الفصل الحادي عشر

في الصباح هاتَف جرانت رئيسه، لكنه لم يكد يبدأ حديثه حتى قاطعه برايس.

«أهذا أنت، يا جرانت؟ أَرسِل مُساعدَك هذا على الفور. لقد سرَق بيني سكول محتويات خزانة غرفة نوم بوبي بلامتر ليلة أمس.»

«كنتُ أظنُّ أن مقتنيات بوبي الثمينة كلها مع آنكل.»

«ليس منذ أن اتخذت لنفسِها والدًا جديدًا.»

«هل أنتَ واثق أن من فعل ذلك هو بيني؟»

«واثق تمامًا. الأمر يحمل بصماته المميزة. المُكالَمة الهاتفية لإزاحة الحارس من طريقه، وعدم ترك بصمات الأصابع، ووجبة الحليب والخبز والمربَّى، وخروجه من مدخل الخدم. وما كان لينقصه سوى تسجيل اسمه في سجلِّ الزوار، حتى تكتمل بصماته التي تدلُّ على ارتكابه الجريمة.»

«حسنًا؛ إنَّ اليوم الذي سيتعلَّم فيه المُجرمون تنويع أساليبهم هو اليوم الذي سنفشل نحن فيه في أداء عملنا.»

«أريد من ويليامز أن يُلقيَ القبض على بيني. إنه يعرف بيني تمام المعرفة. لذا اجعله يعود. كيف تسير الأمور معك؟»

«ليس بأفضل شكل.»

«حقًّا؟ كيف ذلك؟»

«ليس لدينا جثة. لذا نحن أمام احتمالَين؛ إما أن سيرل قد مات، وذلك إما عن طريق الخطأ أو بتدبير مسبق؛ أو أنه اختفى لغاية خاصة به.»

«ما نوعية تلك الغاية؟»

«ربما تكون دعابة سيئة.»

«من الأفضل له ألا يُحاول فعل ذلك معنا.»

«ربما كان الأمر بالطبع أنه فقد ذاكرته فحسب.»

«من الأفضل له أن يكون الأمر على هذا النحو.»

«أحتاج إلى شيئين، يا سيدي. الأول هو رسالة استغاثة عبر الراديو. والشيء الآخر هو بعض المعلومات من شرطة سان فرانسيسكو بشأن سيرل. نحن نعمل دون معلومات تدلنا على الطريق الصحيح، لأننا لا نعرف شيئًا عنه. الصلة الوحيدة له في إنجلترا هي قريبة من أبناء عمومته؛ فنانة لم يتواصل معها. أو يقول إنه لم يفعل. على الأرجح أنها ستتواصل معنا حين ترى صحف هذا الصباح. لكن من المرجَّح أنها لن تعرف عنه الكثير.»

«وهل تظنُّ أن شرطة سان فرانسيسكو ستعرف الكثير؟»

«كانت سان فرانسيسكو مقر إقامته، بحسب ما عرفت، حين أمضى شهور الشتاء على الساحل، ولا شك أن بإمكانهم التنقيب عن أي معلومات بشأنه هناك. دعهم يُعلِمونا إن كان قد وقع في مشكلة هناك أو أراد أحد قتله لأي سبب كان.»

«أظنُّ أن الكثيرين قد يرغبون في قتل مصور فوتوغرافي. حسنًا، سنفعل ما طلبت.»

«شكرًا لك، يا سيدي. وماذا عن إشارة الاستغاثة؟»

«لا يروق هيئة الإذاعة البريطانية أن تُشوَّش برامجها اللطيفة برسائل الشرطة. ماذا تريد أن تقول في تلك الإشارة؟»

«أريد أن أطلب من أي أحد قام بتوصيل شاب في المنطقة بين ويكهام وكروم ليلة الأربعاء أن يتواصل معنا.»

«حسنًا. سنتولى ذلك. هل استوفيتَ كل الإجراءات المُعتادة؟»

«استوفيت كل شيء، يا سيدي. ولم أجدْ أثرًا له في أي مكان. وهو ذو صفات يسهل الاستدلال عليها. وباستثناء اتفاقه مع طائرة لتنتظره ثم تنقله بعيدًا عن المكان — الأمر الذي لا يحدث إلا في قصص الصِّبية، على حد علمي — فإن الطريقة الوحيدة التي يمكنه بها الخروج من تلك المنطقة هي السير عبر الحقول والحصول على توصيلة من على الطريق الرئيسي.»

«ألا يُوجَد دليل على وقوع جريمة قتل بحقه؟»

«لا شيء حتى الآن. لكنني سأتحرَّى عن حجج غياب الناس هنا هذا الصباح.»

«أرسِل ويليامز قبل أن تشرع في أي شيء. وسأُرسل المعلومات التي ستردُ من سان فرانسيسكو إلى قسم شرطة ويكهام حين تصلنا.»

«جيد جدًّا، يا سيدي. شكرًا لك.»

أنهى جرانت المكالمة وذهب يخبر ويليامز.

قال ويليامز: «تبًّا لبيني. يحدث ذلك حين بدأت أحب هذا الجزء من الريف. ليس اليوم مناسبًا للتصارع مع بيني على أي حال.»

«أهو عنيف؟»

«بيني؟ كلا! إنه رعديد. سيبكي ويبكي ويقول إننا نحاول اتهامه دون حق، وأنه لم يكد يخرج من السجن ويُحاول أن يُصبح صالحًا — «يصبح صالحًا!» بيني! — حتى تعقَّبناه وأتينا به نستجوبه، وسيقول إنه لا يملك فرصة في هذه الظروف، وهكذا دواليك. إنه يصيبني بالغثيان. إن رأى بيني عملًا جادًّا وشريفًا في طريقه فسيهرب منه وكأنه يُحاول النجاة بحياته. لكنه يجيد الشكوى. لقد تمكَّن ذات مرة من طرح سؤال في البرلمان. وقد يتساءل المرء كيف يكون لدى أعضاء البرلمان أولئك ما يكفي من الذكاء ليطلبوا تذكرة قطار من مسقط رأسهم. هل سيتحتم عليَّ أن أستقل القطار إلى البلدة؟»

قال جرانت مبتسمًا لدى رؤيته أمارات الرعب على وجه زميله من فكرة السفر بالقطار: «أتوقَّع أن يعطيك رودجرز سيارة تُقلُّك حتى كروم ومن هناك تستقلُّ قطارًا سريعًا.» ثم عاد جرانت إلى الهاتف وتحدث إلى مارتا هالارد في منزلها ميل هاوس في سالكوت سانت ماري.

قالت: «آلان! كم لطيف أن أسمع صوتك. أين أنت؟»

«في فندق وايت هارت في ويكهام.»

«كم أنت مسكين يا عزيزي!»

«أوه، إنه ليس بهذا السوء.»

«دعك من هذا النُّبل الزائد. أنت تعرف أنه بدائي للغاية. بالمناسبة، هل سمعت بآخر الأخبار المُثيرة؟»

«أجل. هذا هو سبب وجودي في ويكهام.»

ثم ساد صمت مطبق بينهما.

بعدها قالت مارتا: «أتقصد أن إدارة سكوتلانديارد تبدي اهتمامًا بغرقِ ليزلي سيرل؟»

«لنقل باختفاء سيرل.»

«أتقصد أن الشائعة التي تقول بوجود خلاف بينه وبين والتر تحمِل قدرًا من الحقيقة؟»

«أخشى أنني لا أستطيع أن أُناقش الأمر عبر الهاتف. ما أردت أن أسألكِ عنه هو ما إن كنتِ ستكونين في المنزل هذا المساء إذا ما مررت لزيارتك.»

«لا بدَّ أن تأتي وتمكث، بالطبع. لا يُمكنك المكوث في ذلك المكان المريع. سأبلغ السيدة …»

«أشكركِ من كل قلبي، لكنني لا أستطيع فعل ذلك. لا بدَّ أن أكون هنا في ويكهام في مركز الأحداث. لكن إذا ما أردتِ أن تُقدِّمي لي العشاء …»

«بالطبع سأُقدِّم لك العشاء. ستحظى بوجبةٍ رائعة، يا عزيزي. مع الأُومليت الذي أعده والدجاج الذي تُعدُّه السيدة ثروب، وزجاجة من الشراب المعتَّق في القَبو التي ستُنسيك مذاق جعة فندق وايت هارت.»

وهكذا مضى جرانت يباشر مهامَّ يومِه وقد تحمس بعض الشيء بفعل فكرة أن ينتهي يومه بشيء من التحضُّر، فبدأ بمنزل تريمنجز. إن كان سيُقيِّم حجج الغياب، فمن الملائم أن يكون قاطنو منزل تريمنجز هم أول من يُقدِّمون حجج غيابهم.

كان الصباح لطيفًا صافيًا، وقد بدأت برودة الجو تخفُّ بعد صقيع ساعاته الأولى، وكما أشار ويليامز، لم يكن هذا يومًا يضيعه المرء في مطاردة مجرمي هذه الحياة؛ لكن مشهد منزل تريمنجز وهو ينتصِب في خيلاء تحت أشعة الشمس الساطعة أحيا في نفس جرانت حالته المزاجية الجيدة التي كانت قد فارقته. ليلة أمس كان المنزل عبارة عن مدخل مضاء وسط الظلمة. واليوم انتصب المنزل واضحًا جليًّا، ضخمًا إلى حد مفرط، بكلِّ تفاصيله التي تُوحي بالغرور والأناقة، وكان جرانت مُبتهجًا كثيرًا حتى إنه ضغط على دواسة الفرامل وأوقف السيارة عند المنعطَف على الطريق، وجلس في مكانه يُحدِّق بالمشهد.

جاءه صوت من جانبه يقول: «أعرف كيف تشعر تمامًا». كانت تلك هي ليز؛ عيناها ناعستان بعض الشيء كما لاحظ، لكنها كانت هادئة وودودة.

فقال جرانت: «صباح الخير. كنت مُحبطًا بعض الشيء هذا الصباح لأنني لم أتمكَّن من نفض يدي عن كل شيء والذهاب لصيد السمك. لكنني أشعر الآن بشعور أفضل.»

فقالت موافقة إياه: «إنه جميل، بالطبع. لا يكاد المرء يُصدِّق أنه موجود من الأساس. تشعر وكأن أحدًا لم يفكر في إنشائه؛ بل ظهر في مكانه فجأة من العدم.»

وانتقلت أفكارها من المنزل إلى وجود جرانت، وقد رأى جرانت السؤال يتشكَّل في ذهنها.

«آسف لكوني مُزعجًا، لكنني منشغل هذا الصباح بتشذيب هذه القضية.»

«تشذيب؟»

«أريد أن أستبعد كل الأشخاص الذين لا يُمكن أن يكون لهم صلة بهذه القضية على الإطلاق.»

«فهمت. أنت تتحرَّى عن حجج الغياب.»

«أجل» ثم فتح باب السيارة حتى يُقلَّها تلك المسافة القصيرة حتى المنزل.

«آمل أن يكون لدينا حجج غياب قوية. ويُؤسفُني القول إنني ليس لديَّ أي حجَّة غياب على الإطلاق. كان هذا هو أول شيء فكَّرت فيه حين عرفت من تكون. هذا غريب، أليس كذلك، كم يشعر البريء بالذنب حين لا يستطيع تفسير موقفه للمرة الألف. هل تُريد حجج غياب الجميع؟ كالخالة لافينيا وأمي وجميع من بالمنزل؟»

«والعاملين كذلك. كل شخص كانت له أي صِلة بليزلي سيرل.»

«من الأفضل إذن أن تبدأ بالخالة لافينيا. قبل أن تبدأ بأعمالها الصباحية. فهي تُملي عليَّ طيلة ساعتين صباح كل يوم وتحب أن تبدأ في الموعد المحدَّد.»

فسألها جرانت حين وصلا عند الباب: «أين كنتِ، يا آنسة جاروبي؟»

«وقت حدوث الواقعة؟» فكَّر جرانت أنها تتعمد أن تكون باردة غليظة القلب حيال الأمر؛ إن «وقت حدوث الواقعة» هو الوقت الذي من المُفترَض أن ليزلي سيرل قد فقد حياته فيه، ولم يظنَّ جرانت أنها نسيت تلك الحقيقة.

«أجل. ليلة الأربعاء.»

«كما يقولون في القصص البوليسية كنت قد «أويت إلى فراشي». ولا تقل، أيضًا، إن «الوقت كان مبكرًا لأن آويَ إلى فراشي». أعرف أن الوقت كان مُبكرًا. يروقني أن أصعد إلى الطابق العلوي مبكرًا. أحب أن أختلي بنفسي في نهاية اليوم.»

«أتقرئين؟»

«كلا، أيها المفتِّش، لكنني أكتب.»

«أنتِ أيضًا تكتبين؟»

«هل خيَّبتُ أملك؟»

«بل تُثيرين اهتمامي. ماذا تكتبين، أم لا ينبغي لي أن أسأل عن ذلك؟»

«أُخرج بطلات طيبات من تفكيري، هذا كل ما هنالك.»

«تيلدا الخادمة الصغيرة ذات شفاه الأرنب وميول القتل، كترياق لمورين.»

أطالت ليز النظر إليه ثم قالت: «أنت رجل شرطة من نوع غريب جدًّا.»

فبادرها جرانت: «أشك أن فكرتك عن رجال الشرطة هي الغريبة. هلا أخبرتِ خالتك بوجودي؟»

لكن لم يكن هناك حاجة إلى الإعلان عن وصوله. فقد كانت الآنسة فيتش في الردهة بينما تصعد ليز درجات السلم مسرعة، وقالت بنبرة تنم عن الاندهاش أكثر منها عن الحزن:

«ليز، لقد تأخرت لخمس دقائق!» ثم رأت المحقق، فقالت: «عجبًا، عجبًا، لقد كانوا محقِّين. لقد قالوا إن أحدًا لن يظنَّ أبدًا أنك رجل شرطة. تفضَّل بالدخول أيها المفتِّش. لطالَما أردت أن ألتقي بك. بطريقة رسمية، على نحوٍ ما. بالكاد يُمكن تسمية آخر مقابلة بيننا لقاءً، أليس كذلك. تفضل بالدخول إلى غرفة الجلوس الصباحية. إنني أعمل بها.»

اعتذر جرانت عن تأخيرها عن عملها الصباحي، لكنها اعترفت بأنها مسرورة لتَأخُّر التعامل مع «الفتاة المضجرة» لعشر دقائق على الأقل. وفهمَ جرانت أن «الفتاة المضجرة» هي البطلة التي تكتب فيتش قصتها في الوقت الراهن.

بدا أن السيدة فيتش أيضًا كانت قد أوت إلى فراشِها في ساعة مُبكِّرة ليلة الأربعاء. في التاسعة والنصف، على وجه التحديد.

إذ قالت: «حين تكون العائلة مجتمعة بعضها مع بعض طوال اليوم، كما هو حالنا، فإنهم ينزعون إلى الذهاب إلى غرفهم مُبكرًا في الليل.» كانت فيتش قد استمعت إلى مسرحية إذاعية، واستلقت مستيقظة لبعض الوقت فسمعت أختها من بعيد تدخل المنزل عائدة من الخارج، لكنها أخلدت إلى النوم مبكرًا في نهاية المطاف.

فقال جرانت: «تصل من الخارج؟ هل كانت السيدة جاروبي بالخارج إذن؟»

«أجل. كانت تحضر اجتماع جمعية مناهضي الحروب.»

بعد ذلك سألها جرانت عن سيرل. ماذا كانت تظنُّ بشأنه، وما يتوقَّع منه أن يفعله أو لا يفعله في رأيها. ورأى جرانت أنها كانت حَذِرة بشأن سيرل على نحو يُثير الدهشة؛ وكأنها تنتقي كلماتها؛ وتساءل جرانت في ذهنه عن سبب ذلك.

فحين قال جرانت: «في رأيك، هل أبدى سيرل أمارات على كونه واقعًا في غرام ابنة أختك؟» بدت مذهولة، وقالت «كلا، بالطبع!» بسرعة وتأكيد شديدين.

«ألم يكن مُهتمًّا بها؟»

قالت الآنسة فيتش: «عزيزي، إنَّ أي أمريكي يولي اهتمامًا للفتيات. إنه فعل لا إرادي. تلقائي كعملية التنفُّس.»

«أتظنِّين أنه لم يكن مُهتمًّا بها اهتمامًا جادًّا؟»

«أنا واثقة من ذلك.»

«أخبرني ابن أختك ليلة أمس أنه كان يُهاتفكم كل ليلة في طريق عودتهما إلى النهر.»

«أجل.»

«هل كان كل من في المنزل يعرفون بأمر رسالة ليلة الأربعاء؟ أقصد، هل كانوا يعرفون أين يُخيِّم الرجلان؟»

«أتوقَّع ذلك. كانت العائلة تعرف مكان تخييمِهما بالطبع؛ والعاملون دائمًا ما كانوا يتوقُون لمعرفة مدى التقدم الذي يُحرزونه؛ لذا أعتقد أن الجميع كانوا يعرفون ذلك.»

«شكرًا لكِ كثيرًا، يا آنسة فيتش. كان هذا في غاية اللطف منك.»

ثم نادت فيتش على ليز، فصحبت جرانت إلى أمها وعادت إلى حجرة الجلوس الصباحية لتُسجِّل آخر أحداث مورين.

كانت السيدة جاروبي من دون حجة غياب هي الأخرى. كانت في اجتماع جمعية مناهضي الحروب في القاعة الرئيسية بالقرية، وقد غادرت لدى انتهاء الاجتماع في التاسعة والنصف، ورافقت الآنسة إيستون-ديكسون لجزء من الطريق إلى المنزل وتركتها حين افترق طريقاهما. وقد عادت إلى المنزل في حدود العاشرة مساءً؛ أو ربما بعد ذلك؛ وكانت قد قرَّرت السير إلى المنزل لأن الليلة كانت رائعة؛ كما أوصدت الباب الأمامي للمنزل. أما الباب الخلفي فكانت السيدة بريت توصده دائمًا، وهي مدبرة المنزل والطباخة.

لم ينخدِع جرانت بإيما جاروبي ولو قليلًا. فكان كثيرًا ما يلتقي بأمثالها؛ تلك الأم الشرسة التي تتنكر خلف مظهر هادئ ووديع. فهل اعترض سيرل طريق الخطط التي كانت قد أعدَّتها لابنتها؟

سألها جرانت عن سيرل ولم يكن هناك انتقاء للكلام من جانبها على الإطلاق. قالت إنه كان شابًّا في غاية الجاذبية. ذا جاذبية استثنائية إلى حدٍّ بعيد. وكان يروقهم جميعًا بشكل كبير، وقد عصفت بهم المأساة التي ألمَّت به.

ووجد جرانت نفسه يتلقَّى هذا الأمر ذهنيًّا مع لفظ معبر.

شعر جرانت بأنَّ السيدة جاروبي تصيبه بشيء من الغصة، وقد ابتهج عندما ذهبت لتجلب له أليس.

كانت أليس قد خرجت ليلة الأربعاء تتمشَّى بصحبة البستاني، وعادت بحلول العاشرة والربع، حيثُ أوصدت السيدة بريت الباب خلفها، وصعدتا إلى حجرتَيهما معًا في الجناح الخلفي بعد أن تناولا كوبًا من الكاكاو. شعرت أليس بالانزعاج فعلًا بسبب ما آل إليه مصير ليزلي سيرل. وقالت إنها لم يسبِق لها قطُّ أن خدمت شابًّا ألطف منه. لقد التقت بعشرات الشبان والنبلاء وغيرهم ممَّن يولون اهتمامًا بكَواحل الفتيات، لكن السيد سيرل كان هو الوحيد الذي يولي اهتمامًا بقدمَي الفتاة من بين من قابلتهم.

«قدمَي الفتاة؟»

لقد قالت الأمر نفسه للسيدة بريت ولإيديث خادمة الاستقبال. كان سيرل سيقول: «يُمكنكِ فعل هذا أو ذاك، وهذا سيُوفِّر عليك عناء الصعود ثانية، على ما أظن.» ولم يسعها أن تستخلص من ذلك سوى أن هذا من شيم الأمريكان؛ لأنها لم تُقابل رجلًا إنجليزيًّا من قبل أبدى ولو قليلًا من الاهتمام بما إن كانت ستصعد إلى الطابق العُلوي مرة ثانية أم لا.

بدت إيديث، هي الأخرى، حزينة على ليزلي سيرل؛ ليس لأنه أبدى اهتمامًا بقدمَيها ولكن لأنه كان في غاية الوسامة. وقد ثبَت لجرانت أن إيديث كانت أرفع مقامًا وأكثر رقيًّا. أكثر رقيًّا بحيث لا يمكن أن تخرج للتنزُّه مع بستاني. كانت إيديث قد ذهبت إلى غُرفتها لتَستمِع إلى المسرحية نفسها التي كانت سيدتها تستمِع إليها. وقد سمعت السيدة بريت وأليس وهما تصعدان إلى غرفتيهما، لكن غرف النوم في الجناح الخلفي كانت أبعد من أن يُمكن لها أن تسمع منها أحدًا قادمًا إلى المبنى الرئيسي للمنزل؛ لذا لم تعرف إيديث متى عادت السيدة جاروبي.

وكذلك لم تسمع السيدة بريت قدوم السيدة جاروبي. فقد قالت إنَّ العائلة لم تكن تُكلِّف العاملين بأي عمل بعد العشاء. فتُقدِّم إيديث مشروبات وقت النوم، وبعد ذلك لم يكن باب الردهة المُبطَّن بالجوخ الأخضر يُفتح ثانية حتى صباح اليوم التالي. كانت السيدة بريت قد أمضتْ تسع سنوات في خدمة الآنسة فيتش، ويُمكن للآنسة فيتش أن تأتمنَها على إدارة العاملين وغرفهم.

حين تقدَّم جرانت نحو الباب الأمامي للمنزل في طريقه إلى السيارة وجد والتر ويتمور يستنِد إلى جدار الشرفة. حيَّا والتر جرانت تحية الصباح وعبَّر عن أمله أن حجج الغياب كانت مُرضِية.

بدا لجرانت أن حال والتر ويتمور كان يتدهور بصورة جلية. فقد بدا الاختلاف واضحًا بين حاله الآن وقبل عدة ساعات منذ ليلة أمس. وفكَّر جرانت في الكم الذي أسهمت به قراءة صحف هذا الصباح في الفتور الذي أصاب ملامح والتر.

فسأله: «هل طاردك الصحفيُّون؟»

«كانوا هنا بعد الإفطار مباشرة.»

«هل تحدَّثت إليهم؟»

«لقد قابلتهم إن كان هذا هو ما ترمي إليه. لم يكن بإمكاني قول الكثير. سيحصلون على الكثير من حانة فندق سوان.»

«هل أتى مُحاميك؟»

«أجل. إنه نائم.»

«نائم!»

«لقد غادر لندن في الخامسة والنصف، ورافَقَني أثناء المقابلة. كان عليه أن يُغادِر على عجل لذا لم يخلد إلى الفراش ليلة أمس حتى الساعة الثانية صباحًا. إن كنت تفهم ما أعني.»

تركه جرانت وقد اعتراه شعور بالارتياح لا مُبرِّر له وذهب إلى حانة فندق سوان. ثم صفَّ سيارته في الساحة المرصوفة بالأحجار خلف الحانة وطرق الباب الجانبي لها.

جاء صوت مزلاج يفتح محدثًا ضوضاء تنمُّ عن نفاد الصبر، ثم ظهر وجه ريف عبر الفتحة. وقال: «لن يُجدي هذا نفعًا. عليك الانتظار حتى موعد فتح الحانة.»

فقال جرانت: «باعتباري رجل شرطة، أُقدِّر هذا الازدراء من حيث مدلوله الحقيقي. لكنني أرغب في الدخول والتحدث إليك لبعض الوقت.»

قال الجندي السابق في البحرية، مازحًا بينما تقدَّمه إلى صالون الحانة: «لو أردت رأيي، أنت تبدو ضابط جيش أكثر منك رجل شرطة.» وأردف يقول: «أنت نسخة طبق الأصل من ميجور كان معنا فيما مضى. كان اسمه فاندالور. هل التقيت به من قبل؟»

لكن جرانت لم يكن قد الْتقى الميجور فاندالور.

«حسنٌ إذن، ماذا يُمكنني أن أصنع لك، يا سيدي؟ أظنُّ أن الأمر بشأن مسألة سيرل.»

«أجل. ويُمكنك أن تفعل شيئَين. أريد رأيك المدروس — وأُشدِّد على كلمة المدروس — عن العلاقة بين ويتمور وسيرل مساء يوم الأربعاء. كما أرغب في قائمة بكل الأشخاص الذين كانوا في الحانة تلك الليلة ومواعيد مغادرتهم.»

كان ريف يتحلَّى بسلوك رجل عسكري يتَّسم بالموضوعية تجاه أي حدث. لم يكن لديه رغبة في تجميل الأمر ولا أن يجعله يعكس شخصيته كما يفعل الفنان. وشعر جرانت بنفسِه يسترخي. كان الأمر أقرب إلى بالاستماع إلى تقرير أحد رجاله. قال ريف إنه لم يكن هناك أحقاد شخصية بين الرجلين. ما كان ريف ليلحظ وجودهما على الإطلاق لو لم يكُونا مُنعزلين بفعل حقيقة أن أحدًا لم يتحرَّك من على المشرب لينضمَّ إليهما. في العادة، كان أحد الحاضرين ليتحرَّك نحوهما ليكمل محادثة كانت قد بدأت حين كانا عند المشرب معًا. لكن يوم الأربعاء كان ثمة شيء في غياب وعيهما ببقيَّة الموجودين منع الآخرين من التطفُّل عليهما.

قال ريف: «كانا ككلبَين يدور كلٌّ منهما حول الآخر. لم يكن بينهما شجار، إنما كان شعورًا عامًّا من نوعٍ ما. وكان الشجار قد يندلِع في أيِّ لحظة، إن كنت تفهم ما أقصد.»

«هل رأيتَ ويتمور وهو يُغادر؟»

«لم يره أحد. كان الشباب يتجادلون بشأن هُوية لاعب كان يلعب الكريكت لصالح أستراليا في أحد الأعوام. وقد توقَّفُوا عن جدالهم حين دوى صوت الباب، وهذا كل شيء. وحين رأى بيل مادوكس أن سيرل يجلس وحده توجه نحوه وتحدث إليه. ومادوكس يملك المرأب الذي يقع عند طرف القرية.»

«شكرًا لك. والآن أُريد قائمة بمن كانوا في الحانة.»

دون جرانت القائمة؛ كانت أسماء الموجودين معظمها من قاطني المقاطعة لم تتغيَّر منذ عهد كتاب وينشستر. وبينما كان جرانت في طريقه للذهاب إلى سيارته قال: «هل هناك صحفيُّون يمكُثُون في المكان؟»

فأجاب ريف: «ثلاثة. من صحف كلاريون، ومورنينج نيوز، وذا بوست. وجميعهم بالخارج الآن، يُحاولون استخلاص أكبر قدر من المعلومات من أهل القرية.»

قال جرانت بنبرة ساخرة: «ومن إدارة سكوتلانديارد أيضًا»، ثم انطلق بالسيارة ليلتقي ببيل مادوكس.

عند طرف القرية يقع مبنًى مرتفع مكسوٌّ بألواح خشبية مكتوب عليه بطلاء باهت: «ويليام مادوكس وابنه. نجار وصانع زوارق.» وعند إحدى زوايا المبنى وضعت علامة باللونين الأصفر والأسود اللامع تشير إلى الباحة الجانبية ومكتوب عليها كلمة واحدة: «مرأب.»

قال جرانت لبيل مادوكس بعد أن قدَّم له نفسه: «تستطيع الجمع بين أفضل ما في العالمين، حسبما أرى» ثم أشار برأسه ناحية العلامة.

«أوه، «مادوكس وابنه» تشير إلى أبي، وليس إليَّ.»

«ظننت أنك ربما تكون «الابن» المشار إليه.»

بدا بيل مبتهجًا. وقال: «أوه، لا؛ كان جدي هو «الابن» المشار إليه. هذا العمل يعود لجدي الأكبر. ونحن لا نزال أفضل النجارين في هذه الناحية من المقاطعة، رغم أنني فقط من يقول هذا. أتبحث عن المعلومات، أيها المفتش؟»

حصل جرانت على كل المعلومات التي بإمكان مادوكس أن يقدمها له، وبينما كان يهم بالرحيل قال مادوكس: «أيصادف أنك تعرف صحفيًّا يُدعى هوبكنز؟»

«هوبكنز من صحيفة كلاريون؟ لقد التقيت به من قبل.»

كان هنا طيلة ساعات هذا الصباح، أوَتعرف ما يعتقده ذلك الرجل؟ إنه يعتقد أن الأمر برمته حيلة دعائية ليلقى الكتاب الذي خططا لتأليفه رواجًا.»

كان المزيج المكوَّن من رد فعل هوبكنز المعهود عنه وملامح الذهول التي تبدو على وجه بيل أكثر مما يحتمله جرانت. فمال على السيارة وأخذ يضحك.

ثم قال: «إنها لحياة منحطَّة، حياة الصحفيين أقصد. وجامي هوبكنز منحط بالفطرة، كما يقول أحد أصدقائي.»

فرد بيل وكان لا يزال مُتحيرًا: «أوه، كنتُ سأدعوها سخيفة. سخيفة للغاية.»

«بالمناسبة، أتَعرف أين يُمكنني أن أجد سيرج راتوف؟»

«لا أعتقد أنه استيقظ من نومه بعد، لكنه لو فعل فستجده متَّكئًا على منضدة مكتب البريد. ومكتب البريد في المتجَر. في مُنتصَف الشارع. يقطن سيرج في المنزل ذي السطح المائل المجاور له.»

لكن سيرج لم يكن قد بلغ بعدُ هذه المرحلة اليومية من الوقوف إلى منضدة مكتب البريد. فقد كان في طريقه عبر الشارع من عند بائع الجرائد ويتأبَّط جريدة. لم يكن جرانت قد رآه من قبل، لكنه يعرف العلامات الدالَّة على كل مهنة بالشكل الكافي الذي يمكنه من التعرف على راقص في شوارع قرية. الملابس الفضفاضة التي تُغطِّي جسدًا من الواضح أنه هزيل، والمظهر العام الذي يُوحي بسوء التغذية، والذبول الذي يُشعِر المرء أن عضلاته لا بدَّ أنها مُترهِّلة كمطاط بالٍ. لم يكن جرانت يكف قط عن الاندهاش من مظهر الراقصين الذين يبدون كالباعة الجائلين المهمشين حين يخرجون من باب المسرح، لكنهم على خشبة المسرح مخلوقات متألِّقة تتلاعب براقصات الباليه بمجهود لا يزيد عن مجرد اصطكاك بسيط بالأسنان.

أوقف جرانت السيارة عند الرصيف حين أصبح بمُحاذاة سيرج وحيَّاه.

«السيد راتوف؟»

«هذا أنا.»

«أنا المفتِّش المحقِّق جرانت. هل لي أن أحدِّثك قليلًا؟»

فقال سيرج في لامبالاة: «الجميع يتحدث إليَّ. فلماذا قد أستثنيك؟»

«الأمر بخصوص ليزلي سيرل.»

«آه، أجل. لقد غرق. وهذا شيء مبهج.»

فقدَّم له جرانت بضع عبارات عن فضيلة الحذر.

فقال سيرج بنبرة مطولة: «آه، الحذر!». ثم أردف: «صفة رأسمالية.»

«عرفت أنك تشاجرت شجارًا عنيفًا مع سيرل.»

«لا شيء من هذا القبيل.»

«لكن …»

«لقد ألقيتُ بكوب جعة في وجهه، هذا كل ما في الأمر.»

«ألا تُسمِّي هذا شجارًا؟»

«نعم بالطبع. أن يتشاجر المرء معناه أن يكون في مستوًى يضاهي — كيف تقولونها — يضاهي المنزلة نفسها مع خصمه. والمرء لا يتشاجر مع «العامة والدهماء». كان جدي في روسيا سيضربه بالسوط. أما هنا فهذه إنجلترا حيث الانحطاط؛ لذا ألقيتُ عليه الجعة. هذه بادرة للفت النظر، على الأقل.»

حين قصَّ جرانت هذه المحادثة على مارتا قالت: «لا أستطيع أن أتخيل ما يمكن لسيرج أن يفعله من دون جده ذلك الذي في روسيا. لقد غادر والدُه روسيا حين كان في الثالثة، وليس بإمكان سيرج أن ينطق بكلمة روسية واحدة وله أصول تعود إلى نابولي على أي حال، لكن كل خيالاته مبنيَّة على جده ذاك الذي في روسيا.»

قال جرانت لسيرج في أناة: «أنت تتفهَّم أنه من الضروري بالنسبة إلى الشرطة أن تسأل أولئك الذين كانوا على صلة بسيرل عن تحرُّكاتهم ليلة الأربعاء.»

«فعلًا؟ يا له من أمر مضجر لك. إنها لحياة تعيسة، حياة رجل الشرطة. التحركات. إنها حياة محدودة، حياة بدائية.» ثم حوَّل سيرج نفسه إلى عمود إشارة وأعمل ذراعَيه في حركة كحركة الدمي المتحركة في محاكاة ساخرة لإشارات نقاط التفتيش. وأردف يقول: «مضجرة. مضجرة للغاية. الأمر مفهوم، بالطبع، لكنه يفتقِر إلى البراعة.»

فقال جرانت: «أين كنت ليلة الأربعاء منذ الساعة التاسعة؟» وقد قرر أن اتباع نهج غير مباشر هو مضيعة للوقت.

فأجاب سيرج: «كنت أرقص.»

«أوه. في القاعة الرئيسية للقرية؟»

فبدا سيرج وكأنه على وشك أن يفقد الوعي.

«أتُشير إلى أنني، أنا سيرج راتوف، كنت أشارك في عمل فني ما؟»

«أين كنت ترقص إذن؟»

«عند النهر.»

«ماذا؟»

«إنني أعمل على تصميم رقصة باليه جديدة. وتجتاحني الأفكار هناك عند النهر في ليلة ربيعية كتلك. إن الأفكار تتفجَّر بداخلي كالينابيع. وأجد هناك الكثير من الإلهام حتى إنني أثمل من كثرتِه. يُمكنني فعل أي شيء. وأُحاول ابتداع فكرة ساحرة للغاية تتماشى مع معزوفة ماشاكو. إنها تبدأ ﺑ …»

«أي جزء من النهر؟»

«ماذا؟»

«أي جزء من النهر؟»

«أنى لي أن أعرف؟ الجو العام متشابه في كافة الأنحاء.»

«حسن، هل ذهبت باتجاه أعلى النهر أم أسفله، من سالكوت؟»

«أوه، أعلاه، بكل تأكيد.»

«ولماذا «بكل تأكيد»؟»

«أنا في حاجة إلى المساحات الفضاء الشاسعة من أجل أن أرقص. وتوجد مثل تلك عند أعلى النهر. أما عند أسفل النهر من القرية فكلُّها ضفاف منحدرة وأرض تكثر فيها المحاصيل المُزعجة ذات الجذور. الجذور. أشياء قَذِرة خرقاء. إنها …»

«أيُمكنك تحديد المكان الذي كنت ترقص فيه ليلة الأربعاء؟»

«تحديد؟»

«تُحدِّده لي.»

«أنى لي ذلك؟ أنا لا أذكر حتى أين كان.»

«أيمكنك أن تتذكَّر إذا ما كنتَ قد رأيت أحدًا هناك؟»

«لا أحد جدير بالتذكر؟»

«جدير بالتذكر؟»

«إنني أتعثر بين العشاق الذين يجلسون على العشب بين الحين والآخر، لكنهم — كيف تقولونها — جزء من العرض. إنهم جزء من اﻟ … البيئة. ليسوا جديرين بالتذكُّر.»

«إذن، أتذكر الوقت الذي غادرت فيه ضفَّة النهر ليلة الأربعاء؟»

«آه، أجل، أتذكَّر ذلك تمامًا.»

«متى غادرت؟»

«حين سقط الشهاب.»

«ومتى كان ذلك؟»

«أنى لي أن أعرف؟ أنا لا أحبُّ الشُّهُب. إنها تُصيبني بالقلق. رغم أنني فكرتُ في أنه من الرائع أن تنتهيَ رقصتي بشهاب. قفزة «سبيكتر دي لا روز»، ستجعل المدينة لا تتوقَّف عن الحديث، وستريهم أنني ما زلت …»

«سيد راتوف، أيُمكنك أن تقترح كيف انتهى الحال بليزلي سيرل في النهر؟»

«كيف انتهى به الحال؟ لقد سقط، حسبما أظن. يا للخسارة. إنه تلوُّث. النهر جميل للغاية وينبغي أن نحافظ عليه من أجل الأشياء الجميلة. أوفيليا. شالوت. أتعتقد أن شالوت يمكن أن تؤلف رقصة؟ بكل تلك الأشياء التي تراها في المرآة؟ إنها لفكرة، أليس كذلك؟»

هنا استسلم جرانت.

ترك جرانت سيارته حيث كانت وسار عبر الشارع إلى حيث الواجهة الحجرية لمنزل هو هاوس التي تختلف عن الجملونات الجبسية لبيوت القرية ذات الألوان الوردية والفضية والصفراء. وقف المنزل على الرصيف مثل الأكواخ الأخرى، لكن الطابق الأرضي منه كان مُرتفعًا عن مستوى الشارع بثلاث درجات. وقد نأى المنزل بنفسه قليلًا، في استعلاء طبيعي تمامًا عن الأحداث اليومية. وبينما كان جرانت يسحب الجرس ذا الطراز الفيكتوري في دائرته النحاسية اللامعة جال في ذهنه أن يبارك الرجل — أيًّا كان هو — الذي كان مسئولًا عن إعادة إحياء ذلك المكان. لقد حافظ على هيكله لكنه لم يُحاول أن يُعيده إلى شكله الأصلي ومن ثم يجعل منه متحفًا؛ كانت مظاهر القرون الماضية بادية في المكان، من السلَّم وحتى الجرس النحاسي. من الواضح أن قدرًا كبيرًا من المال قد أُنفِق لكي يصبح المنزل في حالة التميز التي هو عليها الآن، وتساءل جرانت إن كان إنقاذ منزل هوو هاوس كافيًا لتبرير وجود توبي توليس.

فتح الباب خادم لربما كان قد خرج من إحدى مسرحيات توبي. وقد وقف في المدخل في كياسة لكنه لم يسمح بالدخول؛ كما لو كان متراسًا بشريًّا.

قال الخادم ردًّا على استفسار جرانت: «لا يُقابل السيد توليس أحدًا قبل الغداء.» ثم أردف: «إنه يعمل في الصباح. أما عن مواعيد مقابلة الصحفيين فهي عند الثانية ظهرًا.» وشرع يحرك يده نحو الباب.

هنا قال جرانت بنَبرة لاذعة: «هل أبدو لك صحفيًّا؟»

«في الواقع، لا، لا يسعُني أن أقول ذلك، يا سيدي.»

فقال جرانت فجأة بنَبرة لَبِقة: «ألا يجدُر بك أن تحمل صينية صغيرة؟»

استدار الرجل في خضوع وأخذ حاملة بطاقات فضية من خزانة على الطراز الجاكوبي في الردهة.

وضع جرانت قطعة من ورق الكرتون المقوَّى على الحاملة وقال: «قدِّم تحياتي إلى السيد توليس وقل له إنني سأكون شاكرًا لو حصلت على ثلاث دقائق من وقته.»

فقال الرجل: «بكل تأكيد يا سيدي» ولم يسمح لعينه أن تشرد بالقرب من البطاقة الورقية حتى. وأضاف: «هلا تكرمت ودخلت الردهة وانتظرت.»

اختفى الرجل داخل حجرة في الجزء الخلفي من المنزل، وأغلق الباب خلفه على صوت ثرثرة لا تليق. لكنه عاد في غضون لحظات. طلب من المفتش جرانت التفضل بالدخول من هنا. سيُسر السيد توليس كثيرًا للقائه.

وجد جرانت أن الغرفة في الجزء الخلفي من المنزل تطلُّ على حديقة كبيرة تنحدر حتى ضفة النهر؛ كان عالمًا آخر يختلف تمامًا عن شارع القرية الذي تركه جرانت خلفه. كانت غرفة جلوس مفروشة بأفضل «تحف» رآها جرانت خارج المتاحف. وقد جلس توبي خلف مجموعة من فناجين القهوة الفضية مُرتديًا رداء نوم لافت للنظر؛ ويحوم خلفه في ثياب نهارية أكثر تميزًا شاب غر متحمِّس يمسك بمفكرة. ومن الحالة الجديدة للمُفكِّرة، بدت وكأنها شارة تعريف وظيفة أكثر منها أداة من أدوات المهنة.

قال توبي مُحييًا إياه: «أنت مُتواضِع، أيها المفتِّش!»

«مُتواضِع؟»

«ثلاث دقائق! حتى الصحفيون يتوقَّعُون الحصول على عشرة.»

كان الغرض من هذه الجملة هو الإطراء على جرانت، لكن تأثيرها كان مجرَّد تذكير بأن تُوبي هو أكثر شخص يجري مقابلات في العالم الذي يتحدَّث بالإنجليزية، وأن وقتَه ثمين. وكعادته، كان ما فعله توبي «نشاز» بعض الشيء.

قدَّم توبي الشاب باسم جايلز فيرلين، سكرتيره الخاص، ثم عرض على جرانت فنجانًا من القهوة. فقال جرانت إن الوقت الآن مُتأخِّر جدًّا ومُبكِّر جدًّا في الآن نفسه لتناول القهوة، لكن ليتفضَّل السيد توليس بمتابعة تناول إفطاره؛ وقد فعل.

قال جرانت: «إنني أحقق في اختفاء ليزلي سيرل. وأخشى أن في هذا شيئًا من الإزعاج للأشخاص الذين كانوا على صِلَة بعيدة به. فعليَّ أن أطلب من كل شخص في سالكوت كان على معرفة بسيرل أن يُبرِّر غيابه ليلة الأربعاء، وذلك بقدر ما يُمكنهم.»

«أيها المفتش، إنك تُقدِّم لي سعادة بالغة لم آمُل قطُّ أن أنعم بها. لطالَما رغبت بشدة في أن يسائلني أحد عمَّا كنت أفعله في التاسعة والنصف ليلة الجمعة التي تُوافِق الثالث عشر من الشهر، لكنني لم أجرؤ فعلًا على أن يحدُوني أمل بأن يحدث هذا.»

«الآن وقد حدث ذلك، آمل أن تكون حُجة غيابك مناسبة لهذا الحدث.»

«إنها تتميز بالبساطة على الأقل. لقد أمضيت أنا وجايلز ساعات تلك الأمسية الجميلة في مناقشة المشهد الأول من الفصل الثاني من المسرحية، وهذا أمر مُمل، أيها المفتش، إلا أنه ضروري. فأنا رجل أعمال.»

انتقل جرانت ببصرِه من رجل الأعمال إلى جايلز، وقرر من حالة الانضباط الراهنة التي تبدو عليه أن الشاب قد يعترف بالجريمة إذا كان هذا يسرُّ توبي. ومن ثم سيصبح تقديم شيء بسيط كحجة غياب مجرد أمرٍ روتيني.

فقال جرانت: «والسيد فيرلين يؤكد صحة هذا، بالطبع.»

قال جايلز وهو يسرف في التأكيدات لصالح رب عمله: «أجل، أوه أجل، بالطبع؛ بالطبع أؤكِّد صحة هذا؛ أجل.»

أكمل توبي وهو يرتشف القهوة: «إنه لأمر مأساوي في الواقع، أمر غرقه ذلك. إنَّ مجموع كل ما هو جميل في هذا العالم ليس بالكثير بحيث يمكن لنا أن نتحمل كلفة خسارة أي منه. نهايته كانت على طراز نهايات شيلي، وهي بالطبع ملائمة في هذا الإطار. أتعرف نصب شيلي التذكاري في أكسفورد، أيها المفتش؟»

كان جرانت على علم بالنصب التذكاري وكان يُذكِّره بدجاجة أُفرط في سلقها، إلا أنه أحجم عن قول ذلك. ولم يكن توبي كذلك يتوقع إجابة.

«إنه لشيء جميل. من المؤكد أن الموت غرقًا هو الطريقة المثلى للخروج من هذه الحياة.»

«بعد أن عاينت عن قرب مجموعة كبيرة ومتنوعة من الجثث التي تُستخرَج من الماء، لا أستطيع القول إنني أتَّفق معك.»

صوَّب توبي نحوه نظرة تنمُّ عن المفاجأة وقال: «لا تُحطِّم خيالاتي أيها المُفتِّش. أنت أسوأ من سيلاس ويكلي. فدائمًا ما يُشير سيلاس إلى قبح الحياة. بالمناسبة، هل حصلت على حجة غياب سيلاس؟»

«ليس بعد. أعرف أنه كان بالكاد يعرف السيد سيرل.»

«ما كان لهذا أن يُوقفه. ولم يكن لي أن أعجب إن فعلها كلمحة من اللمحات التي تضفي على القصة صبغة محلية واقعية.»

«صبغة محلية واقعية؟»

«أجل. فوفقًا لسيلاس، يُمثِّل وجود الريف إحدى بؤر الاغتصاب والقتل وسفاح المحارم والإجهاض والانتحار، وربما ظن سيلاس أن الوقت قد حان كي تنحدر سالكوت سانت ماري إلى فكرته عن الريف. أتقرأ لسيلاس، أيها المفتِّش؟»

«أخشى أنني لم أفعل.»

«لا تعتذر. إنه ذوق مكتسب. وحتى زوجته لم تكتسِب ذلك الذوق بعد، إن كانت جميع الأخبار صحيحة. لكن يا لها من مسكينة، إنها مشغولة بالرضاعة والمُعاناة حتى إنها لا تحظى على الأرجح بوقت فراغ للتفكير في الأشياء المجرَّدة. لا يبدُو أن أحدًا قد أشار عليها بإمكانية منع الحمل. بالطبع ينظر سيلاس لأمر الخصوبة «نظرة خاصة». إنه يعتقد أن أسمى وظيفة للمرأة هي إنتاج الذُّريَّة. ألا تشعر أن هذا مؤسف كثيرًا ومخيب لآمال النساء، أن يقارنَّ بالأرانب، وأن يعلمن أنهن حتمًا سيُعتبرن منقوصات. الحياة، بالخصوبة الناتجة من القُبح. هكذا يرى سيلاس الحياة. إنه يكره الجمال. فالجمال بالنسبة إليه إثم. لا بدَّ له أن يسحقه ويجعله خصبًا. ثم يجعل منه مهادًا. إنه مجنون بعض الشيء بالطبع، ذاك التعيس، لكنه جنون من نوع مربح للغاية؛ لذا لا حاجة إلى الأسى عليه لذلك. فأحد أسرار الحياة الناجحة هو أن يعرف المرء كيف يصبح مجنونًا بشكل يدرُّ عليه ربحًا.»

تساءل جرانت في نفسه إن كان هذا مجرد عينة طبيعية من ثرثرة توبي، أم إنه كان حديثًا يرنو إلى شحذ سكينه على سيلاس ويكلي. فحين تكون شخصية المرء بأسرها مظهرًا زائفًا — كما هو الحال مع توبي توليس — يصعب تحديد مقدار الزيف الذي يُمثِّل حاجزًا دفاعيًّا ومقداره الذي يمثل مجرد واجهة للدعاية.

بعد ذلك قال: «أنت لم ترَ سيرل قط مساء الأربعاء، أليس كذلك؟»

كلا، لم يكن توبي قد رآه. فقد كان وقت ذهابِه للحانة قبل العشاء وليس بعده.

«لا أريد أن أكون مُتطفِّلًا، أيُّها المفتِّش، لكن يبدو لي أن هناك ضجة لا داعي لها على حادث غرق بسيط.»

«ولم الغرق تحديدًا؟»

«ولم لا؟»

«ليس لدينا أيُّ دليل على أن سيرل قد أغرق، ولدينا بعض الأدلة الحاسمة إلى حدِّ ما تُشير إلى أنه لم يغرق.»

«أنه لم يغرق؟ أي دليل لديكم على ذلك؟»

«لقد مسحنا النهر مسحًا مكثفًا بحثًا عن جثَّته.»

«أوه، ذاك!»

«إن ما نُحقِّق فيه، يا سيد توليس، هو اختفاء رجل في سالكوت سانت ماري مساء يوم الأربعاء.»

«ينبغي عليك حقًّا، أيها المفتِّش، أن تلتقيَ بالقس. فهو يملِك الحلَّ المثالي لك.»

«وما هو ذاك؟»

«يعتقد القسُّ العزيز أن سيرل لم يكن هنا على الإطلاق. إنه يعتقد أن سيرل كان مجرَّد شيطان وأنه اتَّخذ هيئة البشر لبعض الوقت واختفى حين أصبحت المُزحة مُبتذَلة أو … حين نضب مصدرها إن جاز التعبير.»

«شيء مُثير للغاية.»

«أعتقد أنك لم ترَ سيرل من قبل أبدًا، أيها المفتِّش؟»

«بلى. لقد التقيت به.»

تفاجأ توبي جراء هذا كثيرًا لدرجة أن جرانت وجد ذلك أمرًا مُسليًا.

وقال: «لقد حضر الشيطان حفلًا في بلومزبري، قبل أن يأتيَ إلى سالكوت مباشرة.»

«عزيزي المفتِّش، «لا بدَّ لك» أن تلتقي بالقس. فهذه المساهمة بالميل نحو تفسير الأمر بتجسد الشياطين في هيئة البشر لها قيمة نفيسة في البحث.»

«لماذا سألتني إن كنت قد رأيت سيرل من قبل؟»

«لأنه كان كما قد يتخيَّله المرء تمامًا إن كان شيطانًا مُتجسِّدًا في بشر.»

«تقصد وسامته؟»

فقال توبي في نبرة اختلط فيها التحدِّي بالسخرية: «أكانت المسألة مسألة وسامة فقط؟»

رد جرانت: «كلا. كلا.»

فسأل توبي: «أتظنُّ أن سيرل كان مجرمًا؟» ناسيًا المظهر الزائف للحظة فانزلق إلى اللغة الدارجة بعيدًا عن الحذلقة.

«ليس هناك أي دليل في هذا الشأن.»

قال توبي: «آه، اعذرني» مُستعيدًا المظهر الزائف بتنهيدة ساخرة عابرة. وأضاف: «إنه جدار الحذر البيروقراطي المجرد. لم يتبقَّ لي في الحياة سوى بضعة طموحات، أيها المفتش، لكن أحدها هو رغبة حارة في معرفة الدافع الأساسي لدى ليزلي سيرل.»

فقال جرانت وهو يهمُّ بالوقوف استعدادًا للرحيل: «إن عرفت ذلك، فستكون هناك فرجة في جدار الحذر البيروقراطي كافية لأن تجعلني أخبرك.»

ثم وقف ينظر لحظةً إلى الخارج على الحديقة الساطعة بوميض النَّهر في الجهة الأخرى.

وقال: «قد يكون هذا منزلًا ريفيًّا بعيدًا عن كل شيء مسافة أميال.»

ردَّ توبي أن هذا هو أحد العوامل الساحرة في منزل هوو هاوس، لكن معظم الأكواخ التي تقع على جانب النهر من الشارع تحظى بحديقة تمتد حتى النهر بالطبع، إلا أن معظمها تحول إلى مخصَّصات أو بساتين سوقية من نوع ما. إن العناية بأرض منزل هوو هاوس وما عليها من مروج وشجر هو ما جعله يبدو رحبًا.

«كما أن النهر يُمثل حدًّا من دون أن يخرب المنظر. إن ذاك النهر لنعمة ونقمة مع الأسف.»

«تقصد البعوض؟»

«لا؛ بل تعتريه بين الحين والآخر رغبة عارمة في الدخول إلى المنزل. وينجح في ذلك مرةً واحدة كل ست سنوات. لقد استيقظ مدير المنزل ذات صباح في الشتاء الماضي ووجد القارب ينقر على نافذة حجرة النوم.»

«ألديك قارب؟»

«إنه قارب مزوَّد بمحرك صغير. قارب بنط يسرني أن أستلقي عليه في ظهيرة الأيام الصيفية.»

شكره جرانت على تعاونه، واعتذر إليه مرة أخرى على تطفُّله على إفطاره، وانصرف. وقد أظهر توبي أمارات على رغبته في أن يُريَه المنزل، إلا أن جرانت تجنَّب ذلك لثلاثة أسباب: كان أمامه عمل يقوم به، وأنه كان قد رأى معظم أجزاء المنزل بالفعل في الصحافة المصورة، بالإضافة إلى أنه شعر بتردُّد تجاه أن يعرض عليه أفضل ما قدَّمتْه حرفة المعمار في العالم من أعمال من قِبَل مُتحدِّث بارع كتوبي توليس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤