ضياع «هدى»!

ولجأ «قيس» لجهاز الكمبيوتر يسأله … إن كانت بالسيارة المقر أجهزة استكشاف للأعماق … إلا أن الكمبيوتر لم يفهم السؤال … وطلبت «هدى» أن تقوم هي بعملية الاستفسار هذه … وكان التعب قد نال من «قيس»، فترك لها مقعده … وتمدَّد هو على أحد المقاعد بعد أن فردَه … ولم يستطع أن يملك عقلَه من التفكير في كل ما حدث … فأصابه ذلك بإجهاد شديد، وراح في نوم عميق … في ذلك الوقت كانت «هدى» قد وصلت إلى كيفية إدارة أجهزة مسح الأعماق … إلا أنها كانت تقوم بالمسح في مستوى عمودي … أي تحت «القلعة» مباشرة … ولم يُسفر المسح عن وجود شيء … ورأى «باسم» أن الجسم الذي اصطدم بهم، ربما يكون هوائي غواصة … وأنها تحرَّكَت بعد أن شعر من فيها بأن أمرها قد انكشف فشعرت «هدى» بخيبة أمل … وتمنَّت لو استطاعت التحرك الآن بالكبسولة … ومعها «باسم» في كبسولة أخرى … لاستطاعَت كشفَ غموض هذه الإشارات وهذا الهوائي.

قال «باسم»: ولكن … كيف ستواجهين الأمر … كان كلامي صحيحًا في أنها غواصة.

هدى: سأعود بأقصى سرعة … لنتخذ التدابير اللازمة.

باسم: ويشعرون هم أن أمرهم انكشف … يمطروننا بوابل من رصاصاتهم … أو أيًّا ما تكون خيرتهم.

هدى: إن كلامك هذا يدفعني إلى الإصرار على النزول بالكبسولة للماء …

باسم: لا يا «هدى» ﻓ «أحمد» غير موجود.

فقراري في يدي … ولا تنسَي أنها مصلحتنا جميعًا.

من بين المقاعد … مرقَت «هدى» إلى مؤخرة السيارة … حيث كان الباب السفلي مفتوحًا بناء على الأمر الذي سجلته على الكمبيوتر، فانزلقت منه داخل الأنبوب إلى داخل الكبسولة … وضغط رد الأمر بالحركة، وانطلقت الكبسولة، لتدور بها «هدى» في دوائر حول «القلعة» تزداد اتساعًا … وجهاز مسح الأعماق يعمل بكامل طاقته … ليكشف ما يدور في المكان.

زادَت سرعةُ دائرة دوران الكبسولة … وجهاز كشف الأعماق لا يسجل شيئًا … إلى أن اختفَت «القلعة» أو السيارة عن عينَيها، وكأنما كان هناك مَن ينتظر حدوث ذلك؛ فقد رأت «هدى» الأرقام فجأة على شاشات تابلوه الكبسولة تتغير تغيرات عشوائية … وتظهر وتختفي دون أية دلالة … ولاحظت أن سيطرتها على الكبسولة ضعيفة … فهي تستجيب لها مرة وتُعاندها عشر مرات.

وحاولت العودة إلى السيارة مرة أخرى في خط مستقيم، فتوقَّف محرِّكُها عن الحركة … وأعطاها مؤشر الوقود إشارة سالبة، بمعنى أن أنبوب الغاز قد فرغ.

هنا شعرَت «هدى» بصعوبة موقفها … فهي قد ابتعدَت كثيرًا عن مقرِّها العائم … وها هي أجهزة الاتصال لديها لا تعمل … والظلام يحيط بها من كل جانب … وكذلك الأخطار … ما بين أسماك قرش جائعة لا تنام … ورءوس إرهاب بلا قلب تحدق بها الآن … وتتلهى بما هي فيه … وتضحك من «هدى» في سعادة وسيكون الدور على باقي الشياطين.

ولكنهم لن يستطيعوا … فهي قد أخطأت حين خرجَت دون أمر من «أحمد» أو موافقة «باسم» … ودون أن تراجع عداد الوقود … ودون … ودون … وقد أرهق التفكير «هدى» … كما أرهقَتها الدورات التي دارَتها حول المقر العائم بالكبسولة … هذا غير ميعاد نومها الذي حلَّ منذ فترة … وحاولَت دفْعَ الماء بقدمَيها … غير أنها بعد فترة قصيرة … غلبها التعبُ … وشعرَت بالنوم يغالب يقظتَها … ولا تستطيع مقاومته … فتسلَّل الرعب إلى قلبها ولأول مرة منذ أن عملَت بالمنظمة … فهي تخاف أن يغلبها النوم … فتصير طعامًا سهلًا لأسماك القرش فتوقَّفت عن الحركة … لتحتفظ بما بقي لها من طاقة … تُعينها على أن تظلَّ مستيقظة حتى يهديَها الله للنجاة … أو يغلبها النوم والتعب … فتكون هذه هي نهايتها المقدرة.

وفي المقر العائم … كان «باسم» مشغولًا على «هدى»؛ فقد انقطع الاتصال بها … ولم يَعُد يسمع لمحرك كبسولتها صوتًا … ومع مرور الوقت … ازداد قلق «باسم» حتى إنه لم يَعُد قادرًا على الانتظار، فآثر أن يوقظ «أحمد» عن طريق ساعته … وقد استيقظ ويدُه على زرِّ الساعة ظنًّا أنها رسالة.

غير أنه رأى أمامه «باسم» مبتسمًا، فسأله: ماذا يحدث يا «باسم»، أأنت الذي أيقظتني؟

باسم: نعم.

أحمد: هل هناك جديد؟

باسم: نعم.

شعر «أحمد» أن باسم لديه أخبار سيئة ولا يريد الإفصاح عنها … قبل أن يستعدَّ لها … ويُفيق من نومه تمامًا … فترك مكانه وجلس أمام عجلة القيادة، وبجواره جلس «باسم» منتظرًا منه الإصغاء … فقال له «أحمد»: هيا يا «باسم» … ها أنا ذا مستيقظ لك تمامًا.

باسم: «هدى»!

أحمد: أين؟!

باسم: في إحدى الكبسولات … بعيدًا عن هنا ولا أعرف لها مكانًا.

أحمد: وكيف اتخذت هذا القرار؟

فحكى له «باسم» كلَّ ما حدث، فلامَه لأنه لم يُوقظه، وأنه لم يمنع «هدى» من النزول في هذا الوقت، بالذات بعد أن أصبح هناك شكٌّ في أن آخرين غيرهم موجودين في هذا المكان.

ثم أسرع بإيقاظ «عثمان» … وقاموا باستبدال ملابسهم … وتناولوا بعض الحلوى مع الشاي … لكي يحصل جسمُهم على الطاقة التي يحتاجها … ومن مؤخرة السيارة انزلقوا عبر الأنبوب إلى الكبسولتين … وبمراجعة أجهزتهما … وجدَا أن عدادات الوقود تدل على وجود قدرٍ غيرِ كافٍ في الخزانات بعد الرحلة التي قاموا بها.

فقامَا باستبدال خزانات الغاز … وعبر أجهزة الاتصال سأل «باسم» عن وجهتها … فأخبره أنها كانت تدور حول المقر في دوائر تزداد اتساعًا فعرف أن الوقود قد نفد منها وأنها في مأزق … فاتفق «أحمد» مع «عثمان» على مسح المنطقة في دوائر تبادلية … مع متابعة مؤشر الوقود … على أن يحتفظ بما يكفي لعودته إلى المقر.

وانطلقت الكبسولتان تحملان «أحمد» و«عثمان» … وبداخلِ كلٍّ منهما ألف سؤال عمَّا حدث ﻟ «هدى» … وعن كيفية الوصول لها … وماذا ستفعل لو عرفت أسماك القرش مكانها … أو لو وصل سكان الجزيرة إليها قبلهم؟

ومر الوقت … وطال البحث … لكن «هدى» لم يظهر لها أثر.

وتوقَّف «أحمد» عن الحركة انتظارًا لما سيأتيه به «عثمان».

وعن بُعد … رأى ما بدَّد قلقَه … وأذهب الحزنَ عن قلبه … إنه «عثمان» ومعه كبسولة «هدى» … وبالتأكيد هي داخلها …

إلا أن القلق عاد ثانية … وتحول إلى خوف وهواجس بعد ما وجد أن الكبسولة فارغة … فسأل «عثمان» قائلًا: أين وجدتها؟

عثمان: على بُعد ميلين منَّا في الاتجاه الشرقي.

أحمد: وهل كانت هناك آثار دماء؟

عثمان: لا هناك ولا على الكبسولة.

أحمد: ومن المستبعد أن تكون قد تعرَّضَت للغرق.

عثمان: لماذا؟ ألا يصيبها الإرهاق … ويغلبها النوم وسط هذه الحياة.

أحمد: كانت ستنام داخل الكبسولة … فلا تتعرض للغرق.

عثمان: إذن أين ذهبت؟

أحمد: لقد اختطفت.

عثمان: ومَن اختطفها … ولماذا لم يخطف الكبسولة؟

أحمد: إنه لا يعرف عنها شيئًا … لذا فهي لا تعنيه في شيء.

عثمان: والخطوة القادمة؟

أحمد: علينا أن نعود للمقر للتزود بالوقود … وتناول طعام الإفطار … ونعقد اجتماعًا نقرِّر على أثره ما سيتم عمله.

وبعد تثبيت الكبسولة الفارغة بين كبسولات الشياطين … انطلقا في سرعة جنونية … فالدقائق محسوبة عليهم، والويل لهم من أنفسهم إن لم يُنقذوا «هدى»! واستقبلهم الشياطين في قلق بالغ عليهم وعلى «هدى» … وتناولوا سويًّا طعامَ الإفطار على عجل، وقام فريقٌ منهم بتغيير خزانات الغاز للكبسولات … والاطمئنان على أن كل شيء في مكانه.

وقبل أن ينطلق الشياطين الثلاثة، عقد «أحمد» اجتماعًا عاجلًا، شرح فيه ما حدث بالتفصيل، فرأت مجموعةٌ منهم أنه يجب البحث على الجزيرة فقد تكون هناك ولا تستطيع التحرك بدون الكبسولة التي قد تكون الأمواج حملَتها من جوار الجزيرة إلى حيث وجدها «عثمان».

فأخذ «أحمد» القرار بالبحث على الجزيرة أولًا … ومن مؤخرة السيارة، انزلق الشياطين عبر الأنبوب إلى الكبسولات وانطلقوا يقصدون الجزيرة، وبداخلِ كلٍّ منهم يبرق الأمل في أن يجدوا ليس «هدى» فقط، ولكن رقم «صفر» أيضًا.

اقترب الشياطين من الجزيرة … وأخذوا يطوفون حولها بحثًا عن موضع قدم ممهد يمكنهم من الوصول إلى المساحة المستوية على سطحها إلا أن «أحمد» لاحظ معبرًا يغوص في الماء … يصل ما بين البحر والجزيرة … فتشاور مع «إلهام» و«عثمان»، وخرج من كبسولته … وغاص تحت هذا المعبر … وقطع طريقًا طويلًا سباحة، حتى وجد نفسه يخرج من الماء وسط الجزيرة … و«عثمان» يراقبه هو و«إلهام»، فأشار لهما يُطمئنهما.

ثم طاف بالجزيرة الصغيرة … فلمح مدخلًا لكهف قديم … يبدو أن الماء قد انحسر عنه منذ فترة بعيدة … أي أنه كان جزءًا من قاع البحر.

ولم يتردَّد «أحمد» في دخول الكهف … الذي بدأ بسرداب طويل وانتهى بقاعة كبيرة مظلمة … فأخرج بطاريته … ودار بضوئها بين جنبات القاعة … فرأى ما لم يكن يتوقعه؛ فالكهف مكدس بالسلاح والذخيرة والخزائن الحديدية الكبيرة … فآثر أن يعود ليُخبرَ قيادة المنظمة عن هذا الوكر الذي يمدُّ الإرهابيِّين بما يحتاجونه من سلاح يهددون به أمنَ دول شمال أفريقيا وعلى رأسها «مصر»، … إلا أن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن … فقد وقع في أسرِ أحدِ حراس الكهف تحت تهديد السلاح.

ولم يكن لدى «أحمد» وقتٌ لكي ينتظر نومه أو غفلته عنه … لذا فقد سلَّط شعاعَ ليزر من مولِّدٍ خفيٍّ على إحدى القنابل التي يحتويها الكهف … فدوَّى انفجارٌ رهيب، زلزل الجزيرة … وأطاح بالرجل و«أحمد» فسقطَا وسط الماء بين كبسولتَي «إلهام» و«عثمان» … فسهل عليهما مهمة القبض عليه … وعاد الشياطين يصطبحون بدلًا من «هدى» … أحد الإرهابيِّين مقبوضًا عليه.

وفي المقر العائم … رأى «باسم» للمرة الثالثة الصاري الذى رآه يخرج من وسط مياه البحر … يخرج ثانية ولكنه رأى على قمته ما يُشبه الكاميرا، فعرف أنه منظار غواصة … وقبل أن يستدير هذا المنظار إليهم … كان «قيس» قد أعطى الأمرَ للسيارة … فغاصَت في الماء ولم يَعُد لها أثر.

ومثلها اختفى المنظار … قبل أن يَصِل «أحمد» ومَن معه إلى المكان كما حدَّدَته البوصلة الإلكترونية للكبسولة … إلا أنه لم يجد شيئًا … فدفعه ذلك للشك في البوصلة … إلا أن «عثمان» و«إلهام» أبلغاه بأن بوصلة كبسولتَيهما … أعطَت نفسَ النتيجة فظنَّ أنها قد اختطفَت وبها كلُّ الشياطين … وشعر وقتَها بفداحة الجرم الذي ارتكبَته إدارةُ المنظمة … بوضعهم كلهم معًا في مركبة واحدة، حتى ولو كانت القلعة … واحتار «عثمان» في الخطوة التي سيُقدمون عليها الآن … فكلُّ شيء مشوَّش … وخزانات الوقود في الكبسولات لن تكفيَ لعودتهم إلى الميناء.

غير أن رسالة تلقَّاها على كمبيوتر الكبسولة … جعلَته يكاد يُقهقه ضحكًا … فالسيارة تحته بالضبط ولا تحتاج منه إلا الغوص لبضعة مترات.

فأسرَّ بذلك ﻟ «أحمد» و«إلهام» التي أشرق وجهُها بابتسامة جميلة … جدَّدَت الأملَ لدى «أحمد» في العثور على «هدى» ورقم «صفر».

وردًّا على الرسالة … طلب من «قيس» الطفوَ على سطح الماء لاصطحابهم … وارتفعَت السيارةُ العجيبة من تحت سطح الماء … وطفَت … لتحمل فوق سطحها «أحمد» في كبسولته … وهو يصيح في «قيس» قائلًا: أنزلني … أنزلني … و«إلهام» و«عثمان» يضحكان.

ودفع «أحمد» بالكبسولة إلى الماء … ثم قفز خلفها … وعلى أثره «عثمان» ثم «إلهام» بعد أن ثبَّت كلٌّ منهم كبسولتَه.

ومن بين مجموعة الشياطين عرف قصة الغواصة، فلم يشكَّ للحظة أنها هي التي اختطفَت «هدى» وتأكَّد من قُرْب المواجهة معهم … لذا وجد أنه من الأرجح أن يبدءوا هم بالهجوم.

مصباح: نهاجم مَن؟ وكيف؟ وأين؟

إنهم تحت سطح الماء يا سيدي … ولديهم القدرة على التحرُّك والمناورة من مواقعهم … أما نحن … فلا نستطيع التحرك بقلعتنا إلا فوق سطح الماء …

أحمد: ألديك الاستعداد للنزول معي لتلغيمها؟

مصباح: ليس من الضروري أن تكون أنت … فلينزل معي أحدٌ غيرك … ويكفيك ما قمت به.

أحمد: هذا قراري … وأنتظر قرارك.

مصباح: طبعًا، سأغوص معك.

وهنا صاح الشياطين مستنكرين تلك الأحاديث الجانبية بين «أحمد» و«مصباح».

أحمد: إنني سأقوم بمهمة وأعرض على «مصباح» أن يُشاركَني فيها.

ريما: أية مهمة؟

أحمد: تفجير الغواصة التي رأيتموها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤