الفصل الأول

ثقافات ماضينا

ذات يوم رطب من أيام شهر يونيو ١٩٠٦، ارتقى أحد أكثر الملحنين شعبية في أمريكا درجات سلم مكتبة الكونجرس، للإدلاء بشهادته حول وضع قانون حقوق التأليف والنشر في الولايات المتحدة. كان جون فيليب سوزا واحدًا ممن ينتقدون منظومة قانون حقوق التأليف والنشر في الولايات المتحدة، والذي كان وقتذاك متراخي القبضة نسبيًّا. وقد جاء إلى واشنطن كي يطلب من الكونجرس «إصلاح عوار خطير في … القانون، يسمح لمصنعي وبائعي أسطوانات الفونوغراف … بالاستيلاء دون إذن على أفضل ألحان الملحنين الأمريكيين كي يجنوا الأرباح دون أن يدفعوا مقابلًا ذلك سنتًا واحدًا»، في شكل من أشكال «القرصنة» على حد وصفه.1

ليس من الصعب فهم السبب وراء غضب سوزا. فعلى الرغم من أنه كان مايسترو شهيرًا، كان جزء من دخله يأتي من حقوق التأليف والنشر التي كانت تعود لصالحه من وراء الأعمال التي لحنها ووزعها. لقد منحته تلك الحقوق الحق الحصري في السيطرة على الأداء العلني لأعماله؛ أي نَسْخ النوت الموسيقية لدعم هذا الأداء العلني، وأية ترتيبات — أو غيرها من الأعمال — «مشتقة» من عمله الأصلي. كان هذا المزيج من وسائل الحماية قد وُضع من قِبل الكونجرس لمكافأة الفنانين على إبداعهم، من خلال خلق حوافز للفنانين تدفعهم لإنتاج أعمال جديدة عظيمة.

إلا أن مطلع القرن جلب معه طفرة تكنولوجية في تأليف الموسيقى وتوزيعها بأسلوب لا يتواءم جيدًا مع هذا الطراز العتيق من الحماية. ففي وجود هذه التقنيات الجديدة، وللمرة الأولى في التاريخ، صار في الإمكان تحويل اللحن الموسيقي إلى شكل يمكن لآلة ميكانيكية — كالبيانولا على سبيل المثال أو الفونوغراف — عزفه. فبمجرد ترميز اللحن، أمكن عمل نُسَخ من هذا العمل الموسيقي الجديد بتكلفة متدنية للغاية. ومن هنا بدأت صناعة جديدة، وهي صناعة «الموسيقى الميكانيكية»، تنتشر في جميع أنحاء البلاد. وللمرة الأولى في تاريخ الإنسانية، ومع وجود البيانولا أو الفونوجراف، أمكن للمواطنين العاديين الحصول على مجموعة واسعة من المؤلفات الموسيقية عند الطلب. كان هذا نفوذًا لم يكن يتمتع به قبل ذلك سوى الملوك. والآن صار كل من يملك واحدًا من منتجات إديسون وأيوليان ملكًا.

إلا أن المشكلة التي واجهها الملحنون هي أنهم لم يشاركوا في الثروة الآتية من هذا الشكل الجديد من حرية الوصول إلى الموسيقى. فالموسيقى الميكانيكية ربما تكون نسخت أعمالهم من زاوية ما، ولكن حسب تفسير معظم المحاكم لقانون حقوق التأليف والنشر، فإنه أيًّا كان «النَّسْخ» الذي قامت به تلك الماكينات، فهو لم يكن نوع النسخ الذي ينظمه القانون. أغضب ذلك كثيرًا من المؤلفين الموسيقيين. وعقد البعض منهم، مثل سوزا، العزم على فعل شيء حيال ذلك. ولم تكن رحلته الى مبنى الكابيتول هيل (مقر الكونجرس) سوى جزء من حملته الموسعة (والتي نجحت في نهاية المطاف) نحو تحقيق هدفه.

ومع ذلك، فإن اهتمامي بشهادة سوزا، ليست له علاقة تذكر بحجته (أو حجتنا، اليوم) المعقولة على نحو بديهي. وإنما هو متعلق بنقطة ربما كانت واضحة في ذهنه، وقتها، غير أنها تكاد تغيب عن أذهاننا اليوم. إذ علاوة على شكواه من «قرصنة» الموسيقى الميكانيكية، شكا سوزا أيضًا من الخواء الثقافي الذي من شأن الموسيقى الميكانيكية أن تخلقه. وعلى حد قوله في شهادته:
عندما كنت صبيًّا … وفي أمسيات الصيف، كنا نجد أمام كل بيت مجموعات من الشباب يغنون معًا أغنيات اليوم أو الأغنيات القديمة. واليوم صرت تستمع إلى هذه الآلات الجهنمية وهي تعمل ليلًا ونهارًا. لن تتبقى لدينا بعد ذلك أحبال صوتية. سيتم القضاء على الأحبال الصوتية من خلال عملية التطور، مثلما حدث لذيل الإنسان عندما تطور من القردة.2

«لن يتبقى لدينا بعد ذلك حبل صوتي واحد.»

من الواضح أن جون فيليب سوزا لم يكن يعرض تنبؤًا خاصًّا بتطور الحنجرة عند الإنسان. لكنه كان يصف كيف يمكن للتكنولوجيا — «هذه الآلات الجهنمية» — أن تغير علاقتنا بالثقافة. كان تخوف سوزا أن تؤدي بنا تلك «الآلات» إلى الابتعاد عما امتدحه في مواضع أخرى؛ ألا وهو ثقافة «الهواة». سوف نصير مجرد مستهلكين للثقافة، لا منتجين لها أيضًا. سوف نصبح مدربين على انتقاء ما نود سماعه، ولن نكون مدربين على إنتاج مادة كي يستمع إليها الآخرون.

فلماذا إذن ينتقد واحد من أبرز الموسيقيين المحترفين في أمريكا مسألة غياب موسيقى الهواة؟

لم يكن تخوف سوزا من تدهور مستوى جودة الموسيقى عندما يقل حجم إنتاج الهواة لها ويزداد حجم إنتاج المحترفين لها في الوقت نفسه، وإنما كان تخوفه من أن تصير الثقافة أقل ديمقراطية: ليس بمعنى أن الناس سيصوتون على ما هو بمنزلة ثقافة جيدة — أو ما ليس كذلك — ولكن من زاوية ما عناه إريك فون هيبل، الأستاذ بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، عندما دفع بأن الابتكار اليوم يتحول إلى مزيد من «الديمقراطية».3 في ذلك العالم الذي أبدى سوزا خشيته منه، سوف تقل وتقل أعداد من يمكنهم الحصول على آلات موسيقية، أو القدرة على خلق أو إضافة المزيد إلى الثقافة من حولهم؛ وستزداد يومًا بعد يوم أعداد من يكتفون ببساطة باستهلاك ما أبدعه غيرهم في مكان آخر. وتتحول الثقافة إلى منتج من إبداع نخبة، حتى ولو كانت تلك النخبة — هذا الكهنوت الثقافي — لا يزال محبوبًا من الجماهير.
كان يؤمن، في الواقع، أن هذا التغيير كان آخذًا في التحقق بالفعل. وحسبما روى:
في الصيف الماضي … كنت في واحد من أكبر موانئ اليخوت في العالم، ولم أستمع إلى صوت واحد طوال الصيف. كان بكل يخت جراموفون، أو فونوغراف، أو بيانولا، أو شيء من هذا القبيل. كانوا يعزفون مارشات سوزا — وهذا أمر لا بأس به، إذا أخذناه من الجانب الفني — غير أنهم لم يكونوا يدفعون مقابلًا لذلك، وعلاوة على ذلك، لم يعينوا على التطوير الفني للموسيقى.4
هذا التراجع في حجم المشاركة من وجهة نظر سوزا، من شأنه أن يُترجَم إلى تراجع في مدى انتشار أدوات صنع الموسيقى:
إن هذا الحب الواسع الانتشار للفن ينبع من مدرسة الغناء، سواء أكان دنيويًّا أم دينيًّا، ومن الفرق القروية، ومن دراسة العزف على تلك الآلات الأقرب للناس. فهناك عدد من آلات البيانو، والكمان، والجيتار، والمندولين، والبانجو؛ ينتشر في أوساط الطبقة العاملة الأمريكية أكثر مما هو موجود في باقي أنحاء العالم، ووجود هذه الآلات في المنازل خلق وظائف لأعداد هائلة من المدرسين، الذين يعكفون في صبر على تعليم الأطفال وغرس حب الموسيقى في أرجاء المجتمعات على تنوعها.5
وتساءل سوزا: «وما نتيجة تلك الخسارة في أعداد الهواة؟»
يصير الطفل غير مبالٍ بالممارسة؛ إذ طالما كان في الإمكان الاستماع إلى الموسيقى في المنازل دون حاجة لبذل عناء الدراسة والمثابرة في التطبيق، وبدون عملية اكتساب أسلوب العزف ببطء، فإن عملية الاختفاء التام للهواة تصبح مسألة وقت ليس إلا … فمد الاتجاه نحو الهواية لن يكون أمامه سوى الانحسار، حتى لا يتبقى لنا بعد ذلك سوى الجهاز الميكانيكي والممارس المحترف.6

«مد الاتجاه نحو الهواية لن يكون أمامه سوى الانحسار»، أمر سيئ، هذا ما آمن به هذا المحترف، بالنسبة للموسيقى والثقافة.

كان سوزا يضفي الشاعرية على الثقافة بطريقة ربما تذكر طالب التاريخ الأمريكي بتوماس جيفرسون. كان جيفرسون مغرمًا بالفلاح الكادح.7 وكان يشعر بالغثيان من المزارع الحديثة المملوكة للشركات المساهمة التي أزاحت مزارعيه الكادحين. غير أن نفوره منها لم يكن مرتبطًا كثيرًا بكفاءة إنتاج الغذاء، ولا حتى بجودة الغذاء المنتج. وإنما كان اعتراضه على تأثير ذلك التغير على ديمقراطيتنا. لقد آمن جيفرسون بأن أخلاقيات الفلاح الكادح — وهي تلك الأخلاق التي تمارس ضمن نظام الخلق وفق اقتصاد منضبط، مثلما يفعل أي مالك صغير يقف على حافة حضارة أمريكا القرن الثامن عشر — كانت أمرًا جوهريًّا بالنسبة للحكم الذاتي الديمقراطي. كان اكتفاء صغار الملاك بالتالي فضيلة ليس لأنه وسيلة كفء لصنع الطعام، وإنما لما فعله للذات، وبالتالي ما فعله للمجتمع الديمقراطي، والذي هو عبارة عن اتحاد بين أناس كثيرين.

وكان تعامل سوزا مع الثقافة مشابهًا لذلك. لم يكن خوفه من أن تقل الثقافة، أو الجودة الفعلية للموسيقى التي تنتجها ثقافة ما. وإنما كان خوفه من أن يصير الناس أقل ارتباطًا بتلك الثقافة، ومن ثم أقل تمرسًا على خلقها. إن نزعة الهواية، بالنسبة لذلك المحترف، كانت بمنزلة فضيلة؛ ليس بسبب إنتاجها لموسيقى عظيمة، ولكن لأنها أنتجت ثقافة موسيقية: حب، وتقدير للموسيقى التي أعاد خلقها، واحترام للموسيقى الذي كان يعزفها، ومن ثم ارتباطًا بثقافة ديمقراطية. إذا أردت أن توقر «يو-يو ما» (عازف تشيللو فرنسي من أصل صيني يعد من أبرز من عزفوا على هذه الآلة عالميًّا)، جرب العزف على التشيللو. وإذا أردت أن تستوعب مدى عظمة الموسيقى وروعتها، جرب أداءها بواسطة مجموعة من الهواة.

(١) ثقافة «القراءة والكتابة» مقابل ثقافة «القراءة فقط»

بلغة مهاويس الكمبيوتر في عصرنا هذا، يمكننا أن نطلق على الثقافة التي احتفى بها سوزا ثقافة «اقرأ/اكتب» (التشبيه المستخدم هنا خاص بالتصاريح التي ترفق بملف معين على الكمبيوتر. فإذا كان هناك تصريح بالقراءة والكتابة، يكون مسموحٌ للمستخدم بكل من قراءة الملف وإدخال تعديلات عليه. أما إذا كان التصريح بالقراءة فقط، فإنه لا يكون مسموحٌ له إلا بقراءة الملف). في عالم سوزا — وهو عالم كان مصرًّا على أنه يضم الإنسانية كافة منذ بدأت حضارة الإنسان — «يقرأ» المواطنون العاديون ثقافتهم إما عن طريق الاستماع إليها أو عن طريق قراءة تمثيلات لها (مثال ذلك الأعمال الموسيقية). إلا أن هذه القراءة، ليست كافية؛ إذ إنهم (أو على الأقل «شباب ذلك العصر») يضيفون إلى الثقافة التي يقرءونها عن طريق إبداع أو إعادة إبداع الثقافة من حولهم. إنهم يعيدون إبداع الثقافة مستخدمين في ذلك ذات الأدوات التي يستخدمها المحترفون — أي آلات البيانو، والكمان، والجيتار والمندولين والبانجو — وكذلك أدوات أمدتهم الطبيعة بها؛ «الأحبال الصوتية». والثقافة في هذا العالم مباشرة؛ بمعنى أنها متبادلة من شخص إلى آخر.8 وعلى حد تعبير هنري جنكنز الأستاذ بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في كتابه الاستثنائي «ثقافة التقارب»: «يمكننا رواية قصة الفنون الأمريكية في القرن التاسع عشر من زاوية المزج، والتوفيق، والإدماج بين التقاليد الشعبية المأخوذة عن القوميات الأصلية والقوميات المهاجرة.»9

كان سوزا يخشى أن تختفي هذه الثقافة — ثقافة القراءة والكتابة — وأن تزيحها من الطريق بصورة مطردة ثقافة القراءة فقط، لو شئنا الاستمرار في استخدام تشبيه لغة مهاويس الكمبيوتر: وهي ثقافة تقل فيها ممارسة الأداء، أو إبداع الهواة، وأكثر راحة (فكر في المتلقي السلبي الجالس على الأريكة) وتشجيعًا للاستهلاك البسيط. على أن هذا الخوف لم يكن خوفًا مطلقًا: فلم يكن أحد يخشى من أن يختفي إبداع الهواة بأكمله. لكن من المؤكد أن أهميته ومكانته داخل المجتمع العادي سوف تتبدل. سوف يصبح إبداع القراءة والكتابة أقل أهمية؛ بينما ستصبح ثقافة القراءة فقط أكثر تميزًا.

وعندما يتأمل المرء في تاريخ الثقافة في القرن العشرين، على الأقل داخل ما اصطلحنا على تسميته «بالعالم المتقدم»، فإنه ليس من العسير عليه أن يستنتج أن سوزا كان على حق. فلم يحدث من قبل في تاريخ الثقافة الإنسانية أن كان الإنتاج الثقافي احترافيًّا مثلما هو الآن. ولم يحدث من قبل أن كان إنتاج الثقافة بهذا التركيز. ولم يحدث من قبل أن تعرضت «الأحبال الصوتية» للمواطنين العاديين لمثل تلك الإزاحة الفعالة المتواصلة، لتحل محلها تلك «الآلات الجهنمية»، مثلما كان سوزا يخشى. كان القرن العشرين أول حقبة في تاريخ الثقافة الإنسانية تصبح فيها الثقافة الشعبية احترافية، ويتعلم فيها الناس الاستسلام للشخص المحترف.

فعلت «الآلات» التي جعلت هذا التغيير ممكنًا سحرها من خلال رموز ثقافة «القراءة فقط»؛ أي التسجيلات، وهي ذلك الأداء المجسد في صورةٍ ما ملموسةٍ، ثم يستنسخ ويباع من خلال صناعة «تسجيلات» تزداد تركيزًا. في بادئ الأمر، كانت تلك الرموز مادية — مثل لفائف آلة البيانولا، ثم سرعان ما تحولت إلى آلات الفونوغراف. وفي عام ١٩٠٣، «صار لدى شركة أيوليان أكثر من ٩٠٠٠ لفافة آلة بيانولا [البيانو العازف] تحمل معزوفات موسيقية على ورقها، مضيفة ٢٠٠ معزوفة جديدة شهريًّا.»10 وخلال العقد الثاني من القرن العشرين، «لعل ٥٪ من الآلات المبيعة كانت تستنسخ معزوفات على البيانو.» وعند توقيت ما من عقد العشرينات من هذا القرن، كانت غالبية آلات البيانو المصنعة في أمريكا تحتوي على وحدة عزف بداخلها.11
اشتركت أجهزة الفونوغراف في تحقيق نمو مماثل. ففي عام ١٨٩٩، أنتج في الولايات المتحدة ١٥١ ألف جهاز منها.12 وبعدها بخمسة عشر عامًا، زاد هذا الرقم على ثلاثة أضعاف سابقه (أي إلى حوالي ٥٠٠ ألف جهاز). وزادت مبيعات الأسطوانات المسجلة عام ١٩١٤ لأكثر من ٢٧ مليون أسطوانة.13 ولكن خلال معظم سنوات العشرينيات، ظلت المبيعات أعلى من ١٠٠ مليون نسخة.14 وبحلول نهاية العشرينيات، بلغت نسبة الأسر التي لديها مشغلات أسطوانات ما بين ٣٣ و٥٠٪.15 وجاء عام ١٩٢٩ ليحقق ذروة مبيعات الأسطوانات في الولايات المتحدة16 قبل أن يحل الكساد ليفجر تلك الفقاعة مع كثير من الفقاعات الثقافية الأخرى.
ولكن مع تحسن تكنولوجيا الراديو، واجهت رموز ثقافة القراءة فقط منافسة من رموز كانت أكثر واقعية؛ ما نسميه «الإذاعات». وحتى يظلوا في المنافسة، خفض مصنعو الفونوغراف أسعارهم. «ففي عام ١٩٢٥، خفضت «فيكتور» سعر أسطواناتها «رد سيل» التي يسجل على جانب واحد منها إلى ٩٠ سنتًا، وخفضت من أسعار أسطواناتها التي كانت تباع بدولار واحد إلى ٦٥ سنتًا.»17 ولكن على حد وصف فيليب ميزا، «لم تفلح فكرة تخفيض الأسعار، واستمرت الأسعار في الانخفاض … ففي عام ١٩١٩، بيع ٢٫٢ مليون فونوغراف. أما في عام ١٩٢٢، فبيع أقل من ٦٠٠ ألف جهاز …»18
دفعت المنافسة منتجي الرموز المادية إلى إنتاج رموز أعلى جودة. وحرك هذا بدوره اتجاه الطلب على أجهزة راديو أعلى جودة، وهو الطلب الذي أوحى لإدوين هاورد أرمسترونج كي يبتكر أجهزة راديو إف إم، ودفع لجنة الاتصالات الفيدرالية للسماح بها، وشركة راديو أمريكا لنشرها.19 إلا أن الراديو سرعان ما واجه منافسة من شكل جديد من أشكال البث؛ وهو التليفزيون. واستمرت الدورة بعد ذلك.

القرن العشرين إذن كان يمثل الحقبة التي حدثت فيها منافسة سارة بين تقنيات «القراءة فقط». كانت كل دورة تنتج تقنية أفضل؛ وكل تقنية أفضل سرعان ما تأتي تقنية أخرى لتتفوق عليها. واجهت الأسطوانات منافسة من الأشرطة والأسطوانات المدمجة، وواجه الراديو منافسة من التليفزيون وأجهزة الفيديو؛ وواجهت أجهزة الفيديو منافسة من أجهزة الدي في دي والإنترنت.

ومع مطلع القرن الحادي والعشرين، كانت تلك التكنولوجيا حققت وصولًا استثنائيًّا نحو مدى واسع من الثقافة. فلم يحدث من قبل أن أتيح كل هذا القدر لهذا العدد الهائل من الناس. كذلك أنتجت التكنولوجيا صناعة ذات قيمة هائلة للاقتصاد الأمريكي وغيره. ففي عام ٢٠٠٢، حققت صناعة النشر وحدها (إذا استثنينا الإنترنت) إيرادات اقتربت من ٢٥٠ مليار دولار.20 وفي نفس العام، كان العائد من البث (ومرة أخرى بدون الإنترنت) يقترب من ٧٥ مليار دولار.21 وحقق العائد من صناعتي السينما والتسجيلات الصوتية ما يقرب من ٨٠ مليار دولار.22 ووفق ما أعلنته رابطة صناعة السينما الأمريكية:
فالصناعات الرئيسية المعنية بحقوق التأليف والنشر مسئولة عما يقدر بستة في المائة من إجمالي الناتج القومي للبلاد بمبلغ يصل إلى ٦٢٦ مليار دولار سنويًّا. وقد حققت الصناعات التي تعتمد على حقوق التأليف والنشر معدلَ نموٍّ سنويًّا في توظيف عمالة بلغ ٣٫١٩٪ سنويًّا؛ وهو معدل يزيد على ضعف معدل النمو السنوي في التوظيف الذي يحققه الاقتصاد برمته.23

وهكذا خلقت ثقافة «القراءة فقط» وظائف لملايين البشر. لقد شيدت من قبل نجومًا لامعة خاطبت الملايين خطابًا مؤثرًا. ووصل بها الأمر إلى تعريف معنى الثقافة كما يفهمها معظمنا، أو على الأقل معنى «الثقافة الشعبية».

(٢) حدود التشريع

لكن قبل أن تجرفنا ثقافة «القراءة فقط» بعيدًا، لنعد لبرهة إلى سوزا؛ إذ كان هناك جانب ثان من جوانب الثقافة وصفه سوزا علينا أن نلحظه هو أيضًا هنا. كان ذلك الجانب هو العلاقة بين الثقافة وبين الصيغة المحددة التي ننظم من خلالها الثقافة؛ ونعني بها قانون حقوق التأليف والنشر. كانت المسألة خاصة بحدود هذا القانون المنظِّم.

مقارنةً بالعصر الذي كان يعيش فيه، كان سوزا يعد ناشطًا متطرفًا في مجال حقوق التأليف والنشر. لقد حضر إلى واشنطن للضغط من أجل تحقيق زيادة جذرية في نفوذ قانون حق التأليف والنشر (حسب رأي الكثيرين). وقد عارض هذا الضغطَ كثيرون ممن ينتمون لعالم الأعمال وكثيرون من المثاليين المناهضين للقيود التنظيمية.

غير أن تطرف سوزا كان له حد مهم؛ موضع كان قانون حق التأليف والنشر قد قطع فيه شوطًا بعيدًا بالفعل. وقد انكشف ذلك الحد أثناء إدلائه بشهادته. فبينما هو يدلي بشهادته قاطعه نائب الكونجرس فرانك دانكلي كوريير، وهو نائب جمهوري عن ولاية نيو هامبشاير. فبعد أن شرح سوزا كيف أن «الشباب كانوا يتجمعون معًا لينشدوا أغنيات العصر الحالي أو أغنيات قديمة» دار الحوار التالي:

كوريير : منذ ذلك الحين الذي تتحدث عنه، عندما كانوا معتادين على الغناء في الشوارع … [تغير] القانون … كي يحظر ذلك. أليس كذلك؟
سوزا : لا، سيدي؛ يمكنك دومًا أن تفعل ذلك.
كوريير : إن أي أداء علني محظورٌ وفقًا لذلك القانون، أليس كذلك؟
سوزا : لا يمكنك أن تدعو ذلك أداءً علنيًّا.
كوريير : ولكن أي أداء علني محظور بموجب قانون عام ١٨٩٧، أليس كذلك؟
سوزا : هذا الأمر لم أسمع به على الإطلاق. لم أكن أعلم قط أن التجمع سويًّا والغناء معًا أمر خارج عن القانون.24
رغم أن مضبطة المجلس لا تشير إلى ذلك، فإنني أتخيل أن تعليق سوزا لا بد وأنه فجَّر موجة من الضحك في القاعة. وعلى أي حال، فإن كوريير لم يكن جادًّا؛ فهو لم يكن ناشطًا متطرفًا في مجال الدفاع عن حقوق التأليف والنشر، والحقيقة أنه كان على النقيض من ذلك تمامًا؛ كان كوريير من ناقدي «الملكية الفكرية»، وغير مقتنع بالحاجة إلى هذا الاحتكار المدعوم من الحكومة كي يتدخل في مسألة الابتكارات أو الفنون. كان الهدف من سؤاله إحراج سوزا بسبب تطرفه في آرائه (حسب ما يراه كوريير).25 لقد أراد طرح مقترح لقانون كان قطع بالفعل شوطًا بعيدًا ولا يحتاج لمزيد من التشديد أكثر من ذلك.

لقد ارتد السهم إلى نحر مطلقه. لم يكن سوزا يؤمن بأن كل استخدام للثقافة ينبغي تقييده بقانون. ففي واقع الأمر، كان يعتقد أنه من السخف أن نتخيل عالمًا يكون فيه «التجمع سويًّا والغناء معًا أمرًا خارجًا عن القانون.» فهذا الجزء من الثقافة، حسبما يؤمن سوزا (وهو جزء جوهري لو أننا أردنا لثقافة الهواة أن تبقى على قيد الحياة) يجب أن يترك دون تقييد بقانون، وهذا لا يمنع أن هناك جزءًا آخر من الثقافة (وهو الجزء الذي تتربح فيه الكيانات التجارية من الأعمال الإبداعية) في حاجة لمزيد من التنظيم بالقانون. فحتى بالنسبة لذلك المتطرف، كان لقانون حقوق التأليف والنشر حد ليتوقف عنده.

تذكر دومًا هاتين الفكرتين ونحن ننتقل إلى الحجة التالية؛ الأولى: أهمية إبداع «الهواة»، الذين ينتجون ثقافة «القراءة والكتابة»، والثانية: أهمية وضع حدود لمدى قانون حقوق التأليف والنشر، بحيث يترك مساحة من الحرية لإبداع هؤلاء الهواة.

آمل من الطرح الذي أقدمه في هذا الكتاب أن أنعش هاتين الفكرتين اللتين أدركهما سوزا. وعندما نلقي نظرة على تاريخنا، فإن هيمنة ثقافة مختلفة جذريًّا (وثقافة البيئة التنظيمية) على مدى الأربعين عامًا الأخيرة من المرجح أن تطغى على مشهد التقاليد الأطول عمرًا التي عاشت قبلها. هذه التقاليد الأطول عمرًا بكثير تحمل قيمة بالنسبة لنا اليوم؛ إذ إن الظروف التي جعلت من أفضل أجزائها أمرًا ممكنًا تعاود الظهور في الوقت الحالي. ومن سخرية القدر بالنسبة للسيد سوزا، أنها تعود بالضبط بسبب ظهور جيل جديد (حسبما يسميها الموسيقيون المحترفون الآن) من «الآلات الجهنمية»، إلا أن تلك الآلات الجهنمية الحديثة سوف تمكن ثقافة القراءة والكتابة من جديد. ولو سُمِح لها بالتواجد من قبل صناعات تهيمن حاليًّا على الإنتاج الثقافي (وتمارس هيمنة هائلة على الكونجرس، الذي ينظم أحوال تلك الثقافة من خلال تشريعاته)، فإن باستطاعتها أيضًا أن تشجع على حدوث نمو هائل في الفرص الاقتصادية لكلٍّ من المحترفين والهواة، ولكل أولئك المنتفعين من كلا الشكلين من أشكال الإبداع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤