مقدمة

يسارع الفلاسفة إلى الترحيب بأي شيء تبدو عليه سيماء الغرابة، ويخالف أول أفكار البشر وأكثرها تلقائية، ويعدُّونه علامةً من علامات سمو علمهم الذي يستطيع كشف آراء بعدت إلى هذا الحد عن وجهة النظر الشائعة، ومن جهة أخرى، فإن أي شيء يُقْتَرَح علينا ويسبب دهشةً وإعجابًا، يرضي الذهن إلى حد يجعله يستسلم لهذه الانفعالات السارة حتى لا يعود لديه مجال للاقتناع بأن لذته قد لا يكون لها أي أساس، ومن هذه الاستعدادات لدى الفلاسفة ولدى تلاميذهم ينشأ ذلك التفاهم المتبادل بين الطرفين؛ إذ يأتي الأولون بمجموعة ضخمة من الآراء الغريبة التي لا يُقَدَّم لها تعليل، ويصدقهم الآخرون على التو.

Hume: A Treatise of Human Nature
Book I part II Section I

تفرض كل مهنة على من يحترفها مجموعة من الآراء والمواقف التي تميزه عمن يحترفون مهنًا أخرى، وتبدو غريبة خارجة عن المألوف في نظر غيره، ومهنة الفلسفة ليست استثناءً لهذه القاعدة، فالأمر الذي لا شك فيه أن الباحث المتخصص في الفلسفة هو اليوم صاحب مهنة لها «جو» خاص يجده غير المتخصص في الفلسفة غريبًا خارجًا عن المألوف، في هذا «الجو» يقول الفلاسفة بآراء، ويتخذون مواقف، هي في نظرهم من الأمور العادية المألوفة، مع أنها في نظر غيرهم مذهلة لا تكاد تُصَدَّق، ومن أكثر هذه الآراء شيوعًا: تلك التي يعبر عنها الفلاسفة بصور مختلفة منها: إن العالم الخارجي غير موجود، أو إنه ذاتي، تلك الآراء — المتعلقة بمشكلة تؤلف الجزء الرئيسي في مبحث المعرفة، الذي ربما كان أهم أجزاء الفلسفة العامة أو الميتافيزيقا — هي إذن جزء لا يتجزأ من التراث الفلسفي كما يُنْقَل من جيل إلى جيل، ولكنها تبدو بعيدة تمامًا عن التصديق، بل عن التصور، حالما يخرج بها المرء عن دائرة الفلسفة المتخصصة.

ولا أظن أن أحدًا من دارسي الفلسفة لم يمر في وقت من الأوقات بتلك التجربة التي يتعرَّض فيها لسخرية الآخرين — الذين قد يكونون أناسًا عاديين أو أشخاصًا متخصصين في فروع أخرى من العلم — من مواقف الفلاسفة التي تكاد تصل في نظر هؤلاء الأخيرين إلى حد الجنون، ومن أهمها: ذلك الموقف المثالي وما يقترن به من إنكار لوجود العالم الخارجي أو شك فيه، ولكن لنفرض أن واحدًا من هؤلاء المتخصصين في الفلسفة قد اتخذ الموقف المضاد، أي دافع عن وجهة النظر «المعتادة» التي يعبر عنها «غير الفلاسفة»، فماذا يكون رأي الفلاسفة فيه؟ إنني لا زلت أذكر نظرة الاستغراب التي نظرها إليَّ أحد الأساتذة وهو يناقشني في البحث الذي تقدمت به لدرجة الدكتوراه، ودافعت فيه عن وجهة النظر «المعتادة» هذه، لقد سألني: أتعني «حقًّا» أن تدافع عن وجهة نظر «الإنسان المعتاد»؟ وكان في تساؤله دهشة لا تقل عن تلك التي يُبْدِيها عالم الرياضة إذا سمع أحدًا يعترض على صحة جدول الضرب!

هذا إذن هو الموقف السائد فيما يتعلق بالصلة بين الفلاسفة وغير الفلاسفة: فالأولون قد أصبح لهم مجالهم الخاص الذي يترفَّعون فيه عن وجهة نظر «العامة» ويعدُّون رفضها أول شرط «للسلوك» إلى ميدان الفلسفة، والآخرون يدهشون للآراء النظرية الميتافيزيقية لدى الفلاسفة، ولا يأخذون بواحد منها في حياتهم المألوفة … ويظل كل من الطرفين متمسكًا بموقفه دون أية محاولة للتفاهم.

وإذا كان غير الفيلسوف غير ملوم في عدم تعرفه على وجهة نظر الفلسفة، فإن الفيلسوف — بطبيعة مهنته — ينبغي أن يُلام؛ لأنه يكاد يعد رفض موقف الذهن المعتاد من القضايا المسلَّم بصحتها، ويظل هو وطائفته يستخدمون حججهم ومصطلحهم الخاص الذي لا يعرفه غيرهم، وكأنه من الأسرار الحرفية التي لا ينبغي أن يطلع عليها إلا أربابها.

وإذا كان من «المخجل» في الوسط الفلسفي أن يحاول المرء الدفاع عن «الواقعية الساذجة»، فإن من «المضحك» — في نظر عالم الجيولوجيا أو عالم النبات — أن يحاول المرء إقناعه بأن العالم الذي نراه «من خلقنا نحن»، أو أن يثير المرء فكرة كون المظهر الذي يتبدى عليه هذا العالم خادعًا، واحتمال كون العالم «في حقيقته» مخالفًا لما ندركه.

وفي رأيي أن استمرار هذا الازدواج هو الأمر المخجل حقًّا، وليس مما يشرِّف الفلاسفة على الإطلاق أن يكتفوا بوصف الآخرين بأنهم من «العامة»، دون أية محاولة لتحليل سبب ذلك الاعتقاد القوي الذي يدفع «الناس» — وضمنهم الفلاسفة أنفسهم خلال الجزء الأكبر من حياتهم — إلى الأخذ بوجهة النظر الطبيعية. إن الفلاسفة يعدُّون وجهة النظر هذه «خطأً» ينبغي تجاوزه إلى غير رجعة، ولكن كان الأجدر بهم أن يكرِّسوا شيئًا من جهودهم لإيضاح علة انتشار هذا «الخطأ» على هذا النحو الهائل بين جميع الآدميين غير المتفلسفين، وبين الفلاسفة أنفسهم في لحظات عدم تفلسفهم! إن ذلك الازدواج الذي يسود حياة من ينكر العالم الخارجي من الفلاسفة — حين يتصرف في هذه الحياة حسب الموقف الطبيعي، ويفكر فيها حسب الموقف المثالي — كان يستحق على الأقل تفسيرًا أو تعليلًا، ولكن كم من الفلاسفة كرَّس أبحاثه لهذه المسألة الحاسمة؟!

إن الفلسفة في حاجة إلى أن تخرج — من آن لآخر — من النطاق «الاحترافي» الذي ضربته حول نفسها، وتحدد علاقتها ببقية مجالات العالم، وهي — على الأخص — في حاجة إلى أن تنظر بفهم وتقدير لا بازدراء وترفُّع، إلى وجهة نظر «الإنسان» بالمعنى العام لهذه الكلمة، وينبغي أن تجد في نفسها الشجاعة للربط بين آرائها وبين هذا «الإنسان»، وإلا فستظل إلى الأبد «مهنة» ضيقة لا تلقى استجابة إلا من ذلك النفر القليل الذي احترفها.

وإن المبرر الوحيد لكتابة هذا البحث إنما هو كونه يعبر عن وجهة نظر شخص هو حقًّا من «المتخصصين» في الفلسفة، ولكنه لم يفقد أبدًا شعور الإنسان الطبيعي بالدهشة إزاء كثير من قضايا الفلاسفة، أجل، فما زلت حتى اليوم أشعر بالدهشة كلما رأيت فيلسوفًا يشك في وجود العالم الخارجي أو يصفه بأنه من «خلق الذات»، وهي نفس الدهشة التي اعترتني عندما اطلعت على هذا الرأي لأول مرة في أول كتاب فلسفي قرأته، ومنذ تلك اللحظة الأولى لم أَكُفَّ عن الاعتقاد بأن في الأمر خطأً، ولكن كانت المشكلة بالنسبة إليَّ هي: أين يكمن هذا الخطأ؟

وفي هذا البحث سرد للمحاولات التي بذلتها للاهتداء إلى أصل هذا الخطأ، وهي — بلا شك — محاولات غير كاملة، ولن تؤدي إلى دحض كامل للرأي المضاد، ولكن ميزتها الوحيدة أنها — كما قلت — تعبير عن وجهة نظر شخص متخصص في الفلسفة لم يفقد في وقت ما ذلك الإيمان البسيط، أو سمِّه «الساذج» إن شئت، والذي يتميز به الإنسان في موقفه الطبيعي، فإذا كان في هذه المحاولة نقص، فلا يخالجني شك في أن البشرية ستصل يومًا ما إلى دحض كامل للموقف المثالي، بحيث يتسق سلوك الإنسان العملي مع تفكيره النظري، ولا يعود في وسع أحد أن يقول مرة أخرى: إن وجود العالم الخارجي أمر مشكوك فيه، أو هو وهم لا أساس له، أو أن ذلك العالم من خلق الذات.

فؤاد زكريا

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤