الفصل الرابع والثلاثون

قرية أنجرلك – تركيا ١٩١٤م

على سفح الجبل المطل على القرية تحت ظل شجرة الجوز كان أرتين يتأمَّل المنظر أمامه، البيوت المبنية من الحجر والطين ومداخنها المرتفعة التي يتصاعد منها دخان رمادي باهت، الطريق المتعرج المؤدي إلى الجبل، حيث تجلس مجموعةٌ من النساء يخبزن بتنور ملاصق لبيت المختار تلمكيان، وأخريات ينظفن الحظائر ويجهزنها ويملأن السواقي بالماء قبل قدوم الرعاة مع المواشي. كانت القرية تعيش شيئًا من الهدوء الذي لم تعهده منذ انتهاء الحرب الروسية العثمانية قبل أكثر من ثلاثة عقود، التفت يمنةً على صوت أنوشكا، كان بانوس يلاعبها، يقذفها في السماء ثم يلتقطها وهي تطلق ضحكة تملأ المكان.

– انتبه!

وضعها بانوس بحضنه وقبَّل خدها ثم توجَّه نحو أرتين: لن تفلت من يدي، جاذبية حبي لها أقوى من جاذبية الأرض.

ابتسم أرتين، ثم أردف بانوس قائلًا: أحيانًا يراودني شعور بأننا خُلقنا من روحٍ واحدة، ثم جزَّأها الرب إلى ثلاث أرواح.

– ولمَ ثلاث، أتود أن تبقيها وحيدةً دون أخٍ أو أخت؟!

– لا أدري، أظن أننا اكتملنا.

– غريب ما تفكِّر به يا بانوس.

قاطعتهما أنوشكا بابتسامتها البريئة، فقال أرتين: إنها تشبه باتيل كثيرًا.

– وأمي تقول ذلك، بل إنها تردِّد دائمًا «باتيل ولدت نفسها.»

– العجائز لديهن عبارات جاهزة لكل شيء.

– إنها حكمة السنين وتجارب الحياة.

– لا تنسَ الموروث الشعبي لا يحفظه عن ظهر قلب سواهن.

ساد صمت بينهما، عاد أرتين يتأمَّل ويفكِّر بمصير الثورة بعد سنوات طويلة من القتال والنجاحات الصغيرة والفشل الكثير، سنوات مرت كالبرق، تذكَّر يوم التقَوا هنا تحت ظل شجرة الجوز واتفقوا على الانضمام إلى الثوار، وها هم على حالهم الذي لم يتغيَّر كثيرًا حتى بعد مرور خمس سنوات على خلع السلطان عبد الحميد.

كانت الدولة العثمانية تخسر أراضيها هنا وهناك، بعد معركة البلقان قبل سنتين وهزيمة العثمانيين فيها استقلَّت بلغاريا وصربيا والجبل الأسود، وتم تهجير مئات الآلاف من المسلمين منها نحو الداخل العثماني، وكان نصيب الولايات الأرمنية كبيرًا من أولئك المهجرين لقرب مناطقهم إلى البلقان .. قاطع تفكيره بانوس وهو يقول: أنور باشا سيعجِّل نهايتهم، ويدخِل الدولة العثمانية في الحرب الكبرى مهما كلَّفه الأمر، وما إن دخلتها لن تخرج منها حية.

شعر أرتين أن بانوس كان يشاطره التفكير، ولربما التفكير بالفوضى التي كانت تعيشها المنطقة يشغل فكرَ الجميع، وقد تحوَّل كل فرد في شرق الأناضول إلى محللٍ سياسي لديه رؤيته الخاصة في الأوضاع، وأن الحرب القائمة بين الدول الكبرى هي بداية النهاية وستطرأ تغييرات كبرى في العالم كله، «إنها الحرب التي ستنهي كل الحروب»، بدأت بين إمبراطورية النمسا وصربيا ثم توسَّعت ودخلت فيها إمبراطوريات ودول عظمى على الطرفين، إنها الحرب الأكبر في التاريخ.

أومأ برأسه أرتين وأخبره: سمعت أنه طلب من قيادة الحزب تحريضَ أرمن روسيا ضد جيش القيصر نيكولاس الثاني مقابل الاستقلال لولاياتنا، إنه يريد استعادة البلقان من الروس والثأر لخسارتهم، لكنه طلبٌ غبي، هل يرانا حمقى لنصدِّق وعوده؟

– وهل رفض الحزب طلبه؟

– دون تردُّد، سمعت فارتان يقول إن روسيا جنَّدت أكثر من مائة ألف من أرمن روسيا في الحرب الكبرى مع جيشها، ونحن لن نقاتل إخوتنا الأرمن مهما كلَّفنا الأمر.

•••

باءت محاولات أنور باشا مع الأرمن بالفشل، ولم يكن بمقدوره الاستفادة منهم إلا بزجهم أمام الروس بعد دخوله الحرب الكبرى وتحالفه مع ألمانيا للدفاع المشترك عن مصالحهما.

ستون ألفًا من الأرمن جُنِّدوا في الجيش العثماني، وانضمَّ إليهم مئات الآلاف من العرب والكرد والشركس، تم سوقهم طوعًا أو كرهًا من بلدانهم تحت مسمى النفير العام «سفربرلك» للجهاد من أجل الخلافة العثمانية ضد المعتدين الكفار على الرغم من تحالفهم مع الألمان غير المسلمين!

جرت محاولات فرار للمجندين الأرمن من كل وحدات الجيش الثالث المسئولة عن شرق الأناضول وحصل تقهقر للقوات العثمانية في أغلب معاركها ضد الروس مما دفع القيادة العثمانية إلى الإسراع بقرار سحب الأسلحة من الجنود الأرمن وزجِّهم في أعمال السخرة وإصدار بيان بالخيانة العظمى للجنود الأرمن بحق دولتهم، وأصدر أنور باشا تعليماتٍ صارمة في ذلك «يحظر إشراك الجنود الأرمن في الجيوش المتنقِّلة ووحدات الدَّرك المتنقِّلة والثابتة في الخدمات القتالية أو توظيفهم في مكاتب المقرات العامَّة أو أجنحة القادة، وكذلك من واجب الجيش وقادة فيالق الجيش والمناوبين عنهم والقيادات كافة أن يقمعوا سريعًا وبأقسى الطرق أيَّ معارضة أو اعتداء مسلح أو مقاومة لأوامر الحكومة، وأن يقضوا على أي أعمال عدائيَّة أو مقاومة ويُسمح للقادة أن يعلنوا العمل بالأحكام العسكرية فورًا وحيثما يرون ذلك ضروريًّا.»

تحوَّل الجنود الفارون من الخدمة العسكرية داخل الأراضي العثمانية إلى مجموعاتٍ قتالية صغيرة، حاولت زعزعة الأمن في المدن وقطْع طرق الإمداد للجيش العثماني ومهاجمة خطوط التلغراف بين الوحدات العسكرية، واستخدمت الأسلحة التي تم تهريبها طوال الفترات الماضية من روسيا وإيران، في استمرار عمل هذه المجموعات الثورية.

كانت معركة صاريقاميش على الحدود العثمانية الروسية من جهة أرضروم القشةَ التي قصمت ظهر البعير في شرق الأناضول بالنسبة للقوات العثمانية؛ إذ جازف أنور باشا بإرسال تسعين ألفًا من الجنود في أجواء بردٍ قارسة وعواصف ثلجية ليتسللوا جبلَ الله أكبر ويفاجئوا العدو الروسي بحركةٍ غير متوقَّعة، لكن التجهيزات العسكرية لتلك الأجواء الثلجية لم تكن كافية، إضافة إلى وجود أعدادٍ كبيرة من الجنود العرب في جيش أنور باشا الذين لم يستطيعوا تحمُّل تلك الأجواء القارسة فسقط عشرات الآلاف من البرد على سفح الجبل وخسر العثمانيون المعركة قبل بدايتها، كانت تلك الخطوة الجنونية من أنور باشا سببًا كبيرًا في تقهقر العثمانيين في شرق الأناضول.

كان أرتين مع مجموعةٍ من الجنود الأرمن الذين فرُّوا من الجيش العثماني باتجاه الحدود الروسية، قرب «بحيرة بالق» الصغيرة، ثم انضمت المجموعة إلى القوات الروسية الزاحفة نحو مدينة وان.

دُهش أرتين وهو يسير بين جنود المشاة الروسية بالأسلحة الحديثة التي يحملها الجنود والعربات العسكرية والمدرعات والمدافع التي تجرها سيارات خاصة، كان لأول مرة في حياته يشاهد جيشًا منتظمًا ومسلَّحًا بهذا القدر، شعر أن الجنود الأرمن الفارين من الجيش العثماني عنصر نشاز بينهم، أو قوة فائضة لا يمتلكون ميزةً إلا معرفة جغرافية المنطقة والقرى الأرمنية منها والكردية أو التركية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤