الفصل الرابع عشر

قاد جرانت سيارته عائدًا إلى ويكهام في تلك الأمسية الربيعية، نشيط الجسد منشرح الصدر.

وقد جلست إيما جاروبي إلى جواره طوال الطريق.

همست له موهبته الفطرية بمُغريات بسيطة، لكن إيما كانت حاضرة في منتصَف الصورة، حيث وضعتها مارتا، وهي راسخة على نحو يصعُب معه أن يصرفها. كان وجود إيما منطقيًّا ومعقولًا. فهي تمثل مثالًا وسابقة. لقد كانت معظم أمثلة الوحشية الكلاسيكية تخرج من الحياة المنزلية. كمثل ليزي بوردن وأشباهها. وإن استدعى الأمر كانت إيما تتحول إلى كائن بدائي. مخلوقة تحمي صغيرتها. إن الأمر يتطلَّب براعة هائلة كي يجد سببًا يُفسر اختيار ليزلي سيرل لأن يختفي. أما تفسير سبب قتل إيما جاروبي له فلا يتطلب براعة على الإطلاق.

في واقع الأمر، إن استمراره في العودة إلى فكرة أن سيرل ربما فرَّ من تلقاء نفسه تمثل ضربًا من العناد. وهو يتوقَّع ردَّ مُساعد مفوض الشرطة لو طرح عليه نظرية كهذه. الأدلة، يا جرانت، الأدلة الموحية المعبرة. المنطق السليم، يا جرانت، المنطق السليم. لا تُصبح مطية لموهبتِك يا جرانت، حاذر أن تصبح مطية لها. اختفى من تلقاء نفسه؟ ذلك الشاب المُبتهج الذي كان بإمكانه أن يدفع فواتير مكوثه في ويستمورلاند، ويشتري ثيابًا غالية يرتديها ويتحمل كلفة حلوى غالية يهادي بها، ويجوب العالم على حساب أشخاص آخرين؟ ذلك الشاب ذو الوسامة المدهشة والذي يلتفِت نحوَه كلُّ من يراه، حرفيًّا أو مجازيًّا؟ ذلك الشاب الجذاب الذي راقته ليز البسيطة العادية كثيرًا لدرجة أنه احتفظ بفردة قفاز لها؟ ذلك الشاب الناجح على الصعيد المِهَني الذي يُشارك في صفقة ستُدرُّ عليه مالًا وشهرة؟

المنطق السليم، يا جرانت. الأدلة، يا جرانت. لا تُصبح مطية لموهبتك.

فكِّر في إيما جاروبي، يا جرانت. كانت الفرصة سانحة لها. ولديها الدافع. وفي ظاهر الأمر، ربما كانت لديها الإرادة. فقد كانت تعرف مكان مخيَّمهم في تلك الليلة.

لكنها لم تكن تعلم أنهما أتيا إلى سالكوت من أجل تناول شراب.

لم يغرق سيرل في سالكوت.

ما كان لإيما أن تعرف أنها ستجده وحده. فقد كانت محض مصادفة أن ليزلي ووالتر تفرقا في تلك الليلة.

«شخص ما» وجده وحدَه. فلمَ لا تكون إيما؟

كيف يمكن لذلك أن يحدث؟

ربما رتَّبت لذلك.

إيما! كيف؟

هل لفتَ انتباهك أن سيرل قد خطط لأمر إبعاد والتر؟

كلا. كيف ذلك؟

كان سيرل استفزازيًّا. لقد استفز والتر لدرجة أنه لم يقدر على تحمُّل الأمر ولو لدقيقة واحدة أخرى، وكان أمامه إما أن يغادر أو أن يبقى ويتشاجر معه. لقد تخلَّص سيرل من والتر تلك الليلة.

لم قد يفعل ذلك؟

لأنه كان على موعد.

موعد! مع من؟

ليز جاروبي.

هذا تصور سخيف. لا يوجد أي دليل على أن ليز جاروبي كانت تكنُّ إعجابًا حقيقيًّا ﺑ …

أوه، لم تكن ليز هي من أرسلت الرسالة لكي يلتقي بها.

حقًّا؟ من كان إذن؟

إيما.

أتعني أن سيرل ذهب ليلتقي شخصًا كان يظن أنه ليز؟

أجل. لقد تصرَّف كما يفعل العشاق، إن فكرت في الأمر أكثر.

كيف ذلك؟

أتذكُر كيف ودَّع رفاقه تلك الليلة؟ مزاحهم وهم يتَّجهون إلى مضاجعهم في ليلة ربيعية صافية كتلك الليلة؟ أتذكر البهجة؟ شعوره وكأنه في قمة السعادة؟

كان قد تناول بضع كئوس من الجعة وحسب.

وكذلك رفاقه. وبعضُهم تناول أكثر من مجرد بضع كئوس. لكن هل كانوا يُنشدون أغاني مجازية عن تلك الليلة الربيعية؟ كلا لم يفعلوا. بل كانوا يسلكون أقصر الطرق إلى مضاجعهم، حتى أولئك الأصغر من بينهم.

في الواقع، هذه نظرية.

إنها أكثر من نظرية. إنها نظرية تدعمها الأدلة.

الأدلة، يا جرانت، الأدلة.

لا تُصبح مطية لموهبتك يا جرانت.

جلست إيما جاروبي إلى جواره طوال سَيره عبر الأزقة المُظلِمة بين سالكوت سانت ماري وويكهام. وحين خلد جرانت إلى فراشه، أخذها برفقته.

ولأنه كان مُتعبًا، ولأنه قد تناول وجبة عشاء جيدة، ولأنه أخيرًا رأى طريقًا مفتوحًا أمامه بشكل ما في القضية، حظي جرانت بنومٍ هانئ. وحين فتح عينَيه مع ضوء النهار على عبارة «تأتي ساعة وهي الآن» على صوف أرجواني مصنوع من غُرَز متقاطعة، اعتبر جرانت هذه الآية من الكتاب المقدس بشارة أكثر منها تحذيرًا. كان جرانت يتطلَّع إلى الذهاب إلى البلدة، حتى على سبيل الاستجمام الذهني بعد انغماسه في سالكوت سانت ماري. فسيُمكِن له بعدها أن يعود وينظر إليها بالشكل الملائم. فلا يمكن للمرء أن يستمتع بمذاق أي شيء بالصورة الصحيحة إلا بعد أن يُنظِّف فمه بين الفينة والأخرى كي يُنشِّط حاسة تذوُّقه. كان جرانت يتساءل في غالب الأحيان كيف يتمكَّن المتزوِّجون من الرجال من الجمع بين الحياة المنزلية والمتطلبات المُستنزِفة للعمل الشُّرَطي! وخطر له الآن وللمرة الأولى أن الحياة الزوجية هي أفضل مُنظِّف لحاسة التذوق. فلا يمكن أن يكون هناك شيء يفوق سِنَة من نشاط يحظى بها المرء بمساعدته لابنه الصغير في مادة الجبر بحيث تساعده على العودة بذهن نشط إلى معضلة الجريمة التي يعمل عليها في الوقت الراهن.

فكَّر جرانت أنه سيتمكَّن على الأقل من الحصول على قمصان نظيفة. ومن ثم وضع أشياءه في حقيبتِه والتفت يهمُّ بالنزول لتناول الإفطار. كان اليوم هو يوم أحد، ولا تزال الساعة مبكرة، لكنهم سيتدبرون أمر تقديم شيء له على الإفطار. وعندما فتح باب حجرته رنَّ جرس الهاتف.

كان تركيب هاتف إلى جوار السرير هو وجه الاستثناء الوحيد الذي قدَّمه فندق وايت هارت بشأن تحقيق الرقيِّ والتقدُّم. سار جرانت عبر الغرفة في اتجاه الهاتف ورفع سماعته.

جاء صوت مالك المكان يقول: «المفتِّش جرانت؟ دقيقة من فضلك؛ لديك مُكالمة هاتفية.» ثم ساد الصمت لحظة، بعدها قال الرجل: «تفضَّل، إذا سمحت؛ أنت الآن على الخط.»

«مرحبًا.»

جاء صوت مارتا يقول: «آلان؟ أهذا أنت، يا آلان؟»

«أجل، هذا أنا. لقد استيقظتِ مُبكرًا، أليس كذلك؟»

«اسمع، يا آلان. لقد حدَث أمر ما. لا بدَّ أن تأتي في الحال.»

«آتي؟ تقصدين إلى سالكوت؟»

«إلى منزل ميل هاوس. لقد حدث أمر ما. إنه أمرٌ غاية في الأهمية وإلا لما هاتفتك في مثل هذه الساعة المبكِّرة.»

«لكن ما الذي حدث؟ ألا يُمكنكِ …»

«أنت تتحدَّث عبر هاتف الفندق، حسبما أظن.»

«أجل.»

«لا يمكنني أن أُخبرك بدقة، يا آلان. لقد تكشَّف أمر ما. أمر يغير كل شيء. أو على وجه الدقة، كل شيء كنت … كنت تعتقد فيه، إن جاز التعبير.»

«حسنًا. لا بأس. سآتي من فوري.»

«هل تناولتَ إفطارك؟»

«ليس بعد.»

«سأُعدُّ لك شيئًا من الطعام.»

يا لها من امرأة، هكذا فكر جرانت وهو يُعيد سماعة الهاتف. لطالما ظن جرانت أن أول المتطلبات في الزوجة هو الذكاء، والآن أصبح جرانت واثقًا من ذلك. لكن لم يكن هناك مساحة في حياته لمارتا، ولا في حياتها له؛ لكن الأمر كان باعثًا على الأسى، على أيِّ حال. إنَّ امرأة تستطيع أن تُعرب عن تطور مفاجئ في جريمة قتل من دون أن تُثرثر في الهاتف هي جوهرة، لكن المرأة التي تسأله في الوقت نفسه عما إذا كان قد تناول إفطاره بل وترتب لتقديم الإفطار الذي لم يتناوله حين يأتي فهي امرأة أثمن من كل الجواهر.

ذهب جرانت ليستقلَّ سيارته وقد ملأت الظنون قلبه. ما الذي يمكن أن يكون قد تكشَّف لمارتا؟ شيء تركه سيرل في الليلة التي كان فيها هناك؟ شائعة ما أخبرها بها بائع الحليب؟

كان هناك أمر واحد مؤكد: أن ما تكشف ليس بجثة. فلو كانت جثَّة لأخبرته مارتا بذلك — لكونها مارتا الذكية — حتى يتمكَّن من أن يحضر معه كل الأدوات اللازمة والأشخاص المعنيين للتعامل مع مثل ذلك الاكتشاف.

كان اليوم شديد الرياح ويظهر في سمائه قوس المطر. فقد ولَّت الأيام الصافية المشمسة الهادئة الرياح التي تحلُّ كل عام على الربيع الإنجليزي حين يرقد الغبار على الطرقات. فجأةً أصبح الربيع عاصفًا وهائجًا. وأصبحت الزخات المتلألئة تتمايل في الأفق. وتجمعت سحب ضخمة في الآفاق وجرفت معها رياحًا مدوية مصحوبة بأمطار في السماء. وانكمشت الأشجار ثم انتفشت واكتست بالأوراق، ثم انكمشت ثانية.

كان الريف مهجورًا. ليس بسبب الطقس ولكن لأنَّ اليوم كان يوم أحد. لاحظ جرانت أن ستائر بعض الأكواخ كانت لا تزال مغلقة. فالأشخاص الذين يستيقظون مع أول خيط ضوء طوال الأسبوع، والذين ليس لديهم من الحيوانات ما يُوقظهم في هذا اليوم، لا بد أنهم مسرورون بأن يغطُّوا في سباتهم لفترة أطول. غالبًا ما كان جرانت يتذمَّر حين تتداخل واجبات عمله الشُّرَطي مع حياته الخاصة (وهو تذمُّر مرفه، نظرًا لأنه كان بمقدوره أن يتقاعَد قبل سنوات طويلة حين تركت له عمَّته مالها) لكن أن يُمضي المرء حياته مُقيدًا بنزعاته الحيوانية، فذاك أمر يُمثل حتمًا مضيَعة مُحزنة لوقت الرجل الحر.

وبينما كان جرانت يوقف سيارته في مواجهة منزل ميل هاوس، حيث يقع الباب، خرجت مارتا لتُحييه. لم يحدث قطُّ من جانب مارتا أن ارتدت الثياب الريفية في الريف كما فعل الكثير من زملائها المُمثلين. فقد كانت تنظر إلى الريف كما ينظر إليه الريفيون أنفسُهم، كمكانٍ يعيش المرء فيه؛ وليس مكانًا يرتدي المرء له خصوصًا الزاهي وغير الرسمي من الملابس. كانت مارتا ترتدي القفازات إذا ما شعرت ببرودة في يدها. لم تكن تشعر أن عليها أن تبدوَ غجرية فقط لأنه يصادف أنها تعيش في منزل ميل هاوس في سالكوت سانت ماري. لذا كانت مارتا تبدُو هذا الصباح أنيقةً وراقية، وكأنها تلتقي به على سلَّم أحد منازل حي ستانوورث. لكن فكَّر جرانت أنَّ وجهَها تعتريه أمارات الصدمة. بالفعل بدت مارتا وكأنها كانت مريضة جدًّا مؤخَّرًا.

«آلان! لا يُمكنك أن تتخيَّل مدى سعادتي لسماع صوتك عبر الهاتف. كنتُ أخشى أن تكون قد غادرت إلى المدينة، حتى في مثل تلك الساعة المبكرة.»

فسألها جرانت وهو يتجه نحو الباب: «ما الذي تكشَّف بهذه الصورة المفاجئة؟» إلا أنها قادته حول المنزل حتى باب المطبخ في جانب من جوانب المنزل.

«إنه تومي ثروب، الصبي المعجب بك، هو من وجده. تُومي يعشق صيد السمك. وكثيرًا ما يخرج قبل الإفطار ليصطاد، لأن هذا الوقت مناسب للصيد على ما يبدو.» فكَّر جرانت في ذهنه أن عبارة «على ما يبدو» تمثل تجسيدًا لنمط مارتا في الحديث. فقد عاشت مارتا إلى جوار النَّهر طيلة سنوات ولا تزال تضطر لاستعارة كلمة شخص آخر للتعبير عن الوقت المناسب لصيد السمك. «في أيام الأحد غالبًا ما يأخذ تومي شيئًا في جيبه ولا يعود — شيئًا من الطعام أقصد — لكنه عاد هذا الصباح بعد ساعة لأنه … لأنه اصطاد شيئًا عجيبًا.»

ثم فتحَت مارتا الباب ذو اللون الأخضر اللامع وتقدمته إلى داخل المطبخ. كان تومي ثروب وأمه هناك. كانت السيدة ثروب منكبَّة على الموقد وكأنها كانت تشعر هي أيضًا بإعياء شديد، لكن تومي تقدم ليلتقي بهما في هيئة يكسوها التألق. لم يبدُ على تومي شيء يُوحي بالتوعك. كانت هيئة تومي تُوحي بالفخر. كان مبتهجًا إلى أقصى حد. وبدا شامخًا حد السماء متوجًا بالبرق.

قال تومي قبل أن تقول مارتا أي شيء: «انظر يا سيدي! انظر إلى ما اصطدت!» وسحب جرانت تجاه طاولة المطبخ. وعلى الطاولة، وُضع حذاء رجلٍ بعناية على بضع طبقات من الجرائد لكي يحافظوا على نظافة الطاولة المثالية.

تأوهت السيدة ثروب من دون أن تلتفت قائلة: «لن أتمكَّن من خبز شيء على هذه الطاولة ثانية.»

نظر جرانت إلى الحذاء وتذكر وصف الشرطة لملابس الرجل المفقود.

فقال: «أظن أنه يخص سيرل.»

فردَّت مارتا: «أجل.»

كان حذاءً بني اللون، وبدلًا من أن يكون ذا أربطة، كان مربوطًا بإبزيم وحزام عبر مشط القدم. كما كان الحذاء موحلًا ومشبعًا بالماء.

«من أين اصطدته، يا تومي؟»

«من على بعد نحو مائة ياردة من المنحنى الكبير باتجاه أسفل النهر.»

«أظن أنك لم تُفكِّر في وضع علامة على المكان؟»

رد تومي وقد شعر بالإساءة: «بل وضعت علامة بالطبع!».

«أحسنتَ. سيتعيَّن عليك أن تُريني المكان بعد قليل. في تلك الأثناء، انتظر هنا. لا تخرج وتتحدث عن هذا الأمر.»

«أجل، يا سيدي، لن أفعل. لا أحد يعلم بهذا الأمر غيري والشرطة.»

صعد جرانت إلى الطابق العلوي وهو مُبتهج بعض الشيء بفعل هذا التطور الجديد في الموقف، وتوجه إلى الهاتف في غرفة المعيشة واتصل بالمفتش رودجرز. وبعد مهلة؛ إذ كان يتحتَّم على قسم الشرطة أن يوصله بهاتف منزل رودجرز، أصبح جرانت على الخط معه فأخبره بأن النهر ينبغي أن يُفتَّش تفتيشًا دقيقًا مرة ثانية ووضح له سبب ذلك.

غمغم رودجرز: «أوه، يا إلهي! هل أخبركَ الصبيُّ ثروب بالمكان الذي اصطاده منه؟»

«على بُعد مائة ياردة تقريبًا من عند منحنى النهر الكبير، إن كان في هذا ما يُرشدك إلى شيء.»

«أجل. يقع هذا المكان باتجاه أسفل النهر على بُعد مائتي ياردة تقريبًا من المكان الذي كانا يُخيِّمان فيه. وقد فتشنا تلك المساحة كلها تفتيشًا دقيقًا. ألا تظنُّ أنه ربما …؟ هل يبدو الحذاء وكأنه كان في الماء منذ ليلة الأربعاء؟»

«أجل، يبدو كذلك بالفعل.»

«أوه، حسنٌ. سأُجري الترتيبات اللازمة. يمكن أن نفعل ذلك رغم أننا في عطلة يوم أحد، أليس كذلك؟»

«هلا رتَّبتَ للأمر في هدوء بقدر ما يمكن؟ فلا نرغب في وجود مشاهدين أكثر مما يمكننا التعامل معهم.»

وبينما كان يضع السماعة دخلت مارتا بصينية وبدأت تضع إفطاره على الطاولة.

«لا تزال السيدة ثروب تشعُر بما تقول إنه «رغبة في التقيؤ»؛ لذا ارتأيت أن من الأفضل أن أعدَّ إفطارك بنفسي. كيف تحبُّ تناول البيض؟ أتحبه مقليًّا؟»

«إن كنتِ ترغبين في معرفة ذلك حقًّا، أحبه نصف مطهوٍّ ومُفتَّتًا بشوكة.»

فقالت مارتا مبتهجة: «مخلوط! هذا نوع لم أعهدْه من قبل. أرى أننا نزداد ألفة! على الأرجح أنني المرأة الوحيدة على وجه الأرض التي تعلم أنك تحب البيض على الإفطار مُفتتًا، باستثناء مُدبِّرة منزلك، أليس كذلك؟»

«في واقع الأمر، هناك امرأة في قرية تقع بالقُرب من أمينز كنتُ قد اعترفت لها من قبل بذلك. لكنني أشك أنها ستتذكر.»

«على الأرجح هي الآن تجني ثروة من تلك الفِكرة. ومن المُرجَّح أيضًا أن البيض الإنجليزي يمتلك معنى جديدًا تمامًا الآن في فرنسا. أتُريد خبزًا بنيًّا أم أبيض؟»

«بنيًّا من فضلك. سيتعيَّن عليَّ أن أدين لكِ بمكالمة خارجية أخرى.» ثم رفع جرانت سماعة الهاتف ثانية وطلب الاتصال بمنزل ويليامز في لندن. وبينما كان ينتظر تحويل المكالمة من لندن اتصل بمنزل تريمنجز وطلب التحدُّث إلى مُديرة المنزل. وحين جاءت السيدة بريت لتلقِّي المكالمة وهي تلهث، سألها عن الشخص المسئول عن تنظيف الأحذية في منزل تريمنجز، فأخبرته أنها بولي، الفتاة التي تعمل في المطبخ.

«هلا عرفتِ من بولي ما إن كان السيد سيرل مُعتادًا على خلع حذائه البني ذي الإبزيم من دون أن يفك إبزيمه، أم إنه كان يفكُّه أولًا قبل أن يخلعه؟»

أخبرته السيدة بريت أنها ستفعل ذلك، وسألته إن كان يرغب في التحدث إلى بولي بنفسه.

«كلا، شكرًا لكِ. سأتثبت ممَّا ستقول، بالطبع فيما بعد. لكنني أظن أن احتمالية شعورها بالاضطراب إذا ما سألتِها أنت سؤالًا عاديًّا ستُصبح أقل مما إذا جاءت إلى الهاتف ليسألها في ذلك رجل غريب. لا أريد منها أن ترتبك عند تفكيرها في الإجابة عن السؤال على الإطلاق. هل كان الحذاء مشبوكًا بالإبزيم أم مفكوكًا حين كانت تنظفه؟»

فهمت السيدة بريت مراده، وطلبت منه الانتظار حتى تسألها.

«كلا. فأنا أنتظِر مُكالَمة مُهمَّة. لكنني سأُعاودُ الاتصال بكِ بعد وقت وجيز.»

جاءت مكالمة لندن على الخط، وتمكَّن جرانت من سماع صوت ويليامز الذي لم يكن مسرورًا كثيرًا وهو يقول لعامل تحويل المكالمات: «لا بأس، أنا مُستعدٌّ لتلقي المكالمة منذ خمس دقائق.»

«أهذا أنت، يا ويليامز؟ هذا أنا جرانت. أنصت إليَّ. كنت سآتي إلى البلدة اليوم لألتقي بابنة عم ليزلي سيرل. أجل، لقد عرفت أين تقطن. اسمها سيرل. آنسة سيرل. وهي تقطُن في منزل رقم ٩ في هولي بيفمينت في هامبستيد. إنه مكان أشبه بمجمع للفنانين. لقد هاتفتها ليلة أمس ورتبت موعدًا للقائها بعد ظهر اليوم عند حوالي الساعة الثالثة. والآن لا يُمكنني الحضور للقائها. لقد اصطاد صبي هنا حذاءً يخص ليزلي سيرل من النهر. أجل، حسنًا، إنه أمر يدعو إلى التباهي! لذا علينا أن نُفتِّش النهر ثانية بدقة، ويتحتَّم عليَّ أن أظل هنا. فهل تستطيع الذهاب للقاء الآنسة سيرل بدلًا مني، أم أطلب شخصًا آخر من إدارة سكوتلانديارد؟»

«كلا، سأذهب، يا سيدي. عم تُريدني أن أسألها؟»

«اعرف منها كل ما تعرفه هي عن ليزلي سيرل. متى رأته آخرَ مرَّة. من هم أصدقاؤه في إنجلترا. كل ما يمكنك الحصول عليه منها بشأنه.»

«جيد جدًّا. متى أُعاود الاتصال بك؟»

«ينبغي أن تكون هناك بحلول الثالثة إلا الربع، وستُغادر بعد ساعة؛ أي ربما بحلول الرابعة.»

«هل أتَّصل بك في قسم شرطة ويكهام؟»

«كلا، قد لا أكون هناك. فنظرًا لبطء عملية التفتيش، ربما من الأفضل لو اتَّصلت بي في منزل ميل هاوس في سالكوت. إن رقمه هو سالكوت ٥.»

ولم يدرك جرانت أنه لم يسأل ويليامز عما آلت إليه مهمَّتُه مع بيني سكول إلا حين وضع السماعة.

دخلت مارتا بإفطاره، وبينما كانت تصبُّ له القهوة هاتف جرانت منزل تريمنجز ثانية.

كانت السيدة بريت قد تحدَّثت إلى بولي، ولم يكن لدى الأخيرة أدنى ريب حيال المسألة. إن رباطَي حذاء السيد سيرل البني دائمًا ما تجدهما مفكوكَين حين يخلعه لتنظيفه. كانت تعرف ذلك لأنها اعتادت أن تُعيد ربطهما بحيث لا يُحدِثان ضجة وهي تنظف الحذاء. فكانت تربط الرباطين لتبقيهما ساكنين، ثم تفكهما حين تنتهي.

هكذا كان الأمر إذن.

بدأ جرانت يتناول إفطاره، وصبَّت مارتا لنفسها كوبًا من القهوة وجلست ترتشف منه. بدت شاحبة باردة، لكنه لم يستطع أن يحجم عن سؤالها:

«هل لاحظتِ شيئًا غريبًا بشأن الحذاء؟»

«أجل. كان الحذاء مفكوكًا.»

يا لها من امرأة مُدهِشة. وفكَّر جرانت في ذهنه أنه لا بد من وجود نقائص تُكافئ كل هذه الميزات الكثيرة لديها، إلا أنه لم يستطع أن يتخيَّل ماذا يمكن أن تكون هذه النقائص.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤