الفصل الرابع

صعود دور الشركات وانهياره

تحول المجتمع إلى التجارة

إذا كانت وسائل الإنتاج والتوزيع في متناول الفرد الآن، وإذا كان الخط الفاصل بين المنتج والمستهلك أصبح غير واضح، فما هو إذن موقف «الشركات»؛ تلك البنية التنظيمية التي سيطرت على كيفية صنع الناس للسلع والخدمات وتسليمها على مدى ما يزيد عن مائة عام؟ ماذا يمثل «موظف» أو «مدير» أو «رئيس» في إطار بيئة تعهيد الأعمال للجماهير عبر الإنترنت؟ لا شك أن الشركات ليست مطروحة ككائنات معرضة لخطر الانقراض حتى الآن، لكن من المجدي تذكر أن الشركات — أبرز رموز الحقبة الصناعية — حديثة العهد إلى حد ما وعرضة للتغير.

لم نألف النظر إلى المجتمعات من الناحية الاقتصادية، لكن لم تكن الحال كذلك دائمًا، ففي الأصل تجمع البشر داخل مجتمعات لأسباب تتعلق بالبقاء، فاتجهت المجموعات الأكبر إلى الصيد وقدمت حماية أوفر من الأعداء وجعلت من الزراعة واسعة النطاق أمرًا ممكنًا. لكنَّ الثورة الصناعية غيرت كل ذلك؛ فنظمت الشركاتُ العمالَ في صورة أيدٍ عاملة تحصل على أجر، وأصبح المجتمعُ الحيزَ الاجتماعيَّ الذي نستريح في نطاقه من العمل لنحصل على فترة راحة من الإنتاج والتنافس الاقتصادي، نمارس خلالها بدلًا من ذلك الأنشطة الدينية أو الإنسانية أو الاجتماعية المجردة. بدأ الإنترنت في وقتنا الحاضر في قلب هذا النموذج رأسًا على عقب. بالتأكيد لا تزال الشركة تقدم مزايا فيما يتعلق بإنتاج الأشياء المادية؛ فسنحتاج دائمًا إلى وجود مصنع لإنتاج الفولاذ، لكن في مجال إنتاج المعلومات، أصبح المجتمع ينافس الشركات على الصدارة.

خلقت أربعةُ تطورات أرضًا خصبة سمحت بظهور تعهيد الأعمال للجماهير في إطارها. صاحب تناميَ طبقة من الهواة ظهورُ أسلوب إنتاجي قدم الإلهام والتوجيه العملي وهو برامج المصدر المفتوح، وبالإضافة إلى ذلك أتاحت الزيادةُ السريعةُ في الإنترنت والأدوات الرخيصة للمستهلكين قوةً كانت حكرًا في السابق على الشركات التي تملك موارد رأسمالية ضخمة. لكن يعود الفضل في نشوء مجتمعات الإنترنت — بقدرتها على تنظيم الناس بكفاءة داخل وحدات إنتاجية اقتصادية — إلى تحويل الظواهر الثلاث الأولى إلى قوة لا يمكن تغييرها.

ما علاقة الجماهير (مفهوم مثير للبس، لا سيما في سياق الإنتاج الاقتصادي) بهذا؟ أولًا: لا تتألف الجماهير من جميع الأفراد على وجه الأرض، ولأن تعهيد الأعمال للجماهير صار ممكنًا — في الأغلبية الساحقة من الحالات — بسبب الإنترنت، شرعت في استخدام مرادف يكشف عن معنى أوضح لبنية الجمهور: المليار، وهذا لأن هناك ما يزيد قليلًا عن مليار شخص متصل بالإنترنت حول العالم. من منظور تعهيد الأعمال للجماهير، هذا المليار لديه إمكانية للمساهمة بطريقة ما في أي مشروع تعهيد. لكن بالطبع ليست هذه الطريقة التي نجد بها المليار مستخدمًا للإنترنت. ففي الواقع، يتناثر هذا المليار بين مجتمعات متشابكة لا تحصى على الإنترنت تتألف من أشخاص تتحد اهتماماتهم مع أن هذا الاتحاد قد يكون مؤقتًا. لا تختلف هذه المجتمعات اختلافًا كبيرًا عن تلك التي نعرفها في العالم الواقعي؛ إذ تفرض هذه المجتمعات مجموعة من القواعد الاجتماعية السلوكية على أفرادها، وتقدم جوائز، في صورة سمعة ذات مصداقية، مقابل الالتزام بهذه القواعد أو إجادة المهارات التي يراها المجتمع قَيِّمَة. وفي عصر المعلومات يساعد هذا الأمر على وجود قوة اقتصادية فعالة للغاية. إن المجتمع هو القوة التنظيمية الأساسية وراء تعهيد الأعمال للجماهير.

تشكلت المجتمعات في الماضي في إطار خطوط جغرافية، لكن في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، اتحدت عدة عوامل معًا لقطع الروابط التي وصلت بين هذه المجتمعات؛ إذ لعبت كل من الطرق السريعة والطائرات والهواتف والتلفزيون دورًا في تفتيت الدور المهيمن للجغرافيا في تنظيم الشئون الإنسانية، وتقلصت العضوية في المؤسسات الاجتماعية على غرار نوادي لعب البريدج ونوادي منظمة إلكس الخيرية، ووجد الناس أنفسهم في عزلة تتزايد يومًا بعد آخر وكأنهم فوق جزر منفصلة في بحر مأهول بالسكان. ذكر روبرت بوتنام، أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد، في كتابه الأفضل مبيعًا «لعب البولينج وحيدًا: انهيار المجتمع الأمريكي وصحوته» أنه مع تفتت المجتمع، تفتت أيضًا الإسهام الجماعي في «رأس المال الاجتماعي»، وهو القيمة الاقتصادية التي يصعب تحديد مقدارها بيد أنها واقعية للغاية وهي القيمة التي نكتسبها من استعارة كوب من السكر من الجار أو مساعدة صديق في البحث عن وظيفة.١

في هذا السياق بدا انتشار أجهزة الحاسب الآلي الشخصي كمسمار آخر في نعش الحياة الحضرية القوية، لكن كان هناك شيء سحري يتشكل بعيدًا عن الأنظار؛ إذ كانت المجتمعات تعيد تشكيل نفسها. بحلول أواخر التسعينيات بدأ الإنترنت في تشجيع نمو مجتمعات جديدة كلية تنظم في إطار التشابه، وتمكن مستخدمو الإنترنت من أنحاء العالم كافة من الالتقاء وتكوين صداقات، وانتهى بهم الحال يتحدثون عن الأشياء كافة ويثرثرون ويتبادلون المعلومات عامةً، وهي كلها أمور كانت تحدث في السابق في اللقاءات الشخصية. وفي الآونة الأخيرة ظهرت أنماط جديدة من المجتمعات محلية وفي الوقت نفسه متصلة عبر الإنترنت.

(١) تحول القُرَّاء إلى كُتَّاب

عندما ترى رتينا كارتر أثناء العمل لن يخطر ببالك أنها تمثل مستقبل الصحافة، إذ إنها لا تمارس الصحافة بدوام كامل، فهي تقضي وقتها في تصميم حفاضات جديدة لشركة بروكتر آند جامبل، وتعمل لمصلحة صحيفة سينسيناتي إنكوايرَر في وقت فراغها — عادةً أثناء وقت الغداء وفترة المساء — من مكتبها بالمنزل الذي يحمل طراز القرن الثامن عشر والمكون من ثلاث غرف وتعيش فيه مع زوجها وابنتها الرضيعة. تكتب كارتر بموقع سينسي مومز Cincy-moms.com، وهي الوظيفة التي «تعشقها» وتحصل مقابلها على ٢٥ دولار أسبوعيًّا.٢

كانت عائلة كارتر تعيش في مدينة سينسيناتي منذ عام، عندما قرأ زوج رتينا، ويدعى داريل، إعلانًا صغيرًا مطبوعًا على ظهر صحيفة إنكوايرَر مفاده: «مطلوب كُتَّاب لموقع محلي مختص بالأمهات.» كان ذلك في يناير (كانون الثاني) وقد حل شتاء أوهايو الطويل، ولم تكن رتينا أو زوجها قد كونا صداقات عديدة منذ مجيئهما من جورجيا. قال داريل وهو يريها الإعلان: «عليك التقدم لهذه الوظيفة، ستمارسين الكتابة» — وهو أمر يعرف أنها تحبه — «وستتقاضين أجرًا مقابل ذلك.»

تقدمت كارتر للوظيفة، مع أنه لم يكن لديها خبرة مسبقة بمجتمعات الإنترنت أو الصحافة الاحترافية. ومن دواعي دهشتها أنها اختيرت لتكون من بين عشرة «مشرفين» بموقع سينسي مومز، وهذا يعني أنها مسئولة عن تزويد الموقع بمحتوى، مع «إطلاق الموقع لعدد محدود من الجمهور» وهو المقرر آخر ذلك الشهر، أرادت جريدة إنكوايرَر تزويد فريق العمل بوقت لحل أوجه الخلل في النظام وملء الموقع بالمقالات قبل بدء دخول الزوار. وليحقق ذلك، اتبع موقع سينسي مومز الإطار العام لمنتديات الإنترنت؛ فقُسِّمَتْ المحادثات إلى فئات، على غرار «الحيوانات الأليفة» أو «العطاء»، على أن تُقَسَّمَ هذه الفئات إلى موضوعات — «دروس للجراء بالجانب الشرقي!» — التي تتيح للمستخدمين نشر أفكارهم وآرائهم. من المفترض أن تكتب كارتر عشرة موضوعات جديدة أسبوعيًّا وتكتب عشرين رسالة خاصة بها تعليقًا على موضوعات المشرفين الآخرين بحيث تبدو تلك الموضوعات قوية.

وقبل أن تتسنى الفرصة حتى لصحيفة إنكوايرَر للإعلان عن الموقع، انتشر الخبر في الحضانات وملاعب كرة القدم بمدينة سينسناتي. وخلال الأسابيع القليلة الأولى، تضاعفت حركة الدخول إلى الموقع ثم تضاعفت مرة أخرى. لا يبدو موقع سينسي مومز مختلفًا جذريًّا عن المواقع المهتمة بتربية الأطفال على الإنترنت؛ فالصفحة الأولى تتكون من صور ترسلها بعض الأمهات، وأسفلها مباشرة المنتديات. يقدم الموقع لقرائه شيئًا فريدًا: المعلومات المحلية. وتقول كارتر معلقةً: «إن جزءًا كبيرًا مما تنتظره النساء منا ليس النصح العام، فهن يردن أن يعرفن ما هو أفضل محل بيتزا لاصطحاب أبنائهن إليه بعد ممارسة الرياضة، أو أفضل طبيب أطفال بمدينة مونتجمري.»

يقدم الموقع كافة مزايا الإنترنت — على غرار القدرة على تجاذب أطراف الحديث في أي وقت من اليوم — دون التعدي على خصوصيات المكان. فعلى العكس من نادٍ للعب البريدج أو اللقاءات الاجتماعية لتناول القهوة، يقدم أيضًا سلعة للبيع. تصوغ رتينا كارتر وأصدقاؤها محتوى لصحيفتها المحلية من خلال عملها بالشركة الأم لجريدة إنكوايرَر، وهي شركة جانيت. وفيما تتلقى كارتر و«المشرفون» التسعة الآخرون أجرًا ضئيلًا مقابل مجهودهم، يتلقى باقي مجتمع الموقع أشكالًا أقل مادية كمقابل، بما في ذلك المعلومات والرضا الشخصي والعلاقات الاجتماعية. وبدورها، تتلقى صحيفة إنكوايرَر مبلغًا كبيرًا من عائدات الإعلانات. هذا الأمر ليس بصفقة سيئة، وسواء أكان جيدًا أم سيئًا فقد أصبح يميز علاقة جديدة مشتركة آخذة في التزايد في اقتصاد المعلومات.

يسّر الإنترنت تشكيلَ مجتمعات جديدة، لكن في الأعوام العديدة الماضية استطاعت شركات مثل ياهو وماي سبيس، على سبيل المثال لا الحصر، تحويل النسيج العادي للتفاعل المجتمعي إلى سلعة تجارية. لطالما راحت الصحف بالطبع تستغل المجتمعات لتحقيق ربح مادي من خلال الإعلانات، فماذا يمثل قسم الإعلانات المبوبة سوى أنه تحويل سوق السلع الرخيصة الافتراضي إلى نقود؟ لكن شركة جانيت — التي تصدر صحف يو إس إيه توداي وسينسيناتي إنكوايرَر وأربعًا وثمانين جريدة يومية أخرى — تتجاوز ذلك، فهي تعزز الروابط بين المجتمعات في سبيل توجيهها إلى أداء وظيفة بعينها تستفيد منها عن طريق بيع الإعلانات. إن الجمهور الذي يزود تعهيد الأعمال للجماهير عبر الإنترنت بالوقود ليس منظمًا داخل مؤسسة أو شركة أو حتى إطار حر يجمع أشخاصًا يعملون مستقلين. وفي حالات يمتد نطاقها من العلوم إلى الصحافة إلى تصميم المنتجات، يتخذ الجمهور صورة المجتمع.

وفي غضون أسابيع من إطلاق موقع سينسي مومز، كان الموقع يتلقى خمسين ألف زائر يوميًّا، وكان أصحاب الإعلانات يتهافتون لوضع إعلاناتهم على الموقع. وبعد ما يزيد عن ثلاثة أشهر جنى الموقع ٢٧٠٠٠٠ دولار — أي حقق ربحًا إضافيًّا يقدر ﺑ ٧٠٠٠٠ دولار من المتوقع في عامه الأول. بل الأفضل من ذلك أن الأمهات شكلن جمهور قراء جديدًا لصحيفة إنكوايرر (ما يقل عن عشرين في المائة من الفتيات الشابات في سوق سينسيناتي كن يقرأن الجريدة من قبل)، والأشد ارتباطًا بالموضوع أنهن جذبن الوكالات الإعلانية التي تلبي احتياجاتهن.

تأمل صحيفة إنكوايرَر أن يكون موقع سينسي مومز إشارة إلى عودة النبض إلى جسد هامد. في حال عدم معرفتك آخر المستجدات — وإذا كنت شأنك شأن معظم الناس فاحتمالات ذلك كبيرة — فقد دخلت الصحف بداية تراجع مؤلم ولا يمكن تغييره على ما يبدو. فعدد قراء الصحف صار أقل، وهذا يعني أن الشركات تدفع مبالغ أقل للإعلان بها، مما سيؤدي إلى تقلص الأرباح وهبوط أسعار الأسهم، وهو ما سيقود الناشرين إلى خفض العمالة بدرجة كبيرة، مما يعني عثور عدد أقل من الناس على أي شيء لقراءته في صحيفتهم المحلية، وهذا يسبب انخفاضات أكبر حتى في جمهور القراء.

لكن بعد ما يزيد عن عقد من محاولة التنافس وفقًا للشروط التي يريدها المجال مثلًا عن طريق إعادة إنشاء منتجها الأساسي — الصحيفة نفسها — ببساطة على الإنترنت، يبدو المجال مستعدًا في النهاية لتشكيل نفسه وفقًا للوسيلة الجديدة، مما يعني، في العديد من الحالات، قبول دور أقل أهمية. قبل ظهور الإنترنت، خاطبت الصحيفة جمهورها مباشرة، ولكن هذا الدور بدأ في التلاشي؛ إذ قدم الإنترنت الآن فرصة لإجراء محادثة ثنائية بين الصحيفة وقرائها. ويقول مايكل مانيس مخطط استراتيجية تعهيد الأعمال للجماهير عبر الإنترنت بشركة جانيت: «اضطُرِرْنَا بالفعل إلى تدريب العاملين بصالات التحرير ليتقبلوا فكرة أنهم لا يحتكرون الأفكار والآراء.» يرى الفرد ذلك الحوار في أقسام التعليقات التي تظهر بعد نهاية الخبر عندما يُنْشَرُ على موقع الجريدة، ويشير مايكل إلى أن موقع سينسي مومز يدفع التطور إلى مستويات أعلى. لم تعد الصحيفة سوى غرفة محادثات، وهذا إشارة إلى أنها باتت تحصل على نصيب أكبر ولكن في مجال ضعيف القيمة، أو وفق تعبير مايكل، دخلت الصحف عصر «المحادثات الجماعية» وهو أفضل من إشهار الإفلاس. هل باستطاعة موقع سينسي مومز التنافس مع موقع تواصل اجتماعي كبير مثل ماي سبيس؟ ربما. فمع أن موقع ماي سبيس يتمتع بالموارد غير المحدودة تقريبًا لمؤسسة نيوز كوربوريشن الإخبارية لروبرت مردوك التي تقف وراء الموقع، فليس باستطاعته إطلاعك على أفضل محل لتناول البيتزا بمونتجمري.

إن موقع سينسي مومز ليس سوى جزء جوهري واحد من خطة أكبر من جانب ملّاك صحيفة إنكوايرَر، والمسئولون في المركز الرئيسي للمؤسسة تغمرهم السعادة بنجاح موقع سينسي مومز القائم على المحاولة التجريبية الناجحة بمدينة إنديانابوليس (تدعى إندي مومز بطبيعة الحال)، وتأمل شركة جانيت أن تكون قد استغلت بذلك تكون قوى رائعة. وعلى مدار عام ٢٠٠٧ بدأت الشركة في إطلاق «مواقع للأمهات» تابعة لثلاثين صحيفة من صحفها الأخرى.

تمثل المواقع المهتمة بالأمومة التي تطلقها شركة جانيت طليعة تغييرات جذرية؛ فالشركة تعيد التفكير في كافة الجوانب تقريبًا الخاصة بالطريقة التي تجمع بها الأخبار وتكتبها وتوزعها. لقد أصبحت الويب الوسيلة الرئيسية للأخبار، مع نشرها لآخر المستجدات باستمرار وعلى مدار الساعة. تدرب المصورون على تصوير الفيديو، ويُنْتَظَرُ من المراسلين والمحررين أن يستقوا من بئر الأفكار المطروحة في منتديات القراء، حتى إن القراء أنفسهم يُوَظَّفُونَ مراقبين وكاشفين عن الأعمال غير القانونية التي تقوم بها الشركات التي يعملون بها، وباحثين في تحقيقات صحفية كبيرة، ويبدو كذلك أن الجميع صار يحظى بفرصة لإنشاء مدونة. كل هذا يحول صحف شركة جانيت إلى مخازن على الإنترنت للمعلومات المحلية الحيوية تفيض ببيانات تتعلق بكل شيء من الحفر الموجودة بالطريق إلى رواتب المسئولين الحكوميين إلى قيم الممتلكات، وأي شخص مهتم بالأمر يمكنه سبر أغوار الكنز الدفين واكتشاف المعلومات. جاء في العرض التوضيحي المصمم ببرنامج باور بوينت الذي قدمته شركة جانيت في صالات التحرير الخاصة بها عند إطلاق مبادرة تعهيد الأعمال للجماهير: «لا بد من أن نجعل محتوانا مزيجًا بين كل من الصحافة الاحترافية وإسهامات الهواة».

مرحبًا بالصحافة في عصر الحوارات الجماعية، المكتوبة للمجتمع، والتي يتزايد إسهام المجتمع في كتابتها. هناك مزايا هائلة لما تحاول شركة جانيت فعله، فمثلًا، لو كان هؤلاء المساهمون، كرتينا كارتر، موظفين بدوام كامل، لاحتاجوا إلى توظيفهم وتقييمهم وإدارتهم، فيما سيكون إنتاجهم بحاجة إلى التوجيه والتحرير. لكن ما حقق لصحف كإنكوايرَر الرضا هو أن هؤلاء المساهمين يعملون باستقلالية. لكن هناك توازنًا في هذه الاستقلالية؛ فيمكن إخبار الموظفون الذين يحصلون على أجر بما عليهم فعله، فيما تفعل مجتمعات الإنترنت ما تريد. هناك ثمن يستحق الدفع في غالبية الأحوال.

إلا أنه ليس جميع العاملين بشركة جانيت يشعرون بالرضا حيال هذه التغييرات، فيقول توم كالينان، المحرر بصحيفة إنكوايرَر الجاد قصير القامة أجش الصوت: «لا يرغب الجميع في التكيف مع الوضع»، فبعض العاملين بصحيفة إنكوايرَر تقاعدوا عن العمل مبكرًا بشراء حصص بالشركة أو بالاستقالة فحسب. ويضيف كالينان قائلًا إنه مع ذلك فقد اختار العديد من الأشخاص — «أكثر مما توقعت» — التكيف مع التغيرات. في واقع الأمر، كانت ليندا باركر سعيدة بالتكيف، وهي تتولى الآن منصب «المحرر المسئول عن المجتمعات الإلكترونية» بصحيفة إنكوايرَر، وكانت تعمل في جريدة منافسة تصدر بالجهة الأخرى من المدينة وهي سينسيناتي بوست. تظهر جملة «انشر ما تريد» بارزةً في كل صفحة إلكترونية على موقع الإنكوايرَر، وتقع الرسائل الناتجة عن هذا العنوان في يد باركر، ويكون أغلبها في العموم بعيدًا كل البعد عن الصحافة بمفهومها المعروف.

تقول باركر: «كانت الجملة في البداية: «كن صحفيًّا مواطنًا» لكن لم ينقر أحد عليها قط، ثم كتبنا: «أخبرنا خبرك» ولم ينقر أحد أيضًا لفتح الرابط. لسبب ما، كانت الكلمات «انشر ما تشاء» لها مفعول السحر.» اعتبرت صحيفة الإنكوايرَر أن هذا القسم حقق نجاحًا منقطع النظير؛ فباركر، وهي امرأة مرحة في منتصف الخمسينيات، تفحص عشرات الطلبات المرسلة من القراء يوميًّا، التي تتراوح ما بين صانع سيارات معدلة محلي يعلن عن ظهوره المتوقع في برنامج بشبكة بي إي تي، إلى إشعار مؤثر عن مسرحية تعرض لجمع تبرعات لمريض يجري عملية زرع نخاع العظام من الدرجة الخامسة. إما ترفض باركر أو تقبل الرسالة المقدمة (تقول: «لا أرفض أي رسالة تقريبًا»)، ثم تبحث عن وجود كلمات بذيئة بالرسالة لإزالتها وتنشرها على الموقع. «منذ بضع سنوات كانت تعامل هذه الرسائل التي تبعث دون طلب كبيانات صحفية وتُتَجَاهَل.»

يوجد درس قيم هنا: يريد الناس مساحة للتعبير عن آرائهم، لكن هذا لا يعني أنهم سيستخدمون اللغة الاصطلاحية الخاصة بالصحافة، وتعلق باركر قائلةً: «من بين أشهر الفئات لدينا فئة «أنا»، فالناس يحبون كثيرًا الاستغراق في ذكريات فيضان عام ١٩٣٧، وهو أسوأ فيضان في تاريخ سينسيناتي. لدينا قصص عظيمة حول هذا الحدث.» تحقق رسائل القراء ما هو أكثر من تزويد صحيفة الإنكوايرَر بمحتوى إضافي لبيع إعلانات مقابله. وتتابع باركر: «إن صحفنا التي تصدر في ضواحي المدن» — تنشر صحيفة الإنكوايرَر اثنتي عشرة صحيفة منها، إضافة إلى مطبوعات مجتمعية وأربع مجلات إقليمية — «لا يمكن أن تمتلئ صفحاتها دون هذه المادة.» اتضح أن بعض الأخبار والموضوعات شديدة المحلية تحقق رواجًا ونجاحًا. من بين النقد الشائع الموجه لشركة جانيت أنها تسند الأعمال إلى الجماهير لخفض عدد العاملين، لكن هذا النقد يغفل المغزى الأساسي تمامًا، إذ يساعد تعهيد الأعمال للجماهير على توسيع رقعة الصحيفة؛ فإنشاء صفحات إلكترونية أكثر يؤدي إلى إصدار مطبوعات متخصصة أكثر ومن ثم «إعلانات أكثر».

لكن النزهات التي تنظمها الكنائس وانتهاء العام الدراسي ليسا بالموضوعات الوحيدة التي يود القراء مناقشتها، فهم يساهمون أيضًا في التحقيقات الصحفية الجادة، مما يحيي مجددًا جنسًا أدبيًّا يتزايد النظر إليه على أنه معرّض لخطر الانقراض بصحف المدن الكبرى. في صيف عام ٢٠٠٦ سمعت صحيفة نيوز برس — وهي صحيفة تابعة لشركة جانيت تصدر في فورت مايرز بولاية فلوريدا — أن القراء من مشروع سكني جديد يدفعون ما يصل إلى ٤٥٠٠٠ دولار للتوصيل بنظام الصرف الصحي. تقول كايت ماريمونت المحررة بصحيفة نيوز برس إن الخطوة المعتادة في هذه الحالة تكليف واحد أو اثنين من المحققين الصحفيين بإجراء التحقيق، على أن تأتي النتائج بعد عدة أشهر في مقال من الوارد في الأغلب ألا يقرأه أحد. لكن ماريمونت تقول إنه بدلًا من ذلك: «طلبنا من قرائنا مساعدتنا في معرفة سبب ارتفاع التكلفة إلى هذا الحد.»

انهمرت الاستجابات على الجريدة، التي اضطرت إلى تعيين موظفين إضافيين للتعامل مع كمية النصائح والاتصالات الهاتفية ورسائل البريد الإلكتروني الواردة. نشرت نيوز برس مئات الصفحات من الوثائق على صفحتها، ونظم القراء تحقيقاتهم الخاصة؛ إذ حلل المهندسون المتقاعدون الرسومات الفنية، وفحص محاسبون بيانات الموازنة، وسرب أحد العاملين في مجلس المدينة وثائق تكشف عن دلائل تلاعب في المناقصات. شعر المحررون بسعادة غامرة، فلم تكشف الصحيفة النقاب عن مخالفات حكومية (وهو من الأشياء التي تثلج صدر المراسل الصحفي) فحسب، بل أدى الخبر إلى مستوى زيارة لموقع الصحيفة الإلكتروني على مدار ستة أسابيع لم تشهده من قبل بخصوص أي حدث آخر خلاف البراكين. وفي النهاية خفضت المدينة رسوم المرافق بما يزيد عن ٣٠ في المائة، واستقال أحد المسئولين وأصبحت الرسومُ القضيةَ المؤثرة في انتخابات مجلس المدينة.

صدّرت شركة جانيت هذا المنهج الجديد في التحقيقات الصحفية إلى صحفها الأخرى. وفي مارس (آذار) ٢٠٠٧ كشف قراء صحيفة ديموكرات آند كرونيكل — التي تصدر في مدينة روتشستر في المنطقة الشمالية من ولاية نيويورك — عن مواقع تُخزن فيها نفايات سامة في رد فعل على مقال حول مياه الشرب الملوثة بالمدينة، كذا أنشأت صحيفة فلوريدا توداي التي تصدرها شركة جانيت صفحة «مراقبة» دائمة، بها علامة تبويب بعنوان «صفارة إنذار» — مخصصة لفضح الموظفين للفساد في شركاتهم — تقود القارئ إلى مجموعة مقالات حول شركات تأمين تضخم تقديراتها حول التأمين ضد الأعاصير. تجذب صفحة «قائمة المراقبة» زوارًا إلى الموقع أكثر من أي صفحة أخرى بموقع الصحيفة. قد يكمن علاج الصعوبات التي تواجهها الصحف داخل نطاق المجتمع الذي تخدمه. ليس الأمر ببساطة أن الجمهور حكيم، بل إن الجمهور — سواء أكان جمهورًا من المصورين الهواة أو المتحمسين لوكالة ناسا أو سكانًا مهتمين بالأحداث بفلوريدا أو أمهات ثرثارات بسينسيناتي — يندمج داخل مجتمع وينظم نفسه ذاتيًّا في قوة عمل على درجة عالية من الكفاءة. يبين موقع سينسي مومز كيف يمكن لقوتين فعالتين — الجغرافيا والاهتمام المشترك — أن تتحدا معًا لخلق مجتمع إلكتروني. بعبارة بسيطة، إن موقع سينسي مومز يدفعه اهتمام مشترك بكل من تربية الأبناء ومدينة سينسيناتي، وهو يجذب الاهتمام لأنه يوضح كيف أن الإنترنت يرسخ ذلك النوع من المجتمعات المحلية التي ازدهرت في عصر يسبق ظهور الاتصالات الحديثة. لكن القرب المادي ليس عنصرًا ضروريًّا في تكوين مجتمعات الإنترنت، ولا شك أن الصلة الروحية — الاهتمام المشترك بأيديولوجيا سياسية أو هواية أو حتى برنامج تلفزيوني — برهنت على أنها عنصر فعال للغاية في التوحيد بين الناس.

(٢) الشركة مقابل المجتمع الإلكتروني

إن موقع يوتيوب — من ناحية واحدة على الأقل — شركة بالغة الصغر؛ فقبل أن تستحوذ شركة جوجل عليه، كان يعمل به ٦٧ موظفًا يشغلون ثلاثة طوابق من مبنى إداري عادي في سان برونو بكاليفورنيا، وهو عدد أقل بواقع موظف واحد عن عدد العاملين بدار مسنين عادية بأمريكا، لكن من ناحية أخرى، يوتيوب شركة أكبر كثيرًا من ذلك؛ فعند استحواذ جوجل عليها، بلغت قيمة يوتيوب ١٫٦٥ مليار دولار، قد يبدو ذلك المبلغ غير منطقي بالمعايير التقليدية، لكن يوتيوب ليست بشركة تقليدية.

لم تدفع شركة جوجل مقابل الخبرات التي يضمها ذلك المكتب الكائن في سان برونو، بل دفعت مقابل ملايين المستخدمين الذين ينشئون مقاطع الفيديو وينشرونها على يوتيوب، ومقابل حركة زيارة الموقع التي يحققونها. باختصار، دفعت شركة جوجل مقابل المجتمع الإلكتروني؛ أي هؤلاء الذين يستخدمون الموقع للدخول في حوار بلغة الصور المتحركة. ليست شركة يوتيوب الشركة الوحيدة التي يعد رأسمالها الوحيد هو المجتمع الإلكتروني؛ إذ توظف شركة فيسبوك ما يقرب من سبعمائة فرد، وهو الحد الأدنى من العاملين اللازم لإدارة شركة بلغت قيمتها — حين استثمرت مايكروسوفت في موقع التواصل الاجتماعي هذا — ما يقرب من ١٥ مليار دولار. واعتبارًا من أوائل عام ٢٠٠٧ لم يكن يعمل في موقع ويكيبديا إلا خمسة أشخاص فقط، وعلى النقيض من ذلك، اشترك في كتابة محتوى موقع الموسوعة البريطانية (إنسايكلوبيديا بريتانيكا) ما يربو على أربعة ألاف مساهم يتلقون أجرًا، ومائة محرر بدوام كامل. في هذه الحالات، يحل المجتمع الإلكتروني محل الشركة.

لن تختفي الشركات التقليدية في المستقبل القريب، إلا أن هيمنتها مهددة بالتأكيد؛ فرغم سيطرتها التي لا جدال فيها والتي امتدت على مدى القرن العشرين، فإن هيكل الشركات التقليدي من إبداع الثورة الصناعية. إن الوظيفة الأساسية للشركات — كما أشار عالم الاقتصاد البريطاني رونالد كوس في مقاله عام ١٩٣٧ «طبيعة الشركات»: هي خفض تكاليف المعاملات التجارية.٣ وأوضح كوس أنه على النقيض من وجهة النظر الشائعة، فإن السوق ليست فعالة على الدوام؛ وذلك لأنه طالما كانت السلعة نادرًا ما تتوافر فورًا بالكمية التي قد يرغبها المستهلك وفي الوقت الذي قد يرغبها فيه تمامًا، فستكون هناك تكاليف إضافية لا بد من تضمينها في قيمة المعاملة التجارية. يقول كوس متسائلًا: كم استغرق المشتري من الوقت في البحث عنها؟ إذا كان المشتري شركة، فهل خاطرت بالكشف عن استراتيجية تجارية، أو سر تجاري، مقابل الحصول على السلعة؟ كل هذا وأكثر لا بد من دمجه داخل تكلفة المعاملة التجارية، وأضاف كذلك أن الشركة تظهر على الساحة عندما تصبح أكفأ في إنتاج سلعة داخل الشركة عن التعاقد مع بائع خارج الشركة لتقديمها، وستستمر الشركة في النمو إلى أن تبدأ في الانهيار، وفي تلك المرحلة يصير من الأرخص مجددًا تعهيد الأعمال للخارج عبر السوق. هذا الأمر أصبح من البديهيات اليوم، ولا شك أن الشركة ستستمر في كونها الوحدة الأساسية للإنتاج الاقتصادي.
لكن الزمن تغير منذ أن كتب كوس مقالته، ولنؤكد الحقيقة الواضحة، فظهور الإنترنت قد غير الطريقة التي تنفذ بها الأعمال، وكانت النتيجة أن طبيعة الشركات تغيرت أيضًا. ففي حين أن التطورات في عالم تكنولوجيا الاتصالات — كما تنبأ كوس — أدت بصورة عامة إلى ظهور شركات أكبر وأضخم حجمًا، تمارس ثورة المعلومات قوة مضادة فعالة، كما أثبت أستاذ الإدارة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا توماس مالون. ذكر مالون في كتابه «مستقبل الأعمال: كيف سيشكل النظام الجديد للأعمال مؤسستك وأسلوبك الإداري وحياتك»٤ أنه في حين «مثلت المركزية الركن الأساسي لتنظيم الأعمال في القرن العشرين، اندرج أسفل هذا الركن أمور أعقد.» وجاء في دراسة أجراها مالون وزملاؤه بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أنهم وجدوا أن الحجم المتوسط للشركات في العديد من المجالات يتقلص، مما يعد مؤشرًا على انخفاض تكاليف التعاملات التجارية سريعًا نتيجة للكفاءات التي يولدها الإنترنت. ويذكر مالون أنه من الواضح أن أكبر جهة توظيف في القطاع الخاص بالولايات المتحدة في الوقت الراهن ليست «جنرال موتورز أو آي بي إم أو وول مارت»، بل وكالة التوظيف المؤقت مانباور إنكوربريتد، التي وظفت ٤٫٤ مليون شخص اعتبارًا من عام ٢٠٠٨.

إن الزيادة المثيرة في تعهيد الأعمال للخارج مؤشر واضح على أن الشركة لم تعد الكيان المستقل الذي ساد في العقود الماضية، ويؤكد مالون أن هناك ديناميكية أعمق ذات فاعلية. تتخطى حجته الجوهرية في كتاب «مستقبل الأعمال» إلى النظرية التنظيمية؛ إذ ميز مالون بين ثلاث مراحل فيما يطلق عليه «النمط المذهل» في تطور الشئون الإنسانية. في المرحلة الأولى، يعمل الناس في مجموعات صغيرة غير متصلة، وفي المرحلة الثانية، تتشكل مجموعات أكبر ويصبح صنع القرار مركزيًّا، وفي المرحلة الثالثة، «تبقى المجموعات الكبيرة، غير أن صنع القرار يصبح لامركزيًّا أكثر.» في عالم السياسة اتخذ هذا الأمر شكل الديمقراطية، ويهيمن الآن هذا النمط المذهل على عالم الأعمال. كتب مالون: «يمكننا أن نتوقع رؤية مزيد من اللامركزية، حيثما: (أ) تنخفض تكاليف الاتصالات، و(ب) يولد الحافز والإبداع والمرونة والمزايا الأخرى للحجم الصغير مكاسب تجارية.» يستشهد مالون بأن تلك الشركات كهيوليت-باكارد ودبليو إل جور آند أسوشيتس (مُصَنِّعَة أقمشة جور تكس) وفيزا إنترناشيونال مثال على المؤسسات التي تظهر هذا التوجه نحو اللامركزية. ومن منطلق هذا الرأي، لا تصير الشركة شيئًا باليًا، وذلك لأنها تتطور إلى واحد من بين العديد من الأنواع المرتبطة ببعضها بشدة داخل بيئة متزايدة التعقيد. بعبارة أخرى، أصبحت الحدود التي فصلت في السابق بين الشركات والكيانات الأخرى في ذلك النظام البيئي — كالموردين والمتعاقدين والعملاء — أكثر مرونة.

في عام ٢٠٠٥ نشر إريك فون هيبل، رئيس مجموعة الابتكار والمغامرة التجارية بكلية سلون للإدارة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، كتاب «تعميم الابتكار»، الذي يوضح فيه كيف أن العملاء يستحوذون على عملية الابتكار لأنفسهم، كتب فون هيبل: «إن المستخدمين المبتكرين يمكنهم إضافة التطويرات التي يرغبون فيها تمامًا، بدلًا من الاعتماد على المُصَنِّعِين لأداء دور الوكلاء لهم (وهو الدور الذي غالبًا ما يلعبه المصنعون دون كفاءة).»٥ فمن فكر في إضافة شرائط لربط القدم بألواح التزلج على الماء؟ ليست الشركات. ففي عام ١٩٧٥ بدأت صفوة الرياضيين في استخدام ألواح تزلج لركوب الأمواج، لكن كما يقول راكب الأمواج لاري ستانلي متذكرًا: «كانت المشكلة أن راكب اللوح كان يطير في الهواء بعيدًا عنه وذلك لأنه لم يكن ثمة طريقة للحفاظ على بقائه أسفل القدم.» لذا سرعان ما بدأ راكبو الأمواج في تجريب شرائط لتثبيت القدم، ولم يمض وقت طويل حتى بدأت المصانع تركيبها في المنتج الذي تصدره.»
وضح فون هيبل أنه في مجالات واسعة النطاق كالأجهزة العلمية والدراجات الجبلية وشرائح الحاسب الآلي، كانت مهمة الابتكار تنتقل من المصنع إلى المستخدم، الذي كان لديه كل من الاحتياج المُلحّ والقدرة الأكبر على تطوير أداء منتج ما. دخلت الشركات التي تبنت ذلك التغير في علاقة إبداعية مع عملائها، حتى إنها ذهبت إلى تزويدهم بالأدوات لمساعدتهم في تصميم المنتجات النهائية. وصاغ الكاتب وأستاذ التكنولوجيا كلاي شيركي مصطلحًا لهذه الظاهرة، وهو «انتقال الأعمال من الشركات إلى العملاء»؛٦ التي ينقل فيها المصنع ببساطة عبء وظائف بعينها — الابتكار في هذه الحالة — إلى العملاء في اتجاه عكسي عبر سلسلة الإمداد، بعد ذلك تعطي الشركة الابتكار شكلًا تجاريًّا وتبيعه مرة أخرى إلى العميل، الذي يكون في هذه الحالة مُوَرِّدًا أيضًا. قد يتلقى العميل أو لا يتلقى مكافأة مباشرة مقابل إسهامه، وفي الحالتين تكمن المكافأة الحقيقية في صدور منتج مطور، وهي نتيجة تستفيد منها كل الأطراف.

يقدم فون هيبل ملاحظة مفيدة أخرى نرى صداها في تعهيد الأعمال للجماهير: لا يبتكر العملاء بمعزل كامل بعضهم عن بعض، ويقول: «إن المستخدمين الأفراد ليسوا مضطرين لتطوير كل شيء يحتاجونه بأنفسهم؛ إذ يمكنهم الاستفادة من الابتكارات التي طورها آخرون وشاركوهم فيها طواعية.» وعلى حد تعبير فون هيبل فهم يشكلون «مجتمعات لابتكارات المستخدمين»، إنهم لا يفعلون ذلك من منطلق الحاجة إلى الاندماج مع من لهم نفس الميول — مع أن هذا الأمر يلعب دورًا أيضًا بلا شك — بقدر ما إن بنية المجتمع تقدم مزايا هائلة للمبتكرين الأفراد. «يمكن إتاحة غرف الدردشة وقوائم البريد الإلكتروني للجميع بحيث يتسنى للمشاركين تبادل الأفكار وتقديم المساعدة المتبادلة. كذا يمكن تقديم الأدوات التي تساعد المستخدمين على تطوير عملهم وتقييمه ودمجه لأفراد المجتمع، وغالبًا تتطور مثل هذه الأدوات على يد أفراد المجتمع أنفسهم.» تشبه مجتمعات المستخدمين هذه إذن مجتمعات المساعدة المتبادلة أو الجمعيات التعاونية، ومن أجل أن تؤدي مثل هذه المجتمعات بفاعلية، يوافق الأعضاء المستقلون على الالتزام بقاعدة اجتماعية مقبولة؛ فهم «يفصحون عما صنعوه طواعية»؛ أي يتخلون عن أي حقوق ملكية في ابتكاراتهم الخاصة، ويُوجَدُ المجتمع الإلكتروني لتطوير اختراعات أفراده فيما بينهم.

تقدم هذه المجتمعات مزايا هائلة للشركات التي «يعملون» لمصلحتها؛ فهم أكثر كفاءة في تنظيم ذلك العمل وأدائه مما قد تكون الشركة عليه، فالشركة لا تجد نفسها غير مضطرة لتقديم مقابل مادي للاختراعات فحسب، بل تظل تكاليف المعاملات المرتبطة بالابتكارات في أدنى مستوى لها. كذا ليست الشركات مضطرة للتعرف على المبتكرين واستخدامهم أو إدارة إنتاجياتهم أو تقييم إسهاماتهم؛ إذ يقوم المجتمع بكل هذا نيابة عنها، لكن هذا يتعارض مع مضمون العديد من افتراضاتنا الخاصة بكيفية عمل اقتصاديات السوق والنظم الاقتصادية الرأسمالية. ما الذي يدفع الناس إلى التصرف بهذه الطريقة التي تبدو إيثارية؟

هذا سؤال من بين العديد من الأسئلة التي يتناولها الباحث القانوني بجامعة هارفارد يوكاي بنكلر في كتابه «ثروة الشبكات: كيف يغير الإنتاج الاجتماعي الأسواق والحرية» الصادر عام ٢٠٠٦.٧ يستخدم بنكلر دراسات حالة عن جوجل ومشاركة الملفات بنظام الند للند وبرامج المصدر المفتوح والويكيبديا لإثبات أن نموذجًا جديدًا من الإنتاج الاقتصادي — ما يطلق عليه بنكلر «الإنتاج الاجتماعي» — قد ظهر. (يُعرف بنكلر الإنتاج الاجتماعي بأنه «مشروعات تعاونية بين أفراد تُنَظَّمُ دون وجود أسواق أو تسلسلات وظيفية إدارية».) تقع الحوافز ضمن فئات خارجية وداخلية، ويمكننا النظر إلى الحوافز الخارجية على أنها تتكون من الجزرة (المكافأة المادية) والعصا (توبيخ من رئيسك في العمل). على الجانب الآخر، تتألف الحوافز الداخلية من أهداف كالإنجاز الإبداعي أو الإيمان بالمشروع أو حس بالالتزام الاجتماعي أو فرصة لتحسين سمعة الفرد داخل المجتمع. ووفقًا للدراسات الاستقصائية، تلعب الأسباب الداخلية دورًا أكبر من الخارجية في تحفيز مهندسي برمجيات المصدر المفتوح، وهذا يساعد على تفسير سبب رغبة الأفراد في مراجعة الكتب لمصلحة موقع أمازون أو تصميم تي شيرتات لمصلحة ثريدلس أو تخصيص وقت طويل لتعليم المستجدين بموقع آي ستوك فوتو أسسَ التصوير الفوتوغرافي، فغالبًا ما يوفر المجتمع الإلكتروني سياقًا تتواجد فيه هذه الحوافز.

ما يبقى لنا أن ندركه أنه كما يقول بنكلر: «في أي ظروف يمكن أن تتحول هذه التصرفات الاجتماعية العديدة والمتنوعة إلى نمط مهم للإنتاج الاقتصادي.» بعبارة أخرى ما الذي يجعل من مجتمعات الإنترنت قوى عاملة أكثر فاعلية من أخرى تحت إدارة شركة؟ إن الإجابة الوجيزة هي أن تلك المجتمعات أفضل في كل من تحديد الموهوبين وتقييم إنتاجهم، ويتزايد وجود هاتين العمليتين في صميم اقتصاد المعلومات الذي لا تكون المادةُ الأوليةُ فيه الحديدَ أو الفولاذَ، بل «العمل الإبداعي الإنساني» على حد تعبير بنكلر.

يشتهر هذا المورد بأنه من الصعب قياسه وتنظيمه وتوجيهه، وهنا يأتي دور المجتمع الإلكتروني. تخيل المشكلة التي كان من الممكن أن تظهر لو تعين على لاري سانجر وجيمي ويلز تحديد الشخص المثالي لكتابة كل مقالة من بين ٢٫٢ مليون مقالة بموسوعة ويكيبديا، أو لو تعين على صحيفة سينسيناتي إنكوايرَر تحديد أي الأمهات جديرة بأن تقرر من هو أفضل طبيب أطفال في سينسيناتي. من يجب أن يكتب المقالة الخاصة بدولة أوزبكستان؟ لا يعرف ويلز، لكنه ليس مضطرًا لأن يعرف. إن الشخص الذي يمتلك المزيج المناسب من الموهبة والرغبة وبضع ساعات من وقت الفراغ سيأخذ هذه المهمة على عاتقه. كتب بنكلر قائلًا: «وحالما يحدد الفرد نفسه لمهمة ما، يمكنه مباشرتها بعد ذلك دون إذن أو عقد أو توجيه.» وحينئذ تكون تكلفة المعاملة التجارية صفر.

لكن ماذا لو غالى المساهم في تقدير قدراته؟ غالبًا ما يفعل الناس ذلك، لكن المجتمع الإلكتروني تعامل مع هذا الأمر أيضًا. في الشركات التقليدية، تُخَصَّصُ مستويات إدارية كاملة لمراقبة الجودة: تقييم الإنتاج وإنتاجية موظفي الشركة. ولكن على النقيض من ذلك، تتمتع مجتمعات الإنترنت برقابة ذاتية في أغلب الأحيان. فالحقيقة هي أنه نادرًا ما يكتب مقالات الويكيبديا شخص واحد، بل مجتمع فرعي صغير في نطاق مجموعة أكبر من المساهمين. لهذا السبب سرعان ما تُصَحَّحُ الأخطاء، وتوفر هذه الخطوة المادة الرغوية اللاصقة التي توحد صفوف المجتمع معًا. إنه السر الصغير غير الأخلاقي لويكيبديا أن نوعًا من البيروقراطية نشأ للحفاظ على المعايير التحريرية للموقع الخاصة بالصدق والحيادية؛ حيث يراقب كلَّ صفحة ويكيبديا «أحدُ رجال الويكيبديا»؛ إذ يقوم على رعاية تلك الصفحة وكأنه بُستّانيّ يرعى حديقة. لكن من جديد نجد أن الأشكال التنظيمية تحاكي تلك الخاصة بالمجتمع الإلكتروني أكثر من تلك الخاصة بالشركات؛ فقد تجمع نظام تشغيل لينكس على يد مجموعة حرة من المبرمجين، لم يتقابل سوى القليل منهم وجهًا لوجه، وكان لينس تورفالدز قادرًا على توجيه جهودهم، وكتب بنكلر قائلًا إنه نظرًا «لأن سلطته كانت إقناعية، وليست قانونية أو فنية، وليست حاسمة بالتأكيد، لم يكن بيده فعل شيء باستثناء إقناع الآخرين لمنعهم من تطوير أي شيء يحلو لهم وإضافته إلى المشروع.» وتعمل موسوعة ويكيبديا بالطريقة نفسها.

ما مدى الانتشار الذي سيحققه الإنتاج الاجتماعي — تعهيد الأعمال للجماهير — لكافة الأهداف والغايات؟ أتذْكُر «المليار» مستخدم للإنترنت؟ «قد يمتلك هؤلاء ما بين ملياري وستة مليارات ساعة من وقت الفراغ يوميًّا.» لا يقع العبء حينئذ على الجماهير؛ بل على الشركات وأصحاب الأعمال الحرة وأي شخص آخر يملك فكرة سديدة للتوصل إلى كيفية وضع الفكرة موضع التنفيذ.

(٣) الدور المجتمعي

هذا الأمر ليس جديدًا كما يبدو للوهلة الأولى، فأصل المجتمعات الإنسانية يكمن في المصلحة الذاتية والمنفعة الاقتصادية المتبادلة. كانت المجموعات الأولى من البشر في أساسها جمعيات تعاونية للصيد، وكان مهد البشرية عالمًا وحشيًّا وخطيرًا وفرت فيه قوة الأعداد الغذاء والحماية من الحيوانات الضارية. وفي النهاية ظهرت الزراعة، وأدت إلى قيام مدن وحضارات مبكرة في مصر وأرض الهلال الخصيب وجبال الإنديز ببيرو، كذا عزز الفائضُ من المحاصيل الزراعية تطورَ التجارة واللغات المكتوبة، وسرعان ما تشكلت طبقة حاكمة وإلى جانبها كهنة لإضفاء الشرعية على هذه الطبقة، ونظم بيروقراطية لإدارة شئون البلاد. اقتضى التعقيد المتزايد لهذه المجتمعات الأولى تقسيم القوى العاملة إلى حرف، من الموظفين إلى الحدادين وعمال البناء. ومن جديد، تشكلت المجتمعات لخدمة المنفعة المتبادلة لأفرادها، سواء كانت لتعزيز مصالح إحدى القبائل أو لجمع النساجين بالمدينة داخل طائفة حرفية.

لم يتغير الكثير خلال الألفية التالية، فقد كان الاتصال بين أي مكانين تفصلهما مسيرة يوم على ظهر الحصان أمرًا صعبًا، لذا كانت المجتمعات بطبيعة الحال منظمة في إطار خطوط جغرافية؛ فكان صانعو البراميل بمدينة ماستريخت على اتصال ضعيف بصانعي البراميل بمدينة آخن، مع أن المسافة الفاصلة بين المدينتين عشرون ميلًا فقط. وعلى مدار العصور الوسطى وعصر النهضة، ظل المجتمع حجر الأساس لكافة المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية، فقد شكل الإقطاعيات والمقاطعات وفي اليابان ظهرت العائلات الإقطاعية المعروفة بالهان.

غيرت الثورة الصناعية طبيعة المجتمع إلى الأبد، وفي حين أصبحت الشركة الهيكل المميز للنشاط الاقتصادي، ارتقت المجتمعات — وانحدرت — إلى أداء دور خارج الاقتصاد الكبير، فأصبح أفراد المجتمع مشاركين في مسابقات صنع المخبوزات التي تنظمها الكنائس وأعضاء نوادي البريدج ومجلس الآباء والمعلمين ومجالس نوادي الروتاري وأيضًا — صَدِّقْ ذلك — نوادي البولينج. مع ذلك لا يزال يسهم المجتمع في الاقتصاد حتى في ظل هذه الأشكال الجديدة، لكن في أشكال كان من الصعب التعرف عليها، ناهيك عن تحديد كميتها. وما إن نظمت الشركات رأس المال المادي والبشري، حتى شكل المجتمع الأساس لرأس المال الاجتماعي. ويُعَرِّفُ روبرت بوتنام أستاذ العلوم السياسية في كتابه «لعب البولينج وحيدًا» رأس المال الاجتماعي بأنه: «خصائص المؤسسة الاجتماعية كالشبكات والأعراف الاجتماعية والثقة الاجتماعية التي تيسر التنسيق والتعاون لتحقيق المنفعة المتبادلة.» يقدم رأس المال الاجتماعي الوقود الذي يحافظ على عمل الآلية الاقتصادية بسهولة.٨

يميز بوتنام بين نوعين من رأس المال الاجتماعي، رأسمال العلاقات الاجتماعية الوطيدة ورأسمال العلاقات الاجتماعية العابرة. يوجد الأول بين أفراد العائلة والأصدقاء المقربين، فهو جزء حيوي من رفاهيتنا العاطفية ولا يسهم إلا بالقليل في تعزيز النمو الاقتصادي. أما رأسمال العلاقات الاجتماعية العابرة، فيتشكل من الثقة التي تنمو بين المعارف. تصل الشبكات الاجتماعية هذه بين مجموعات مختلفة، ووفقًا لما قاله بوتنام فإنها مكون حيوي في اقتصادنا؛ إذ كتب يقول: «يمثل رأسمال العلاقات الاجتماعية الوطيدة نوعًا من مادة مجتمعية لاصقة قوية للغاية، في حين أن رأسمال العلاقات الاجتماعية العابرة يمثل مادة لإزالة الصدأ وتخفيف الاحتكاك.»

وفقًا لكتاب بوتنام فإن هذه المادة الاجتماعية المخففة للاحتكاك راح وجودها يندر يومًا بعد آخر، ويوضح كتاب «لعب البولينج وحيدًا» — المبني على دراسات بحثية عميقة — كيف وصلت المساهمة في المجموعات المجتمعية إلى أوجها في نهاية التوسع الاقتصادي الطويل بالخمسينيات والستينيات، ثم بعد وصوله إلى هذه الذروة، دخل المجتمع — وفق المنظور الذي أصبح الناس يرونه من خلاله — في انهيار طويل لا رجعة فيه على ما يبدو. توقفت بيانات بوتنام مع أواخر التسعينيات (صدر الكتاب عام ٢٠٠٠)، وزعم أن معدلات فخر الناس بمدينتهم في أمريكا بلغت أدنى مستوى لها في تاريخ البلاد. يقدم بوتنام عددًا هائلًا لأسباب هذا التفكك المدني الجماعي من بينها اقتحام المرأة سوق العمل وإحلال المراكز التجارية محل أكشاك بيع المياه الغازية الصغيرة وانتشار الضواحي وإلغاء التمييز العنصري وهجرة البيض من المدن وبالطبع انتشار ذلك الشيء اللئيم متعدد الأغراض وهو التلفزيون.

ينتقد الكثير من الناس أطروحة بوتنام، فلم تكن الأقليات العرقية ذات أهمية كبيرة بنوادي الروتاري أو الإلكس كما توضح مليسا تشيكر، أستاذة الأنثربولوجيا والتخطيط العمراني بجامعة نيويورك سيتي. فتناقص العضوية في هذه المنظمات يقلل من تأثير أي نزعات قد تحدث في مجتمعات الأقلية، وتقول تشيكر: «يمكن تلخيص تحليل بوتنام على النحو التالي: لديه تعريف ضيق للمجتمع. ومن الممكن أن أجادل بأن المجتمع لم يدخل في أي انهيار، بل أخذ صورًا جديدة فحسب». التأم العديد من هذه الصور الجديدة على الإنترنت، وهي التي تسبب ثورة في الطريقة التي ننجز بها الأعمال. سواء اتفقنا أو لم نتفق مع افتراض أن الأمريكيين صاروا متقوقعين ومنعزلين أكثر من أي وقت مضى وقلت احتمالات وثوق بعضهم في بعض مع نهاية الألفية، فذلك أمر غير ذي صلة بالموضوع في سياق مناقشة تعهيد الأعمال للجماهير، فما يهم هو ماذا حدث بعد.

(٤) المكان الثالث

لم يسمع الكثير من الناس عن الإنترنت في منتصف الثمانينيات. بدأ الإنترنت كمشروع بوزارة الدفاع الأمريكية في أواخر الستينيات، وعلى مدار خمسة عشر عامًا أدى الإنترنت في الأغلب دور منتدى لمبرمجي الحاسب الآلي وأساتذة الجامعات. لكن في فبراير (شباط) عام ١٩٨٥ قرر رجل أعمال يدعى ستيوارت براند وطبيب أخصائي وبائيات يدعى لاري بريليانت استخدام هذه التقنية في إنشاء مجتمع بإمكانه التغلب على القيود الجغرافية. لم تكن فكرتهما الأولى من نوعها كليةً، ففي واقع الأمر تنبأ جي سي آر ليكلايدر، أحد الباحثين بوزارة الدفاع الذي طور شبكة الحاسب الآلي الأصلية، أن الشبكة سَتُسْتَخْدَمُ يومًا ما في تعزيز الروابط بين المجتمعات. وكتب ليكلايدر في مقال نشر عام ١٩٦٨: «ستكون الحياة أسعد لمستخدمي شبكة الإنترنت لأن الأشخاص الذين يتفاعل معهم الفرد سَيُخْتَارُونَ بأسلوب أقوى تمامًا وفقًا للاهتمامات والأهداف المشتركة أكثر من القرب المكاني.»

اتضح أن نبوءة ليكلايدر مذهلة في دقتها؛ ففي ١ أبريل (نيسان) عام ١٩٨٥ أطلق براند وبريليانت شبكة «الرابط الإلكتروني للأرض بأسرها»٩ المعروفة اختصارًا ﺑ«ويل» WELL ولما كان براند مؤيدًا مخلصًا لحركة «الثقافة المضادة» التي بدأت في سان فرانسيسكو، فقد راح منذ عام ١٩٦٨ ينشر «فهرس الأرض بأسرها» وهو نشرة دورية معارضة للعادات والأعراف الاجتماعية. خلق مجتمع «الرابط الإلكتروني للأرض بأسرها» مكانًا ثالثًا (الاسم الذي أطلقه أخصائي علم الاجتماع راي أُلدِنبِرج على المقاهي والحانات ومكاتب البريد، والأماكن الأخرى التي خدمت في السابق كقلب المجتمعات التقليدية) افتراضيًّا بين المنزل والعمل. كان الاشتراك المجاني متوفرًا لأعضاء مختارين من مجتمع ويل الفرعي، بينما تعين على أي شخص آخر دفع ٨ دولارات شهريًّا. وعلى مدار الأعوام العشرة التالية، أصبح مجتمع ويل أحد أكثر المجتمعات تأثيرًا في أمريكا، مع أنه لم يتقابل شخصيًّا سوى القليل من أفراده.

حاكت البنية التحتية للرابط الإلكتروني للأرض بأسرها البنية التحتية لمجتمع إنترنت كان سابقًا عليها ويعرف باليوزنت. جاءت بداية اليوزنت عندما أنشأ طالبان بالدراسات العليا من جامعة ديوك رابطًا بجامعة نورث كارولينا المجاورة. تقاسمت هذه الشبكة مع شبكة ويل بنية تحتية مرتكزة حول فكرة التشابه. وبالتطابق مع نبوءة ليكلايدر، فسوف تنتظم مجتمعات الإنترنت في إطار الاهتمام بدلًا من الجغرافيا، فقد ضمت مجموعات اليوزنت موضوعات على غرار «الحاسب الآلي»، و«ترفيه وتسلية» و«إنسانيات». وقُسِّمَتْ هذه الموضوعات الشاملة إلى مئات الموضوعات الفرعية فصار من الممكن أن تجد ضمن قسم «ترفيه وتسلية» على سبيل المثال «ترفيه، رياضة، كليات، كرة قدم».

كان للقرار الذي اتخذه بضعة علماء كمبيوتر في هذه السنوات الأولى والخاص بإنشاء طوبولوجيا قائمة على الاهتمامات المشتركة نتائج شديدة الأهمية. فخلال الأعوام التالية ظهرت الشبكة العنكبوتية الدولية لتجعل من الإنترنت وسيلة شديدة الشيوع والإفادة. إن المليار فرد الذين لديهم اتصال منتظم بالإنترنت ينظمون أنفسهم عادة في إطار مبدأ التشابه، فيما تظل اعتبارات أخرى — الجغرافيا والطبقة الاجتماعية ومستوى التعليم — محل نقاش.

تكيفت المجموعات — التي تشكلت وفقًا لمبدأ التشابه — على نحو فريد مع مهمة إنتاج المعلومات؛ فالخبراء المختصون في دولة أوزبكستان يراقبون المقالة الخاصة بالبلاد على ويكيبديا، وينجذب مزيج من المصورين المبتدئين والخبراء إلى موقع آي ستوك فوتو، بينما راح ذوو الطموح في مجال صحافة الفيديو ينجذبون إلى موقع كارنت تي في بين العديد من المواقع. وعن طريق تنظيم «المليار» مستخدم للإنترنت، لم تجعل طوبولوجيا الإنترنت الفرصة سانحة لنهضة تعهيد الأعمال للجماهير عبر الإنترنت فحسب، بل أيضًا كفلته تقريبًا.

كان هناك الكثير من المخاوف حول طبيعة المجتمعات الافتراضية، وتركزت الانتقادات عمومًا حول فكرة أن الوقت الذي نقضيه على الإنترنت يقلل من الوقت الذي نمضيه في الاندماج في العلاقات الاجتماعية العامة المباشرة التي تشكل حجر أساس المجتمع. إن ما ظهر في الأعوام الأخيرة، لا سيما في ضوء الشعبية الهائلة لمواقع التواصل الاجتماعي على غرار ماي سبيس، هو أن الناس تنشئ أشكالًا جديدة من المجتمع تؤدي العديد من الوظائف نفسها كتلك التي ناقشها بوتنام.

الجلي هنا أن مجتمعات الإنترنت تؤدي إلى زيادة في وجود رأسمال اجتماعي عابر على مستوى عالمي وواسع النطاق. ففي حين أن المجتمعات على شبكة الرابط الإلكتروني ويوزنت كانت صغيرة، كان «للمكان الثالث» الذي استطاعت إنشاءه أصداء في مواقع التواصل الاجتماعي الضخمة الحالية، فموقع الفيسبوك يضم ٧٠ مليون عضو وموقع ماي سبيس ١١٠ مليون عضو، أما موقع بيبو — وهو موقع اجتماعي شهير في أوربا — فيضم ٤٠ مليون مستخدم. وهذا لا يشمل كافة مجتمعات الإنترنت الأصغر المكرسة لمجالات اهتمام محددة، على غرار آي ستوك فوتو أو هاري بوتر فان فيكشن، على سبيل المثال. تعزز بنيةُ مواقع التواصل الاجتماعي الروابطَ بين مجموعات الأصدقاء وفيما بينهم. وبهذه الطريقة تكون مصممة لهدف وحيد تقريبًا وهو بناء مخزون من رأسمال العلاقات الاجتماعية العابرة.

إننا ما زلنا الآن في بداية وعينا بأثر النمو السريع في مجتمعات الإنترنت على اقتصادنا وثقافتنا، لكن تظهر الدراسات الحديثة «علاقة متينة» بين مواقع كالفيسبوك ورأس المال الاجتماعي بخاصة من فئة العلاقات الاجتماعية العابرة. لهذا الأمر صلة خاصة بتعهيد الأعمال للجماهير، تقتضي تعاونًا بين أفراد متناثرين على مساحة واسعة لا تربطهم سوى معرفة غير مباشرة أحدهما بالآخر، وهو مورد بدأنا استغلاله لتونا.١٠

(٥) مجتمع الإنترنت في عالم الأعمال

لا يبدو جاك هيوز رجلًا ثوريًّا من قريب أو بعيد، فهو قصير القامة، قوي البنية وجاد قليلًا. يقصر هيوز شعره بشدة حتى إن جنودًا بالمارينز — المعروفين بقصة شعرهم القصيرة — يرون أنه مبالغ في قص شعره. في عام ١٩٨٥ أي بعد عام من تخرجه من كلية بوسطن بدرجة علمية في علوم الحاسب الآلي، أسس هيوز شركة برمجيات تدعى تالان. وبعد مرور خمسة عشر عامًا كان يعمل بشركته ما يزيد على ستمائة شخص، فيما لم يكن بإمكانه تذكر آخر مرة استطاع فيها أن يأخذ عطلة، وفي مارس (آذار) ٢٠٠٠ اتصل بإحدى الشركات التي كان تسعى للاستحواذ على شركته وباعها مقابل ٩٢٠ مليون دولار.

رغم ذلك لم يحصل هيوز على عطلته، ففي يوم جمعة من شهر مايو (أيار) من ذلك العام، خرج من مبنى تالان للمرة الأخيرة، وفي الاثنين التالي دخل إلى مكتب قد استأجره لمغامرته التجارية التالية، التي أطلق عليها «توب كودر». كانت فكرته إنشاء موقع ويب يتنافس فيه المبرمجون للحصول على جوائز نقدية، على أن ترعى هذه المسابقات شركات التكنولوجيا الكبرى — إنتل وجوجل ومايكروسوفت — والتي ستستخدمها للتعرف على المواهب الشابة من المبرمجين. كانت فكرة منطقية، لكن هيوز لم ينشأ شركة توب كودر لتشجيع شباب المبرمجين، بل أسسها لأنه كان منزعجًا من صناعة البرمجيات ووصفها قائلًا: «إنها رخوة»، مضيفًا: «من الأمور الشائعة عن تطوير البرمجيات أن لا شيء يأتي في الوقت المحدد، وأنها تتخطى الميزانية، وأنها دائمًا مليئة بالأخطاء، وهناك سبب وراء هذه السمعة: إنها صحيحة.» أراد هيوز أن يضيف إلى المجال شيئًا من النظام ومراقبة الجودة الشائعة أكثر في تصنيع السلع التقليدية المادية. أثناء توقف العمل بشركة تالان تنافس المبرمجون فيما بينهم في مسابقات غير رسمية. ولاحظ هيوز أن شفرات الحاسب الآلي الناتجة عن هذا التنافس أفضل من الشفرات التي كان يدفع لهم أجورهم لكتابتها، فلماذا إذن لا يجعلهم في حالة تنافس طوال الوقت فيما بينهم؟

أخذت شركة توب كودر هيكل سلسلة المسابقات الخاص بالجمعية الوطنية للرياضيين في الجامعات وطبقته على مسابقات البرمجة. يتعين على المتنافسين إنشاء نظام حلول حسابية لحل مشكلة بسيطة، على غرار العثور على أسرع طريق داخل متاهة أو أفضل مجموعة نقلات لإنهاء مباراة شطرنج، على أن ترسل الحلول في غضون ساعة، وحينها يحاول المبرمجون تحدي بعضهم بعضًا من خلال «دحض» كل منهم نظم حلول الآخر. وإذا تخطى المشتركون جولة التحدي، يحاول فريق توب كودر انتقاء الحل المليء بالثغرات، والفائز هو أي مبرمج ينجح في التعامل مع هذه الصعاب. «كانت هناك كافة ضروب المساعي الإنسانية التي تُكافأ بها الموهبة لأن المسابقات جاءت في سياق المنافسات الرياضية، لذا وضعنا البرمجة في هذا السياق». كما أنشأت شركة توب كودر «أوراق لعب» لكل مبرمج مرفقًا بها ملخص نتائج المباراة. لكن هيوز كان يفكر فيما هو أكبر من عقد المسابقات فقط، لم يسمع من قبل عن يوشاي بنكلر، لكنه كان على وشك تنفيذ أفكاره.

انتشر الخبر سريعًا بين مجتمع المبرمجين أن هناك موقعًا يعقد منافسات أسبوعية. لم تكن الجائزة المالية ضخمة، لكن المباريات الأسبوعية كانت ممتعة، وإذا أحسنت الأداء، يمكنك الحصول على فرصة عمل رائعة مع شركة كجوجل. كان الأمر جذابًا لشباب المبرمجين الذين يملكون الوقت أكثر من المال، وبخطى ثابتة وبطيئة نمت شركة توب كودر.

لكن هيوز أراد أن تقوم شركة توب كودر بما هو أكبر من إدارة المسابقات فقط، حتى عندما كانت الشركة في مرحلة البداية، أدرك هيوز أنه إذا أسس مجتمعًا ضخمًا بما يكفي يمكنه تحويل طاقتهم إلى إنتاج برمجيات حقيقية لعملاء حقيقيين. سيأخذ التطوير مع ذلك شكل المسابقات الودية، باستثناء أن العمل الذي ينجزه المتسابقون سيجمع بوصفه جزءًا من برمجيات أكبر خاصة بالشركات المدرجة بقائمة مجلة فورتشن لأفضل ١٠٠٠ شركة. وبحلول عام ٢٠٠٣ كان ما يقرب من سبعة آلاف مبرمج يتصفح بانتظام المباريات الأسبوعية التي تعقدها توب كودر، وما يقرب من ٢٠ في المائة منهم فاز بمسابقة ذات مرة، وكان ما يقرب من خمسة في المائة — الصفوة الصاعدة بتوب كودر — قد فازوا باستمرار. ومع تنشيطه لمحرك تعهيد الأعمال للجماهير ليعمل بأقصى طاقة، حان الوقت للاستفادة من مجتمع هيوز.

لكن قبل أن تتمكن توب كودر من مخاطبة العملاء بنموذجها غير العادي لتطوير البرمجيات، كان على هيوز وفريق عمله وضع منهج لتقسيم المهام إلى أصغر أجزاء منفصلة ممكنة، يقول هيوز: «أدركنا منذ تأسيس الشركة أننا قد نضطر إلى تقسيم المهام الكبيرة إلى أجزاء صغيرة ومحددة للغاية.» لذا أخذت شركة توب كودر البرامج التي عادة يمكن تقسيمها إلى مائة جزء وتوصلت إلى طريقة لتقسيمها إلى ألف جزء. يقول مايكل موريس، رئيس البرمجيات بشركة توب كودر: «تتلخص الفكرة في أنه كلما كانت الكتلة أصغر، زادت طرق استغلالها.» أثبت هذا الأمر أنه ذو فائدة لعدة أسباب، أولًا: لا بد من أن تتطابق المهمة مع «دورة وقت الفراغ» لفرد ما، أو الطاقة الإضافية وهي تلك الساعات الفاصلة الواقعة أساسًا بين فترتي العمل والنوم. لكن منهج شركة توب كودر زاد من السرعة والكفاءة أيضًا، ويعلق موريس قائلًا: «إذا كان خمسة مبرمجين يعملون في مشروع ما، فلن يتسنى لهم الوقت لتقسيم المشروع إلى أجزاء، وسيضطرون إلى إنهائه خطوة بخطوة. لكن لدينا الآن مجموعة غير محدودة من الأفراد يعملون على مهمة واحدة في الوقت نفسه، وكلما استطعنا تقسيمها إلى أجزاء أصغر، تنجز المهمة أسرع بأكملها.»

كان من الممكن أن يتبع هيوز ورفاقه دليل استراتيجيات تعهيد الأعمال للجماهير، عدا بالطبع أنه لا يوجد شيء من هذا القبيل. في عام ٢٠٠٣ كانت شركة توب كودر فريدة من نوعها، إذ كانت تستخدم نموذجًا أطلق عليه هيوز فيما بعد «التعاون التنافسي». استغرق إصلاح كافة العلل بالنموذج بضعة أسابيع، يقول هيوز: «لم يكن هناك ما يسمى بتعهيد الأعمال للجماهير، لم نكن نسمع بحكمة الجماهير، لم نكن نطبق نظرية ما، بل كانت الشركة تجربة علمية!»

بحلول أوائل عام ٢٠٠٦ رسخت شركة توب كودر علاقات مع بضعة عملاء وجعلت العملية التطويرية الخاصة بهم تسير بكفاءة وسهولة أكثر. يقول هيوز: «وصل مجتمعنا أوجه، فقد كان لدينا ما يقرب من سبعة آلاف مبرمج، وهو ما رأينا أنه عدد ضخم من قاعدة المستخدمين يكفي لكتابة شفرة حاسب آلي مهمة. كان لدينا على الأرجح بعض من أفضل شباب المبرمجين في العالم ينافس كل منهم الآخر.» في هذا الوقت تقريبًا، أجرى سري كوتاي النائب الأول لرئيس قسم تطوير البرمجيات بشركة إيه أوه إل اتصالًا بشركة توب كودر طالبًا تحديد مقابلة (كان كوتاي قد ترك حينها شركة إيه أوه إل للعمل بشركة كومكاست للكابلات). سافر موريس من بوسطن (يقع مقر شركة توب كودر بجلاستونبري بولاية كونيتيكت) إلى مقر شركة إيه أوه إل بمدينة دَليس بولاية فيرجينيا لمقابلة كوتاي شخصيًّا. يتذكر موريس قائلًا: «المفارقة أنه لم يكن يعلم حتى أننا كنا نصنع برمجيات، لم يكن يريد سوى الحديث معنا عن الاشتراك في بعض المسابقات». بدلًا من ذلك أخبره موريس أنه ينبغي لشركة إيه أوه إل استخدام توب كودر لتطوير برمجيات جديدة للشركة. اقترب موريس من مكتب كوتاي ليريه مسابقة حية على موقع توب كودر، فقال له كوتاي: «هذه ليست مسابقة، هذا مستقبل تطوير البرمجيات.» سرعان ما جاء إلى مكتب كوتاي رئيس العاملين والعديد من الموظفين لمشاهدة موريس وهو يشرح لهم نموذج توب كودر. كان الاجتماع غير متوقع، ويعلق هيوز قائلًا: «كان كوتاي مبرمجًا في الماضي، لذا أدرك مدى أهمية وجود شفرة عالية الجودة.» لم يمض وقت طويل بعد هذا الاجتماع الأول حتى كلفت شركةُ إيه أوه إل شركةَ توب كودر بكتابة ثلاثة برامج: تطوير نظام البريد الإلكتروني لشركة إيه أوه إل، ونظام ترتيب للمحتويات، ونظام طموح يعمل على بيانات عالجها نظام آخر مما يتيح لتطبيق البريد الفوري الخاص بإيه أوه إل العمل بسهولة مع عملاء البريد الفوري الآخرين، كبرنامج جوجل توك أو ياهو ماسنجر.

مثلت المهمة الأخيرة أصعب اختبار لنظام توب كودر. في البداية عين موريس مصممًا ومدير مشروعات للعمل على البرنامج، كانا الوحيدين من بين العاملين بشركة توب كودر اللذين يعملان بالمشروع فقط، إذ كان المجتمع الإلكتروني ينجز باقي المشروعات. «قسموا برنامج البريد الفوري إلى اثنين وخمسين مكونًا»، ونظرًا لأن المجتمع الإلكتروني كان يصنع مكونات مشابهة — يرونها كمكعبات الليجو — لمشروعات أخرى، اتضح أن اثنين وعشرين منها صُمِّمَ بالفعل، وجاهز لإدخاله على الفور.

أما العناصر الثلاثون المتبقية فقد كانت في حاجة إلى التصميم والبناء والمراجعة والاختبار، فهي عملية شديدة الدقة، ويتم تعهيد كل خطوة منها إلى الجمهور عبر الإنترنت. التزمت شركة توب كودر بأسلوبها في تنظيم المسابقات في كل مرحلة في العملية. في البداية تنافس المجتمع الإلكتروني على تصميم كل مكون، ثم وزع الأعضاء أنفسهم على كل مهمة وفقًا لإدراكهم لمؤهلاتهم. يقول موريس: «هناك منظومة واسعة من المهارات والتخصصات في مجتمعنا، وأفراده عامةً يدركون ما يجيدونه.» يرسل المتنافسون أفضل التصميمات، وتعين شركة توب كودر بعد ذلك مجلسًا للمراجعة لتقييم كل تصميم مرسل. «نحن نعيين المراجعين وفقًا لمؤهلاتهم، وتُراجع التصميمات بالترتيب وفقًا لوقت إرسالها.» وعندما نختار تصميمًا فائزًا، يُنشر ذلك أيضًا في مسابقة، ويتعامل الجمهور معه مرة أخرى، ويحاول كل فرد كتابة شفرة لأفضل برنامج وفقًا لمواصفات التصميم المختار، ثم تُكَرِّرُ عملية المراجعة نفسها مرة أخرى، وتُخْتَار الشفرة الفائزة. في النهاية تتبقى مسابقتان؛ واحدة لتجميع كافة المكونات معًا، وأخرى لاختيار من يمكنه كتابة أفضل نص يظهر مع خطوات تشغيل البرنامج بالكامل. «نحن نسمح للمتنافسين بتشكيل فرق، ويحاول كل فريق بذل أقصى ما في وسعه لفك شفرة البرنامج.» تحاكي السيناريوهاتُ المستخدمَ: «فتفعل كافة الأشياء التي قد يفعلها المستخدم، على غرار إضافة قائمة أصدقاء، وبدء محادثة جماعية، وإنشاء رابط آمن بين الأشخاص.» في النهاية أخذت توب كودر البرنامج النهائي، وأجرت عليه عملية الترخيص، ثم سلمته إلى العميل. لم ينجز المجتمع العمل فحسب، بل كان مسئولًا عن مراقبة الجودة أيضًا.

حاز المنتج النهائي رضا شركة إيه أوه إل حتى إنها كلفت شركة توب كودر منذ ذلك الوقت بالعمل على اثني عشر برنامجًا آخر. ويقول موريس: «إن شركة إيه أوه إل تحبنا.» ولديها سبب وجيه لذلك الحب، فمعدل الخطأ ببرامج توب كودر يبلغ ٠٫٩٨ في المائة في المتوسط لكل ألف سطر بالشفرة. ويعلق موريس بفخر: «المعيار الصناعي هو ستة في المائة. إن شركة تقليدية قد تعين ستة أو سبعة مطوري برمجيات للمشروع، وقد يستغرق المشروع أكثر من عام لإنجازه، لكنه استغرق منا ما يزيد قليلًا على خمسة أشهر.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤