خاتمة

إن النظرية الاقتصادية التي تقف وراء حقوق التأليف والنشر تبرر هذه الحقوق باعتبارها أداة للتعامل مع ما يسميه الاقتصاديون «مشكلة التأثير الخارجي الإيجابي».1 و«التأثير الخارجي» هنا هو ذلك التأثير الذي يمارسه سلوكك على شخص آخر، فإذا أدرت موسيقاك في صوت شديد الصخب بحيث أيقظت جيرانك، فإن موسيقاك بذلك تحدث تأثيرًا خارجيًّا (ضوضاء)، وإذا جددت منزلك فأضفت صفًّا من أشجار البلوط الجديدة، فإن تجديدك هذا يحدث تأثيرًا خارجيًّا (جمالًا). والجمال تأثير خارجي إيجابي؛ فالناس بصفة عامة يحبون استقباله، أما الضوضاء فهي تأثير خارجي سلبي؛ لا يحب الناس استقباله (وبخاصة الساعة الثالثة صباحًا).

يتعامل قانون حق التأليف والنشر مع التأثير الخارجي الإيجابي الذي تنتجه طبيعة العمل الإبداعي. والعمل الإبداعي «سلعة عامة»؛ بما يعني أنه: (١) بمجرد تبادله، يمكن لأي شخص أن يستهلكه دون أن يقلل من المقدار المتاح لأي شخص آخر. و(٢) من الصعب منع أي شخص من استهلاكه بمجرد إتاحته للجميع؛ فأنت إذا رسمت على باب جراجك لوحة جدارية جميلة، فإن مشاهدتي لها لن تقلل من الفرصة المتاحة أمامك كي تشاهدها أنت أيضًا، وبدون بناء جدار حول جراجك (ليس بالتصميم العملي كثيرًا، بالنسبة للجراج على الأقل)، فإن من الصعوبة بمكان أن تحجب الرؤية عمن يريد مشاهدة لوحتك الجدارية.

يطرح جيفرسون الفكرة ذاتها بأسلوب شاعري في خطاب كتبه عام ١٨١٣:
إذا كان هناك شيء أقل عرضة من غيره للملكية الحصرية فهو ثمرة قوة التفكير التي نسميها «الأفكار»، والتي يمكن للمرء أن يمتلكها امتلاكًا حصريًّا طالما أنه يحتفظ بها لنفسه ولم يُطلع أحدًا عليها؛ ولكن ما إن يُكشَف عنها حتى تفرض نفسها على الجميع؛ حيث لا يستطيع متلقيها أن يقصي نفسه عنها. ومن الخصائص المميزة للفكرة أيضًا ألا يمتلك أي فرد قدرًا أقل منها عن الآخرين؛ حيث يمتلك الجميع الفكرة بكاملها، أيًّا كان من يتلقى عني فكرة، فإنه يتلقى معلومات محددة دون أن يقلل ذلك من فكرتي، مثلما أن أيًّا كان من يضئ شمعة من خلال شمعتي، يحصل على الضوء دون أن يطفئ ذلك ضوء شمعتي. تبدو الأفكار في انتقالها الحر من شخص إلى آخر عبر العالم، لأغراض أخلاقية وتبادلية بين البشر ولتحسين أوضاعهم، شيئًا صُمِّم بصورة فريدة وخيِّرة عن طريق الطبيعة، عندما قامت بصنعها، تمامًا مثل النار، التي تنتشر في كل مكان، دون أن يقلل ذلك من كثافتها في أي لحظة، ومثل الهواء الذي نتنفسه ونتحرك فيه وتتواجد فيه أجسادنا، الذي هو غير قابل لحصره في مكان محدد أو امتلاكه بصورة حصرية. لا يمكن إذن أن تصير الاختراعات، في الطبيعة، موضوعًا للملكية.2
كان جيفرسون هنا يتحدث عن الأفكار، وحقوق التأليف والنشر تنظم مسألة التعبير، غير أن ملاحظاته عن طبيعة الأفكار تصير يومًا بعد يوم أكثر انطباقًا على مسألة التعبير. فلو أنني وضعت هذا الكتاب على شبكة الإنترنت، فإنك عندما تأخذ نسخة منه لا تحرمني من أن آخذ أنا أيضًا نسخة لي («لا يمتلك أي فرد قدرًا أقل، حيث يمتلك الجميع الفكرة بأكملها»). وتوفيري لنسخة من أجلك يجعل من الصعب نسبيًّا أن أمنع آخرين من الحصول على نسخة أيضًا («مثل الهواء الذي نتنفسه ونتحرك فيه وتتواجد فيه أجسادنا، الذي هو غير قابل لحصره في مكان محدد أو امتلاكه بصورة حصرية»). هذا «من الصعب نسبيًّا» وليس بالمستحيل: فطيلة تاريخ تقنية إدارة الحقوق الرقمية كان الهدف إعادة صياغة الطبيعة التي تحدث عنها جيفرسون؛ أي جعلها رقمية إلى درجة تصبح فيها الموجودات أشبه بأشياء مادية (أخذك لنسخة معناه أن نسخي أنا قلت بمقدار واحدة؛ ودخولك معناه أنني لا أستطيع الدخول).3 غير أنه في حالة طبيعة الإنترنت، يعد التعبير على الإنترنت شبيهًا بأفكار جيفرسون.

قلت إن رجال الاقتصاد يبررون حقوق التأليف والنشر باعتبارها وسيلة للتعامل مع «مشكلة التأثيرات الخارجية الإيجابية»، لكن لعلك تتساءل، ولديك كل الحق، لماذا تعد «التأثيرات الخارجية الإيجابية» مشكلة؟ لماذا لم يكن من قبيل الخير الإيجابي أن يكون التعبير «شيئًا ينتشر بحرية من شخص لآخر عبر العالم لأغراض أخلاقية وتبادلية بين البشر ولتحسين أوضاعهم»؟ لماذا ليس من «طبيعة» الإنترنت «الخاصة والخيرية»، أن تلقى التشجيع بدلًا من الحظر والتقييد؟

الإجابة، من منظور الاقتصادي على الأقل، أنه بينما الشيء المجاني دون شك أمر طيب، فإنه لو كان كل شيء مجانيًّا، لما كان هناك حافز قوي للإنتاج. ولو لم يكن هناك حافز نقدي كافٍ للإنتاج، فإنه، حسبما يتخوف رجال الاقتصاد، لن تُنتَج أشياء بالقدر الكافي.

في هذا الكتاب رسمت ملامح عريضة لحزمة من الإجابات البديهية على تلك المخاوف: هناك أطنان من الحوافز بخلاف المال. انظر إلى الاقتصاد التشاركي. انظر إلى ١٠٠ مليون مدونة، ١٣٪ فقط منها يعرض إعلانات.4 انظر إلى ويكيبيديا أو البرمجيات المجانية. انظر إلى الأكاديميين أو العلماء. إن لدينا الكثير من الأمثلة على التعبير الإبداعي الذي يُنتَج على نموذج مختلف عن ذلك الذي تستخدمه بريتني سبيرز.
لكنني في الوقت ذاته أوضحت الجانب الآخر من ذلك الزعم: فبغض النظر عن الاقتصاد التشاركي، هناك الكثير مما لم يكن ليُبدَع دون نظام فعال لحقوق التأليف والنشر أيضًا. إنني أعشق أفلام هوليوود الناجحة، ولو كان بمقدور أي شخص عمل نسخة عالية الجودة من أحد أفلام هوليوود لحظة نزوله دور العرض، فلن يكون بمقدور أي شركة إنتاج أن تنتج فيلمًا بميزانية قدرها مائة مليون دولار. إذن هناك هذا المثال على الأقل، وإذا كان هناك مثال واحد، فمن المنطقي أن يكون هناك المزيد؛ أفلام، موسيقى ربما، ربما بعض الأنواع من الكتب أو القواميس، وربما روايات بقلم جون جريشام. لا بد لنا بالطبع أن نرتاب بشأن مدى اتساع نطاق ذلك التنظيم التشريعي. (نال القاضي ستيفن بريير بالمحكمة العليا التثبيت على درجة الأستاذية بهارفرد ببحث أعرب فيه عن تشككه في المدى الذي تغطيه الحاجة لهذه القوانين.)5 غير أنها تغطي بعض المواضع على الأقل، وبالنسبة لتلك الحالات، وبدون حل مشكلة التأثيرات الخارجية الإيجابية، لن نمتلك ذلك النوع من العمل الإبداعي.

إذن لكي نحصل على أفلام هوليوود، أو بعض سلاسل الأفلام الناجحة، أو موسيقى أشبه بتلك الخاصة بجاستن تيمبرليك، وربما أنواع قليلة من الكتب؛ فإننا ندير منظومة حقوق التأليف والنشر، هذه المنظومة شكل من أشكال التنظيم، ومثل معظم أشكال التنظيم، فإنه بعد فترة، يصبح كبير الحجم وباهظ التكلفة. إن المحاكم والنيابات الفيدرالية تنفق الكثير من المال في تنفيذ قانون حقوق التأليف والنشر، وتستثمر الشركات الملايين على تقنيات تهدف إلى حماية المادة المتمتعة بحقوق التأليف والنشر، وتتصيد الجامعات الأخطاء لطلبتها كي تعاقب أو تطرد أولئك الذين يمتنعون عن اتباع قواعد حقوق التأليف والنشر. إننا نبني هذه المنظومة شديدة التعقيد من التنظيم الفيدرالي — وهو تنظيم من المفترض فيه أن يصل إلى كل من يستخدم جهاز كمبيوتر — لحل تلك «المشكلة» المتعلقة بالتأثيرات الخارجية الإيجابية.

لا ضير في هذا. فحكومتنا تبذل جهدًا شاقًّا كي «تحل» تلك «المشكلة»، ولكن ماذا عن التأثيرات الخارجية السلبية؟ ماذا تفعل حكومتنا حيالها؟ ولنأخذ على سبيل المثال، الزئبق الذي يخرج مع عادم محطات الكهرباء التي تعمل بالفحم ليلوث البيئة. هذه أيضًا تأثيرات خارجية. إن الملايين من الناس يتعرضون لمستويات خطيرة من الزئبق بسبب ذلك التلوث. إن كوكب الأرض يترنح على شفا نقطة انقلاب مناخي كارثي بسبب ذلك الكربون. ومهما كان حجم الضرر الذي يمكن أن يحدث بسبب عدم إنتاج فيلم آخر من سلسلة ستار تريك، فإن الأضرار الناجمة عن تلك التأثيرات الخارجية السلبية لا شك فيها، وهي أضرار حقيقية. إنها تتسبب في وفيات محققة. وسوف تتسبب في اضطراب غير عادي وفي ضرر اقتصادي. إذن مع علمنا بحرص حكومتنا الشديد على التنظيم بقانون يقي من التأثيرات الخارجية الإيجابية التي بلا مقابل، ما الذي فعلته بالتحديد حيال التأثيرات الخارجية السلبية الضارة دون شك؟ خلال السنوات العشر الماضية، وفي وقت كان الكونجرس فيه قد مرر ما لا يقل عن أربعة وعشرين مشروعَ قانون خاص بحقوق التأليف والنشر،6 واعتادت النيابات والمحاكم المدنية الفيدرالية على شن «حرب» على «القرصنة» حتى تحل مشكلة التأثيرات الخارجية الإيجابية، ما الذي فعلته الحكومة بالتحديد بشأن التأثيرات الخارجية السلبية؟
الإجابة هي: ليس بالكثير، برغم أن الرئيس بوش استغل بنجاح النداء الذي أطلقه آل جور عام ٢٠٠٠ معلنًا فيه أننا نواجه أزمة انبعاثات كربونية، بأن وعد بأنه في حال انتخابه سيفرض ضريبة على الانبعاثات الكربونية، فإنه في خلال أسبوعين بعد حلفه اليمين، ناقض نفسه، معلنًا أنه لا يعتقد أن الاحتباس الحراري يمثل مشكلة.7 وبرغم أن قانون الهواء النظيف ينظم في صراحة الملوثات مثل الزئبق في محطات الطاقة، فإنه في عام ٢٠٠٣، غيرت إدارة بوش التشريعات بحيث «تسمح للملوثين بتفادي الاضطرار فعليًّا للإقلال من الزئبق.»8 ومن ثم، ومع الأضرار الحقيقية والملموسة التي تتسبب فيها التأثيرات الخارجية السلبية، فعلت الحكومة ما هو أسوأ من لا شيء. وفي الوقت ذاته، خصصت الحكومة موارد ثمينة لمكافحة مشكلة يعتقد كثيرون أنها لا تمثل أي مشكلة على الإطلاق.

إذن ما محصلة ذلك؟

لقد مرت عشرة أعوام منذ وهبت نفسي للمعركة التي أخوضها ضد التطرف في مسألة حقوق التأليف والنشر. وطيلة صفحات هذا الكتاب، أوضحت أن عمل تلك الأعوام العشرة أقنعني بأن تلك الحرب تلحق بمجتمعنا الكثير من الضرر، ليس فقط نتيجة للخسائر في الابتكار، وليس فقط بسبب خنق أنواع معينة من الإبداع، وليس فقط لأنها تحد دون مبرر من حريات يكفلها الدستور، ولكن أيضًا، والأهم؛ لأن هذه الحرب تفسد جيلًا بأكمله من أبنائنا، إننا نشن حربًا ضد أطفالنا، وأطفالنا سوف يصيرون العدو، سوف يصبحون هم المجرمين الذين نَسِمُهم بهذا الوصف، ولأنه لا يوجد برهان قوي يشير إلى أننا سوف ننتصر في هذه الحرب، فإن هذا هو المبرر الوحيد في هذا العالم لكي نوقف تلك الأعمال العدائية، لا سيما عندما تكون هناك بدائل تدعم الاهتمام الحكومي المزعوم دون أن تحول جيلًا كاملًا إلى مجرمين.

وما ينكأ الجرح أكثر وأكثر أن المسألة ليست قاصرة على أن حكومتنا تشن حربًا ميئوسًا منها، وإنما أن حكومتنا لا تحقق الكثير على صعيد مكافحة الضرر الحقيقي، في الوقت الذي تهدر فيه مواردها على مكافحة «مشكلات» لا تمثل حتى أضرارًا واضحة.

ولكن لماذا تقوم الحكومة بذلك؟

الدرس الذي علمني إياه عمل السنوات العشر أن السبب لا علاقة له بالغباء، ولا علاقة له بالجهل؛ بل السبب البسيط وراء قيامنا بشن حرب لا طائل من ورائها ضد أبنائنا أنهم لا يملكون سوى القليل من المال كي يدعموا به الحملات السياسية، فهم في ذلك لا يستطيعون مجاراة هوليوود مثلًا، والسبب البسيط وراء عدم قيامنا بأي شيء في الوقت الذي يصاب فيه أبناؤنا بالتسمم بالزئبق، أو تشبع بيئتنا بالكربون، أن أبناءنا وبيئتنا لا يملكون المال الذي تملكه شركات المرافق والنفط لدعم الحملات السياسية، إن حكومتنا تتصرف بصورة غير عقلانية، لكن تصرفها هذا نابع من سبب عقلاني أصيل: وهو أن السياسة لا تتبع أي منطق، إنها فقط تتبع المال حيث يكون.

وإلى أن تحل تلك المشكلة، فإن هناك ما لا حصر له من المشكلات التي ستظل قائمة دون حل؛ الاحتباس الحراري، والتلوث، والنظام الضريبي المنحرف، ودعم المزارع؛ إن حكومتنا لا تتسم بالعقلانية؛ لأنها فاسدة، وهذا أمر بالغ الأهمية، وإلى أن تحل مشكلة ذلك الفساد، لا ينبغي علينا أن نتوقع الخير الكثير من وراء هذه الحكومة.

لا يتحدث هذا الكتاب عن ذلك الفساد بصفة عامة، كل ما كنت أهدف إليه هنا أن أجعلك كقارئ تتخذ خطوة واحدة بسيطة، فمهما كنت تظن بشأن الاحتباس الحراري، والبيئة، والهدايا الضريبية للشركات المساهمة صاحبة الحظوة، والدعم النقدي الذي لا يفيد سوى الشركات الزراعية الكبرى، فعلى الأقل عليك أن تفكر فيما يلي: لا يوجد مبرر لحرب حقوق التأليف والنشر التي نشنها في الوقت الراهن ضد أطفالنا، طالبوا بأن تتوقف تلك الحرب الآن، وبمجرد توقفها، دعونا نلتفت إلى المشكلة العويصة المتمثلة في صياغة منظومة حقوق التأليف والنشر التي تغذي نطاق الإبداع بكامله، والتعاون الذي سيكون الإنترنت سببًا في قيامه: منظومة تعتمد على الفرص الاقتصادية والإبداعية للكيانات الهجينة وإبداع المزج الفني؛ منظومة تنفي عن المراهق جريمة كونه مراهقًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤