الفصل الحادي عشر

إجفال

في وقت مبكر من صباح اليوم التالي، تركنا ولاية ويسكنسن وتابعنا المسير، نَنهَب الطريق الذي يمرُّ بمحاذاة الحدود الجنوبية لولاية مينيسوتا. هنا كانت الأرض مكتسيةً بالمرتفعات والخضرة، واحتشدت الغابات على جانبَي الطريق، وكان الهواء يحمل رائحة الصنوبر.

قال جدي: «أخيرًا، منظر طبيعي بديع! أحب الأماكن ذات المناظر الطبيعية الجميلة، ماذا عنكِ يا صغيرتي؟»

لم أكن قد تفوَّهت بكلمة عما حدث أمس؛ عن الهلع الذي تملَّكني حين ظننت أنهما تركاني ورحلا. لا أعرف ماذا دهاني. منذ أن رحلت أمي عنا في ذلك اليوم من شهر أبريل، وأنا أتوقع أن الجميع سيرحل عني، واحدًا تلو الآخر.

سرني أن تأتيَني فرصة لمتابعة سرد قصة فيبي، لأني حين أحكي عنها، يكاد ذهني لا ينشغل بسواها.

سألت جدتي: «هل تلقت بيبي أي رسائل أخرى؟»

أجل، تلقت رسائل أخرى. في يوم السبت التالي، كنت أنا وفيبي ذاهبتين إلى بيت ماري لو مجددًا. وأثناء مغادرتنا منزل فيبي، وجدنا على الدرجات الأمامية ظرفًا أبيض آخر بداخله ورقة زرقاء. كانت الرسالة تقول: «لكلٍّ أجندتُه الخاصة.»

تطلَّعتُ أنا وفيبي إلى طرفَي الشارع. ولم نرَ أثرًا لمن ترك الرسالة. رأت ماري لو الرسالتين (تلك والأخرى) مثيرتين للاهتمام. قالت: «كم هذا مثير! ليت أحدًا يترك لي رسائل!»

أما فيبي فرأت الرسالتين مخيفتين. لم تكن كلماتهما ما يقلقها — فليس فيهما شيء يبعث على الخوف — بل فكرة أن أحدًا ما تسلل وتركها على شرفتها. كانت تخشى أن يكون ثمة من يراقب منزلهم، يتحين اللحظة المناسبة لترك الرسالة. كانت فيبي تحترف القلق.

حاولنا أن نتبين معنى الرسالة. قالت فيبي: «حسنًا، الأجندة هي قائمة بالموضوعات التي ستُناقش في اجتماع ما …»

قلت مقترحة: «إذَن ربما تكون لأبيكِ. هل يحضر اجتماعات عمل؟»

قالت فيبي: «أظن ذلك. يومه كله مشغول دائمًا.»

قالت ماري لو: «ربما الرسالة من مديره. ربما قصَّر أبوك في إدارة اجتماعاته.»

قالت فيبي: «أبي منظم جدًّا.»

سألت ماري لو: «ماذا عن الرسالة الأخرى؟ «لا تحكم على أحد قبل أن تسيرَ في دربه مسيرة قمرين».»

قلت: «أعرف ما تعنيه. سمعت أبي يستخدمها كثيرًا. كنت أتخيل قمرين يستقران في زوج من أحذية الهنود الحمر، لكن أبي قال لي إنها تعني أن المرء يجب ألَّا يحكم على أحد إلا بعد أن يسير في دربه. أي بعد أن يضع نفسه في ظروفه. يتخيل نفسه مكانه.»

سألت فيبي: «وهل يردد أبوكِ تلك العبارة كثيرًا؟»

قلت: «أعرف فيمَ تفكرين، لكن أبي ليس مَن يتسلل ويترك تلك الرسائل. فهذا ليس خط يده.»

حين دخل بن إلى غرفة ماري لو، سألته عما يظن أنها تعنيه. أخذ ورقة من مكتبها، ورسم رسمًا كارتونيًّا سريعًا. كان مخيفًا بعض الشيء، إذ كان ما رسمه مطابقًا لما كانت ترسمه لي مخيلتي: زوج من أحذية الهنود الحمر يستقر فيه قمران.

قالت ماري لو لفيبي: «ربما يتسرع أبوك في الحكم على زملائه في العمل. ويحتاج لأن يضع نفسه في ظروفهم أولًا.»

قالت فيبي: «أبي لا يتسرع في الحكم على الناس.»

قال بن: «لا داعي للنبرة الدفاعية.»

«أنا لا أستعمل نبرة دفاعية. بل أوضح أن أبي لا يتسرع في الحكم على الناس.»

لاحقًا قصدنا المتجر. كنت أظن أنني سأذهب أنا وفيبي وماري لو فحسب، لكن حين غادرنا المنزل كنا قد ضممنا إلينا تومي ودوجي أيضًا. وفي اللحظة الأخيرة، قال بن إنه أيضًا قادم معنا.

قالت فيبي لماري لو: «لا أعرف كيف تطيقين ذلك؟»

«أطيق ماذا؟»

أشارت فيبي إلى تومي ودوجي اللذين كانا يركضان حولنا مثل لعبتين زنبركيتين، يقلدان صوت القطار والطائرة، ويندفعان بيننا ثم يركضان أمامنا ويسقط بعضهما فوق بعض ويصيحان ثم يقفزان ناهضين ويضرب أحدهما الآخر ويطاردان النحل الطنان.

قالت ماري لو: «اعتدتُ الأمر. فإخوتي يفعلون أمورًا خرقاء طَوال الوقت.»

طَوال الطريق، كان بن يسير خلفي مباشرة، وهو ما جعلني متوترة. ظللتُ ألتفتُ لأرى ما يفعله بالخلف، لكنه كان يتمشَّى ليس إلا، تعلو وجهه ابتسامة. ارتطم بي تومي، وحين بدأت أهوي إلى الخلف أمسك بي بن. لفَّ خَصري بذراعَيه وظلَّ مُمسكًا بي، حتى بعد أن تأكد من أنني لن أسقط. شممت رائحة الليمون البري الغريبة مجددًا وشعرت بوجهه يستقر على شعري. قلت له: «أفلتني.» لكنه لم يفعل. اجتاحني شعور غريب، وكأن كائنًا ضئيلًا كان يزحف على عمودي الفقري. لم يكن شعورًا مريعًا، بل بالأحرى كان خفيفًا ويشبه الدغدغة. ظننت أنه ربما أسقط شيئًا ما في قميصي. كررت بإصرار: «أفلتني!» فأفلتني أخيرًا.

في المتجر، انتابني الخوف قليلًا. ربما كنتُ قد تشرَّبت بحكايات فيبي عن المجانين والسفاحين الذين يقتلون ضحاياهم بالفأس. كنتُ أنا وفيبي نطالع المجلات حين شعرت أن ثمة مَن يراقبنا. نظرت إلى حيث كان يقف بن، لكنه كان منهمكًا هو وماري لو في تنقيب ألواح الشوكولاتة. لم يتبدَّد ذلك الشعور. التفتُّ إلى الجهة الأخرى، فإذا بالشاب اليافع المتوتر، الذي كان قد أتى إلى بيت فيبي، واقفًا على الجانب المقابل من المتجر. كان أمام صندوق الدفع، يدفع ثمن شيء ما، لكنه كان يُحدِّق فينا وهو يناول العامل النقود. وكزتُ فيبي. قالت: «رباه! إنه المختل.» هُرعَت فيبي إلى حيث كان يقف بن وماري لو. «انظرا بسرعة، إنه المختل.»

«أين؟»

«عند صندوق الدفع.»

قالت ماري لو: «لا أحد هناك.»

قالت فيبي: «صدقًا، لقد كان هناك، أقسم لكما. اسألا سال.»

قلت: «كان هناك بالفعل.»

لاحقًا، بعد أن تركنا ماري لو متجهتين إلى منزل فيبي، سمعنا وقع أقدام شخص يركض خلفنا. ظنت فيبي أننا هلكنا. قالت: «لو هشَّم المختل رأسينا وتركنا هنا على الرصيف …»

شعرت بيدٍ على كتفي، ففتحت فمي لأصرخ لكن صوتي لم يخرج. كان عقلي يقول: «اصرخي! اصرخي!» لكن صوتي أبى أن يخرج.

كان هذا هو بن. قال: «هل أخفتك؟»

قالت فيبي: «لم يكن ذلك مضحكًا.»

قال: «سأوصلكما إلى البيت. تحسبًا لوجود أي … أي … مختلين.» وجد صعوبة في قول كلمة «مختلين». في الطريق إلى منزل فيبي، قال بن بعض الأشياء الغريبة. في البداية قال: «ربما لا ينبغي أن تصفاه بالمختل.»

سألته فيبي: «ولِمَ لا؟»

«لأن كلمة مختل … لأن الكلمة تعني … فيها دلالة على … لا عليكِ.» لم يفسر، وبدا خجلًا من قوله ذلك من الأساس. ثم قال لي: «ألا يتلامس أهل بيتكِ؟»

«ماذا تعني؟»

قال: «أتساءل ليس إلَّا. فأنت تجفلين كلما لمسكِ أحد.»

«لا أفعل.»

«بل تفعلين.» ولمس ذراعي. أعترف بأن غريزتي كانت تدفعني لأن أجفل، لكني أحجمت عن ذلك. تظاهرت بأني لا ألاحظ أن يده تستقر على ذراعي. عاد ذلك الكائن الذي يدغدغ عمودي الفقري. همهم بنبرة طبيب يفحص مريضة: «مم! مم!» ثم رفع يده. «أين أمكِ؟»

لم أكن قد أتيت على ذكر أمي لأي أحد، ولا حتى فيبي، عدا تلك المرة التي سألتني فيها عنها فلم أزد عن قول إنها لا تعيش معنا.

قال بن: «رأيت أباكِ مرةً، لكني لم أرَ أمكِ قَط. فأين هي؟»

«في أيداهو. لويستون، أيداهو.»

سأل بن: «ماذا تفعل هناك؟»

«لا أودُّ إخبارك.» لم يخطر لي أن أسأله أين أمه هو.

لمس ذراعي مجددًا. وحين أجفلتُ، قال: «أها! كشفتكِ!»

ضايقني ما قاله. خطر لي أن أبي لم يَعُد يعانقني كثيرًا مثل ذي قبل، وأني ربما بدأت فعلًا أجفل كلما لمسني أحد. لم يكن الوضع هكذا من قبل. كنا فيما مضى أسرة تحب العناق. بينما كنت أسير مع بن وفيبي، تذكرت شيئًا حدث وأنا في التاسعة أو العاشرة. صعدت أمي إلى سريري وعانقتني وقالت: «لنصنع طَوفًا ونطفو مبتعدتين به في نهر.» لطالما راودتني فكرة الطوف تلك، بل إني صدقت أننا ذات يوم ربما نصنع طوفًا ونطفو مبتعدتين به في نهر معًا. لكنها حين ذهبت إلى لويستون، أيداهو، ذهبت وحدها.

لمس بِن ذراع فيبي. فأجفَلَتْ. فقال: «أها! كشفتكِ. أنت تجفلين أيضًا يا «فري بي».»

ضايقني ذلك أيضًا. لم تفتني ملاحظة أجواء التوتر السائدة بين جميع أفراد أسرة فيبي، وكم تبدو أسرتها منمقة ووقورة و«جامدة» للغاية. هل أصير مثلها؟ ما الذي جعل أسرتها هكذا؟ رأيت أم فيبي تحاول بضع مرات لمس فيبي أو برودنس أو السيد وينتربوتوم، لكنهم كانوا جميعًا يصدونها. وكأنما لم يعودوا بحاجة إليها.

هل كنت أصد أمي؟ هل كانت لديها مساحات خاوية؟ ألهذا رحلت؟

حين وصلنا إلى مدخل منزل فيبي، قال بن: «أظن أنكما وصلتما إلى بر الأمان الآن. أظن أنني سأذهب.»

قالت فيبي: «تفضل.»

وصلت السيدة كادافر تحك الرصيف بسيارتها الفولكسفاجن الصفراء، وشعرها الأحمر الجامح يتطاير حولها كشعر ساحرة شريرة. لوَّحت لنا محييةً وبدأت تُخرِج مشترياتها من السيارة وتنزلها بإهمال على الممر الجانبي.

سأل بن: «من هذه؟»

«السيدة كادافر.»

«اسمها كادافر؟ أي جيفة؟»

«أجل.»

نادت السيدة كادافر: «مرحبًا يا سال.» ألقت كومة من الأكياس المكتنزة في الممر الجانبي. سألها بن إن كانت تحتاج إلى أي مساعدة. قالت السيدة كادافر وهي ترمقه بعينيها الرماديتين الجامحتين: «كم أنت مهذب!»

قالت فيبي: «هي تثير هلعي.» وهمست إلى بن قائلة: «لا تدخل بيتها.»

قال: «لمَ لا؟» ويبدو أنه قالها بصوت مرتفع للغاية؛ إذ رفعت السيدة كادافر بصرها إليه وقالت: «ماذا قلت؟»

قالت فيبي: «لا شيء؟»

قالت السيدة كادافر: «هل تودين الدخول يا سال؟»

قلتُ، سعيدةً بأن لديَّ عذرًا: «كنتُ ذاهبةً لتوي إلى منزل فيبي.»

خرجت والدة فيبي إلى الباب الأمامي. «فيبي؟ ماذا تفعلين؟ هل ستدخلين؟»

تركنا بن. أثناء دخولنا إلى بيت فيبي، رأيناه يرفع شيئًا من الممر الجانبي. كان هذا الشيء فأسًا جديدًا لامعًا.

قالت والدة فيبي: «هل هذا أخو ماري لو؟ هل كان يوصلكما إلى البيت؟ أين ماري لو؟»

قالت فيبي: «أكره أن تسأليني ثلاثة أسئلة متتالية.» من النافذة، رأينا بن يجرجر الفأس صاعدًا السلالم الأمامية لمنزل السيدة كادافر. نادته فيبي قائلة: «لا تدخل!» لكن لما أمسكت السيدة كادافر الباب لإبقائه مفتوحًا، اختفى بن بالداخل.

سألتها والدتها: «ماذا تفعلين يا فيبي؟»

عندئذٍ أخرجت فيبي من جيبها الظرف الذي يحوي الرسالة الجديدة. قالت فيبي: «وجدت هذا بالخارج.»

فتحت السيدة وينتربوتوم الظرف بحذر، وكأنما يحوي قنبلة مصغرة. قالت: «عزيزتي، تُرى من أرسله؟ ولمن؟ وماذا يعني؟» شرحت لها فيبي ما هي الأجندة. «أعرف ما الأجندة يا فيبي. لكن ذلك الأمر برمته يقلقني. أود أن أعرف من يرسل هذه الرسائل.»

كنت أنتظر أن تخبرها فيبي برؤيتنا الشاب المتوتر في المتجر، لكن فيبي لم تأتِ على ذكر أمره. بعدها بقليل رأينا بن خارجًا من بيت السيدة كادافر. كان يبدو سليمًا معافًى.

حين وصلت إلى البيت ذلك اليوم، كان أبي في المرأب يفحص السيارة. كان منحنيًا فوق المحرك فلم أتبين وجهه في البداية. «أبي، في ظنك ماذا يعني أن يجفل المرء حين يلمسه شخص آخر؟ أتظن أن ذلك يعني أن مشاعره بدأت تتبلد؟»

التفت أبي ببطء. كانت عيناه حمراوين محتقنتين. أظن أنه كان يبكي. وكان الشحم يلطخ يديه وقميصه، ولكن حين عانقني، لم أجفل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤