منظور الحصول على جعة مجانية.»

ومن خلال إتاحة نظام التشغيل الذي ابتكره مجانًا، كان ستولمان بمفرده تقريبًا من يحافظ على بقاء ثقافة مخترقي أجهزة الحاسب الآلي. وبحلول عام ١٩٨٦ كان ستولمان قد صنع مترجمًا للغة «سي» البرمجية — وهو ما يزعم أنه الجزء الأهم في نظام التشغيل — بشفرة مجانية تمامًا. وفي سبيل ضمان عدم استيلاء مبرمج واسع الحيلة على الشفرة ودمجها في برنامج يطرحه بعد ذلك في السوق، قدم ستولمان ما يعد إسهامًا أكبر لحركة المصدر المفتوح وللثقافة بوجه عام: الرخصة الشعبية العامة لنظام تشغيل جنو. لم تشترط الرخصة الشعبية العامة لنظام تشغيل جنو أن يتوفر أي شيء يصدر في إطار الرخصة مجانًا فحسب، بل أيضًا أن يستخدم أي برنامج «يتضمنها» الرخصة نفسها. ويوضح جلين مودي في كتابه «شفرة المتمردين» — وهو كتاب يؤرخ لحركة المصدر المفتوح — قائلًا: «الرخصة الشعبية العامة لنظام جنو «حولت» البرامج التي كانت تُستخدم معها إلى رخصتها الخاصة، وهو منهج شديد الذكاء لنشر الحرية.» وصارت هذه الحيلة الصغيرة تُعْرَفُ بتعبير «الحقوق المتروكة»، كمضاد لحقوق الملكية.

بحلول عام ١٩٩١ أنهى ستولمان إلى جانب مجموعة صغيرة من المبرمجين مشروع جنو تقريبًا، بيد أن العنصر الأخير المفقود؛ النواة (وهو أساسًا قلب نظام التشغيل) كان أيضًا الأصعب في الكتابة، ولم يكن متوقعًا الانتهاء منه قبل عامين آخرين على الأقل، وفي غضون ذلك لم تسمع قط بمشروع جنو سوى حفنة قليلة خارج مجتمع مخترقي أجهزة الحاسب الآلي، ناهيك عن استخدامه. ولكن كان كل ذلك على وشك التغيير.

في أغسطس (آب) من ذلك العام، نشر طالب فنلندي يدرس علوم الحاسب الآلي يدعى لينوس تورفالدز رسالة على منتدى رسائل على الإنترنت: «أصنع نظام تشغيل (مجانيًّا) (هواية ليس إلا، لن يكون كبيرًا واحترافيًّا على غرار جنو) … أود أن أعرف ما هي السمات التي يرغب فيها معظم الناس.» كان تورفالدز يكتب نظامه الخاص به — سرعان ما سيطلق عليه لينكس — إذ لم يكن ليصبر حتى كتابة نواة نظام تشغيل جنو لحماسته الشديدة، وستثبت هذه الدعوة المفتوحة للمساعدة أن لها نتائج هامة. فعلى مدار العامين التاليين، شارك آلاف المبرمجين في تطوير نظام لينكس، ويذكر مودي قائلًا: «ما كان في السابق «هواية» مخترق كمبيوتر تحول إلى «مجتمع»، وكلما أصبح نظام لينكس أفضل، زاد عدد المستخدمين، وزاد عدد الأشخاص المعالجين للعيوب والمشكلات، وزادت سرعة تطور النظام: حلقة إيجابية تستمر في دفع عجلة تطور نظام لينكس بمعدل فائق للغاية.»

يعمل نظام لينكس اليوم على الأجهزة كافة، بدءًا من أجهزة الحاسب الآلي الفائقة حتى أجهزة الهاتف الخلوي وأجهزة تسجيل الفيديو الرقمية مثل تيفو، وذلك على سبيل ذكر القليل من ملايين أجهزة الحاسب الآلي الشخصي التي تستخدم نظام لينكس. ولأن نظام لينكس يستخدم الرخصة الشعبية العامة لنظام جنو، فلا يوجد شركة منفردة يمكنها استخدام النظام كأساس لمنتج تجاري، والنتيجة ضمان مواصلة هذه «الحلقة الإيجابية» ازدهارها.

ساهم نظام لينكس أيضًا في نشر مشروعات برامج المصدر المفتوح بوجه عام؛ يوجد الآن ما يزيد عن ١٧٥٠٠٠ مشروع مصدر مفتوح جارٍ الآن بموقع تطوير البرمجيات سورس فورج Sourceforge.com، وتبنت الشركاتُ المعروفةُ برمجيات المصدر المفتوح على نحو واسع. يعمل ما يقرب من ٧٠ في المائة من برمجيات خادم الويب على خادم الويب أباتشي، الذي تطور باستخدام مناهج المصدر المفتوح، وما يزيد عن نصف برامج البريد الإلكتروني واسعة النطاق تستخدم أيضًا برامج المصدر المفتوح. برهن مجتمع المصدر المفتوح — بعمله خارج إطار أي هيئة تنظيمية، كشركة أو مؤسسة أكاديمية — أن أكثر الشبكات ذكاءً كانت ذاتية التنظيم؛ فمن وضع نظام لينكس؟ إنه الجمهور.

طالما كانت حركة برامج المصدر المفتوح متعلقة بتعزيز فلسفة ما بقدر ما كانت متعلقة بتطوير برمجيات جديدة. يقدر مؤيدو نموذج المصدر المفتوح الشفافية في حد ذاتها، وليس لأن فتح عملية التطوير أمام الغرباء تصادف أنه يسفر عن شفرة أفضل فحسب. إن فاعلية نموذج المصدر المفتوح، وليست المبادئ المنادية بالمساواة بين البشر، هي التي تشكل الأساس له، ما دفع شركات كآي بي إم، وحتى مايكروسوفت في الآونة الأخيرة، إلى تبني هذا النموذج كسبيل لادخار المال وتطوير منتجات أفضل.

ما الذي يجعل برامج المصدر المفتوح فعالة للغاية؟ بصورة عامة، قدرتها على السماح للعديد من الأفراد بالمشاركة. لخص أحد ناشري ثقافة برامج المصدر المفتوح إريك إس رايموند هذه الفكرة الجوهرية جيدًا حين كتب: «عند وجود عدد كاف من الأعين، تصبح كافة العلل مكشوفة وظاهرة»؛ أي أنه لا يوجد مشكلة شائكة للغاية إذا أجرى كل شخص محاولة لحلها. بعبارة أخرى، ستتوصل دومًا مجموعة أكبر وأشد تنوعًا من الأشخاص إلى حلول أفضل مما سيتوصل لها أكثر الأشخاص موهبة واختصاصًا. هذا ينطبق بالمثل في مجالات كعلوم الشركات وتصميم المنتجات ووضع المحتوى كما في البرمجيات، وهو أحد المبادئ الرئيسية لتعهيد الأعمال للجماهير.

ظهر شعار رايموند — وهو مهندس برمجيات — لأول مرة في مقال «الكاتدرائية والبازار» الذي قدمه في مؤتمر عام ١٩٩٧،٢ وهو مقال مكتوب بلغة رشيقة سلسة دون مصطلحات تقنية، سيثبت هذا المقال فاعليته الهائلة في انتقال استراتيجيات المصدر المفتوح إلى مجالات أخرى غير البرمجيات. قارن ريموند في مقالته بين منهجين لتطوير البرمجيات، فوصف «المنهج الكاتدرائي» المنهج الهرمي الخاضع لإدارة صارمة الذي كان الطريقة المعيارية المستخدمة منذ الثورة الصناعية، وقارن رايموند هذا المنهج بنظام تشغيل لينكس، «نظام تشغيل من الطراز الأول تجمعت أجزاؤه كالسحر … بجهود مئات الآلاف من المطورين المتناثرين في ربوع كوكب الأرض، لا يربطهم سوى الخيوط الرقيقة لشبكة الإنترنت.»

«جاء أسلوب لينوس تورفالدز في التطوير — انشر باكرًا وكثيرًا وفوض المهام إلى غيرك ما استطعت وكن مستعدًا للاختلاط دون تمييز — مفاجأة. لا وجود لمبنى كاتدرائي هادئ وموقر في هذا السياق، بل بدا مجتمع لينكس أشبه ببازار يعج بالثرثرة حول برامج ومناهج مختلفة … ومن خلاله يمكن أن يظهر نظام مترابط ومستقر على ما يبدو عن طريق سلسلة متعاقبة من المعجزات.»

في المنهج الكاتدرائي ينسق كل شيء من الأعلى، أما في البازار فينسق كل شيء — إذا كان هناك تنسيق في الأساس — من الأسفل. يضع رايموند تخيلًا مقنعًا لأساس المصدر المفتوح وهو أنه يشبه حصانًا ينطلق بحيوية، وهو الأسلوب الذي لم يسفر عن نظام تشغيل يخلو من العيوب تمامًا فحسب، بل أنتجه «بسرعة لا يمكن أن يتخيلها بناة النظام الكاتدرائي». عندما عرض رايموند مقاله في البداية أمام «مؤتمر مطوري نظام لينكس» عام ١٩٩٧، لم يدرك أهميته سوى نظرائه في عالم برمجة الحاسب، لكن سرعان ما سيدرك جمهور أعرض كثيرًا أهميته أيضًا.

(٢) مؤثرون بمحض المصادفة

لا ندرك دائمًا ما تسببنا فيه. ففي غضون عمل توماس إديسون بشركة ويسترن يونيون تليجراف عام ١٨٧٧ لتطوير الهاتف الذي ابتكره جراهام بيل، اكتشف إديسون طريقة لتسجيل الأصوات بدلًا من إرسالها فحسب عبر الأسلاك. وفي غضون ذلك الشهر، كشف النقاب عن الفونوغراف. لقبته الصحف ﺑ «ساحر مدينة مينلو بارك»، وهو لقب استمر يصاحبه حتى يومنا هذا. واصل إديسون وفريقه من المساعدين عملية تطوير «آلته الناطقة»، إلا أنه لم يتصور أنها ستستخدم ذات يوم كوسيلة ترفيه. كان هدفه من الفونوغراف هو الاستحواذ على سوق أدوات تسجيل التقارير التجارية، وعلى مدار العقود الثلاثة التالية، حقق الفونوغراف الذي اخترعه إديسون المهمة المرجوة منه على نحو رائع. اقتضى الأمر رجلًا آخر، وهو إلدريدج ريفز جونسون، لعمل طفرة معرفية أخرى من شأنها إخراج الفونوغراف في الشكل الذي نعرفه اليوم. كان جونسون رجلًا أنيقًا ومقنعًا وطموحًا، شَكَّلَ فريقًا مع أحد منافسي إديسون وأصدر نسخة أقوى من اختراع إديسون. تبنى جونسون شعارًا جذابًا يصور كلبًا بإذن منتصبة يصغي إلى «صوت صاحبه»، وأطلق على شركته اسم «فيكتور»، وأطلق على الفونوغراف «فيكترولا». لم يكن جونسون مخترعًا، ومع ذلك نهض بصناعة الموسيقى المسجلة، فليس على المرء أن يكون مخترعًا كي يبتكر.

ومثلما لم يكن إديسون يعرف أنه اخترع الفونوغراف، لم يقصد لاري سانجر، وهو أستاذ فلسفة سابق، أن يتسبب في انطلاق ثورة تعهيد الأعمال إلى الجماهير. كتب رايموند مقال «الكاتدرائية والبازار» في سياق تطوير البرمجيات، إلا أنه اتضح أن المقال متصل بعالم أكثر براحًا. سيلعب سانجر دورًا مؤثرًا في تقديم المبادئ المذكورة في مقال رايموند إلى قطاع أكبر من الناس، مع أنه لم يكن يعرف ذلك في يناير (كانون الثاني) عام ٢٠٠١، عندما جلس ليتناول العشاء مع صديق عمره بن كوفيتز. تقابل الاثنان في سان دييجو في مطعم باسيفيك بار آند جريل. كان كوفيتز قد انتقل مؤخرًا من مدينة جرينتش بولاية كونيكتيكت، ليعمل مهندس معلومات بشركة محلية، وكان كوفيتز مرحًا، على العكس من رفيقه. ترك سانجر الدراسة الأكاديمية قبله بعام واحد فحسب، وكان يتساءل في ذلك الوقت هل اتخذ القرار الصحيح أم لا. اقتصرت وظيفته الجديدة على تجديد الموسوعات، ولم تكن الأمور تسير على ما يرام، وفي واقع الأمر، خشي سانجر أن تذهب كافة جهوده هباءً.٣
لم تكن تلك المهنة الأولى لسانجر في القطاع الخاص. حافظ سانجر على اهتمامه بعالم الحاسب الآلي منذ الطفولة، وفي عام ١٩٩٨ أنشأ موقع سانجرز ريفيو أوف واي تو كيه Sanger’s review of Y2K يعرض فيه خلاصة وافية للأخبار المتعلقة بعام ٢٠٠٠ يقرؤها مديرو تكنولوجيا المعلومات التواقون إلى تجنب كارثة وشيكة. انتهت صلاحية تلك التقارير الإخبارية مع قدوم الألفية، لكنها تركت لدى سانجر نهمًا لمغامرة أخرى مرتبطة بالإنترنت. سمع بعد ذلك أن جيمي ويلز، وهو رجل أعمال ثري يعرفه سانجر معرفةً سطحيةً من منتديات المناقشة الفلسفية على الإنترنت، يبحث عن مشروعات على الإنترنت يستثمر فيها.

تحدث سانجر إلى ويلز حول عمل ملخص عن الأخبار الثقافية، لكن كان لدى ويلز أفكار أخرى. كان ويلز يعبث بشفرات الحاسب الآلي في الماضي، وقد أصبح مؤخرًا مفتونًا بحركة البرمجيات الحرة التي أطلقها ستولمان. وتذكر سانجر بعد ذلك قائلًا: «أول شيء فعله جيمي هو إصراره على أن أقرأ «الكاتدرائية والبازار».» كان ويلز يمتلك فكرة عن موسوعة تسمى نوبيديا، (وهو اسم مأخوذ من مسمى نظام تشغيل جنو الخاص بستولمان). وعلى غرار الموسوعة البريطانية وأمثالها منذ أن أصدرت دينيس ديدرو موسوعة إنسايكلوبيدي عام ١٧٥١، ستجمع موسوعة نوبيديا الخبراء. وعلى العكس من تلك الأعمال المرجعية التقليدية، سيكون كل شيء بموسوعة نوبيديا متوفرًا على الإنترنت مجانًا ويحرره المتطوعون، شأنه شأن أي مشروع مصدر مفتوح — أو هكذا بدا الأمر في ذلك الوقت.

سحر المشروع لب سانجر — أو كما يذكر — أصبح «مفتونًا» به، مع ذلك كان له هو وويلز بعض التحفظات، إذ كانت تساورهما الشكوك في قدرة الهواة على الإسهام بمعلومات هادفة لما تصوراه عملًا مرجعيًّا جديرًا بالثقة. مع ذلك، تولى سانجر رئاسة تحرير نوبيديا في يناير (كانون الثاني) عام ٢٠٠٠ وعلى الفور شرع في تشكيل مجلس استشاري يتألف في الغالب من أساتذة جامعيين من معارفه. وعلى مدار الأشهر القليلة التالية أسس سانجر والمجلس منهجًا مفصلًا لانتقاء المحررين المحتملين، وما إن يكتب متطوع مدخلًا، حتى يمر هذا المدخل بعملية مراجعة شاقة من سبع مراحل تستهلك الكثير من الوقت.

في البداية بدا أن نوبيديا تتطور، وتحمس ويلز وسانجر لدى كتابة ومراجعة ونشر بضع مقالات بحلول الربيع، وبحلول صيف ذلك العام مرت عدة مقالات أخرى بالعملية نفسها، وعلى مدار الشهور التالية وصلت حفنة أخرى. تصور ويلز وسانجر أن قطرات قليلة ستتحول إلى فيضان، إلا أن الطوفان لم يأت قط، وعندما تقابل سانجر وكوفيتز على العشاء، لم تنشر نوبيديا سوى عشرة مقالات تقريبًا. ومع أن ويلز وسانجر اعتزما استخدام بازار رايموند في إنشاء موسوعة — أشد أساليب جمع المعارف طموحًا — انتهى بهما الحال بإنشاء كاتدرائية أخرى، ولم تكن مؤثرة للغاية في ذلك الصدد.

يقول سانجر: «استمع بن لما كنت أخبره به، وقال إنه يعرف برنامجًا قد يوسع العملية.» قبل عشائهما المصيري بوقت قليل كتب مبرمج معروف يدعى وارد كانينجهام برنامجًا صغيرًا يدعى ويكي ويكي ويب، كان الهدف منه تيسير تبادل المعلومات بين المبرمجين، بيد أن كانينجهام والمجتمع الصغير من مطوري البرمجيات الذين كانوا أوائل من استخدم البرنامج أدركوا أنه انطوى على معان ضمنية أوسع نطاقًا. تتيح «الويكي» — وتعني «سريع» بلغة هاواي — لعدد لا محدود من المستخدمين إنشاء وتحرير نصوص على صفحة ويب واحدة. بل الأدهى من ذلك، تتتبع الويكي كل تعديل، وهذا يعني أن أي شخص يدخل إلى الصفحة يمكنه الاطلاع على التغييرات التي أجريت ومن أجراها. وفي أوائل عام ٢٠٠١ كانت المواقع ذات المحتوى الحر لا تزال مجالًا خاصًّا بهؤلاء المشتغلين (أو المهووسين) بالتكنولوجيا، فشرح كوفيتز لسانجر كيف يتسنى لموسوعة نوبيديا استخدام تكنولوجيا الويكي لإسراع العملية الشاقة للإسهام بمقالات بالموسوعة وتحريرها ومراجعتها.

لم يحتج سانجر الكثير من المجهود لكي يقتنع، ويتذكر قائلًا: «بدا الأمر منطقيًّا على الفور، أعتقد أنني اتصلت هاتفيًّا بجيمي [ويلز] في وقت لاحق تلك الليلة وكتبت له طلبًا رسميًّا للبدء في استخدام الويكي قبل ظهيرة اليوم التالي.» رأى ويلز أيضًا إمكانية إسهام برنامج الويكي في الإسراع من العملية، مع أن السرعة لم تكن ما شغل تفكيره في المقام الأول. ومع أن ويلز نفسه كسب ثروته الشخصية مستثمرًا في سوق العقود الآجلة بشيكاغو في التسعينيات، فلم يكن هو من يمول نوبيديا؛ بل كان التمويل يتم عن طريق مشروع أقل ربحًا، وهو بوابة على الإنترنت تسمى بوميز Bomis.com تقدم — من بين أشياء أخرى — أفلامًا إباحية خفيفة.

إذا كان الاهتمام البشري بالجنس لا يتغير، فاستثمار رءوس الأموال يتغير بقدر هائل؛ وقد كانت بوابة بوميز الإلكترونية تعاني جنبًا إلى جنب مع باقي قطاع التكنولوجيا. وبعد ما أصبح واضحًا أن كمية الإسهامات المتوقعة ليست وشيكة، اقترح سانجر عدة طرق يمكن لنوبيديا من خلالها تغيير تصميم هيكلها الإلكتروني للإسراع من العملية، بيد أن جميع هذه الطرق تضمن دفع أجور مرتفعة في الساعة لمطوري البرمجيات المحترفين. وما زاد الأمر سوءًا أن الموسوعة البريطانية غيرت مؤخرًا توجهها ونشرت المائة ألف مدخل الخاصة بها على الويب وجعلته متوفرًا مجانًا، الأمر الذي تسبب في جعل الغاية الكاملة من نوبيديا — إنشاء موسوعة حرة — تبدو غير ضرورية. (على النقيض من الموسوعة البريطانية، استخدمت نوبيديا الرخصة العامة التي ابتكرها ريتشارد ستولمان، أي أنه مسموح للمستخدمين نسخ المحتوى مجانًا، وليس قراءته فقط) من ثم في ٣ يناير (كانون الثاني) عام ٢٠٠١ عندما اقترح سانجر جعل نوبيديا ذات محتوى حر، وجد قبولًا لدى ويلز لأي فكرة تتضمن إنقاذ نوبيديا دون إنفاق المزيد من المال عليها. (لمعلوماتك، ادعى ويلز أن الفضل يجب أن يعود له وحده بوصفه مؤسسًا لويكيبديا، ولسوء الحظ، لم يستجب لعدة طلبات لإجراء حوار صحفي معه لهذا الكتاب.)

حتى بعد أن حصل سانجر على الضوء الأخضر من ويلز، لم يستطع تحويل موسوعة نوبيديا إلى موسوعة حرة إلا بالأمر الرسمي فحسب. جمعت نوبيديا مجتمعًا من الأساتذة الجامعيين والفلاسفة ومؤلفي الموسوعات المتطلعين حولها، لم ينزع سانجر إلى هدم عمل دام مدة سنة وإخبار المشاركين بنوبيديا أن عليهم البداية من جديد. وبعد مرور تسعة أيام على عشائه المصيري مع صديقه بن كوفيتز، بدأ سانجر تنفيذ أول موسوعة حرة لنوبيديا. كتب سانجر في سيرة ذاتية قصيرة حول إنشاء ويكيبديا: «كانت فكرتي المبدئية إنشاء الموسوعة الحرة بوصفها جزءًا من النوبيديا، وتكون وسيلة أمام عامة الناس لتطوير سلسلة من المحتوى يمكن تغذية النوبيديا بها.» اشترطت موسوعة النوبيديا أن يحمل المؤلفون شهادة معتمدة بالخبرات في المجال الذين يكتبون عنه. «مع ذلك اتضح أن الأغلبية المطلقة من أعضاء «مجلس نوبيديا الاستشاري» لم يرغبوا في الاشتراك في موسوعة حرة» يقر سانجر بكل سرور أنه كان مؤيدًا لوجهة النظر هذه ليومنا هذا: «انصب اهتمامهم على الدقة والموثوقية، وقد شاركتهم هذا الاهتمام.»

ولكن لا يبدو أن قطاعًا أكبر من عامة الناس يشاركه هذه التحفظات. فوفقًا لمقال نشر في مجلة أتلانتك مونثلي، أنشأ المساهمون سبعة عشر مقالًا في غضون ثلاثة أسابيع، وارتفع هذا الرقم إلى مائة وخمسين مقالًا بعد شهر، ووصل أربعة أضعاف بنهاية شهر أبريل (نيسان) وواصل الزيادة ليصل إلى ثلاثة آلاف وسبعمائة مقالًا بنهاية شهر أغسطس (آب)، وهو معدل نمو سريع يفوق كثيرًا أي معدل شهدته نوبيديا. كان عدد المساهمين يزداد بنفس سرعة عدد المدخلات مع بداية انتشار الخبر حول هذا المنهج الجديد الحر لجمع المعلومات. بحلول نهاية العام تألفت ويكيبديا من خمسة عشر ألف مقال، ولكن حتى هذا الرقم لا يوحي بما هو قادم. لم يكن عدد المقالات يزيد فحسب، بل كان معدل النمو يزداد أيضًا، على مدار الأعوام الأولى من وجودها استمر هذا النمو السريع حتى مؤخرًا فحسب، حيث وصل إلى حالة من الاستقرار والثبات؛ لكن يا للهول! تضم ويكيبديا الآن ٢٫٢ مليون مقال — ما يساوي ٢٣ ضعف عدد المدخلات الموجودة في الموسوعة البريطانية — باللغة الإنجليزية فقط.

لم يكن سانجر وويلز وحدهما من يطبق أفكار رايموند وستولمان على مجالات جديدة، ففي الوقت ذاته تقريبًا الذي كان فيه ويلز وسانجر يبحثان بلهفة عن أفكار لإنقاذ الموسوعة ذات المصدر المفتوح الناشئة، كان بوب كانيفسكي يطبق أفكار المصدر المفتوح على الجيولوجيا الكوكبية. كان كانيفسكي مهندس برمجيات يعمل بمركز بحوث آميس التابع لوكالة ناسا بالقرب من مدينة صانيفيل بولاية كاليفورنيا، كان يحاول التوصل إلى طريقة تطبيق نموذج الحوسبة الموزعة الذي استخدم في مشروع سيتي آت هوم على مشكلة تحليل الصور التي كان يستقبلها مركز الأبحاث في ذلك الوقت من كوكب المريخ.

في صيف عام ٢٠٠٠ اتصل كانيفسكي بفرجينيا جيوليك، وهي عالمة جيولوجيا كوكبية بمركز بحوث آميس، ولديه سؤال. يتضمن جزء كبير من مهمة علماء الجيولوجيا تحديد التضاريس الأرضية وقياسها على غرار التجاويف الأرضية والنتوءات الجبلية والوديان في صور الأقمار الصناعية. تقول جيوليك وهي تضحك ضحكة خافتة: «تتطلب هذه المهمة أيدي عاملة كثيرة.» ولكن تلك المهمة المثيرة للضجر يمكن أن تؤدي إلى مردود ضخم. تبحث فرجينيا وزملاؤها من علماء الجيولوجيا الكوكبية في ربوع الكون عن دلائل على وجود مياه، وتقول: «هذا أحد أسباب ذهابنا إلى المريخ: للعثور على دلائل على وجود مياه، وإذا كان هناك مياه، فمن الممكن أن تكون هناك حياة.»

أراد كانيفسكي وضع المجموعة الثمينة لصور المريخ كافة التي جاءت بها رحلات مركبة الفايكنج في السبعينيات على الإنترنت، ودعوة الهواة للقيام بالعمل الروتيني الخاص بتحديد الأشكال الأرضية وقياسها. كانت جيوليك ترتاب في الأمر: «كان يدور في خلدي: «هل سينجح الأمر فعلًا؟» كان لدي شكوك بالفعل حول هل بوسع مراقبين غير مدربين التمييز بين منخفض في حالته الأصلية وآخر مر بتغييرات (الأول حوافه متموجة، أما الثاني فمتآكل نتيجة للتعرض للرياح والمياه التي هبت فوق سطح المريخ عبر مليارات السنين). من ثم فكر كانيفسكي وجيوليك في حل وسط، قبل وضع العمل الثمين في أيادي الجماهير، سيختبرون الأمر؛ كان لدى جيوليك إمكانية الوصول إلى قاعدة بيانات هائلة للمنخفضات الأرضية بصور كوكب المريخ التي صُنفت وفُهرست بالفعل. تصفحت زميلة لجيوليك الثمانية والثمانين ألف صورة جميعها لتحديد الفوهات الصدمية التي ظهرت في صور رحلات الفايكنج وتصنيفها وقياسها. تقول جيوليك عنها: «كانت شديدة الانضباط، واستغرق الأمر منها عامين.»

نشرت وكالة ناسا في هدوء قاعدة البيانات كلها على الإنترنت وطلبت من مجتمع الهواة الإلكتروني من علماء الفلك المتابعين لكل خطوة تجريها ناسا مساعدةَ المحترفين في تحليل الصور. وأطلقت على البرنامج اسم «كليك وركرز» كانت دراسة حالة مثالية، نظرًا لأن جيوليك وكانيفسكي كانا يملكان مجموعة بيانات تحكم وهي قاعدة البيانات التي انتُهي منها بالفعل. وفي غضون شهر نجح بضعة آلاف من المشاركين في تحليل كل صورة موجودة بقاعدة البيانات، وشعر كل من جيوليك وكانيفسكي بصدمة سارة، فلم يسرع المتطوعون فقط من المهمة نفسها التي استغرقت من عالمة جيولوجيا كوكبية عامين لإنهائها، بل أنجزوها أيضًا بدرجة مماثلة من الدقة. يحاكي مشروع كليك وركرز نموذج المصدر المفتوح للإنتاج في العديد من الأوجه. أولًا، وُزِّعَت مهمة هائلة عبر شبكة ضخمة. ثانيًا، ليس هناك قيد على عدد المشاركين المحتملين. وأخيرًا، قُسِّمَ العمل نفسه إلى مهام صغيرة ومنفصلة، بحيث يتسنى لمشروع كليك وركرز استغلال الشخص الذي لا يملك سوى خمس دقائق وقت فراغ، بالإضافة إلى الشخص الذي ليس لديه في العطلة الأسبوعية شيئًا يفعله أفضل من قياس الفوهات البركانية، واتضح أن ذلك الأمر غاية في الأهمية فيما يخص نجاح المشروع؛ فقد أظهرت دراسة واحدة أجرتها ناسا أن ٣٧ في المائة من المشروع اكتمل على يد مشتركين سابقين.

بدأت ناسا مشروع كليك وركرز مجددًا عام ٢٠٠٦، لكن هذه المرة لم تكن تجريبية، أصبح المتطوعون الآن مسئولين عن تحليل التشكيلات الأرضية الموجودة بآلاف الصور عالية الدقة التي ترسلها كاميرا هاي رايز التي تلف حول المريخ. (هاي رايز اختصار لمصطلح التجربة العلمية للتصوير عالي الدقة.) تقول جيوليك: «من الممكن أن يكون لذلك بالغ الأثر في العلوم، يقضي الناس عشر دقائق يوميًّا في فعل ذلك، إلا أنها مساعدة كبيرة لنا، إذ يتولون القيام بالعمل الروتيني والأعمال التي تتطلب أيدي عاملة كثيرة وبذلك يوفرون الوقت للعلماء للقيام بالأعمال الفكرية الشاقة.» وكما قدم مراقبو الطيور الهواة إسهامات ثمينة في علم الطيور من خلال جهود جمع البيانات، يقدم العاملون بمشروع كليك وركرز إسهامات أيضًا في علم الكواكب. قدمت ويكيبديا وكليك وركرز برهانًا مثيرًا على أن نموذج المصدر المفتوح يمكن تطبيقه على مجالات بعيدة عن البرامج، ولن يمضي وقت طويل قبل أن يستخدمه آخرون في مجالات أبعد كثيرًا.

(٣) تعهيد الأعمال للجماهير ومشكلة براءات الاختراع

من العجيب أن الأقدار تعتمد كثيرًا على قرارات اللحظة الأخيرة. في أواخر أكتوبر (تشرين الأول) عام ٢٠٠٥ كان ستيفن ويبر — أستاذ علم السياسة بجامعة كاليفورنيا ببيركلي — يجتمع ببعض من أكثر الناس ذكاءً ممن يعرفهم إلى قاعة مؤتمرات بمدينة مانهاتن للتحدث عن مستقبل التجارة. كان ويبر ومؤلف مشارك يؤلفان كتابًا عن «مناهج المصدر المفتوح لخلق القيمة» وأرادا أشخاصًا ذوي نفوذ واسع ﻟ «تدعيم حجتنا». كان من بين المدعوين مستشار سابق لنائب رئيس الجمهورية آل جور ومحرر من دار نشر جامعة هارفارد والعديد من كبار المسئولين بالشركات الاستشارية بنيويورك. وبعد ذلك، وقبل يوم واحد من الاجتماع، اقترح مضيف ويبر أن يدعو بيث نوفيك، الأستاذة الجامعية بكلية حقوق نيويورك وهي ما يشبه عميلًا سريًّا في المجالات القانونية. تذكر ويبر ذكريات بعيدة عن اقتسام خبز البيجل وسمك السلمون المدخن مع امرأة ذكية واثقة من نفسها بمتجر بيع أطعمة جاهزة بآبر ويست سايد قبل بضعة أعوام، وأرسل الدعوة. رفضت نوفيك دعوة ويبر تقريبًا، معللة أن لديها ترتيبات أخرى، بيد أنها ستحاول المرور ساعة أو اثنتين.

وفي يوم دافئ مشمس على غير المتعاد في ذلك الوقت من العام، اجتمعت مجموعة الخبراء المحنكين الذين اختارهم ويبر في غرفة مؤتمرات ليس بها نوافذ بمكاتب شركة مونيتر، وهي شركة استشارية بجادة ماديسون. حضرت نوفيك بعد الساعة الحادية عشرة صباحًا بقليل. أجلسها ويبر بجانب ديفيد كابوس، وهو محامٍ أدار ملف براءات الاختراع بشركة آي بي إم، وسرعان ما تجاذب الاثنان أطراف حديث جاد. أنشأت نوفيك «ورشة عمل تخطيط الديموقراطية»، وهو مجتمع إلكتروني من المحامين وأساتذة الجامعة والطلاب المتفانين للجهود التعاونية في مجال الإصلاح القانوني، وكانت أحد أهم المؤيدين بالميدان القانوني لفتح النظم السرية أمام التمحيص والمراقبة العامة، والآن أصبح نظام براءات الاختراع بؤرة اهتمامها تحديدًا.

يبدو من الغريب أن ترغب شركة آي بي إم في إصلاح نظام استخدمته في تحقيق إنجازات عظيمة. فقد حصلت عملاق التكنولوجيا على ٣١٢٥ براءة اختراع عام ٢٠٠٧ — العام الخامس عشر على التوالي الذي تفوز به الشركة ببراءات اختراع أكثر من أي شركة أخرى في الولايات المتحدة. تنفق شركة آي بي إم ما يقرب من ٦ مليارات دولار سنويًّا على البحث والتطوير والهندسة ويتجاوز ملف إنجازاتها النشط ستة وعشرين ألف براءة اختراع في الولايات المتحدة وحدها.٤ بيد أن هذا القدر الهائل من الملكيات الفكرية يأتي مصحوبًا بتكلفة باهظة؛ فمنذ عام ١٩٩٠ تزايد عدد النزاعات حول براءات الاختراع في الولايات المتحدة إلى ما يتجاوز الضعف، وبلغ متوسط تكلفة مثل هذه المنازعات القضائية ما يقرب من ٢ مليون دولار، ومثل هذه المنازعات كابوس يومي لديفيد كابوس، فهو لا يملك ستة وعشرين ألف براءة اختراع، بل كان لديه ستة وعشرون ألف دعوى قضائية تتسم بالجشع والتفاهة، وشديدة التعقيد.

عندما تفرقت المجموعة لتناول الغداء، ظل كابوس ونوفيك في غرفة المؤتمرات إذ انهمكا في نقاش محتدم. كانت نوفيك قد قدمت مؤخرًا اقتراحًا ثوريًّا أمام مجموعة من صفوة الزملاء يفيد بوضع طلبات تسجيل براءات الاختراع على موقع ويكي، ودعوة الناس بصورة عامة للإسهام في توجيه مُقَيِّمي براءات الاختراع، ونشر طلبات الحصول على براءات الاختراع على الإنترنت حيثما يستطيع أي فرد قراءتها ومراجعتها والتعليق عليها. سينجذب الأشخاص من ذوي الخبرات ذات الصلة إلى مراجعة براءات الاختراع في مجالات خبرتهم، مثلما يعتني المجتمع الإلكتروني بالموسوعة الإلكترونية، ويكيبديا، وينظم نفسه وفقًا لمجالات الخبرة، وأوضحت نوفيك أن هذا الأمر قد يحدث تطورًا هائلًا في نظام براءات الاختراع الحالي.

بدت الفكرة مألوفة لكابوس، الذي كان فريقه بشركة آي بي إم يناقش منهجًا مماثلًا في واقع الأمر. في الأعوام الأخيرة ظهر إجماع داخل مجال الملكية الفكرية على أن نظام براءات الاختراع به عيوب، ولم يكن هناك أي جدال في ذلك، ولكن الجدال كان حول كيفية إصلاحه. لقد حصل ما يزيد عن نصف طلبات براءات الاختراع على الموافقة، مما أدى إلى فوضى من براءات الاختراع الغامضة والمتداخلة. يقول كابوس: «ينتهي بنا الحال في هذه النزاعات حول براءات الاختراع إلى حيث لا يكون بمقدورنا، ولا بمقدور القضاء، ولا حتى أصحابها، تحديد الهدف منها.» توصل كابوس وفريقه إلى فكرة إتاحة براءات الاختراع أمام مراجعة النظراء، وهو نظام تستخدمه المجلات العلمية حيث تدعو العديد من علماء الكيمياء العضوية على سبيل المثال إلى التعليق على بحث كتبه أحد زملائهم؛ إلا أن هذا الأمر لم يقترب مما كانت تقترحه نوفيك.

لم تستوح نوفيك إلهامها فقط من البيئة الأكاديمية، بل أيضًا من نموذج إنتاج المجتمع المستخدَم في برامج المصدر المفتوح والمستخدم أيضًا في ظواهر الإنترنت المعاصرة، كمراجعات المنتجات التي يقدمها المستخدمون بموقع أمازون وقاعدة بيانات الأفلام على الإنترنت آي إم دي بي وخدمة «إجابات ياهوو!» التي يحاول فيها أشخاص اجتمعوا عشوائيًّا — بمعدلات نجاح مرتفعة على نحو مدهش — الإجابة عن أسئلتك العشوائية بالمثل. من الصعب تخيل وجود أيًّ من هذه الأمور لولا حفنة المتمردين على التقاليد الثابتين على موقفهم، كريتشارد ستولمان، ممن يقترحون أفكارًا غير تقليدية للغاية حول الكيفية التي ينبغي بها إنتاج المعلومات ونشرها. تبنت مثل هذه الجهود لتعهيد الأعمال للجماهير أساسًا منهج المصدر المفتوح في صنع منتجات أخرى بخلاف البرمجيات. لم يكن اقتراح نوفيك الأول في محاولة استخدام الحكمة المتأصلة في مجتمعات الإنترنت الضخمة، لكنه كان من بين أشدها ثورية وذلك لأنه هدف إلى إسقاط إحدى أجل الوظائف الحكومية، وهي منح الحماية القانونية للاختراعات والأفكار المبتكرة.

غادر كابوس الاجتماع وهو يشعر بالاهتمام والفضول وبشيء من الخوف، وبعد مرور بضعة أيام اتصل بنوفيك لمواصلة حديثهما واقترح بدء العمل معًا لتنفيذ الاقتراح. يتذكر كابوس قائلًا: «أخبرتها أننا رأينا أن خطتها كانت فعالة للغاية، إلا أننا لن نتمادى إلى حد مطالبة حكومة الولايات المتحدة أن تتخلى عن سيادتها على منح براءات الاختراع.» إن مجرد حقيقة أن أكبر حامل براءات اختراع في العالم وهو شركة آي بي إم وأستاذة قانون تلقت تدريبها بجامعة ييل كانا يناقشان تعهيد مراجعة براءات الاختراع إلى الجماهير هو علامةٌ على المدى الذي ذهب إليه نموذج الإنتاج المعزز بحركة برامج المصدر المفتوح.

لا شيء قد يتناقض مع الطريقة التي تمنح بها براءات الاختراع في الولايات المتحدة أكثر من ذلك الاقتراح. إليك تصورًا عامًا لما يجري حاليًّا: يتوصل مخترع لفكرة نيرة، فيقوم بعدها بتنزيل طلب براءة اختراع من الموقع الإلكتروني لمكتب براءات الاختراع والعلامات التجارية الأمريكي. ثم يقوم باستكمال الطلب ويرفق مع الطلب أي رسومات أو أوصاف فنية ووثائق داعمة مناسبة يراها ضرورية، ويرسلها إلى مكتب براءات الاختراع، ثم يجلس بجوار هاتفه.

سينتظر مقدم الطلب طويلًا، أما إذا كان الباحث عن براءة اختراع محظوظًا، فقد يتلقى قرارًا حول طلبه في غضون عامين ونصف، وهو متوسط الوقت بين تقديم طلب للحصول على براءة اختراع ووصول القرار. يوجد بمكتب الولايات المتحدة لبراءات الاختراع والعلامات التجارية في الوقت الراهن كومات من براءات الاختراع المتراكمة، تزيد عن مليون طلب لم تصل حتى إلى مكتب مُقَيِّم براءات الاختراع؛ حتى إن مُقَيِّمي براءات الاختراع يشتهرون بأن لديهم أعباء عمل شاقة ولا يحصلون على أجور مجزية. هناك في الوقت الراهن ما يدنو قليلًا من ٥٥٠٠ مسئول تقييم بمكتب براءات الاختراع، فيما ازداد عدد طلبات براءات الاختراع بسرعة حتى وصل إلى ٤٦٧٠٠٠ عام ٢٠٠٧. ونتيجة لذلك ليس بوسع مُقَيِّمي براءات الاختراع سوى تخصيص عشرين ساعة، في المتوسط لمراجعة أعقد الطلبات.٥
عندما يجلس مُقَيِّم براءات الاختراع وأمامه طلب، فلا بد من أن يحدد أولًا «السجل التقني السابق» الذي يتضمن براءات الاختراع السابقة وأي مادة أخرى منشورة ذات صلة بموضوع الطلب الخاضع للفحص. إذا كان المخترع لديه فكرة لفرشاة أسنان موسيقية على سبيل المثال (لا تضحك، فهذه براءة اختراع رقم ٥٠٤٤٠٣٧)، فيجب على مقيم براءات الاختراع البحث في قاعدة بيانات الهيئة التي تضم سبعة ملايين براءة اختراع عن أي شيء قد يجعل من فرشاة الأسنان الموسيقية ليست سوى تكرار لاختراع سابق.٦

قد يكون ذلك ممكنًا في سياق الحديث عن فرشاة الأسنان الموسيقية، إلا أن المهمة تصبح أصعب كثيرًا عندما تكون براءة الاختراع تطويرًا معقدًا لعنصر موجود فعلًا من شفرة برمجية. حتى عام ٢٠٠٥ لم يتعامل مكتب براءات الاختراع والعلامات التجارية مع التدريب في علوم الحاسب الآلي على أنه مؤهِّل للعمل بالمكتب، (كذلك لم يكن مهندسو البرامج يذهبون إلى مكتب براءات الاختراع والعلامات التجارية الأمريكي أيضًا) من ثم كان مكتب براءات الاختراع يعمل به مُقّيِّمُون مدربون على الكيمياء العضوية يحاولون تقييم طلب قد يحير بيل جيتس.

ليس فقط عامة الناس من لا يعرفون تفاصيل عملية مراجعة براءات الاختراع، بل أيضًا مُقَيِّمُو براءات الاختراع ليست لديهم وسيلة للوصول إلى عامة الناس. وفقًا للقواعد التنظيمية بمكتب براءات الاختراع والعلامات التجارية الأمريكي، «لا يستشير مُقَيِّمُ براءات الاختراع عنصرًا خارجيًّا في غضون عملية مراجعة براءة اختراع» فالخوف هنا من أن مثل هذا الاتصال قد يضع حيادية الهيئة محل شبهات، حتى إن العديد من الأقسام داخل الهيئة تحظر استخدام الإنترنت مصدرًا لمراجعة براءة الاختراع.

بوجه عام، جاء رد فعل مُقَيِّمُي براءات الاختراع المثقلين بأعباء العمل الذين ينقصهم حسن الاطلاع طبقًا للمتوقع؛ إذ توخوا الحذر أكثر مما ينبغي من حيث منح براءات الاختراع. تسبب هذا في وجود عقدة شديدة التشابك من المطالبات المتضاربة، الأمر الذي جعل مهمة كابوس غاية في الصعوبة. استغلت الشركات حالة التشوش القائمة في مجال براءات الاختراع وضاعفت إيداع طلباتها من براءات الاختراع. ففي عام ٢٠٠٥ ذكرت صحيفة نيويورك تايمز أن شركة مايكروسوفت قد رفعت هدفها من تقديم الطلبات من ألفي براءة اختراع سنويًّا إلى ثلاثة آلاف، ومن بين طلبات براءات الاختراع التي تقدمت بها شركة مايكروسوفت «نظام وطريقة إنشاء ملاحظة متعلقة بمكالمة هاتفية أثناء إجرائها» و«إضافة مسافة فارغة وإزالتها بمستند».

إلا أن نتائج هذه الزيادة الهائلة في براءات الاختراع ليست بالهينة، فيوضح كابوس: «هناك شركات أصبحت المنازعات القضائية حول براءات الاختراع مصدرًا أساسيًّا لإيراداتها، فلديهم براءات اختراع لا ينوون استخدامها أبدًا وتهدف فقط للابتزاز.» يطلق على هذه الشركات «صيادو براءات الاختراع»، ودخلت القصص التي نسجت حول هذه الشركات نطاق الأساطير؛ ففي مارس (آذار) ٢٠٠٦ هددت شركة مالكة لبراءة اختراع وهي إن تي بي بإرسال مسئولين حول العالم للبحث عن هواتف عامة عندما أدت قضيتها ضد شركة ريسرش إن موشن، صانعة هاتف بلاك بيري واسع الانتشار، إلى إغلاق الخدمة، ودفعت شركة ريسرش إن موشن لشركة إن تي بي تسوية تقدر ﺑ ٦١٢٫٥ مليون دولار لتسوية القضية. من الواضح أن هناك شيئًا لا بد من فعله لإصلاح عملية براءات الاختراع.

وسريعًا بعد الاجتماع الأول، أمر كابوس محاميه بالعمل مع نوفيك على اقتراحها لفتح عملية مراجعة براءات الاختراع أمام النقد العام. كان ذلك بمنزلة تصديق قاطع على نموذج برامج المصدر المفتوح. مع أن الخطة بدت ثورية على نحو غريب لشركة كآي بي إم، لكنها في واقع الأمر تطابقت تمامًا مع الاتجاه الذي كانت تتحرك آي بي إم نحوه منذ إعادة هيكلة نموذج العمل الجوهري بها جذريًّا في التسعينيات. ففي السابق، حافظت الشركة على برامجها المملوكة لها في حماسة، ولكن ها هي ذي الآن تساهم بآلاف من ساعات عمل المبرمج للعمل في مشروعات برامج المصدر المفتوح، الذي لا يجلب أي عائد من خلال الترخيص، بل إنها تتبرع ببعض من براءات الاختراع الخاصة بها إلى مجموعة دعم المصدر المفتوح: «مؤسسة البرمجيات الحرة». هذا ليس من باب حب الخير؛ فوفقًا للشركة، عوض الدخل الناتج من خلال تقديم «خدمات احترافية» متصلة ببرامج المصدر المفتوح كثيرًا من الإيرادات التي فقدتها عبر إتاحة تراخيص البرامج المملوكة لها. نتج عن هذه الخطوة ابتكارات جديدة ومنتجات جديدة وسمعة طيبة شديدة المصداقية لآي بي إم داخل المجتمع شديد الترابط للمبرمجين.

في ديسمبر (كانون الأول) عام ٢٠٠٦ دُعيت نوفيك وكابوس لمقابلة بعض المحامين من مكتب براءة الاختراع. فكما اتضح، كان مكتب براءة الاختراع نفسه يفكر في كيفية الاستفادة من مجتمع المصدر المفتوح. وفي عام ٢٠٠٤ عين الرئيس جورج دبليو بوش جون دوداس في رئاسة مكتب براءات الاختراع والعلامات التجارية، بتفويض لإصلاح عملية براءات الاختراع. أخبر محاميون حكوميون كابوس ونوفيك أنه إذا كان بإمكانهم ترتيب اجتماع، فسيستضيفه مكتب براءات الاختراع. وفي يناير (كانون الثاني) ٢٠٠٧ أعلنت شركة آي بي إم على الملأ إنشاء «مشروع مراجعة النظراء لبراءات الاختراع» (وهو تلاعب لفظي رائع على مصطلح «الند للند»: تكنولوجيا مشاركة الملفات واسعة الانتشار وغالبًا ما تستخدم لتنزيل الموسيقى والأغاني بصورة غير قانونية). ووفاءً بوعده، استضاف مكتب براءات الاختراع اجتماعًا بعد مرور بضعة أسابيع مع بعض من الرواد في مجال الملكية الفكرية. وعلى مدار العام وافقت شركات مثل مايكروسوفت وجنرال إلكتريك على الاشتراك في المشروع التجريبي، الذي انطلق في ١٥ يونيو (حزيران) عام ٢٠٠٧.٧ ومع أن المشروع كان لا يزال في المرحلة التجريبية، كان لدى نوفيك آمال كبيرة. وبحلول ربيع عام ٢٠٠٨ راجع ما يقرب من ثلاثة وثلاثين ألف شخص ما يقرب من اثنين وعشرين طلب براءة اختراع وقدموا ١٩٢ مثالًا فيما يتعلق بالسجل التقني السابق. تقول نوفيك: «يبرهن المشروع على أن المواطنين لديهم الكثير لتقديمه للحكومة أكثر من التصويت فقط أو الإجابة في استطلاعات الرأي، إذ لديهم خبرات حقيقية للإسهام بها وهم سعيدون بفعل ذلك عندما يطلب منهم.»

كان هذا الأمر نقطة تحول في مسار حركة المصدر المفتوح. تبنت أشد الهيئات الحكومية مقاومة للتغيير وتحفظًا فكرةَ أنه من الممكن — كاحتمال ليس إلا — العثور على خبرات في شبكة هائلة وعامة أكثر مما يمكن العثور عليه بين قلة مختارة. قبل عشرين عامًا كان من يروج لمثل هذا المنهج حفنة قليلة فحسب من مبرمجي الحاسب الآلي المغمورين، ولم يكن بمقدورهم التنبؤ قط بأنه سيحدث تغييرًا جذريًّا في كيفية صنع كل شيء بدءًا من أنظمة التشغيل إلى الخرائط والتي شيرتات.

إلا أن صنع برنامج كمبيوتر أمر مختلف كثيرًا عن تطوير خريطة مفتوحة المصدر مثلًا أو إنشاء قسم لصحافة الفيديو. اعتمد نجاح برامج المصدر المفتوح بقدر كبير على الزيادة الهائلة في التقنيات والبرمجيات ميسورة التكلفة، وقدم المصدر المفتوح نموذجًا للكيفية التي يمكن أن يتحد بها الناس معًا للعمل — بحماسة وتنافسية ودون مقابل — على إنجاز مشروعات بعيدة عن البرمجيات. لكن كي نسد الفجوة بين النظرية والتطبيق، سيحتاج الجمهور إلى الأدوات وإلى معرفة كيفية استخدامها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤