تصدير

في أوائل عام ٢٠٠٧، كنت أتناول طعام العشاء برفقة بعض الأصدقاء في برلين. كنا نتحدث عن الاحترار العالمي. وفي أعقاب نقاش حمي وطيسه باضطراد دار حول التهديدات القادمة من جراء التغير المناخي، اندفع أحد الأمريكيين مفرطي الحماس الجالسين على المائدة يقول دون تفكير: «إننا في حاجة لشن حرب على الكربون. على الحكومات أن تعلن حالة التعبئة. فلنسير جيوشنا!» ثم عاد مرة أخرى ليغوص في مقعده، متباهيًا بقراره الجريء الذي أصدره، وهو يرتشف جرعة كبيرة من النبيذ الأحمر باهظ الثمن.

كان من الواضح أن صديقي يتحدث بشكل مجازي؛ فالكربون ليس «عدوًّا». وحتى جندي المارينز الأمريكي لا يستطيع أن يقاتله. بيد أنني لما جُلت ببصري في الجالسين حول المائدة، بدا وكأن نوعًا من التحفظ قد طفا على وجوه مرافقينا الألمان. فسألت أحد أصدقائي قائلًا له: «ما معنى تلك النظرة؟» وبعد صمت استمر لبرهة، قال لي بصوت أقرب إلى الهمس: «الألمان لا تستهويهم الحرب.»

وأشعل رده (في نفسي) لحظة نادرة من الإدراك. بطبيعة الحال لم يكن هناك من يتحدث عن استخدام البنادق في حرب الكربون، ولا حتى استخدامها ضد ملوثي الأرض بالكربون. ولكن، لأسباب واضحة، تعد ذكريات الحرب مؤلمة للغاية في حياة الألمان. فالبلد برمته، لا سيما برلين، عانى الأمرَّيْن من ويلات هزيمتين حلتا به في القرن العشرين، وبرلين تحديدًا تتشح على الدوام بما يذكرها بالتكلفة التي تكبدتها البلاد جراءهما.

أما في أمريكا، لم تكن الحرب تستدعي ذكريات سلبية بالضرورة. ولست أعني بذلك أننا قوم نعشق الحروب؛ وإنما أعني أن تاريخنا أتاح لنا أن نهوى فكرة شن الحروب. ليس باختيارنا، وإنما من أجل علاج خطأ جسيم. فالحرب تضحية قمنا بها، وفي حالة واحدة على الأقل وقعت مؤخرًا كانت الحرب تضحية حققت غاية طيبة للغاية. ولهذا فإننا نصبغ تلك التضحية بلمسة شاعرية.

أتاحت تلك الرومانسية بدورها استخدام الحرب بصورة مجازية للتعبير عن أنواع أخرى من الصراعات، اجتماعية كانت أو سياسية. فنحن نشن الحرب على المخدرات، وعلى الفقر، وعلى الإرهاب، وعلى العنصرية. وهناك حرب على السفه الحكومي في الإنفاق، وحرب على الجريمة، وحرب على البريد الإلكتروني الدعائي، وحرب على الأسلحة، وحرب على السرطان. وعلى حد وصف الأستاذين الجامعيين جورج لاكوف ومارك جونسون، فإن كل واحدة من تلك الحروب تتسبب في «شبكة متداخلة من التبعات». وتلك التبعات هي التي توجه السياسة الاجتماعية وتحدد أُطُرها المختلفة. وعلى حد قولهما، عند مناقشتهما لخطاب الرئيس كارتر بعنوان «المكافئ المعنوي للحرب»:
كان ثمة «عدو»، «تهديدٌ للأمن القومي» تطلب منا «تحديد أهداف»، و«إعادة ترتيب أولويات»، و«إصدار سلسلة جديدة من الأوامر»، و«وضع استراتيجية جديدة»، و«تجميع معلومات استخباراتية»، و«تنظيم القوات»، و«فرض عقوبات» و«دعوة الشعب لتقديم تضحيات» وهلم جرًّا. لقد ألقى الاستخدام المجازي لكلمة «حرب» الضوء على وقائع معينة وطمس وقائع أخرى. ولم يكن ذلك التشبيه مجرد أسلوب للنظر إلى الواقع؛ وإنما شكل ترخيصًا بتغيير السياسات وبالعمل على الصعيدين السياسي والاقتصادي. إن قبول ذلك التشبيه شكَّل في حد ذاته الأسس لتدخلات معينة: فهناك عدو خارجي، أجنبي، يناصبنا العداء (يصوره رسامو الكاريكاتير عادةً في صورة عقال عربي)، ونحتاج لجعل مسألة الطاقة على رأس أولوياتنا، وعلى الشعب أن يقدم تضحيات، ولو لم نواجه التهديد فلن تكتب لنا النجاة.1

للحرب من أجل البقاء تداعيات بديهية. ومثل تلك الحروب تشن بلا حدود توقفها. ومن الجبن أن نتساءل عن السبب. أما معارضة الحرب فهي معونة تقدَّم للعدو؛ فهي بمنزلة الخيانة، أو أقرب ما يكون إليها. والنصر هو النتيجة الوحيدة التي يمكن للمرء التفكير فيها، على الأقل جهرةً. فأنصاف الحلول دائمًا ما تجر الهزائم.

ولتلك التداعيات منطق بديهي أثناء صراعات كالحرب العالمية الثانية مثلًا، عندما كان هناك حقًّا قتال من أجل البقاء. لكن ما أشعل شرارة إدراكي لمنطق لاكوف، على أي حال، كانت رؤيتي لمدى خطورة تلك التداعيات عندما يطبَّق التشبيه بالحرب على ظروف لا يكون فيها البقاء، في حقيقة الأمر، مهدَّدًا.

فكرْ على سبيل المثال في «الحرب على المخدرات». لا ريب أن مكافحة الإدمان الكيماوي المنهك لقوى الجسم هدف اجتماعي مهم. ولقد رأيت رأي العين الدمار المطلق الذي يتسبب فيه. ولكن استخدام التشبيه «الحرب على المخدرات» يمنعنا من إدراك احتمال وجود أهداف أخرى أكثر أهمية تهددها الحرب. فكر في أحكام السجن لمدد طويلة للغاية حتى ولو كان المحكوم عليه من صغار المروجين، فلقد حكمت المحكمة العليا على سبيل المثال بالسجن مدى الحياة دون وجود أي احتمال لإطلاق سراح السجين على شخص حاز ٦٧٢ جرامًا من الكوكايين.2 وفكر في أحياء الأقليات المبتلاة بتجارة المخدرات. وفكر في حكومات أمريكا اللاتينية التي لا يوجد لديها قضاء فعال ولا حتى جيش؛ لأن الثروة التي تسبب فيها حظر ذلك النوع من التجارة تُمكِّن أباطرته من إحكام السيطرة عليها. ثم فكر بعد ذلك في حقيقة واقعة وهي أن هذه الحرب لم يكن لها أي تأثير جوهري على القضاء على جلب المخدرات. فالمرء في خضم الحرب لا يلحظ تلك الحقائق المزعجة. ولكي تراها، فإنك في حاجة إلى هدنة. أنت بحاجة إلى التراجع خطوة بعيدًا عن الحرب كي تسائل نفسك، ما حجم تكلفتها الحقيقية؟ وهل النتائج تساوي ثمنها حقًّا؟

•••

أوحت حروب حقوق التأليف والنشر لي بتأليف هذا الكتاب، وليس المقصود طبعًا «الحرب» التي يشنها «القراصنة» على حقوق التأليف والنشر وإنما «الحرب» على «القرصنة» التي «تهدد بقاء» صناعات أمريكية معينة تتسم بالأهمية.

لهذه الحرب أيضًا هدف مهم. فحقوق التأليف والنشر تتسم، من وجهة نظري أنا على الأقل، بأهمية جوهرية للثقافة السليمة. فإذا تمتعت هذه الحقوق بالتوازن الصحيح، فإنها تصير ضرورية للإلهام بأشكال معينة من الإبداع. وبدونها تصبح ثقافتنا أكثر فقرًا بكثير. أما في وجودها — وفي حالة من التوازن السليم على أقل تقدير — فإننا نتمكن من خلق الحوافز التي تدفعنا لإنتاج أعمال جديدة عظيمة لم تكن لتُنتَج لولاها.

لكن هذه الحرب، شأنها شأن أي حرب مجازية أخرى، ليست عبارة عن صدامات فعلية من أجل البقاء. أو على الأقل هي ليست تلك الصدامات التي تنشب من أجل بقاء شعب أو مجتمع ما، حتى ولو كانت حروبًا من أجل بقاء صناعات معينة، أو إن شئنا أن نكون أكثر دقة، نماذج من الأنشطة التجارية. ومن هنا علينا أن نتذكر دومًا القيم أو الأهداف الأخرى التي ربما تتأثر هي أيضًا بهذه الحرب. وعلينا أن نحرص على ألا تزيد تكلفة هذه الحرب على ما تستحقه من قيمة. كما أن علينا أن نحرص على أن تكون حربًا يمكننا الانتصار فيها، أو يمكننا الانتصار فيها بعد دفع ثمن نحن مستعدون لدفعه.

إنني أومن بأنه لا ينبغي علينا شن تلك الحرب. وإني لأومن بذلك ليس لأنني أعتقد بعدم أهمية حقوق التأليف والنشر. على العكس، إنني أومن بالسلام لأن تكاليف هذه الحرب تتجاوز بكثير أي نفع سيعود من ورائها، على الأقل إذا وضعنا في الاعتبار التغيرات التي طرأت على النظام الحالي لحقوق التأليف والنشر والتي يمكنها إنهاء تلك الحرب، وفي الوقت نفسه تَعِد الفنانين والمؤلفين بالحماية التي يُقصَد توفيرها من وراء أي منظومة لحقوق التأليف والنشر.

حاولت في الماضي طرح وجهة نظري هذه للسلام عن طريق توجيه الأنظار نحو تكاليف هذه الحرب على الابتكار، وعلى الإبداع، وفي نهاية المطاف على الحرية. وكان الهدف الذي سعيت إليه في كتابي «مستقبل الأفكار» الدفاع عن صناعات لا يكتب لها الميلاد أصلًا نتيجة الخوف من المساءلة القانونية الجنونية التي يفرضها النظام الحالي لحقوق التأليف والنشر. وكان موضوع كتابي «ثقافة حرة» أشكال التعبير الإبداعي والحرية التي تطؤها بلا رحمة أقدام التطرف في الدفاع عن منظومة حقوق تأليف ونشر شيدت من أجل عصر مختلف عن عصرنا هذا اختلافًا جذريًّا من الناحية التكنولوجية.

غير أني انتهيت من تأليف «ثقافة حرة» وقد استقبلت أول مولود لي. وخلال السنوات الأربع التي مرت منذ ذلك الحين، تغير اتجاه تركيزي — أو لنقل مخاوفي — من تلك الحرب نحو أمر آخر. لا أرتاب في مخاوفي بشأن الابتكار والإبداع والحرية. غير أنها لم تعد همِّي الأساسي. إنني الآن قلق بشأن التأثير الذي ستحدثه تلك الحرب على أطفالنا. ما الذي ستفعله بهم هذه الحرب؟ وإلى أي شيء ستحولهم؟ وكيف تغير أسلوب تفكيرهم في السلوك الطبيعي المتسم بالتفكير السليم؟ وما المعنى الذي تقدمه للمجتمع عندما ينشأ جيل كامل فيه يُنظر إلى أفراده على أنهم مجرمون؟

هذا السؤال ليس حديث النشأة. فحقيقة الأمر أن هذا السؤال طرحه مرارًا وتكرارًا رئيس جمعية السينما الأمريكية الأسبق — والراحل الآن — جاك فالينتي، وهو يخوض ما أسماه «الحرب على الإرهاب» الموجهة ضد «القرصنة».3 لقد كان سؤالًا طرحه على جمهور هارفرد في المرة الأولى التي دخلت أنا وهو فيها في مناظرة حول تلك القضية. في افتتاحيته العبقرية المثيرة للاهتمام، كان فالينتي يصف محاضرةً أخرى كان ألقاها لتوه في ستانفورد، اعترف فيها ٩٠٪ من الطلاب بقيامهم بتنزيل ملفات موسيقية بطريقة غير مشروعة من موقع نابستر. طلب فالينتي من أحد الطلاب أن يقدم مرافعة يدافع فيها عن هذه «السرقة». وكان رد الطالب بسيطًا: نعم، ربما كانت هذه سرقة، لكن الجميع يقومون بها، فكيف تكون أمرًا معيبًا؟ ثم طرح بعدها سؤالًا على مضيفيه في ستانفورد: ما الذي تعلمونه لأبنائنا؟ «أي نوع من الأساس الأخلاقي سوف يستند إليه هذا الشاب خلال حياته المقبلة؟»

لم يكن هذا هو السؤال الذي أثار اهتمامي في تلك المناظرة. لقد ثرثرت كثيرًا حول واضعي الدستور الأمريكي، وعن الدوافع، وعن تقييد الاحتكارات. غير أن سؤال فالينتي هو تحديدًا السؤال الذي يثير اهتمامي الآن: «أي نوع من الأساس الأخلاقي سوف يستند إليه هذا الشاب خلال حياته المقبلة؟» بالنسبة لي، «ذلك الشاب» يمثل ولديَّ الصغيرين. وبالنسبة لك، ربما كان ابنتك، أو ابنة شقيقك. ولكن بالنسبة لنا جميعًا — سواء أكان لدينا أبناء أم لا — فإن سؤال فالينتي هو بالضبط السؤال الذي ينبغي أن يكون أكثر ما يشغل بالنا. ففي عالم تتوسل فيه التكنولوجيا لنا جميعًا وترجونا أن نبدع وننشر عملنا الإبداعي بصورة مختلفة عن الأسلوب الذي كان يخلق به وينتشر بواسطته من قبل، أي نوع من الأسس الأخلاقية يمكن أن ينشأ عليه أبناؤنا، عندما ينظر إلى سلوكهم الاعتيادي على أنه سلوك إجرامي؟ أي شيء سيصبحون عليه؟ وما الجرائم الأخرى التي ستبدو بالنسبة إليهم أمرًا طبيعيًّا؟

طرح فالينتي هذا السؤال كي يحفز الكونجرس — وأي شخص آخر قد ينصت — حتى يشن حربًا أكثر فاعلية من ذي قبل على «القرصنة». وأنا أطرح ذلك السؤال كي أحفز أي شخص يستمع وينصت (ومن المؤكد أن الكونجرس لا يندرج تحت تلك الفئة) كي يفكر في سؤال مختلف: ما الذي ينبغي علينا عمله لو كانت تلك الحرب على «القرصنة» حسبما نراها في الوقت الراهن من المستحيل الانتصار فيها؟ وما الذي ينبغي علينا عمله لو علمنا أنه في المستقبل سوف يستخدم أطفالنا الشبكة الرقمية للوصول إلى أي محتوى يريدونه في أي وقت يشاءون؟ وما الذي علينا عمله إذا علمنا أنه في المستقبل لن يكون هناك طريقة مثلى للسيطرة على توزيع «النسخ»؟

في ذلك العالم، هل سنواصل تقديم قرابين من بعض من أطفالنا الذين سيقبض عليهم متلبسين بتنزيل محتويات من على شبكة الإنترنت؟ وهل سيتعين علينا الاستمرار في طردهم من الجامعات؟ وتهديدهم بأحكام مدنية تصل التعويضات فيها لعدة ملايين؟ وهل سيتوجب علينا أن نزيد من مقدار الصرامة التي نشن بها الحرب على أولئك «الإرهابيين»؟ وهل سنكون مضطرين للتضحية بعشرة أو مائة منهم ووضعهم في السجن الفيدرالي (لأن أفعالهم وفق القانون الحالي تندرج تحت مسمى الجنايات)، وبهذا يتعلم الآخرون الكف عما يفعلونه اليوم بمعدل آخذ في الازدياد؟

في رأيي، الحل في حالة الحرب التي لا يمكن تحقيق النصر فيها ليس أن نشن الحرب بصورة أكثر شراسة. وعلى الأقل عندما لا تكون الحرب التي لا يمكن الانتصار فيها حرب بقاء، فالحل هو أن نسعى للسلام، وبعدها نبحث عن طرق لتحقيق الغايات التي سعت إليها الحرب دون أن نخوض حربًا. إن تجريم جيل بأكمله لثمن باهظ للغاية كي ندفعه مقابل أي غاية مهما كانت. وهو بالتأكيد ثمن باهظ للغاية مقابل منظومة حقوق تأليف ونشر صيغت قوانينها منذ أكثر من جيل مضى.

لا جدوى من هذه الحرب، لا سيما لوجود وسائل سلمية لبلوغ جميع أهدافها، أو على الأقل جميع أهدافها المشروعة. فالفنانون والمؤلفون في حاجة لحوافز تدفعهم نحو الإبداع. ويمكننا صياغة منظومة تقوم بذلك الأمر تحديدًا دون الاضطرار إلى تجريم أبنائنا. إن العقد الفائت مليء بعمل طيب يندر أن يتكرر قام به بعض من أفضل باحثي أمريكا، الذين عكفوا على رسم خرائط ومسودات مخططات لإيجاد بدائل للمنظومة الحالية. ومن شأن تلك البدائل أن تحقق نفس الغايات التي تسعى إليها حقوق التأليف والنشر، دون تجريم لأولئك الذين يقومون بصورة تلقائية بأمور تشجعهم عليها التقنيات الحديثة.

لقد حان الوقت للنظر بجدية إلى تلك البدائل. لقد حان الوقت للتوقف عن إهدار مواردنا من محاكم فيدرالية، وشرطة، وجامعات من أجل معاقبة سلوك لسنا في حاجة لمعاقبته. ولقد حان الوقت للكف عن ابتكار أدوات لا تفعل شيئًا أكثر من كونها تحطم التواصل والفعالية الاستثنائية التي تتمتع بها هذه الشبكة. لقد حان الوقت كي ندعو إلى هدنة، ولنتبين ملامح طريق أفضل. وما نقصده من وراء طريق أفضل أن نعيد تعريف منظومة القانون الذي نسميه حقوق التأليف والنشر، بحيث لا يوصف السلوك العادي والطبيعي بأنه جنائي.

كثيرون سوف يقرءون ذلك التصريح فيتعجبون كيف يُسمَح لي بتدريس القانون في واحدة من كبريات الجامعات الأمريكية. وهل يكون ردنا على ارتفاع معدلات جرائم الاغتصاب أن نجعل الاغتصاب أمرًا غير مجرَّم؟ وهل يكون أفضل سبيل لمكافحة التهرب الضريبي بإلغاء الضرائب؟ وهل تجاوز السرعات المقررة عند القيادة يجعلنا نسمح بالقيادة دون قيود على السرعة؟ أو لنعمم الأمر فنقول: هل وجود الجريمة مبرر لإلغاء القانون الجنائي؟

بالطبع لا. فالاغتصاب أمر خاطئ وينبغي عقاب مرتكبه عقابًا صارمًا سواء واصل الناس ارتكابه أم لا. والتهرب الضريبي شرٌّ وينبغي عقاب مرتكبيه بصورة أكثر صرامة بكثير مما هو الحال الآن، سواء تحايل معظم الناس أم لم يتحايلوا. والقيادة بسرعة جنونية تتسبب في مقتل الناس، وينبغي تنظيم السرعات القانونية بطريقة أكثر فعالية بكثير مما هو عليه الآن، حتى لو كان معظمنا يقودون سياراتهم بتهور. ولا شيء مما قلته عن حرب حقوق التأليف والنشر بالتحديد يمكن تعميمه بصورة تلقائية على جميع مجالات التنظيم القانوني الأخرى. إنني أتكلم تحديدًا عن حرب معينة لا يمكن تحقيق النصر فيها، وعن بدائل لتلك الحرب في إمكانها نزع صفة الإجرام عن أبنائنا، وعن كثير منا نحن أيضًا.

غير أني أقر بإيماني بأن هذه الطريقة في التفكير في حروب حقوق التأليف والنشر لا بد وأنها ستؤثر في أسلوب تفكيرنا في الأنواع الأخرى من التشريعات المنظمة. فالتهرب الضريبي إثم لا شك في ذلك، ولكن من بين طرق تفادي ذلك الإثم اتباع أسلوب أكثر بساطة، ووضع منظومة ضريبية أكثر إنصافًا. والسرعة المتهورة خطأ، ولكن من بين سبل تفادي وقوع ذلك الخطأ أن نتجنب وضع قيود على زيادة السرعة عن خمسة وخمسين ميلًا في الساعة على الطرق المستقيمة، والريفية، والطرق السريعة العامة ذات الأربع حارات. علينا أن نفكر دومًا في كيفية التلطيف من حدة التشريع في ضوء احتمال إذعان المستهدف بالتشريع. فلن يفيد أحدًا أن نفرض القواعد التنظيمية بأساليب نعلم أن الناس لن تطيعها.

إننا، بعبارة أخرى، في حاجة لمزيد من التواضع فيما يتعلق بالتشريع. لقد أحدث القرن العشرين فينا تغييرات من عدة وجوه جلية. غير أن الوجه الذي من المحتمل ألا نلحظه هو ذلك الافتراض المسبق الذي منحنا إياه القرن العشرون والقائل بأن التنظيم الحكومي ينجح على الدوام. طيلة معظم فترات تاريخ الحكومة المعاصرة، لم يكن النضال يدور حول ما هو طيب وما هو كريه؛ وإنما كان يدور حول ما إذا كان من الممكن أن نتصور أن الحكومة ستحقق أي نفع من وراء التنظيم أم لا. لقد دفعت المخاوف من الفساد الذي لا مفر منه، ولو جزئيًّا على الأقل، مُشرعينا نحو تقليص حجم الحكومة الفيدرالية، ولم يكن الدافع لذلك نزعة مثالية نحو الليبرتارية. إن إدراك عدم جدوى أنواع معينة من القواعد بالحكومات أدى إلى تجنب وضع تشريعات في المجالات البديهية، أو إلغاء تشريعات كلما رأوها فاشلة في تحقيق المرجو منها. تلك هي النماذج التاريخية التي تجلى فيها التواضع التشريعي، تلك العادة الذهنية التي سادت أغلب فترات تاريخنا الإنساني.

لقد نسينا حدود التواضع تلك. فكلما وقع خطأ ما، كانت أول بادرة تلقائية من حكومتنا أن ترسل في طلب المكافئ القانوني لقوات المارينز. إننا نمرر قانونًا كي نحظر سلوكًا، لكننا نادرًا ما نبحث مليًّا كيفية تغيير ذلك القانون للسلوك. كما أننا لا نقيم مدى الإزعاج الذي من الممكن أن يسببه القانون لو ظل السلوك على ما هو عليه، لكنه الآن صار فقط يوصف بأنه «إجرامي». فلو أن شيئًا ما خاطئ، يصدر له قانون، دون حتى أن نُعمل الفكر مليًّا لمحاولة العثور على بدائل لذلك التشريع المغالى فيه.

إن كنت ترتاب فيما أقول، فإليك مثالًا بسيطًا: تقريبًا في نفس توقيت سماع المحكمة العليا للمرافعات في القضية المدنية الشهيرة المرفوعة من مترو جولدن ماير على جروكستر بشأن التشارك في الملفات،4 أذاعت محطة الإذاعة العامة المحلية التي تبث في منطقتي تحقيقًا حول القضية. وتصادف أن يذاع ذلك التحقيق في ذات اليوم الذي كانت الإذاعة فيه تبث أيضًا حملتها الخاصة بها لجمع التبرعات. وبمجرد انتهاء بث التحقيق الذي يتناول قضية جروكستر، تحول البرنامج نحو الدعوة للحصول على مؤازرة جماهيرية. «أكثر من تسعين بالمائة ممن يستمعون للإذاعة العامة لا يساهمون في دعمها.» خرج صوت المذيع يقول ذلك ثم أضاف: «لهذا نحن بحاجة إلى مساهمتكم الآن.»

لقد عملت من قبل في كتابة مذكرة قانونية خاصة بقضية جروكستر، تناولنا فيها ادعاء صناعة المحتوى (المسماة أيضًا بصناعة المصنفات) بأن ٩١٪ من المحتوى المتبادل على شبكات الند للند للتشارك في الملفات كان يمثل خرقًا لقانون حقوق التأليف والنشر. وسبق أن قمنا بالرد بتذكير المحكمة بأنه في قضية سوني بيتاماكس السابقة عليها، وفيها كان المدعى عليه هو مسجل الفيديو، قدرت صناعة المحتوى أيضًا أن ٩١٪ من حالات استخدام مسجل الفيديو عبارة عن خرق لقوانين حقوق التأليف والنشر. كانت تلك الصناعة متسقة في دعواها في الحالتين.

غير أن الفارق بين الشكوى التي قدمت للمحكمة العليا وتلك التي خرج بها علينا مذيع الإذاعة العامة روعني حقًّا. فهنا مثالان على الاستخدام المجاني: أولئك الذين يقومون بتنزيل أغاني بريتني سبيرز من شبكة الإنترنت دون أن يدفعوا لها مقابلًا، وأولئك الذين يستمعون إلى البرنامج الإخباري «كل الأمور موضوعة في الحسبان» دون أن يدفعوا المقابل لشبكة الإذاعة العامة؛ ففي أحدهما، نجرم الاستخدام المجاني، بينما مع الأخرى، لا نفعل ذلك، فلماذا؟ هل تعتقد أن من الملائم إلقاء القبض على من يستمعون إلى شبكة الإذاعة العامة دون أن يدفعوا مقابلًا؟ بالتأكيد أنا لا أعتقد ذلك. ومثلما قد تتساءل، هل أعتقد أنه من الواجب سداد مقابل لبريتني سبيرز من خلال تبرعات تطوعية على أحد الأرقام المجانية؟ ومرة أخرى لا، لا أظن ذلك.

النقطة التي أريد أن أصل إليها من وراء إعادة سرد هذه القصة أن أجعلك ترى أمرًا كثيرًا ما يغيب عن أذهان الناس: فهناك طرق عديدة مختلفة يمكننا من خلالها فرض ضريبة لتحقيق عائدات تحتاج إليها السلع العامة (وهو اللفظ الذي يطلقه الاقتصاديون على أعمال حقوق التأليف والنشر). ونحن نتخير من بين تلك الطرق المختلفة أفضلها. والنقطة الجوهرية التي أود طرحها من خلال كتابي هذا هي أن هناك عاملًا واحدًا علينا أن نضعه في الاعتبار عند اتخاذ القرار؛ وهو ما إذا كانت الطريقة التي سنختارها من شأنها أن تحول أبناءنا إلى مجرمين أم لا. هذا ليس العامل الوحيد، ولكنه العامل الذي من الواضح أنه غاب عن أذهان مشرعي الكونجرس عند تدبر أفضل سبيل للتعامل مع تأثير التقنيات الرقمية على صناعات حقوق التأليف والنشر التقليدية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤