الفصل الأول

النقد

البيتكوين هو أحدث تكنولوجيا تؤدي دور النقد — إنه اختراع سخَّر الإمكانيات التكنولوجية الموجودة بالعصر الرقمي من أجل حل مشكلة ما تزال قائمةً منذ الوجود البشري؛ وهي كيفية نقل القيمة الاقتصادية عبر الزمان والمكان. ولفهم البيتكوين يجب على المرء أن يفهم النقد أولًا، ولا يوجد سبيل لذلك إلا بدراسة تاريخ ووظيفة هذا النقد.

أبسط طريقة ليتبادل فيها الناس القيمة هي تبادل السلع القَيِّمة فيما بينهم، وتُدعى عملية «التبادل المباشر» هذه بالمقايضة، ولكنها فعَّالةٌ فقط في المجالات الصغيرة ذات العدد القليل من السلع والخدمات المُنتَجة؛ ففي اقتصاد افتراضي من اثنَي عشر شخصًا معزولين عن العالم، ليس هناك مجال واسع للتخصُّص والتجارة، لكن سيكون هناك فرصةٌ للأفراد للانخراط في إنتاج أهم أساسيات البقاء وتبادلها فيما بينهم بشكل مباشر. ولطالما كانت المقايضة موجودةً في المجتمع البشري، وهي مستمرة حتى يومنا هذا، ولكنها غير عمليَّة إلى حد كبير، وبقيت مُستَخدمةً فقط في ظروف استثنائية، تشمل عادةً أشخاصًا يعرفون بعضهم جيدًا.

أما في اقتصادٍ أكبر حجمًا وأكثر تطورًا، تُتاح الفرصة أمام الأفراد للتخصُّص في إنتاج المزيد من السلع وتبادلها مع عدد أكبر من الأشخاص — وهم أشخاص لا تربطهم علاقات شخصية، وغرباء لا يمكن بشكل عملي إقامة علاقات تجارية أو تقديم خدمات أو إقامة مصالح معهم. فكلما كَبُر حجم السوق، ازدادت فرص التخصُّص والتبادل، لكن ستزداد معها أيضًا مشكلة اختلاف الرغبات — أي ما ترغب في الحصول عليه يُنتجه شخص لا يرغب بما تعرضه للبيع. وبهذه الكيفية، يتضح لنا أن المشكلة هي أعمق من قضية متطلَّبات مختلفة لسلع متعدِّدة، حيث إن هناك ثلاثة أبعاد مختلفةً للمشكلة.

أولًا: نُدرة التطابق في القياسات؛ قيمة ما ترغب به قد لا تساوي قيمة ما تمتلكه، وقد لا يكون من العملي تقسيم إحداهما إلى وحدات صغيرة. تخيَّل مثلًا شراء منزل مقابل حذاء، لا يمكنك شراء قطع صغيرة من المنزل قيمة كل منها تساوي قيمة زوج من الأحذية، كما قد لا يرغب صاحب المنزل بامتلاك جميع الأحذية التي تعادل قيمتها قيمة المنزل. ثانيًا: ندرة تطابق الأُطر الزمنية؛ قد يكون ما تريد بيعه قابلًا للتلف، ولكن ما تريد شراءه أكثر ديمومةً وقيمة، الأمر الذي سيُصعِّب من عملية جمع ما يكفي من سلعتك القابلة للتلف لِتُبادِل بها السلعة المتينة في وقت معين؛ فليس من السهل جمع ما يكفي من التفاح لمبادلته بسيارة دفعةً واحدة؛ وذلك لأن التفاح سيتعفَّن قبل إتمام الصفقة. ثالثًا: ندرة تطابق المواقع؛ قد ترغب في بيع منزل في مكان ما لشراء منزل في مكان آخر، ومعظم المنازل غير قابلة للنقل. إن هذه المشاكل الثلاث تجعل التبادل المباشر غير عملي إلى حدٍّ كبير، ممَّا يضطر الناس للجوء إلى إجراء المزيد من المبادلات لتلبية احتياجاتهم الاقتصادية.

والطريقة الوحيدة لحل هذا الأمر هي عن طريق التبادل غير المباشر؛ حيث إنك ستحاول إيجاد سلعة أخرى قد يريدها شخص آخر، ثم تجد شخصًا يبادلها معك لقاء ما تريد بيعه. وهذه السلعة الوسيطة تُدعى وسيط التبادل. وبالرغم من أنه يمكن لأي سلعة أن يتم استخدامها كوسيط للتبادل، إلا أنه مع نمو نطاق وحجم الاقتصاد، سيصبح من غير العملي أن يبحث الناس باستمرار عن سلع مختلفة قد يريدها الطرف المقابل، ليقوموا بعدها بإجراء عدة مبادلات لكل مبادلة يريدون إجراءها. ولهذا، من الطبيعي أن ينبثق حل أكثر فعالية، ولو لمجرد أن من يُصادفه سيكون أكثر إنتاجيةً ممَّن لا يجده؛ حيث سيظهر وسيط واحد للتبادل (أو على الأكثر عدد قليل من وسائط التبادل) يستخدمه الناس لتبادل سِلَعهم. وتُدعى السلعة التي تؤدي دور وسيط للتبادل متفق عليه بشكل واسع «النقد».

إن الوظيفة الجوهرية التي تُحدِّد النقد هي الوظيفة التي تجعله وسيطًا للتبادل — بعبارات أخرى، إنه سلعة لا تُشترى لكي يتم استهلاكها (سلع استهلاكية)، ولا لكي تُوظَّف في إنتاج سلع أخرى (استثمارات، سلع رأسمالية)، ولكن بشكل أساسي من أجل مبادلتها بسلع أخرى. ففي حين يُفترض بالاستثمار أن يعود بالدخل لكي يتم مبادلته مع سلع أخرى، إلا أنه يختلف عن النقد بثلاثة جوانب؛ أولًا: إنه يُقدِّم عائدًا لا يقدِّمه النقد. ثانيًا: هناك دائمًا احتمال للفشل لكن يُفترض بالنقد أن يحمل معه أقل قدرٍ من المخاطر. ثالثًا: الاستثمارات أقل سيولةً من النقد، وتتطلَّب تكاليف تحويلات باهظةً في كل مرة يتم إنفاقها. وقد يساعدنا هذا في فهم سبب وجود طلب دائم على النقد، وعلى فهم السبب الذي سيمنع الاستثمارات من أن تستبدله بشكل كلي. حيث يعيش البشر حياةً من عدم اليقين؛ وذلك لأنه ليس بمقدورهم التنبؤ بالوقت الذي سيحتاجون فيه مبلغًا معينًا من النقد.١ لذلك، إن رغبة الأفراد بحفظ جزء من ثروتهم على شكل نقد هي فطرة سليمة وحكمة أزلية في جميع الثقافات البشرية تقريبًا؛ لأنه الملكية الأكثر سيولة، الأمر الذي يسمح لحامله بتسييله إن احتاج إلى ذلك، كما أنه يحمل مخاطر أقل بالمقارنة مع أي استثمار آخر. لكن ضريبة سهولة حمل النقد تأتي على شكل الاستهلاك المُتنازَل عنه، والذي كان من الممكن الاستفادة منه، وعلى شكل العائدات الضائعة التي كان من الممكن اكتسابها باستثماره.
إن والد المدرسة الاقتصادية النمساوية ومؤسس التحليل الهامشي في الاقتصاد، «كارل مينجر»، وعَبْر دراسته لمثل هذه الخيارات البشرية في حالات السوق، استطاع الوصول للخاصية الرئيسية التي تؤدي إلى تبَنِّي واعتماد سلعة ما كنقد بشكل حر في السوق، ألَا وهي قابلية البيع — أي سهولة بيع السلعة في السوق في الوقت الذي يرغب به مالكها بأقل خسارة في سعرها.٢

فليس هناك مبدأ ينص على ما ينبغي أو ما لا ينبغي استخدامه كنقد؛ فقد يختار أي شخص شراء شيء لا يريد استخدامه، بل سيشتريه لهدف مبادلته بشيء آخر، ممَّا يجعله بالواقع نقدًا، ولكن بما أن الناس مختلفون، فستختلف آراؤهم وخياراتهم فيما يُعتبر نقدًا نظرًا لاختلاف طبيعتهم. والعديد من «الأشياء» أدَّت دور النقد على مر التاريخ البشري؛ أهمها الذهب والفضة، وهناك أيضًا النحاس، والصدف، والحجارة الكبيرة، والملح، والماشية، والأوراق الحكومية، والأحجار الكريمة، وحتى الكحول والسجائر في بعض الحالات. لذلك، إن خيارات الناس هي خيارات غير موضوعية؛ ولهذا لا يوجد خيار «صحيح» أو «خاطئ» كخيار للنقد، ولكن رغم ذلك، هناك عواقب للخيارات.

ويمكن تقييم القابلية النسبية لبيع السلع بِناءً على قدرتها على معالجة الأوجه الثلاثة لمشكلة نُدرة تطابق الرغبات المذكورة سابقًا؛ وهي قابليتها للبيع عبر القياسات، وعبر الأماكن والأزمنة. فيمكن تقسيم السلعة القابلة للبيع عبر القياسات إلى وحدات أصغر، أو تجميعها ضمن وحدات أكبر، ممَّا يسمح للمالك ببيعها بالكمية التي يرغب بها. أما قابلية البيع عبر الأماكن فتعني سهولة نقل السلعة أو حملها أثناء سفر الشخص، ممَّا يُكسِب الوسائط النقدية الجيدة قيمةً مرتفعة لكل وحدة من الوزن. ولا يَصعُب تحقيق هاتَين الخاصيتَين لعدد كبير من السلع التي يمكنها أن تؤدي دور النقد، بينما يصعب تحقيق العنصر الثالث وهو قابلية البيع عبر الزمن، بما أنه الأكثر حسمًا.

وتُشير قابلية السلعة للبيع عبر الزمن إلى قدرتها على الاحتفاظ بقيمتها في المستقبل؛ ممَّا يسمح للمالك باستخدامها لتخزين الثروة، والتي هي الوظيفة الثانية للنقد؛ مخزن للقيمة. فلِكَي تكون السلعة قابلةً للبيع عبر الزمن، يجب أن تكون مقاوِمةً للتحلل والتآكل وكل أنواع التلف الأخرى. ويمكن القول إن أي شخص اعتقد أن بوسعه ادِّخار ثروته على المدى الطويل في الأسماك أو التفاح أو البرتقال قد تعلَّم درسًا قاسيًا، وغالبًا لم يعد لديه ثروة ليحتفظ بها بالمدى القصير بعد هذا الدرس؛ فالسلامة المادية بمرور الوقت هي شرط ضروري لكنه غير كافٍ لقابلية البيع عبر الزمن، حيث إنه من الممكن أن تفقد السلعة قيمتها بشكل كبير حتى وإن حافظت على سلامة شكلها المادي. فلِكَي تحافظ السلعة على قيمتها، يجب أيضًا ألَّا يزداد عرضها بشكل كبير خلال الفترة التي يمتلكها فيها مالكها. فمن السِّمات الشائعة لأشكال النقد عبر التاريخ، هي وجود بعض الآليات التي تَحدُّ من إنتاج وحدات جديدة من السلع حفاظًا على قيمة الوحدات القائمة، بحيث تقوم الصعوبة النسبية لإنتاج وحدات نقدية جديدة بتحديد صعوبة هذا النقد؛ فتُعرَف الأموال التي يصعب زيادة المعروض منها باسم «النقد الصعب»، بينما يُمثِّل النقد السهل الأموال التي تَسهُل زيادة المعروض منها بشكل كبير.

ونستطيع فهم صعوبة النقد من خلال فهم كميتَين مختلفتَين مرتبطتَين بعرض سلعة ما: (١) المخزون، وهو العرض القائم الذي يتضمَّن كل ما تم إنتاجه في الماضي عدا كل ما تم استهلاكه أو تدميره. (٢) التدفُّق، وهو الإنتاج الإضافي الذي سيتم إنتاجه في الفترة الزمنية القادمة. والنسبة بين المخزون والتدفُّق تُعتبر مؤشرًا موثوقًا على صعوبة السلعة كنقد، ومدى ملاءمتها لتأدية الدور النقدي؛ فالسلعة ذات نسبة مخزون إلى تدفُّق منخفضة هي سلعة يمكن زيادة عرضها بشكل كبير في حال بدأ الناس باستخدامها كمخزن للقيمة، ومن المستبعد أن تحافظ هذه السلعة على قيمتها في حال تم اختيارها كمخزن للقيمة. وكلما ارتفعت نسبة المخزون إلى التدفُّق، ازداد احتمال محافظة السلعة على قيمتها مع مرور الوقت، وبالتالي ارتفعت قابلية بيعها عبر الزمن.٣

وإذا اختار الناس نقدًا صعبًا ذا نسبة مخزون إلى تدفُّق مرتفعة كمخزن للقيمة، فسيؤدي شراؤهم له بهدف تخزينه إلى زيادة الطلب عليه، ممَّا سيؤدي إلى ارتفاع سعره، وسيحفِّز منتجيه على إنتاج المزيد منه، لكن وبسبب التدفُّق المنخفض مقارنةً بالعرض الحالي، فحتى الارتفاع الكبير في الإنتاج الجديد لن يستطيع غالبًا تقليل السعر بشكل كبير. من ناحية أخرى، إذا اختار الناس حفظ ثرواتهم بالنقد السهل بنسبة مخزون إلى تدفُّق منخفضة، فسيكون سهلًا على منتجي هذه السلعة أن يصنعوا كمياتٍ ضخمةً منها لتؤدي إلى انخفاض السعر، وتُقلِّل من قيمة السلعة، وتُصادر ثروة المدخرين، وتدمِّر قابلية بيع السلعة عبر الزمن.

أُفضِّل أن أُطلق على ما سبق مصطلح «فخ النقد السهل»؛ فأي شيء يمكن استخدامه كمخزن للقيمة سيزداد عرضه، وأي شيء يمكن زيادة عرضه بسهولة سيؤدي إلى فناء ثروة أولئك الذين يستخدمونه كمخزن للقيمة. والنتيجة البديهية لهذا الفخ هي أن أي شيء سيتم استخدامه بنجاح كنقد فإنه بالضرورة سيمتلك آليةً طبيعية أو صناعية تُقيِّد التدفُّق الجديد للسلعة إلى السوق، لتحافظ على قيمتها مع مرور الزمن. بالتالي، يجب أن يكون إنتاج السلعة مُكلِّفًا لكي تؤدي دورًا نقديًّا، وإلا فالحافز لصنع هذا النقد بكل سهولة سيُفني ثروة المدخرين، وسيُقلِّل الدافع لأي شخص لاستخدام هذا الوسيط للادخار.

وكلما أدَّى أي تطور طبيعي، أو تكنولوجي، أو سياسي إلى زيادةٍ سريعة في العرض الجديد للسلعة النقدية، فستفقد السلعة مكانتها النقدية، وستُستبدل بوسائط أخرى للتبادل ذات نسبة مخزون إلى تدفُّق مرتفعة وأكثر ثباتًا، وهذا ما سيتم نقاشه في الفصل التالي. فتم استخدام الأصداف البحرية كنقد عندما كان العثور عليها صعبًا، تمامًا كما يتم استخدام السجائر المفردة كنقد في السجون بسبب صعوبة تأمينها أو إنتاجها. أمَّا فيما يخص العملات الوطنية، فكلما انخفض معدل الزيادة في العرض، ازداد احتمال امتلاك العملة من قِبل الأفراد، وازداد احتمال محافظتها على قيمتها مع مرور الوقت.

فعندما سَهَّلت التكنولوجيا الحديثة استيراد وصَيد الأصداف، تحوَّلت المجتمعات التي استخدمت هذه الأصداف كنقد إلى استخدام النقود المعدنية أو الورقية. وعندما تزيد الدولة من عرض العملة، سيتجه مواطنوها نحو استخدام العملات الأجنبية، أو الذهب، أو غيرها من الأصول النقدية الأكثر ثباتًا. وقدَّم لنا القرن العشرين عددًا هائلًا من هذه الأمثلة المأساوية، لا سيما في البلدان النامية. فالوسائط النقدية التي دامت لأطول مدة هي تلك التي كان لديها آليات موثوقة للغاية لتقييد نمو عرضها — وبعبارة أخرى، «النقد الصعب». فالمنافسة بين الوسائط النقدية قائمة دائمًا، ويمكن التكهُّن بنتائجها من خلال تأثيرات التكنولوجيا على المنافسين من ناحية النِّسب المتفاوتة للمخزون إلى التدفُّق، كما سيتم بَرهنته في الفصل التالي.

وبالرغم من حرية الأفراد في استخدام أية سلعة تروق لهم كوسيط للتبادل، إلا أنه بالحقيقة ومع مرور الوقت، سيكون مستخدمو النقد الصعب أكبر المستفيدين؛ وذلك بسبب خسارةٍ ضئيلة للقيمة بسبب العرض الجديد المُهمل لوسيط التبادل الخاص بهم. أما أولئك الذين يختارون النقد السهل، فمن المرجَّح أن يخسروا القيمة بسبب نمو عرضه بشكل سريع، الأمر الذي سيؤدِّي إلى انخفاض سعره السوقي. وبهذا، ستتركَّز غالبية المال والثروة مع أولئك الذين يختارون النقد الأكثر صعوبةً ذا قابلية البيع الأكبر، سواء من خلال حسابات منطقية محتملة، أو من دروس الماضي القاسية. لكن يجدر الإشارة إلى أن صعوبة وقابلية بيع السلعة نفسها ليسا شيئًا ثابتًا مع مرور الوقت؛ فمثلما كان هناك تباين في القدرات التكنولوجية للمجتمعات والعصور المختلفة، كان هناك تباين في الأشكال المختلفة من النقد، وتباينت معها قابليتها للبيع. ففي الحقيقة، لطالما حدَّد الواقع التكنولوجي للمجتمعات خيار اختيار النقد الأفضل بتحديده لقابلية بيع السلع المختلفة؛ لهذا، نادرًا ما يكون علماء الاقتصاد النمساويون جازمين أو متشدِّدين في تعريفهم للنقد السليم؛ فَهُم لا يُعرِّفونه كمُنتَج أو كسلعة معينة، بل بأنه نقد يظهر في السوق ويتم اختياره بحريَّة من قِبل الأفراد الذين يتداولون به، ولم تفرضه عليهم أي سلطة استبدادية، وهو أيضًا النقد الذي يتم تحديد قيمته عن طريق تفاعلات السوق وليس عن طريق الإملاءات الحكومية.٤ والمنافسة النقدية في الأسواق الحرة هي منافسة فعَّالة وشديدة في إنتاج النقد السليم؛ حيث إنها تسمح لمن يختار النقد الصحيح بالحفاظ على ثروة ضخمة بمرور الوقت، فلا حاجة لأن تفرض الحكومة النقد الأصعب على المجتمع، المجتمع سيكتشفه بنفسه قبل أن تفرضه حكومته بوقت طويل، ولن يؤدي أي فرض حكومي له — إن كان له تأثير — إلا إلى عرقلة عملية المنافسة النقدية.

إنَّ الآثار الفردية والمجتمعية الكاملة للنقد الصعب والسهل أعمق بكثير من مجرد معنى الخسارة أو المكسب المالي، وهي موضوع رئيسي في هذا الكتاب، وسيتم مناقشتها بإسهاب في الفصل الخامس، والسادس، والسابع. فأولئك الذين لديهم القدرة على ادخار ثروتهم بمخزن جيد للقيمة، غالبًا ما يكون تخطيطهم للمستقبل أفضل من أولئك الذين لديهم مخزن سيئ للقيمة؛ فسلامة الوسائط النقدية من حيث قدرتها على الاحتفاظ بالقيمة مع مرور الوقت، هي مُحدِّد رئيسي لتفضيل الأفراد للحاضر على المستقبل، أو تفضيلهم الزمني، وهو مفهوم محوري في هذا الكتاب.

بعيدًا عن نسبة المخزون إلى التدفق، هناك جانب آخر مهم لقابلية الوسيط النقدي للبيع، وهو قَبول الآخرين به؛ فكلما ازداد قَبول الناس للوسيط النقدي، ازدادت سيولته، وازداد احتمال بيعه وشرائه بأقل الخسائر. فتُوضِّح بروتوكولات الحوسبة في الظروف الاجتماعية التي تَكْثُر فيها تعاملات النظير إلى النظير، أنه من الطبيعي أن تظهر بعض المعايير لتسيطر على التبادل؛ وذلك لأن المكاسب الناتجة عن الانضمام إلى شبكة ما تنمو بشكل كبير كلما كبُر حجم الشبكة. لهذا، يسيطر الفيسبوك والقليل من شبكات التواصل الاجتماعي على السوق، بالرغم من ابتكار وترويج مئات الشبكات المماثلة تقريبًا. بشكل مشابه، يجب على أي جهاز يقوم بإرسال رسائل البريد الإلكتروني استخدام بروتوكول IMAP/POP3 لاستقبال البريد الإلكتروني، وبروتوكول SMTP لإرساله. ولقد تمَّ ابتكار بروتوكولات عديدة أخرى، ويمكن استخدامها بشكل فعال، ولكن لا يستخدمها أحد تقريبًا لأن هذا سيَحُول من قدرة المستخدم على التفاعل مع كل مَن يستخدم البريد الإلكتروني في أيامنا هذه تقريبًا؛ وذلك لأنهم يستخدمون IMAP/POP3 وSMTP. ينطبق الأمر ذاته على صعيد النقد؛ فكان ظهور سلعة ما أو بضع سلع كوسيط أساسي للتبادل أمرًا حتميًّا؛ وذلك لأن خاصية التبادل بشكل سهل هي الأهم، فلا يتم الاحتفاظ بوسيط التبادل، كما ذُكر سابقًا، من أجل خواصه، بل من أجل قابليته للبيع.

والقَبول الواسع لوسيط التبادل يسمح أيضًا بالتعبير عن جميع الأسعار وفقًا له، ممَّا يسمح له بتأدية الوظيفة الثالثة للنقد: وهي وحدة الحساب. ففي اقتصاد لا يوجد فيه وسيط معروف للتبادل، يجب تسعير كل سلعة وفقًا للسلع الأخرى، ممَّا سيؤدي إلى ظهور عدد كبير من الأسعار، ويجعل الحسابات الاقتصادية صعبةً للغاية. أما في اقتصاد يستخدم وسيطًا للتبادل، فإنه يتم التعبير عن كل الأسعار لكل السلع باستخدام وحدة الحساب ذاتها. في مجتمع كهذا، يعمل النقد كمقياس لقيمة العلاقات بين الأفراد؛ بحيث يتم مكافأة المنتجِين حتى يساهموا بتقديم القيمة للآخرين، ويوضَّح للمستهلكين المَبالغ التي يتوجَّب عليهم دفعها للحصول على السلع المطلوبة. فالحسابات الاقتصادية المعقدة لا تُصبح ممكنةً إلا بوجود وسيط موحَّد للتبادل يؤدي دور وحدة حسابية، بحيث تأتي معه إمكانية التخصُّص في المهام المعقَّدة، وتراكم رأس المال والأسواق الكبيرة. فتشغيل اقتصاد السوق يعتمد على الأسعار، ولكي تكون الأسعار دقيقة، يجب أن تَعتمد على وسيطٍ شائعٍ للتبادل، ممَّا سيعكس النُّدرة النسبية للسلع المختلفة. وفي حالة النقد السهل، فإن قدرة الجهة المُصدِّرة له على زيادة كميته بشكل مستمر، ستمنعه من تقدير تكاليف الفرصة البديلة بشكل دقيق، وكل تغيير لا يمكن التنبؤ به في كمية النقد سيقوم بتشويه دَوره كمقياس لقيمة العلاقة بين الأفراد وكقناة للمعلومات الاقتصادية.

فوجود وسيط واحد للتبادل سيسمح بنمو حجم الاقتصاد بقدر عدد الأشخاص الراغبين في استخدام وسيط التبادل ذاك، وكلما كان حجم الاقتصاد أكبر، ازدادت فرص الكسب من التبادل والتخصُّص، وربما الأهم من ذلك، سيصبح هيكل الإنتاج أطول وأكثر تعقيدًا. فيمكن للمنتجين أن يتخصَّصوا في إنتاج سلع رأسمالية لا يتم استخدامها كسلع استهلاكية نهائية إلا بمرور فترات طويلة، ممَّا يؤدي إلى نشوء منتجات أكثر إنتاجيةً على مستوى أرفع. ففي اقتصاد بدائي صغير، تألَّف هيكل إنتاج الأسماك من أفراد يذهبون إلى الشاطئ ويصطادون الأسماك بأيديهم العارية، بحيث تستغرق العملية بأكملها بضع ساعات من البداية إلى النهاية. ولكن مع نمو الاقتصاد، أصبحت تُستخدم أدوات وسلع رأسمالية أكثر تطورًا، وأدَّى إنتاج هذه الأدوات إلى تمديد فترة عملية إنتاجها بشكل كبير بالإضافة إلى إطالة إنتاجيتها. ففي العالم الحديث، تُصطاد الأسماك بقوارب متطورة للغاية يَستغرق بناؤها سنوات وتعمل لعقود من الزمن، وتستطيع هذه القوارب الوصول إلى البحار التي لا تستطيع القوارب الصغيرة الوصول إليها، وبهذا تصطاد أسماكًا لم تكن متوفِّرة من دونها. كما يمكن لهذه القوارب مواجهة الطقس القاسي ومتابعة الإنتاج في ظروف صعبة للغاية، في حين أن القوارب الأقل كثافةً من حيث استثمار رأس المال ستبقى راسيةً ودون فائدة. وبالرغم من أن عملية جمع وتراكم رأس المال قامت بإطالة أمد العملية، إلا أنها أصبحت أكثر إنتاجيةً لكل وحدة عمل، وأصبح بالإمكان إنتاج منتجات أفضل لم تكن ممكنةً في الاقتصاد البدائي ذي الأدوات الأساسية دون وجود رأس مال متراكم. فلم يكن أيٌّ من هذا ممكنًا دون وجود نقد يؤدي دور وسيط للتبادل يسمح بالتخصُّص، ويسمح بوجود مخزن للقيمة؛ وذلك لخلق توجه مستقبلي، وليحفِّز الأفراد على توجيه الموارد إلى الاستثمار بدلًا من الاستهلاك، ويسمح بوجود وحدة حساب تسمح بالحسابات الاقتصادية للربح والخسارة.

ولقد شهد تاريخ تطوُّر النقد سلعًا مختلفة تؤدي دَور النقد بدرجات مختلفة من الصعوبة والسلامة، وذلك حسب القدرات التكنولوجية لكل عصر. فكل خطوة من التقدُّم التكنولوجي سمحت لنا باستخدام شكل جديد من النقد مع فوائد إضافية، ولكن كما هو الحال دائمًا مع مخاطر جديدة، بدءًا من الأصداف البحرية إلى الملح، والماشية، والفضة، والذهب، والنقد الحكومي المدعوم بالذهب، وانتهاءً بالاستخدام الحالي شبه العالمي للنقد القانوني المُصدر من قِبل الحكومات. ونستطيع تمييز الخصائص التي تجعل من النقد نقدًا جيدًا أو سيئًا من خلال دراسة تاريخ الأدوات والمواد التي تمَّ توظيفها واستخدامها كنقد عبر التاريخ. ثم يمكننا المُضي قُدمًا لفهم آلية عمل البيتكوين، وفهم دَوره كوسيط نقدي، وذلك فقط من خلال فهم هذه الخلفية والمعلومات.

ويبحث الفصل التالي تاريخ المصنوعات الغامضة والمواد التي استُخدمت كنقد عبر التاريخ، بدءًا من حجارة «الراي» على جزيرة «ياب»، إلى الأصداف في الأمريكيتَين، والخرز الزجاجي في أفريقيا، والماشية والملح في العصور القديمة. فكل وسائط التبادل هذه أدَّت وظيفة النقد لشعوبها خلال الفترة التي كانت تمتلك فيها أفضل نِسب المخزون إلى التدفُّق، ولكنها توقَّفت عندما خسرت تلك الخاصية؛ ففهْم السبب والكيفية ضروري لفهم التطور المستقبلي للنقد، وأي دَور محتمل قد يؤديه البيتكوين. ثم ينتقل الفصل الثالث إلى تحليل المعادن النقدية وكيف أصبح الذهبُ المعدنَ النقدي الرئيسي في العالم خلال فترة المعيار الذهبي في نهاية القرن التاسع عشر. ويحلِّل الفصل الرابع الانتقال إلى النقود الحكومية والسجل التاريخي الخاص بها. وبعد مناقشة الآثار الاقتصادية والاجتماعية لأنواع النقد المختلفة في الفصل الخامس، والسادس، والسابع، يطرح الفصل الثامن قضية اختراع البيتكوين وخصائصه النقدية.

١  راجع كتاب لودويغ فون ميزس، الفعل البشري، صفحة ٢٥٠، لمشاهدة حوار كيف أن عدم اليقين من المستقبل هو الدافع الرئيسي للرغبة بامتلاك النقد. فبزوال عدم اليقين في المستقبل، سيتمكَّن البشر من معرفة جميع إيراداتهم ونفقاتهم مسبقًا، وبذلك يخطِّطون لها على النحو الأمثل بحيث لا يضطرون أبدًا إلى حمل أي نقد. ولكن بما أن عدم اليقين هو جزء أساسي في الحياة، فعلى الناس الاستمرار في حمل المال كي يتمكَّنوا من الإنفاق دون أن يُضطروا إلى معرفة المستقبل.
٢  كارل مينجر، «حول أصول النقد»، المجلة الاقتصادية، المجلد ٢ (١٨٩٢م): ٢٣٩–٢٥٥؛ ترجمة سي إي فولي.
٣  آنتال فيكيت، إلى أين يتجه الذهب؟ (١٩٩٧م)، حاصل على جائزة العملة الدولية لعام ١٩٩٦م، برعاية Bank Lips.
٤  جوزيف ساليرنو، النقد: السليم وغير السليم (مؤسسة لودويغ فون ميزس، ٢٠١٠م)، الصفحات ١٤–١٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤