الفصل السادس

ما يعرفه الجمهور

تطبيقات الذكاء الجماعي
في أواخر خريف عام ٢٠٠٤ كان كريم لاخاني، وهو مرشح للحصول على درجة الدكتوراه من كلية سلون لإدارة الأعمال بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، يعاني مرضًا شائعًا بين طلاب الدراسات العليا: إعياء البحث. يتذكر لاخاني قائلًا: «وصلت إلى مرحلة لم أطق فيها قضاء وقت آخر في كتابة أطروحتي.» كان يحلل كيف ظهرت الابتكارات في برامج المصدر المفتوح، لكن بعد أربع سنوات من العمل، وصل إلى مرحلة الإنهاك الكامل وحان الوقت لأخذ إجازة طويلة، «أوقفت كل شيء وقرأت سلسلة روايات «عصر الباروك» لنيل ستيفنسون.» كانت ثلاثية ستيفنسون قصة تاريخية عن عصر التنوير في أوروبا، وقد تركت أثرًا كبيرًا في لاخاني، «تدور الأحداث كلها حول تأسيس الجمعية الملكية وبداية التفكير المنطقي في العالم وابتكار التفاضل والتكامل.» ووفقًا لآراء لاخاني، كانت سلسلة عصر الباروك تاريخًا مَحْكِيًّا عن الابتكار.١

جذبت فقرة واحدة انتباه لاخاني؛ إذ احتوت إحدى روايات ستيفنسون على القصة الحقيقية وراء جائزة نوبل. في عام ١٧١٤ شكل الإنجليز لجنة تقدم ٢٠٠٠٠ جنيه استرليني (ما يعادل ١٢ مليون دولار تقريبًا اليوم) لأي فرد يستطيع ابتكار وسيلة لتحديد خطوط الطول على متن سفينة مبحرة؛ ذلك لأنه ترتب على عجز سلاح البحرية الملكية عن فعل ذلك خسارة عدد لا يحصى من السفن وما عليها من حمولة، مما تسبب في استنزاف خطير للموارد المالية للحكومة، ويشير لاخاني إلى ذلك قائلًا: «حاول أفضل العلماء في ذلك الوقت، بما فيهم إسحاق نيوتن، تطوير جهاز لذلك الغرض دون أن ينجح أحد.» جاء الحل من جون هاريسون وهو نجار أثاث فاخر أمي من يوركشاير؛ إذ طَوَّرَ ساعة تعمل بدقة فائقة، حتى أثناء اللحظات الحالكة في الرحلات عبر البحار، «خطر ببالي أثناء قراءتي ذلك أنه يشبه المصدر المفتوح نوعًا ما. يطرح شخص مشكلة فيأتي العديد من الأشخاص الغرباء الذين تصادف معرفتهم بها ويقول كل منهم إن لديه الحل، ودائمًا ما يكون صاحب الحل الشخص الذي لم يكن متوقعًا.» مثلت جائزة خط الطول أول مثال معروف عن تعهيد الأعمال للجماهير؛ أي نشْر مشكلة أمام أعرض جمهور ممكن على أمل أن يتوصل شخص ما في مكان ما — ربما حتى صانع أثاث بيوركشاير — إلى حل.

عاد لاخاني إلى أطروحته، لكن هذه المرة كان عازمًا على النظر إلى الابتكار من زاوية أوسع. فقد سمع عن علماء حل المشكلات بشركة إنوسنتِف، وتساءل عما إذا كانت الشركة نسخة عصرية من جائزة خط الطول، ويعلق قائلًا: «أخبرتهم أنني أردت معرفة الكيفية التي تُحَلُّ بها المشكلات التي يطرحونها، وتحمسوا للأمر.» وشكل لاخاني فريقًا مع طالب دكتوراه بكلية إدارة الأعمال بكوبنهاجن وعالمين من إنوسنتِف. وعلى مدار العام التالي فحصوا ١٦٦ مشكلة علمية أحبطت معامل البحث والتطوير بست وعشرين شركة مختلفة. وفي صيف عام ٢٠٠٧ نشروا نتائجهم البحثية كورقة عمل بكلية إدارة الأعمال بجامعة هارفارد. كانت النتائج مناقضة للأشياء المسلم بها في العلوم على مدار عقود، لكن ما كانت هذه النتائج ستثير دهشة جون هاريسون على الأرجح. إن ما كشف عنه لاخاني وزملاؤه كان توضيحًا واقعيًّا لنظرية بيدج القائلة بتفوق التنوع على المهارة: الأشخاص غير المتوقعين لحل المشكلة كانوا تحديدًا الأرجح كفة لحلها.

(١) نموذج جديد تمامًا

يمكننا أن نقابل مستقبل البحث والتطوير شمالَ شركة كيليز أوتو بودي بشانتي باي رود بمدينة باري بولاية أونتاريو؛ حيث يمتلك إد ميلكاريك، وهو أحد أنجح حلالي المشكلات بشركة إنوسنتِف، «مهجعًا مؤقتًا للعطلات الأسبوعية» عبارة عن شقة تضم غرفة واحدة تعج بمكبرات الصوت وجيتار ومحولات طاقة كهربية وجهازي حاسب آلي وبوق وجزء من قارب وعدد من الأجهزة الكهربائية يكفي لملء أحد محلات راديوشاك. في معظم أيام السبت، يأتي ميلكاريك ويصب لنفسه شرابًا ويشعل سيجارة ماركة بلاير، وينقض على المشكلات التي أثارت حيرة بعض من أفضل علماء الشركات بتصنيف فورتشن لأفضل خمسمائة شركة.

إن لدى الجمهور نسقًا واسعًا من المواهب، ولدى البعض نوعًا من الموهبة والخبرة العملية التي اعتدنا أن تتواجد فقط في البيئات الأكاديمية المرموقة، وتستغل الشركاتُ الابتكاريةُ هذا البئرَ الناشئَ من رأس المال الفكري وتغير به وجه البحث والتطوير. وعندما يختفي دور العلماء ذوي المعاطف البيضاء في المعامل، يأتي دور ميلكاريك، شأنه شأن الصيدلانية جيورجيا سجارجيتا، وهو واحد من بين ١٤٠٠٠٠ حلالٍ للمشكلات يشكلون قوام شبكة العلماء بشركة إنوسنتِف. مولت شركة إلي ليلي للمنتجات الصيدلانية إطلاق شركة إنوسنتِف عام ٢٠٠١ بوصفها وسيلة للتواصل مع أصحاب القدرات الفكرية خارج الشركة. ومنذ البداية فتحت شركة إنوسنتِف الأبواب أمام شركات أخرى متلهفة للوصول إلى الكنز الدفين بالشبكة من الخبراء حسب الطلب. تنشر الآن شركات مثل بوينج ودو بونت وبالطبع بروكتر آند جامبل أعقد المشكلات العلمية على الموقع الإلكتروني لإنوسنتِف؛ ويمكن أن يقوم أي فرد بشبكة إنوسنتِف بمحاولة حلها. تدفع الشركات عادة لحلالي المشكلة في أي مكان من ١٠٠٠٠ دولار إلى ١٠٠٠٠٠ دولار للحل الواحد، (كما تدفع لإنوسنتِف رسومًا للاشتراك). يقول جيل بانيتا، الرئيس التنفيذي لقسم البحث العلمي بشبكة إنوسنتِف إن ما يربو على ٣٠ في المائة من المشكلات التي تنشر على الموقع حُلَّتْ. «أي أكثر مما كان يمكن حله باستخدام المنهج التقليدي داخل الشركات بنسبة ٣٠ في المائة.»

يقول لاري هاستون، نائب رئيس قسم الابتكار والمعرفة بشركة بروكتر آند جامبل: «كل فرد أتحدث معه يواجه مشكلة مماثلة بصدد البحث والتطوير، وفي كل عام ترتفع ميزانيات البحث بمعدل أسرع من المبيعات، لقد تحطم نموذج البحث والتطوير الحالي.» تعد شركة بروكتر آند جامبل من بين أولى وأفضل عملاء شبكة إنوسنتِف، لكن الشركة تعمل مع شبكات تعهيد أعمال للجماهير أخرى أيضًا. على سبيل المثال: يتيح موقع يور إنكور YourEncore للشركات إمكانية العثور على علماء متقاعدين وتعيينهم لأداء مهمة واحدة، كذا موقع ناين سيجما NineSigma يمثل سوقًا على الإنترنت للابتكارات والتوفيق بين الشركات الباحثة عن حل وبين حلالي مشكلات في سوق مماثلة لشركة إنوسنتِف. يقول هاستون: «يظن الناس خطأً أن هذا الأمر هو عملية تكليف أو تفويض للمهام، وهو ليس كذلك بكل تأكيد؛ فتكليف المهام أو تفويضها يكون حينما أعين شخصًا لأداء خدمة ويؤديها وتكون هذه نهاية العلاقة، وهذا لا يختلف كثيرًا عن الطريقة التي جرى بها التوظيف على مر العصور. إننا نتحدث هنا عن إحضار أشخاص من الخارج وإشراكهم في هذه العملية التي تتسم بدرجة مرتفعة من الابتكارية والتعاونية.»

في حين أن معظم حلالي المشكلات بشبكة إنوسنتِف علماء مهرة، فإن العديد منهم هواة يعملون دومًا من المرأب أو ما شابه، على غرار الطالب بجامعة دالاس الذي توصل إلى مادة كيميائية لاستخدامها في ترميم الأعمال الفنية، أو محامي براءات الاختراع بنورث كارولاينا الذي ابتكر طريقة جديدة لخلط مجموعات كبيرة من المركبات الكيميائية، أو كما في حالة ميلكاريك، مهندس كهربائي غريب الأطوار قليلًا يمكن استخدام معمله كاستديو موسيقى أيضًا. مع ذلك حل ميلكاريك مشكلة حيرت الباحثين داخل شركة كولجيت-بالموليف. احتاجت الشركة العملاقة للسلع المغلفة طريقةً لحقن مسحوق الفلوريد داخل أنبوبة معجون أسنان دون أن تتناثر في الهواء المحيط، وما إن انتهى ميلكاريك من قراءة التحدي، حتى أدرك أن لديه الحل: نقل شحنة كهربية للمسحوق مع إكساب الأنبوب طاقة كهربية معاكسة في الشحنة. ستنجذب جزئيات الفلوريد المشحونة بشحنة موجبة إلى الأنبوب دون أن يتناثر أي منها.

يقول ميلكاريك: «في الحقيقة كان الحل بسيطًا للغاية. لماذا لم تفكر شركة كولجيت فيه؟ لعل علماءهم لا يفهمون سوى في الكيمياء دون أي معرفة عن الفيزياء.» كسب ميلكاريك ٢٥٠٠٠ دولار مقابل جهوده، وهو المبلغ الذي كان من الممكن أن تدفع شركة كولجيت-بالموليف أضعافه عدة مرات لو استعانت بفريق البحث والتطوير فيها للوصول إلى الحل نفسه؛ هذا إذا ما استطاعوا حله من الأساس. يقول ميلكاريك إنه فخور بالفوز: «إنها تحديات صعبة للغاية، وعززت ثقتي بما يمكنني فعله.»

اتبع ميلكاريك سبيلًا غير تقليدي في العلوم، فقد قضى أربعة أعوام للحصول على درجة الماجستير في صنع مسرع حركة جزيئات فائق القدرة في فانكوفر بمقاطعة بريتش كولومبيا، لكنه قرر عدم استكمال المشوار حتى الدكتوراه، ويقول عن ذلك: «تلقيت عرضًا من شركة قطاع خاص»، ثم صمت برهة وأردف «لقد كنت بحاجة شديدة إلى المال.» أعقب ذلك عمله في سلسلة من مهن هندسية «غير مشبعة لرغباته»، لم تستغل أي منها تمامًا التدريب العلمي لميلكاريك أو حاجته للتجريب، ويعلق قائلًا: «لا أؤدي على أفضل وجه في بيئة عمل بدوام كامل.» واستطاع من خلال عمله المتقطع تصميم منتجات كمنافذ التدفئة وآلات صناعية للدهان بالرش. لا يستطيع كل مفكر ذكي يتمتع بحب للاستطلاع الحصول على وظيفة بحثية مرموقة بجامعة أو إنشاء معمل بتمويل خاص، فلا بد من أن يجد المبدعون من العامة متنفسًا لإبداعاتهم.

لقد كانت شركة إنوسنتِف بمنزلة بطاقة مرور من حالة الركود العملي هذه لميلكاريك، فعلى مدار الأعوام الخمسة الماضية، كان يدخل إلى الموقع الإلكتروني للشبكة عدة مرات أسبوعيًّا ليطلع على التحديات الجديدة، وحتى وقت قريب كانت هذه التحديات تُصَنَّفُ إما كمسائل كيميائية أو بيولوجية. لم يتلق ميلكاريك تدريبًا رسميًّا في أي من الفرعين، لكنه أدرك سريعًا أن هذا لا يقف عائقًا أمامه، ويقول: «رأيت أن الكثير من التحديات الكيميائية التي يمكن حلها باستخدام عمليات إلكتروميكانيكية مألوفة لي بسبب دراستي لفيزياء الجسيمات.» بالإضافة إلى تحدي الحقن بالفلوريد، ابتكر ميلكاريك منهجًا ناجحًا لتنقية المواد المذيبة التي يدخل السليكون في تكوينها بصورة أساسية، وربح من هذا التحدي ١٠٠٠٠ دولار، ومنذ ذلك الوقت انطلق ميلكاريك ليفوز بخمسة تحديات أخرى بإنوسنتِف، ويقهقه قائلًا: «ما أربحه من أموال ليس سيئًا مقابل أسابيع قليلة من العمل.»

اكتشف ميلكاريك شيئًا يشبه معادلة للربح: اعثر على مشكلات كيميائية أو بيولوجية يمكنك حلها باستخدام خلفيتك العلمية في الفيزياء والهندسة الكهربية. في عام ٢٠٠٧ أطلقت شبكة إنوسنتِف قسمًا للتحديات الهندسية، لكن لم يشغل ميلكاريك نفسه بها، فكانت المشكلات السبع التي حلها من مجالات أخرى.

هذا يفسر جانبًا بسيطًا من شخصية ميلكاريك (فهو رجل يحب فعل ما ينافي حدسه)، لكنه يكشف الكثير عن شبكة إنوسنتِف. وعندما تبحر لاخاني في بيانات إنوسنتِف، اكتشف أن ميلكاريك لم يكن الاستثناء، بل القاعدة؛ فقد كان العلماء الذين يحلون المشكلات على الأرجح الأشخاص الأقل توقعًا لحلها.

يقول لاخاني: «وجدنا في الواقع أن احتمالات نجاح حلال المشكلات تزداد إذا كانت المشكلات في مجالات لم يكن لديه خبرة رسمية بها.» فكلما ابتعدت المشكلة عن معرفتهم المتخصصة، زاد احتمال حلها، ويتابع قائلًا: «انظر إلى المشكلة كأنها زهرة، باستثناء أن الهدف ليس جذب معظم الحشرات فحسب، بل المجموعة الأكثر تنوعًا من الحشرات.»

كذا ضم بحث لاخاني نقطة أخرى مثيرة للاهتمام، هي أن ٧٥ في المائة من حلالي المشكلات الناجحين «كانوا يعلمون حل المشكلة بالفعل ولم يجروا بحوثا للتوصل إليه.» لم تتطلب حلول المشكلات محل الدراسة — والتي لم يتوصل أفضل علماء الشركات في العالم إلى حلول لعديد منها على الرغم من قضائهم سنوات في بحثها — اكتشافًا علميًّا كبيرًا أو قدرة عقلية فائقة أو اهتمام عالم ذا قدر أعلى من الموهبة؛ بل احتاجت فحسب إلى مجموعة من المفكرين على درجة كافية من التنوع لمعالجتها. كل هذا ينزع إلى دعم أطروحة هايك: لا يكمن التطور في اكتساب معارف جديدة، بل في تجميع المعرفة التي نمتلكها بالفعل واستغلالها. عندما سألت ميلكاريك كم استغرق من الوقت في حل مشكلات إنوسنتِف، جاءت إجابته تحمل دلالات هامة: «إذا لم أتوصل إلى ما ينبغي علي فعله بعد ثلاثين دقيقة من التفكير، أستسلم.»

قد تكون نتائج لاخاني جديدة للمعنيين بمجالي الأعمال والعلوم، وهما المجالان اللذان هيمن فيهما الميل إلى التخصص على مدار عقود، لكنها تتناسب جيدًا مع عقود من البحث في علم الاجتماع الاقتصادي؛ حيث تعيد التذكير بمبدأ يُطْلِقُ عليه علماء الاجتماع قوة الروابط الضعيفة.٢ في عام ١٩٧٠ عبر مارك جرانوفيتر، وهو طالب دكتوراه في علم الاجتماع بجامعة هارفارد، نهر تشارلز وسأل حوالي ٢٨٢ من العمال المتخصصين والفنيين والإداريين في مدينة نيوتن بماساتشوستس عن كيفية عثورهم على وظيفتهم. لم يكن مدهشًا أن العديد من الذين أجابوا على سؤاله أخبروه أنهم استخدموا معارف شخصيين، وهو تأكيدًا على القول المأثور: «لا يهم ما تعرفه بقدر ما يهم من تعرفه.» مع ذلك ذهب جرانوفيتر في تساؤلاته إلى مدى أبعد فسألهم: ما نوع هؤلاء المعارف؟ زوج؟ أخ؟ صديق مقرب؟ اتضح أن الأغلبية أجابت بالنفي القاطع؛ إذ عثر ١٦٫٧ في المائة منهم فقط على وظائفهم من خلال معارف مقربين، في حين أن بقيتهم حصلوا عليها من خلال شخص يعرفونه بالكاد، فكان الأشخاص الأنفع هم أصدقاء الأصدقاء. فالأشخاص الذين نعرفهم جيدًا يعرفون الأشياء نفسها كافة التي نعرفها، على غرار الأشخاص الممكن الارتباط بهم أنفسهم، فرص العمل نفسها، والشقق المعروضة نفسها. ما اكتشفه جرانوفيتر هو أنه ليس في واقع الأمر من نعرفه هو ما يدفعنا للأمام في الحياة، بل من لا نعرفه جيدًا.

تتناقض قوة الروابط الضعيفة مع انحياز راسخ للغاية موجود في بيئات الشركات، يقول لاخاني: «هناك اتجاه قوي في الشبكات الإنسانية للاقتراب ممن يشبهوننا، وهذا يعني أن الطيور على أشكالها تقع، وحتى عندما تختار شركة أن تتجه إلى المصادر الخارجية بحثًا عن حل لمشكلة، فستعتمد على الأشخاص والشركات والمعامل التي يعرفونها جيدًا بالفعل، لذا سيصطدمون بالانحيازات البحثية نفسها الكامنة في عقول باحثي الشركة التي تظهر في أساليب حل المشكلات الداخلية.» في ضوء ذلك، لم يعد من قبيل الألغاز أن يخفق الصيادلة البارزون في شركة مثل بروكتر آند جامبل في حل مشكلة كان بإمكان إد ميلكاريك الانتهاء منها بسهولة.

إن السبيل إلى جذب أكبر عدد من حلالي المشكلات لحل المشكلة هو نشرها باستخدام شبكة ضخمة على غرار شبكة إنوسنتِف، أو كتشبيه لاخاني، جعل الزهرة تبدو جذابة لأكبر عدد ممكن من الحشرات. لكن هذا الأمر يسهل قوله عن فعله، «فليس من هدف الشركات نشر مشكلاتها الداخلية أمام الغرباء، فثقافة الشركات التقليدية تهدف إلى تقييد وصول الغرباء إلى المعلومات الداخلية الخاصة بها، وليس زيادته.» وأي شيء يمكن أن يمثل خصوصية للشركة أكثر من مشكلة ما تحير مسئوليها؟ بالطبع هذا يساعد على وجود فرص أوفر أمام الشركات الراغبة في السباحة ضد التيار.

إذا استطاع نجار أثاث حل أحد أشد التحديات إثارة للحيرة في عصره، وإذا استطاع مهندس كهرباء حل بعض من أصعب مشكلات «الكيمياء» التي واجهت شركات تقع ضمن تصنيف مجلة فورتشن لأفضل خمسمائة شركة، فلعل نيد جَلي مبتكر مسابقة ماتلاب ليس مخطئًا إذن في إشارته إلى أن العقل الجمعي قد يتمكن يومًا من علاج السرطان. ليست هذه وجهة نظرٍ مستحيلة كما تبدو، فعلى خطى مشروع الحوسبة الموزعة سيتي آت هوم، أنشأ قسم الكيمياء بجامعة ستانفورد موقع فولدنج آت هوم Folding@home الذي يستغل الطاقة الإضافية لمئات الألوف من أجهزة الكمبيوتر الشخصية لمحاكاة التفاف البروتين — العملية التي يتحد فيها البروتين ليكون جزئيات بيولوجية — وهي خطوة مهمة في فهم أمراض مثل التليف الكيسي وألزهايمر والسرطان.

إن الانتقال من استغلال الطاقة الإضافية لآلاف الأجهزة إلى استغلال الطاقة الزائدة لدى آلاف العقول هو قفزة قصيرة، وهي تحدث بالفعل؛ إذ شكلت شبكة إنوسنتِف مؤخرًا فريقًا مع منظمة برايز فور لايف غير الربحية، ويقدمان معًا مليون دولار جوائز لحلالي مشكلات إنوسنتِف الذين باستطاعتهم الإسهام في تقدم البحث عن علاج لمرض لو جيريج. يمكن تطبيق هذا النموذج ببساطة على العثور على دواء لأمراض أخرى. ماذا سيحدث عندما يصبح «المليار» — الحجم التقديري للجماهير، أي عدد الأشخاص المتصلين بالإنترنت — ثلاثة مليارات؟ ما إنجازات الإدراك الجماعي التي يمكن أن تصنعها هذه العقول بالعمل معًا؟

أصبح التعهيد للجماهير مهمًا حتى إن آفاق مشكلاته الصعبة طُرحت للنقاش على طاولة الحكومة الفيدرالية؛ بوتقة الابتكار غير المتوقعة إطلاقًا. ففي أكتوبر (تشرين الأول) ٢٠٠٧ قدم عضو مجلس الشيوخ بيرني ساندرز، وهو عضو مستقل من فيرمونت، مشروع قانون يقضي بإبدال احتكارات الأدوية التي تمنحها إدارة براءات الاختراع لشركات المستحضرات الطبية بنظام يقوم على الجوائز المادية. يدعو مشروع القانون الحكومة إلى إنشاء اعتماد مالي قيمته ٨٠ مليار دولار، تُقَدَّمُ بعد ذلك لعدة أهداف طبية محددة بدقة، كتطوير جزء من علاج لمرض الملاريا. في الوقت الراهن، ليس لدى شركات الأدوية إلا حافز ضئيل لإجراء الأبحاث في مثل تلك الأدوية التي تنقذ الأرواح، وصارت شركات الأدوية هدفًا سهلًا للانتقادات بسبب ما يبدو تجاهلًا قاسيًا منها لأمراض قاتلة كالملاريا، لكن الحقيقة أن البحث والتطوير في هذه الأدوية يكلف أموالًا طائلة للغاية، فيما أن العملاء الذين يحتاجون لشراء الأدوية الناتجة عن تلك البحوث هم الأفقر غالبًا، هذا يعني أن شركات الأدوية تواجه مشكلة عصيبة للغاية في استعادة المال الذي أنفقته على علاج الملاريا. يتعامل مشروع القانون الذي تقدم به ساندرز مع القضية عن طريق ضمان التعويض المالي في الأساس لأي فرد أو شركة تنجح في تطوير ذلك العقار.٣

على الضفة الأخرى من النهر السياسي، اقترح نيوت جينجريتش نظامًا مماثلًا لتقليص الإنفاق الحكومي. فكما كتب ويليام سيلتون بمجلة سليت في أكتوبر (تشرين الأول) ٢٠٠٧، اقترح جينجريتش أنه «بدلًا من تقديم مليار دولار لهيئة فيدرالية للتعامل مع مشكلة ما … يُقَدَّمُ المال جائزة لأول شركة تتمكن من حلها. وأثناء الحديث يواصل جينجريتش استعراض التحديات المختلفة التي يمكن أن تشملها هذه الجوائز النقدية، ومنها أن من يستطيع التوصل إلى وقود هيدروجيني، يحصل على جائزة نقدية قيمتها مليار دولار.»

لكن تطبيق شبكة حل المشكلات المفضل لديَّ هو جائزة نتفليكس.٤ في أواخر عام ٢٠٠٦ تعهدت شركة نتفليكس لتأجير الأفلام بتقديم مليون دولار لأي شخص يستطيع تطوير نظام ترشيح الأفلام الخاص بها بنسبة عشرة في المائة. لاقت المسابقة رواجًا كبيرًا وسط خبراء الإحصاء والعديد من المهووسين بالحسابات. لقد حققت المسابقة متعة بالغة للمتابعين، كما كانت تأكيدًا قويًا للمبادئ التي ظهرت في مسابقة ماتلاب التي ابتكرها نيد جَلي، لكن في أجواء تجارية.

أصبحت شركة نتفلكس منذ تأسيسها عام ١٩٩٧ مصدر ضرر لسعاة البريد في كل مكان؛ إذ ترسل في الوقت الراهن ٣٥٠٠٠ فيلم يوميًّا لما يقرب من ٧٫٥ مليون مشترك. وفي عام ٢٠٠٠ أضافت شركة نتفليكس خاصية بالموقع تسمى سينيماتش، التي يرشح الموقع من خلالها الأفلام للمستخدمين بناءً على اختياراتهم السابقة. من المعروف أن محركات الترشيح خاصية مشوبة بالعيوب بالشبكة الحديثة، وإن كانت واسعة الانتشار، وخاصية سينيماتش ليست باستثناء. تهدف هذه الخاصية أساسًا إلى التنبؤ بكيفية تصنيف المستخدم الفيلمَ ضمن مجموعة من نجمة إلى خمس نجوم. في الوقت الراهن، يبلغ معدل الخطأ في خاصية سينيماتش ٠٫٩٥٢٥ في المتوسط، وهذا يعني أنها غير دقيقة في المتوسط بمقدار نجمة واحدة. وفي ضوء الاختلاف في طريقة تعامل العميل مع فيلم ثلاث نجوم (مقبول) وفيلم أربع نجوم (يُستأجر!)، فإن هذه الخاصية ليست نموذجية. أنفقت شركة نتفليكس موارد هائلة في تطوير النظام، لكن الشركة قررت في النهاية الالتفات إلى ملاحظة بيل جوي بأنه لا يهم عدد الأشخاص الأذكياء الذين يعملون بالشركة، فالأشخاص الأذكى يعملون في مكان آخر. يذكر جيم بينيت، نائب رئيس قسم الترشيحات قائلًا: «إن هؤلاء الأشخاص الذين لم نوظفهم نأتي بهم أيضًا للعمل لدينا، فهم الآن من يقدم الابتكارات، ونحن فقط من يتيح لهم الفرصة.»

يتمكن المتسابقون بعد الاشتراك من الدخول إلى قاعدة بيانات بها ١٠٠ مليون تصنيف فعلي للمستخدمين، ومن خلال دراسة الصلات بين هذه التصنيفات، يحاول المشاركون ابتكار منظومة حلول حسابية يمكنها التنبؤ على نحو أفضل بالأفلام التي ستنال إعجاب عملاء نتفليكس، ويرسلون المنظومة إلى شركة نتفليكس، التي تقارنه بالكيفية التي صنف بها أولئك المستخدمون في الواقع تلك الأفلام، ثم تحدد درجة لمنظومة الحل الحسابية، وتُدْرَجُ في لوحة تعرض أسماء الأوائل في المسابقة. في غضون أسبوعين من إطلاق التجربة، تلقت شركة نتفليكس ما يقرب من ١٦٩ منظومة حل حسابية، شكل العديد منها تطويرًا لنظام نتفليكس الحالي، وبعد مرور شهر واحد، وصل عدد ما تلقته الشركة من منظومات حل إلى ما يزيد عن الألف، واستطاع أفضل المبرمجين تطوير نظام سينيماتش بنسبة خمسة في المائة تقريبًا، لكن تباطأ سير العملية بعدها، وبعد مرور عام بعد ذلك طور المتسابق الأول — فريق من المبرمجين من المجموعة البحثية المختصة بالتمثيل المرئي للمعلومات بشركة إيه تي آند تي شارك تحت اسم «بيلكور» — نظام سينيماتش بنسبة ٨٫٤٣ في المائة.

تشبه مسابقةُ جائزة نتفليكس مسابقةَ ماتلاب من حيث الصيغة الأساسية؛ حيث يحاول المتسابقون كتابة منظومة حل حسابية لحل مشكلة صعبة، ثم يرسلونها وتحدد درجة لها على الفور. لكن على العكس من مسابقة ماتلاب، رفضت مسابقة نتفليكس الكشف عن شفرة البرمجة الخاصة بكل منظومة مرسلة، وهذا قرار منطقي؛ ففي ضوء الجائزة النقدية المقدرة بمليون دولار، قد نتوقع أن ينقض المتسابقون على الشركة احتجاجًا إذا أقدمت على هذه الخطوة. لكن كما أشار جوردن إلينبيرج في مقال صدر عام ٢٠٠٨ بمجلة وايرد عن مسابقة نتفليكس، قرر المتسابقون تبادل منظومات الحلول الخاصة بهم على أي حال. «يتمتع الباحثون عن الجائزة، حتى الرواد منهم، بالصراحة المذهلة حيال المناهج التي يستخدمونها، مما يجعلهم أشبه بأساتذة جامعة يتباحثون حول مشكلة معقدة أكثر منهم رجال أعمال يتدافعون للحصول على جائزة بمليون دولار.» اختار أحد المتنافسين، وهو فريق يدعى «سايمونفَنك»، نشر وصف كامل عن منظومة الحل التي توصلوا إليها، مع أن الفريق كان في المركز الثالث، أي متفوقًا على العديد من منافسيه. ألم تضر هذه التصرفات الصريحة غير المبررة على ما يبدو بقدرتهم على الفوز بالجائزة الكبرى؟ عندما سأل إلينبيرج قائد فريق بيلكور عن هذا الأمر، بدا متحيرًا وأجاب: «نحصل على جائزة كبرى بالتعلم والتفاعل مع الفرق الأخرى، هذه الجائزة الحقيقية لنا.»

استفادت جائزة نتفليكس من مساهمات أكثر الأشخاص غير المحتملين على الإطلاق، مثلما فعل فتية الشفرات في مسابقة ماتلاب. قرر جافين بوتر، وهو استشاري إداري متقاعد في الثامنة والأربعين من عمره، التنافس على جائزة نتفليكس على سبيل اللهو لا أكثر، وانضم بوتر الذي يلقب نفسه «رجلًا عاديًّا في المرأب» في نوفمبر (تشرين الثاني) عام ٢٠٠٧ إلى العشر الأوائل في لوحة الشرف، على الرغم من حقيقة أنه لم يكن يملك أي خبرة مسبقة في الرياضيات ولديه خبرة قليلة في نوع منظومات الحلول الحسابية الإحصائية المعقدة التي يستخدمها زملاؤه المتسابقون.

بدلًا من ذلك، طبق بوتر معرفته بالسيكولوجية الإنسانية، وطرح أسئلة جوهرية عن كيف يصنف المستخدمون الأفلام في الواقع، على غرار هل الأفلام التي صدرت مؤخرًا تلقى تصنيفات أعلى؟ وباستخدام الرؤى التي اكتسبها من مجال علم الاقتصاد السلوكي — مجال معرفي جديد يجعل علم النفس مرتبطًا بتقرير لماذا يتخذ الناس قرارات اقتصادية بعينها — وضع بوتر نظم حلول حسابية تأخذ في الاعتبار الأشخاص الذين — على سبيل المثال — يميلون إلى تصنيف كل فيلم بثلاث نجوم أو أكثر. قد يبدو هذا الأمر بدائيًّا، لكنه لن يكون واضحًا لخبير إحصائي يعمل على منظومة حلول حسابية تتعامل مع كل عميل كفاعل متعقل على حدٍ سواء. وعند إرسال هذا الكتاب للطباعة، كان بوتر يحتل المرتبة الخامسة ويقل عن صاحب المرتبة الأولى بأقل من نصف في المائة.

على غرار جائزة نتفليكس، تحاول مسابقة أيديا ستورم التي وضعتها شركة ديل استغلال الذكاء الجماعي للجماهير. مع ذلك وعلى النقيض من مسابقة نتفليكس، لا تسعى شركة ديل لحل مشكلة موجودة، بل تستخدم الجماهير للتفكير في ابتكارات جديدة. أطلقت شركة تصنيع أجهزة الكمبيوتر الحملة في فبراير (شباط) ٢٠٠٧، وعند إرسال هذا الكتاب للطباعة كان ما يزيد عن تسعة آلاف فكرة قد أرسلت إلى موقع المسابقة، وتتراوح الأفكار من الطلب من ديل أن تجعل الولايات المتحدة مقرًّا لمراكز اتصال الدعم الفني إلى طلب المزيد من المنافذ للناقل التسلسلي العام في خلفية أجهزة الكمبيوتر المكتبية.

تستغل شركة ديل منهج وسائل الإعلام الاجتماعي لتشغيل الموقع، بعبارة أخرى، لا يستطيع المستخدمون فقط إضافة أفكار جديدة بل أيضًا يمكنهم التعليق على أفكار بعضهم البعض. علاوة على ذلك، يمكنهم «تعزيز منزلة» أو «خفض منزلة» الأفكار بعلامة التصويت (إشارة الإبهام إلى أعلى وإلى أسفل). وكما تقفز أكثر الأخبار التي تحصل على أعلى تصويت إلى المقدمة في موقع الأخبار الاجتماعية ديج Digg.com، تظهر الأفكار التي تحصل على أعلى تصويت بالإيجاب على الصفحة الرئيسية لموقع مسابقة أيديا ستورم، وتستخدم هذه الخاصية الأخيرة عنصرًا مهمًّا آخر في تعهيد الأعمال للجماهير وهو الرأي الجماعي للجمهور، الذي يمكن أن يكون فعالًا على نحو لا يوصف. وفي اليوم الذي أُطْلِقَ فيه موقع مسابقة أيديا ستورم، اقترح مستخدم اسمه «ديهارت» أن تبدأ ديل في طرح أجهزة كمبيوتر بنظام تشغيل لينكس مثبت بالجهاز مسبقًا، واتفق معه ما يقرب من ٣٠٠٠٠ مستخدم للموقع، وظلت فكرة ديهارت في المرتبة الأولى على الموقع على مدار شهور. وكنتيجة مباشرة لذلك، في مايو (أيار) عام ٢٠٠٧ أطلقت ديل ثلاثة طرازات من أجهزة الكمبيوتر تستخدم نظام تشغيل لينكس.

إن جهود ديل في التعاون مع العملاء نموذج لفئة من تعهيد الأعمال للجماهير تسمى «منتديات الأفكار» وهي تماثل إلى حد بعيد شبكات البث التدويني الجماهيرية على غرار إنوسنتِف وجائزة نتفليكس، مع أن «منتديات الأفكار» لا تهدف إلى حل مشكلة بعينها بقدر ما تهدف إلى خلق حلول لمشكلات لم تُطْرَحْ بعد. اشتُقَّ المصطلح من «منتدى الابتكار» الذي عقدته شركة آي بي إم عام ٢٠٠٦، والذي وصفته الشركة بأنه «أضخم جلسة طرح أفكار على مر التاريخ»؛ فما يزيد عن ٤٦٠٠٠ شخص من ١٠٤ بلد نشروا ما يزيد عن ٤٦٠٠٠ فكرة. وفي وقت لاحق من ذلك العام، أعلنت الشركة أنها ستنفق ١٠٠ مليون دولار لإطلاق عشرة مشروعات جديدة قائمة على الأفكار المقترحة أثناء «منتدى الابتكار». أشار الناس إلى أن هذا الأمر يتعدى كونه صندوق اقتراحات عبر الإنترنت، وهذا هو الأمر بالضبط؛ فلم يجعل الإنترنت تعهيد الأعمال للجماهير ممكنًا فحسب، بل جعله أكثر فاعلية بدرجة كبيرة.

تستغل شركة إنوسنتِف ومسابقة جائزة نتفليكس ومسابقة أيديا ستورم التي عقدتها شركة ديل قوةَ التنوع. يرى بيدج أن أفضل الحلول لأي مشكلة بعينها تظهر كسلسلة من قمم الجبال؛ إذ إن «الأشخاص الذين تلقوا التدريب نفسه ينتهي بهم الحال وهم يتسلقون القمة نفسها، وذلك لأنهم يفكرون في المشكلة بطريقة مماثلة، لكن عند بحث شخص من خلفية مختلفة عن حل» — علم النفس على سبيل المثال — «سيطبق أساليب استكشافية مختلفة، ومن ثم سينتهي به المطاف على الأرجح بتسلق أعلى قمة جبل.» يعود هذا الأمر بفوائد واضحة على أي شركة أو فرد تقريبًا يواجه مشكلة شائكة، وتتمثل ميزة البث التدويني الجماهيري في أنه لا يسلم جدلًا بأن متسلقي جبال بعينهم مؤهلون لتسلق قمة بعينها، فهو في الواقع لا يسلم بأي شيء على الإطلاق، وبدلًا من ذلك يفتح التحدي أمام أي شخص مهتم بخوضه، ودائمًا ما تدهشنا النتائج.

في ضوء توفر الظروف المواتية، يتفوق التنوع على الموهبة في حالة شبكة بث تدويني للجماهير على غرار إنوسنتِف، وهناك سبب بسيط لهذا: النجاح النهائي لحل واحد لا تقل فاعليته بسبب عدد الحلول غير الناجحة، ويقول بيدج: «مع جائزة نتفليكس، لا يهم عدد الحمقى الذين حاولوا حل المشكلة، فكلما كثر العدد، زادت البهجة.» وكلما ارتفع عدد الأشخاص الذين يطبقون مجموعات أكثر تنوعًا من طرق حل المشكلات — بصرف النظر عن مدى حماقتها — ازدادت احتمالات توصل أحد الأشخاص إلى حل المشكلة الصعبة بلا شك، وإذا كانوا مخطئين، يمكنك تجاهلهم وحسب. لكن هذه الحقيقة تنطبق على مشروعات البث التدويني الجماهيري على غرار نتفليكس وإنوسنتِف، ولكن عندما تستخدم الجمهور للتنبؤ بالمستقبل، يكون لكل إجابة أهمية في النتيجة النهائية، وفي هذه الحالات، يصبح دور التنوع أعقد كثيرًا.

(٢) الاستثمار المستقبلي — أسواق التوقعات٥

في عام ١٩٨٨ أذهل ناشط الحقوق المدنية جيسي جاكسون الشعب بفوزه في سباق الانتخابات الأولية عن الحزب الديموقراطي لولاية ميتشجن، وهذه النتيجة لم تتوقعها استطلاعات الرأي أو الخبراء السياسيون. في جامعة أيوا، أثار فشل استطلاعات الرأي في التنبؤ بفوز جاكسون اهتمام حفنة من أساتذة العلوم السياسية وعلماء الاقتصاد، وتساءلوا هل بمقدور السوق تقديم تنبؤات أفضل بنتائج الانتخابات؟ وعلى مدار الشهور العديدة التالية، وفي وقت الانتخابات العامة بين جورج إتش دبليو بوش ومايكل دوكاكيس، أنشئوا بورصة أيوا السياسية؛ حيث يشتري المستثمرون أوراقًا مالية تصل قيمتها إلى ٥٠٠ دولار تُوَزَّع وفقًا لسهم الصوت الانتخابي الذي يحصل عليه المرشح، ويتحدد سعر الأسهم فيما بين ٠٫٠١ دولار ودولار واحد، وتُوَزَّع بالكامل؛ فإذا اشتريت أسهم بوش عند بيعها بخمسة وخمسين سنتًا، ستجني ٤٥ سنتًا عن كل سهم اشتريته.

بحلول نوفمبر (تشرين الثاني) ظهرت النتائج، بلغت نسبة الخطأ في المتوسط بين كافة استطلاعات سؤال الناخبين عن تصويتهم في الانتخابات الرئاسية العامة ذلك العام ٢٫٥ في المائة، نسبة جيدة إلى حد ما، لكن بورصة أيوا السياسية تفوقت كثيرًا في التنبؤ بالنتيجة في نطاق عُشر في المائة، ويعلق روبرت فورسيذي، أحد مؤسسي البورصة قائلًا: «في حين أن قوانين الإحصاء تتحكم في استطلاعات الرأي، تجعل الأيدي الخفية التي ذكرها آدم سميث الأسواق السياسية ناجحة.»٦
في واقع الأمر كانت النتائج مثيرة للغاية حتى إن الجامعة أعادت تسمية التجربة ﺑ «أسواق أيوا الإلكترونية»، وبدأت في السماح بالتداول في نطاق واسع من الأحداث المستقبلية، بدءًا من الانتخابات في الدول الأجنبية، إلى القيمة السوقية للأسهم المتداولة لجوجل، إلى سعر سهم مايكروسوفت في تاريخ معين، إلى القرارات القادمة التي سيتخذها الاحتياطي الفيدرالي، وفي غضون العقدين منذ أن فُتِحَ باب التداول، تفوقت أسواق أيوا الإلكترونية دائمًا على أفضل استطلاعات الرأي.٧

لماذا يسير الأمر على هذا النحو؟ أليست استطلاعات الرأي تتواصل جيدًا مع العقل الجماعي؟ أليست هي أيضًا صورة من صور تعهيد الأعمال للجماهير؟ الإجابة بلى، لكن هذا لا يجعلها نموذجًا تنبئيًّا مثاليًّا كسوق معلومات مثل أسواق أيوا الإلكترونية، فاستطلاعات الرأي آليات بدائية، فيها يتمتع الأحمق والحكيم على حدٍّ سواء بصوت واحد له نفس الوزن التصويتي. على الجانب الآخر، يميز سوق التوقعات الشخص الحكيم من خلال تقديم عائد مادي مكافأةً لحكمته، ويملك الغبي حافزًا مماثلًا للتنحي جانبًا، وهو المبدأ الذي أطلق عليه سكوت بيدج «إقصاء الحمقى».

تقدم أسواق التوقعات مزايا هائلة لكل من استطلاعات الرأي والدراسات الاستقصائية إلى جانب التكهنات التي يقولها الخبراء، وتزداد جاذبيتها يومًا بعد يوم أمام الجميع بدءًا من وسائل الأعلام إلى الشركات الخاصة والحكومة. وفي حين أنهما قد يختلفان في المجال والمنهجية، لا تختلف أسواق التوقعات عن الأسواق الآجلة؛ إذ يراهن المضاربون على احتمالات النتائج المُتَضَمَّنَة في الانتخابات الرئاسية على سبيل المثال، بدلًا من المضاربة على أسعار لحوم الخنازير. إن سعر الورقة المالية في هذه الأسواق يعكس نظريًّا التكهن الجماعي لمدى احتمال تحقق ما تعبر عنه هذه الورقة.

تستغل كل من شبكات البث التدويني وأسواق التوقعات الذكاءَ الجماعي، لكن بطرق مختلفة للغاية. إن أسواق التوقعات في جوهرها ليست سوى آليات تُسْتَخْدَمُ لجمع المعلومات، وهذا لا يعني أن أسواق المعلومات لا تملك الصفات السحرية الخاصة بها. إن المبدأ ذاته الذي شاهدناه عمليًّا في مثال برنامج «من سيربح المليون» ينطبق هنا؛ فلأنه يمكن توقع أن يصوت الحمقى في أنماط عشوائية في المتوسط، فإنه يصبح بمقدور عدد ضئيل من المراقبين الأذكياء التكهن بدقة. وعلى العكس من أي نظام بسيط لتجميع المعلومات كبرنامج من سيربح المليون، لا تتساوى كافة الأصوات في سوق التوقعات. فإذا كان المستثمر يملك معلومات سرية، فمن المحتمل أن يستثمر أموالًا أكثر من شخص يعتمد على حدسه. وعند إرسالي هذا الكتاب للطباعة، بلغت أسهم هيلاري كلينتون ما يقرب من ١٣ سنتًا (هذا يعني أن كل عقد آجل سيجني ٨٧ سنتًا ربحًا إذا حصلت كلينتون على الترشيح الرئاسي). إذا علمت مجموعة صغيرة من الأشخاص أن فضيحة كبيرة ستدمر فرصة باراك أوباما في الفوز بترشيح الحزب الديمقراطي، فسيتهافتون بالفعل على شراء أسهم كلينتون. إن أسواق التوقعات تقدم حافزًا للأشخاص للكشف عن المعلومات التي يحتفظون بها سرًّا.

بالمثل، تقدم تكلفة الاستثمار في مثل هذا السوق حافزًا للجاهلين بتوفير نقودهم. أشار فارهاد مانجو، الكاتب بمجلة سالون، في مقاله الصادر قبيل يوم واحد من انتخابات عام ٢٠٠٤ إلى أنه في حين أن استطلاعات الرأي وضعت المرشح الديمقراطي جون كيري متقدمًا على الرئيس بوش بما يتراوح بين نقطة إلى سبع نقاط، أيد المستثمرون في أسواق أيوا الإلكترونية بوش. يسأل مانجو: «ماذا يفسر هذا الاختلاف بين استطلاعات الرأي وأسواق أيوا للتوقعات؟» الإجابة هي أنه لا يخاطر شخص بمال في استطلاعات الرأي، «إن الرهان بمال على الانتخابات يجعل المراهن في حالة تركيز … أنا أؤيد جون كيري للرئاسة، لكنني أراهن ضده في أسواق أيوا الإلكترونية للتوقعات.» ونعرف الآن أنه كان رهانًا رابحًا، حتى إنه في حين أظهرت استطلاعات سؤال الناخبين بعد إدلائهم بأصواتهم عمن انتخبوه تَقَدُّمَ كيري، أظهرت أسواق أيوا الإلكترونية حصول بوش على نسبة ٥٠٫٤٥ في المائة من التصويت الشعبي وحصول كيري على ٤٩٫٥٥ في المائة، وهي صورة دقيقة للنتيجة النهائية من الصعب تفسيرها.

يؤثر التنوع كذلك في نتائج أسواق التوقعات، لكنه لا يتفوق على المهارة، ففيما يتعلق بأسواق التوقعات، يوازي التنوعُ المهارةَ بالكاد، ويوضح سكوت بيدج مجددًا كيف يمكن التعبير عن ذلك في صورة نظرية رياضية؛ فتقول نظرية التنوع والتوقع التي صاغها بيدج إن الخطأ الجماعي يعادل متوسط الخطأ الفردي دون تنوع التوقعات، ويوظف بيدج العديد من الصيغ التي تبدو مثيرة للقلق للبرهنة على هذه النقطة، لكن المنطق مباشر إلى حد كبير: إذا كان الاختلاف بين التوقعات كبيرًا — أخمن أربعين وأنت تخمن ستين ولكن الإجابة الصحيحة هي خمسون — تُمحى آثار التوقعات ولا يصبح لها أهمية، كما الحال في مثال من سيربح المليون إلى حد بعيد. وكما كتب بيدج، فإنه فيما يتعلق بأسواق التوقعات «يتساوى الاختلاف في الأهمية مع الجودة».٨

على الرغم من سجل أسواق أيوا الإلكترونية الحافل بالتوقعات الدقيقة، لم تشتهر أسواق المعلومات حقًّا حتى اندلع جدل سياسي قوي حول ما يسمى أسواق الإرهاب الآجلة. في مايو (أيار) ٢٠٠٥ أصدر مدير مشروعات بوكالة مشروعات أبحاث الدفاع المتقدمة طلبَ تقديم عروض حول استخدام الأسواق في التنبؤ بالأحداث على غرار الهجمات الإرهابية والانقلابات العسكرية والاغتيالات السياسية. قُدِّمَتْ إحدى المنح الناتجة عن هذا والمقدرة بمليون دولار إلى روبن هانسون، وهو أحد الرواد في علم أسواق التوقعات. يؤمن هانسون، الذي يعرف بأنه مفكر ثوري إلى حد ما، إيمانًا راسخًا بفاعلية أسواق التوقعات حتى إنه اقترح تأسيس شكلٍ من الحكومة — «فيوتاركي» أو حكومة التوقعات — يرتكز على أسواق التوقعات. أسس هانسون، من خلال عمله مع شركة نت إكستشينج بسان دييجو، «سوق تحليل السياسات»، وتقوم الفكرة على أن تسعى مجموعة مختارة من خبراء تحليل السياسات والمخابرات إلى التنبؤ بمسار العلاقات الخارجية من خلال الاستثمار بمبلغ يصل إلى ١٠٠ دولار في مؤشرات كالاستقرار الوطني (هل سيعلن إقليم كوسوفو الاستقلال؟) والنمو الاقتصادي، (هل سينمو الناتج المحلي الإجمالي للهند بنسبة عشرة في المائة هذا العام؟) والتأهب العسكري (إذا غزت الهند باكستان، هل ستنجح قواتها في احتلال البلاد؟) ولسوء طالع هانسون وسوق التوقعات، تضمن السوق أيضًا مؤشرًا للإرهاب.

وقع سوق تحليل السياسات ضمن نطاق اختصاص مكتب الوعي بمعلومات الإرهاب، الذي يترأسه شخصية مثيرة للجدل بالفعل وهو مستشار الأمن القومي السابق، جون بويندكتسر، الذي اتهم بشهادة الزور وجرائم أخرى أثناء فضيحة إيران كونترا. في ضوء البيئة المشحونة التي سادت في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) على مركز التجارة العالمي، لم يكن ما حدث بعد ذلك مفاجئًا. ففي يوليو (تموز) ٢٠٠٣ عندما تنامى إلى علم وسائل الإعلام الإخبارية وجود أسواق تحليل السياسات — التي انطوت على عقد مضاربات حول الإرهاب تحت رعاية وزارة الدفاع — اندهش الناس كثيرًا. وبعد صدور المقال الأول، سرعان ما عقد عضوا مجلس الشيوخ: رون وايدن، أحد نواب الحزب الديمقراطي في ولاية أوريجون، وبايرون دورجان، أحد نواب الحزب الديمقراطي في نورث داكوتا، مؤتمرًا صحفيًّا يسخران فيه من سوق تحليل السياسات لحثه الناس على التربح من الهجمات الإرهابية. قبل بزوغ فجر اليوم التالي، أغلق البنتاجون مشروع سوق تحليل السياسات إلى الأبد، وقضى معه على حلم هانسون بحكومة التوقعات أيضًا.٩

وبعد أسبوع من تناولها كأضحوكة في البرامج الحوارية الليلية، ذهب مشروع أسواق تحليل السياسات أدراج الرياح، لكن العديد من علماء الاقتصاد وخبراء السياسة دافعوا عن المنطق الذي ينطوي عليه المشروع وهو أن الأسواق يمكنها التنبؤ بالأحداث المستقبلية أفضل من أي خبير بمفرده. وعلى أي حال، ساعدت شهرة المشروع في الإسراع بالتبني السائد لأسواق التوقعات. زادت الخيارات أمام المستثمرين في العقود الآجلة بقدر مثير، فبورصة هوليوود تقدم سوقًا للمعاملات التجارية في كل شيء بدءًا من إيرادات شباك التذاكر إلى نتائج جوائز الأوسكار. وتحفل بورصة هوليوود بسجل إنجازات هائل، فقد تنبأت بما يزيد عن ٨٠ في المائة من كافة ترشيحات الأوسكار (وهذا يشمل الفئات الأقل شهرة كأفضل تحرير للصوت) ولم تخطئ توقعات البورصة في أكثر من جائزة واحدة منذ إطلاقها عام ١٩٩٦، وهناك أيضًا مجلة علمية — مجلة أسواق التوقعات — مخصصة لهذا المجال الصاعد.

كان القطاع الخاص على نحو استثنائي متحمسًا في تقبله لأسواق التوقعات، وتستخدم الشركات هذه الأسواق على المستوى الداخلي في سبيل تعهيد عملية صنع القرار للجماهير في أمور كالجرد وأهداف المبيعات والقدرة التصنيعية. في منتصف التسعينيات، ابتكرت شركة هيوليت-باكارد بالتعاون مع تشارلز بلوت، العالم الاقتصادي بمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، سوق عقود آجلة للتنبؤ بمبيعات مجموعة متنوعة من منتجات هيوليت-باكارد. في العادة يتولى محللون ضمن فريق المبيعات بالشركة أمر وضع توقعات المبيعات، لكن في تجربة بلوت، اختير الموظفون من مجموعة متنوعة من الأقسام، ومثلت الأوراق المالية فواصل بعينها في معدلات المبيعات، إذا رأى مستثمر أن الشركة ستحقق مبيعات جيدة — لنقل بين ٢٠١ و٣٠٠ طابعة في شهر بعينه — فسيشتري أسهمًا من تلك الورقة المالية، وإذا كان محقًّا، فسيتلقى دولارًا على كل سهم، واتضح أن السوق تفوق على التوقع الرسمي لشركة هيوليت-باكارد في ستة من ثمانية منتجات خضعت للتجربة. نتيجة لذلك أنشأت شركة هيوليت-باكارد منذ ذلك الحين مجموعة «اقتصاديات تجريبية» خاصة بها لإجراء أبحاث إضافية حول أسواق التوقعات.

تتفوق الأسواق على الخبراء لأن الأشخاص الذين يستثمرون جماعيًّا فيها لديهم إمكانية وصول إلى بيانات أكثر بكثير. يقول توماس مالون، الأستاذ في كلية سلون للإدارة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، في كتابه «مستقبل الأعمال»: «ببساطة شديدة، لا يملك المخططون الرئيسيون كافة المعلومات التي يملكها رجال المبيعات المتناثرون في مناطق مختلفة.» استخدمت شركات جوجل ومايكروسوفت وإلي ليلي وجولدمان ساكس ودويتشه بانك أسواق التوقعات لمساعدتها في تحديد استراتيجية الشركة، وأجرى مالون نفسه تجربة ناجحة مع شركة صناعة رقاقات الكمبيوتر إنتل التي استخدم فيها سوقًا داخلية لتحديد عدد الرقاقات التي يجب أن ينتجها كل مصنع خلال ثلاثة شهور. وبعد بضعة تعديلات طفيفة، حقق مالون معدل كفاءة يبلغ ٩٩ في المائة، أي ما يفوق كثيرًا ما توصلت إليه شركة إنتل بالطرق التقليدية.١٠
يشير مالون إلى أن هذه الأسواق تساعد الشركات على التكيف سريعًا مع التغير السريع مضيفا أنه: «لأن كل فرد لديه حافز للاستثمار في أسرع وقت ليكون له أفضلية»، تنتشر المعلومات الحيوية بسرعة أكثر. وكتب: «بدلًا من وجود مجموعة وحيدة من كبار المديرين يعملون بالتناوب من خلال مجموعة وحيدة من الخيارات، يمكن للعديد من الأشخاص استكشاف الكثير من الاحتمالات في آن واحد»، تمامًا كما يمكن لمستعمرة نمل تفريق العاملين من النمل في العديد من الاتجاهات في الوقت نفسه للبحث عن طعام. في عام ٢٠٠٦ أسس مالون مركز الذكاء الجماعي التابع لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، الذي يسعى في الوقت الراهن إلى استخدام أسواق التوقعات لتعهيد الحلول القابلة للتطبيق للمشكلات العنيدة — على غرار الرعاية الصحية والتغيرات المناخية — إلى الجماهير.١١

لا شيء يدفع عجلة الابتكار كالطلب القوي، وقد ظهرت مؤخرًا الشركات التي تقدم نظمًا برمجية جاهزة للاستخدام لسوق التوقعات. لدى إنكلينج ماركتس — مؤسسة مقرها شيكاغو تتيح لأي فرد إنشاء سوق توقعات خاص به — قائمة عملاء تضم شركات سيسكو وشركة صناعة ألعاب الفيديو إلكترونيك آرتس وكرايسلر وأورايلي ميديا ويلز فارجو، وجامعة إنديانا وجامعة أكسفورد وجامعة ستانفورد وأيضًا مختبر لوس ألاموس الوطني.

تكمن المشكلة في أن معظم هذه الأسواق ينقصها المكون الأساسي لسوق التوقعات: استخدام المال الحقيقي، الذي قد ينتهك الحظر القانوني ضد المقامرة. ففي حين أن أسواق أيوا الإلكترونية تعمل في نطاق استثناء خاص من هيئة تداول السلع الآجلة، تستخدم أسواق التوقعات الأخرى نقودًا افتراضية. وهذا، كما يتفق خبراء الاقتصاد، ما يمثل المشكلة؛ إذ ينجذب الناس للمشاركة وفقًا لمجموعة مختلطة من الدوافع، والمكافآت المالية لا تأتي في المقدمة دائمًا. وصحيح أن المساهمين في أسواق كبورصة هوليوود يقولون إنهم مجبرون على المشاركة نظرًا للجانب التنافسي، وهذا يعزز من شهرتهم وسط نظرائهم، لكن من منظور سوق التوقعات — الذي لا يميل إلى إفراز مجتمع متعصب ومتشابك على العكس من آي ستوك فوتو وثريدلس — فإن وعد الشهرة المعززة أساس غير متين للبناء عليه.

أظهرت أسواق التوقعات كذلك ميلًا للمعاناة من المشكلات نفسها التي تؤثر على كافة أسواق الأوراق المالية الأخرى: البدع الجديدة وغزارة المعلومات والمعلومات الوهمية كتلك التي شهدت وصول الأسهم التكنولوجية إلى ارتفاعات مثيرة لا أساس لها من الصحة في أواخر التسعينيات. وهناك عائق أكبر أمام تأسيس سوق توقعات — لا سيما للشركات الصغيرة التي تأمل استخدامه على المستوى الداخلي — وهو أن دقة العقود الآجلة المتداولة تكون في تناسب مباشر مع «كثافة» السوق أو عدد المستثمرين الذين يشترون ويبيعون الأسهم في أي وقت بعينه. وكما اكتشفت شركتا هيوليت-باكارد وجوجل، قد يكون من الصعب إقناع عدد ضخم من الموظفين بالمشاركة في سوق داخلية مقابل مكافآت ضئيلة (تسمح شركة جوجل للأشخاص بالاستثمار بنقود افتراضية مقابل جوائز على غرار تي شيرتات وكوبونات). يقول برناردو هوبرمان، مدير مختبر الحوسبة الاجتماعية التابع لهيوليت-باكارد: «نتيجة لذلك تحصل على أسواق محدودة؛ حيث لا يكون هناك تداول كاف يسمح بالتنبؤ بفاعلية بالنتيجة. ثانيًا: يمكن التلاعب بسوق محدودة بسهولة عن طريق بضع تداولات.» فقد يضارب أحد رجال المبيعات بنتيجة لمصلحته على سبيل المثال، فدون وجود جمهور، لا يوجد تعهيد أعمال للجماهير.

لتقويم هذا الانحياز، ابتكر هوبرمان منهجًا للتصدي لآثار السوق المحدودة، بحيث يمكن لمجموعة محدودة من المستثمرين — مجلس إدارة شركة على سبيل المثال — وضع توقعات دقيقة. يجيب كل مساهم بصورة أساسية على سلسلة من الأسئلة تهدف إلى تقييم مستوى تجنبه للمخاطرة؛ فيقدم هؤلاء الذين لا يعبئون بالحيطة والحذر تصنيفًا عاليًا، فيما يقدم هؤلاء الذين يقفون على الجانب الآخر من النطاق تصنيفًا منخفضًا؛ ومن ثم تحدد المواقف التي يتبنونها في أي سوق توقعات وفقًا لمؤشر المخاطرة لديهم.١٢ يعتقد هوبرمان أنه عالج هذه المشكلة تحديدًا بهذا النظام الذي سجلت هيوليت-باكارد براءة اختراعه، مشيرًا إلى أن شركات أخرى (لم يكشف عن أسمائها) بدأت في ترخيصه. ويقول هوبرمان: «يمكننني تخيل استخدام ذلك في أعمال المخابرات، يمكن أن يلتقي كثير من الأشخاص الذين لا يملكون معلومات كافية عن أذربيجان ويضعون توقعات يمكن الاعتماد عليها إلى حد ما حول الأحداث التي يمكن أن تحدث هناك.»

يحاول مؤيدو أسواق التوقعات أيضًا تغيير قوانين المقامرة بحيث تسمح بعمل استثمارات نقدية حقيقية في أسواق معلومات غير ربحية، ما دامت تعمل في إطار رهانات صغيرة. (يبلغ الحد الأقصى للاستثمار في أسواق أيوا الإلكترونية ٥٠٠ دولار لكل حساب.) في مايو (أيار) ٢٠٠٧ أرسل ما يزيد على عشرين عالم اقتصادي بارز خطابًا إلى الكونجرس والهيئات التنظيمية الفيدرالية لحثها على تأسيس «ملاذ آمن» لتلك العمليات، وأوضحوا في الخطاب أن: «استخدام هذه الأسواق كأدوات للتوقع يمكن أن يحدث تطورًا جوهريًّا في صنع القرار في القطاعين الخاص والعام، كما سيساعد على الوصول إلى إدارة أفضل للمخاطر.»

تناولنا حتى الآن شبكات البث التدويني الجماهيري وأسواق التوقعات بوصفهما ظاهرتين مميزتين تمامًا. ومن منطلق منظور الذكاء الجماعي، هما كذلك بالفعل، لكن النظرية تلعب دورًا غريبًا عندما يتعلق الأمر بتعهيد الأعمال للجماهير؛ فهناك شكل من أشكال الإنتاج الاقتصادي يرغمنا على تطبيق النظرية على ما يحدث عمليًّا بالفعل. يحفز الإنترنت التغيير بسرعة كبيرة حتى إن النظرية تكافح من أجل المواكبة، لذا ليس من المفاجأة أنه في العالم الحقيقي، لا تنتمي بعض تطبيقات الذكاء الجماعي إلى أسواق المعلومات أو شبكات حل مشكلات، لكن إلى هجين مثير من الاثنين، ولا يقدم تعهيد الأعمال للجماهير مجموعةً من القواعد الصارمة، فأحيانًا تكون أفضل استراتيجية هي الارتجال الذكي.

(٣) ماركيتوكراسي: ذكاء اجتماعي مرتجل

انظر إلى تي جيه وايت على أنه تجسيد لحجة التنوع. في عام ١٩٩٩ لم يكن العديد من المستثمرين ليختاروا وايت مرشحًا لإدارة محافظهم المالية. وحتى ذلك الوقت، أمضى وايت حياته في مراكمة الكثير من الخبرات بقليل من الأعمال. كان وايت تلميذًا عاديًأ في المدرسة الثانوية بميدلاند بولاية تكساس، وانضم إلى البحرية الأمريكية مدة ستة أعوام لم تشهد أي أحداث بارزة، وتبعها بفترة ستة أعوام أخرى في كولورادو ساعيًا وراء ما أسماه «طفولة ثانية»، وعمل بسلسلة من الوظائف الهدف منها «توفير أسلوب معيشي» يتمحور حول التزحلق والتنقيب عن الذهب، لكنه لم يبرع في أي منهما. وفي صباح أحد الأيام في أواخر ذلك العام استيقظ وايت، ونظر من الغرفة إلى موقف السيارات خارج شقته المكونة من غرفة نوم واحدة، وتراءت أمامه حقيقة موقفه: «كنت شخصًا فاشلًا في الثلاثين من عمره ولا يملك شيئًا، لا يملك موهبة ولم ينه دراسته الجامعية وليس لديه مستقبل مهني.»

وبعد بضعة أيام من رأس السنة الميلادية عام ٢٠٠٠ انتقل وايت إلى دالاس، وبدأت أجزاء اللغز تتجمع في ذهنه. سرعان ما وجد وظيفة في شركة هوم ديبو، التي لا تبعد كثيرًا عن منزله، ويتذكر وايت: «كان المدير يعمل بسلاح البحرية في السابق، وصرنا أصدقاء.» وبعد بضعة أسابيع بعد ذلك قابل المرأة التي ستصير زوجته في اجتماع لنادي «طوال القامة بمدينة دالاس»، يوضح وايت الأمر قائلًا: «صادفني الموقع الإلكتروني للنادي عندما انتقلت في البداية إلى دالاس، فطولي ستة أقدام وشيري ستة أقدام وبوصتين، وصارت علاقتنا سريعًا علاقة ارتباط جادة.»

عثر وايت بعدها على ما يعتبره مهنته الحقيقة: عمليات التداول اليومية عبر الإنترنت. «يتحدث الجميع عن ميلونيرات يعملون بوظائف عادية كشركة هوم ديبو، لماذا لست منهم؟» (حقق العديد من الموظفين بهوم ديبو ثروة من أسهم الشركة أواخر التسعينيات). أقنع وايت شيري بالسماح له باستثمار مدخراتها، وضمها إلى مدخراته، وبدأ في الاستثمار، فوضع ٦٠٠٠ دولار في أسهم شركة تكنولوجيا قرأ عنها في جريدة دالاس مورنينج نيوز، و٤٠٠٠ دولار في أسهم شركات تكنولوجيا أخرى. وبحلول أواخر ذلك العام، حدث انهيار في قطاع التكنولوجيا، وخسر وايت ماله.

ذهب وايت وزوجته شيري إلى مطعم لتناول شطيرة هامبورجر للتحدث معًا في الأمر. أراد وايت أن تعطيه زوجته باقي مدخرات عمرها — ٢٠٠٠ دولار — لاستثمارها، ويقول: «نظرت إلي وأنا جالس بالناحية المقابلة من الطاولة، وأمسكت بيدي وقالت: أنت لا تجيد هذا الأمر، لقد حاولت وخسرت.» خرج وايت من هذه التجربة أفقر، لكنه خرج منها بدرسين ثمينين. أولًا: اكتشف أنه أحب عملية الاستثمار — تَدَبُّر النشرات ودراسة نسب مكاسب الأرباح، وفصل الادعاءات المتضخمة عن الاحتمال الحقيقي للنمو، والأهم من ذلك، أدرك أنه لا يجب مطلقًا الاستثمار في شركة لا يفهم مجال تجارتها، «لا أعرف شيئًا عن التكنولوجيا الحيوية أو الكمبيوتر، لكن بوسعي فهم ما تفعله شركة تصنع ثقبًا في الأرض بحثًا عن بترول.»

وبحلول العام التالي، اكتشف وايت منفذًا آمنًا لشغفه؛ شركة استثمار تدعى ماركيتوكراسي تتيح للأشخاص إنشاء «محافظ مالية نموذجية» على موقعها الإلكتروني. بعبارة أخرى، تشبه ماركيتوكراسي سوق توقعات للبورصة، وبعد التسجيل المجاني، يمكن لأي شخص فتح ما يصل إلى عشرة حسابات، يبدأ كل منها بمبلغ مليون دولار كمالٍ احتكاري، ملأ وايت صندوقه الأول باستثمارات واسعة بما يسميه «صناعات الطبقة الكادحة». في البداية استمرت خسائر وايت، لكن سرعان ما توقف عن المحاولة في عمليات التداول اليومية وبدأ في البحث عن قيم بعيدة المدى، وراح يطبق معادلة بدائية مقتصرًا على شراء الأسهم في الشركات التي تتعدى فيها معدل النمو نسب السعر إلى الأرباح. وأيد هذه المعادلة مستثمرون كوارين بافيت وبيتر لينش مدير ومؤسس صندوق «فيدليتي» الذي يؤيد استراتيجية «استثمر فيما تعرفه»، لكن وايت يقول إنه لم يكن يعرف ذلك حينها، ويعلق قائلًا: «اعتقدت أنني ابتكرت هذه الاستراتيجية.»

أثبت حدس وايت فاعليته على نحو ملحوظ؛ فهو يستثمر الآن في ماركيتوكراسي منذ سبعة أعوام، وتفوق سجل إنجازاته على أفضل الصناديق بوول ستريت. لو أنك أعطيت وايت مليون دولار دعمًا في عام ٢٠٠١، كنت ستحصل الآن على ٤١٧٦٠٠٠ دولار. لم تكن استثمارات وايت كافة في نقود افتراضية، فمن خلال توجيه مدخراته الضئيلة ببطء إلى حسابات سمسرة، استطاع وايت الاستقالة من وظيفته بهوم ديبو سريعًا بعد زواجه هو وشيري عام ٢٠٠٥، ويقول: «أملك ١٦٦٠٠٠ دولار مستثمر الآن، وقد اشترينا سيارتين»، واستقالت شيري من وظيفتها بشركة برمجيات وتدير الآن مركز رعاية نهارية للكلاب الصغيرة، ويقول وايت: «بعبارة بسيطة الصياغة كانت تمقت وظيفتها السابقة، وهذا كان أفضل ما في الأمر برمته.»

إن اكتشاف عباقرة استثمار غير محتملين كوايت هو أفضل ما قامت به شركة ماركيتوكراسي؛ فقد أسس ما يزيد على مائة ألف شخص ما تطلق عليه الشركة «محافظ مالية نموذجية» وما يقرب من عشرين ألفًا منهم «مستثمرون ناشطون»، من حيث إنهم يراقبون بانتظام — وبإسراف — محافظهم المالية. تراقب ماركيتوكراسي أداء مديري الصناديق الاعتباريين وتستخدم مجموعة منتقاة لأفضل مائة محفظة مالية لتوجيه القرارات الاستثمارية لصندوق «العظماء المائة»، الذي يضم ما يقرب من ٣٥ مليون دولار أصولًا حقيقية خاضعة للإدارة. هذا ليس بمبلغ ضخم من منظور صندوق استثمار تعاوني، لكنه تأييد هائل لمثل ذلك المنهج غير التقليدي في الاستثمار.

في الظاهر قد تبدو شركة ماركيتوكراسي شركة عادية للتعهيد للجماهير المعتمد على الذكاء الجماعي. ففي حين أن جزءًا ضخمًا ممن تطلق عليهم ماركيتوكراسي العظماء يأتون من مجالات مرتبطة بالأسهم، يشبه عدد مدهش من هؤلاء العظماء تي جيه وايت كثيرًا: محامون وطهاة وجيولوجيون وغيرهم ممن لديهم بصيرة خاصة في قطاع ما من السوق وموهبة في العثور على صفقات، أو يعلمون الأوقات المناسبة لتحقيق أرباح طائلة. هذا ما يسميه بيدج «جمهور النماذج» الذي يعني أن ماركيتوكراسي لا تبني قراراتها على الجمهور، بل على جمهور صغير من أفضل المؤدين، ويقول بيدج: «الأمر يشبه جمهورًا من الخبراء». في هذه الحالة، يضم الخبراء خليطًا من أفراد «مجموعة المينسا» إلى جانب عدد كبير من «أصحاب الجوارب البنية». يبدو أنها معادلة رابحة: منذ تأسيس الشركة في أواخر عام ٢٠٠١ تفوق العظماء المائة بماركيتوكراسي على أحد أركان البورصة، «ستاندرد آند بورز ٥٠٠»، بمتوسط يقترب من ٤٠ في المائة.

قد يبدو أن هذا السجل الحافل بالإنجازات يقدم الدليل البين على وجود مميزات للجمهور المتنوع. لكن الحقيقة وراء منهج إدارة الاستثمارات بشركة ماركيتوكراسي أهم وأعقد، كما يكشف هذا السجل أيضًا الكثير عن الطرق الشائكة التي يتجلى فيها الذكاء الجماعي، والظروف التي لا بد من تواجدها لتيسيره. أنشأت شركة ماركيتوكراسي على مدار أعوام هجينًا محسنًا يعزز من أفضل الصفات لكل من شبكات البث التدويني الجماهيري وسوق التوقعات. فهي تعتمد على أداء المحافظ المالية المباشر لتحديد من يتمتع بآفاق واعدة على غرار تي جيه وايت، لكن في أعقاب بضعة أرباع سنوات كارثية، تعلمت الشركة أيضًا أن تتحلى بقدر كبير من الفطنة في اتخاذها القرار بأن تتبع أحيانًا آراء العظماء المائة وأحيانًا أخرى تبتعد عنها.

لم يفكر كين كام ومارك تاجوتشي في الذكاء الجماعي على الإطلاق عندما أسسا الشركة، بل كانا يبحثان ببساطة عن نظام أفضل يمكن من خلاله اكتشاف أشخاص موهوبين في معاملات البورصة. ومن عام ١٩٩٤ إلى عام ٢٠٠٠ ساهم الاثنان في إدارة صندوق استثماري تعاوني يدعى فيرست هاند فَندز، الذي تفوق على أي صندوق استثماري تعاوني آخر في تلك الفترة؛ إذ بلغ متوسط العائد على أموال المستثمرين في الأعوام الخمسة الأولى ٥٦ في المائة، عندما غادرا الصندوق لإنشاء صندوق خاص بهما، انهالت عليهما السير الذاتية من أشخاص طالبين المساهمة في إدارة الصندوق. ومن أجل تحديد أفضل شخص موهوب في المعاملات التجارية، طلبا من المتقدمين — وأي شخص آخر لديه اتصال بالإنترنت — إنشاء محفظة أوراق مالية صورية. كانت توقعاتهما أن ينشئ ما يقرب من خمسة آلاف شخص حسابات بشركة ماركيتوكراسي، وبعد عام أو اثنين سيتوفر لدى الاثنين بيانات كافية تساعدهما على تعيين أفضل المستثمرين من بين المجموعة لمساعدتهما في إدارة صندوقهما الجديد.

ويقول تاجوتشي ضاحكًا وهو يتبادل النظرات مع كام: «تغير ذلك الهدف سريعًا للغاية.» اشترك ما يقرب من خمسين ألف شخص راغب في أن يكون مستثمرًا في إنشاء المحافظ المالية الصورية في العام الأول، ويقول تاجوتشي: «لطالما آمنّا بفكرة العمل الجماعي، لكن هذه الفكرة تطورت إلى استخدام فريق عمل ضخم للغاية.» في نوفمبر (تشرين الثاني) عام ٢٠٠١ أطلقت ماركيتوكراسي صندوق «العظماء المائة» فبدأ العديد من الأنظار تلتفت إلى ماركيتوكراسي، وحقق كام وتاجوتشي نجاحًا كبيرًا في عمليات المضاربة الأخيرة على الصعود في السوق، وكان هناك اهتمام كبير — وشكوك حول — منهجهما الجديد غير المعتاد في إدارة صندوق استثماري تعاوني.

بدا الأمر في البداية أن كام وتاجوتشي والجمهور معصومون من الخطأ؛ فخلال العام الأول من عمل الصندوق عانى السوق تراجعًا شاملًا، لكن صندوق العظماء المائة تفوق على نظرائه في السوق في الأداء منذ البداية. وبحلول نهاية العام الأول، تغلبت ماركيتوكراسي على مؤشر إس آند بي ٥٠٠ بحوالي ١٤ في المائة، وبحلول أواخر عام ٢٠٠٢ وصل السوق إلى أدنى مستويات الانخفاض، ثم بدأت الأسهم في الصعود مع بداية تعافي الاقتصاد. في ذلك الوقت كان كام وتاجوتشي يديران الصندوق باستخدام أبسط الطرق؛ إذ وزعت الشركة ببساطة أصولها بنسب متساوية تمامًا، كما فعل أفراد صندوق العظماء المائة، ويقول تاجوتشي: «في البداية وازنّا الأسهم التي يتكون منها الصندوق بحيث تعكس تلك الموجودة في صندوق العظماء المائة، بحيث إذا استحوذ صندوق العظماء على أسهم مقدارها ثلاثة في المائة في شركة آبل، نحصل على القدر نفسه.»

استمر تفوق أداء الصندوق على السوق، ونجحت استراتيجية ماركيتوكراسي في الاستثمار المعتمد على الجمهور في سوق المضاربة على الهبوط عام ٢٠٠٢ وسوق المضاربة على الصعود عام ٢٠٠٣، ويقول كام: «في عام ٢٠٠٢ سيطر الأشخاص المتحفظون.» كان هؤلاء المستثمرون مناسبين تمامًا لاتخاذ قرارات في سوق سلع رخيصة، لكن مع بداية اتجاه الأسهم إلى الصعود، أراد كام وتاجوتشي نوعًا مختلفًا من المستثمرين لإدارة الدفة. «في عام ٢٠٠٣ بدأنا نحل محل المستثمرين الأكثر نجاحًا.» بدا الأمر وكأنه نموذج مؤكدٌ نجاحه، وفي عام ٢٠٠٣ حَقَّقَ الصندوق أرباحًا رائعة تقدر ﺑ ٤٢٫٨٢ في المائة، وبدأ تدفق أموال الاستثمارات.

لكن في عام ٢٠٠٤ دخلت السوق مرحلة جديدة أعقد. «كانت سوقًا سريعة التقلب، الارتفاع ثم الانخفاض، دون استقرار في أداء القطاعات.» بدأ أداء صندوق «العظماء المائة» في الانخفاض، وبدأ المستثمرون في الهروب من الصندوق، الذي انخفضت أصوله من ١٠٠ مليون دولار تقريبًا تحت الإدارة — وحدة القياس الأساسية في الصناديق الاستثمارية — إلى ٢٠ مليون دولار خلال عام واحد فحسب.

من الواضح أنه كان هناك أوجه خلل بمنظومة الحلول الحسابية التي تتبعها ماركيتوكراسي، إذ أدرك كام وتاجوتشي أنه مع بداية تعارف أفضل المستثمرين فيما بينهم، بدءوا في مناقشة أوضاع الملكية الخاصة بهم. (تستضيف شركة ماركيتوكراسي مؤتمرات يتسنى خلالها لأعضائها التقابل ومناقشة أمور العمل معًا.) كان لهذا الأمر جانبًا إيجابيًا — على سبيل المثال، يمكن أن يتعرف الأعضاء على الصناعات التي لا يستثمرون فيها في الوقت الحالي — لكن كان له أيضًا جانبًا سلبيًّا خطيرًا، وهو أن التشاور عدو الذكاء الجماعي إذ إنه يقلل من التنوع. فمع تباحث الأفراد، يصلون إلى اتفاق جماعي أيضًا، وأحد أهم الشروط التي تسمح للجماهير بصياغة توقعات ذكية أو التوصل إلى مناهج جديدة هي الاستقلالية: يتخذ كل فرد قراره مستقلًّا. يقول كام: «بدأنا نرى عقلية القطيع تظهر حتى بين أفضل مستثمرينا.» لذا أجرى كام وفريقه عددًا من التغييرات على الموقع، من بينها تغيير أتاح للأعضاء فيما بينهم رؤية التعاملات التجارية، و«نجح هذا الأمر على الفور».

لكن الإنجاز الحقيقي لشركة ماركيتوكراسي تمثل في إدراكها أن مجموعة أفضل المؤدين — العظماء المائة — صغيرة للغاية، وأن استخدام منظومة حل حسابية لتوجيه الاستثمارات كان منهجية محدودة للغاية؛ فلم تكن الشركة تستفيد من مواهب وقدرات المستثمرين الآخرين الذين لا يزالون يملكون خبرات فريدة قد تسمح بتحقيق أرباح طائلة على صفقة تجارية، مع أنهم لا يؤدون بنفس كفاءة العظماء المائة. لذا بدأت شركة ماركيتوكراسي في التواصل مع المجتمع بأسره وإشراكه في قراراتها.

لم يمض وقت طويل بعد انهيار ماركيتوكراسي عام ٢٠٠٤ إلا وكان كام وتاجوتشي قد وضعا التركيبة التي توصلا إليها موضع التنفيذ. «لاحظنا أن مجموعة فرعية من المستثمرين كانوا يشترون كميات كبيرة من الأسهم في شركة شحن البترول نايتسبريدج تانكرز.» لم يقترب منها أي فرد من العظماء المائة أو حتى سمع بها على الأرجح، لكن مجموعة من المستثمرين الأقل تميزًا ممن لديهم حسابات بماركيتوكراسي كانوا يتهافتون عليها، «كان هذا السهم يُتَدَاوَل بمستويات منخفضة للغاية، وكل هؤلاء الأفراد يسبحون ضد التيار بالاستثمار فيه، فأردنا أن نعرف السبب.» لذا أرسلا بعض الرسائل الإلكترونية إلى هؤلاء المستثمرين، و«تلقينا معلومات شديدة التفصيل.»

اتضح أن هؤلاء المستثمرين يتقاسمون معلومات سرية لا يعرفها العظماء المائة أو المستثمرون بوول ستريت، ويتساءل كام في ارتياب: «كانت الشركة تملك عددًا ضخمًا من ناقلات النفط التي توشك أن تتخلص منها وتكهنها. كيف تمكنوا من معرفة ذلك؟ من يمكنه معرفة ذلك؟ اتضح أن ناقلات النفط كانت مسجلة في سنغافورة، وذهب بعض الأفراد إلى سنغافورة لفحص التسجيلات. إن الأمر لا يصدق. يتجلى الحس السليم هنا في أنه عندما تصل ناقلة بترول إلى نهاية عمرها، تكون قيمتها صفر، لكن سعر الفولاذ بدأ في الوصول إلى مستويات مرتفعة للغاية في تلك الأثناء، وكان كل ذلك على وشك أن يعود إلى المستثمرين في صورة أرباح الأسهم»، وحققت ماركيتوكراسي أرباحًا طائلة.

أصبحت الشركة سوق توقعات كفء توظف عناصر مهمة من شبكة البث التدويني الجماهيري، ويقول بيدج: «يكمن سبب تفوق التنوع على الموهبة في سيناريو حل المشكلات في أنه يمكن دائمًا التخلص من الأغبياء.» في حالة شركة ماركيتوكراسي، لم يمكنهم استغلال هذا الخيار بسبب تعقبهم العظماء المائة، ويفسر بيدج ذلك قائلًا: «إن اختيار الأسهم، نصفه توقع ونصفه حل مشكلات، لذا يبدو منهج ماركيتوكراسي منطقيًّا للغاية.»

ينطوي استغلال الذكاء الجماعي للأشخاص على المتاجرة بما يعرفه الجمهور بالفعل. وعامة، تقتضي هذه التطبيقات لتعهيد الأعمال للجماهير استثمارات صغيرة في الوقت والجهد من جانب المساهمين الأفراد. إن هؤلاء المساهمين هم ما قد نراهم أيضًا عوامل مساعدة؛ إذ يساعدون الناس على تقديم أداء أفضل في العمل، لكنهم لا يشكلون تهديدًا بالحلول محل الموظفين الحاليين. وكما سنرى، تهدد أشكال أخرى من تعهيد الأعمال للجماهير بخلق مزيد من الفوضى، وفي حالات قليلة تحدث هذه الفوضى بالفعل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤