الفصل السادس عشر

ملك الملوك إذا وهب لا تسألنَّ عن السبب

رضا رجل عصامي فقير، يعمل عامل نظافة في البلدية بمرتَّب بسيط قنع به وشكر ربه عليه؛ إذ كان يقوم بنفقاته ونفقات زوجته الوفية الراضية بحياتها، ونفقات ابنه «سعيد».

لم يستطع رضا تعليم ابنه سعيد؛ إذ كان مُرتَّبه البسيط، لا يكاد يفي باحتياجات الأسرة الضرورية، ولما بلغ سعيد الرابعة عشرة من عمره، اضطر إلى أنْ يعمل صبيًّا عند بائع ثلج، كي يساعد أباه.

بقي سعيد في هذا العمل عدة سنوات، لا يجد عملًا سواه أفضل منه، ولم يرغب بائع الثلج في أنْ يمنحه ولو علاوة بسيطة، وقد كبر لديه في هذا العمل الحقير، حتى بلغت سِنُّه العشرين. وكان سعيد هذا شابًّا قوي البنية، مفتول العضلات كأنه مُصارِع، فارع الطول، ممتلئ الجسم، وزيادة على ما حباه الله به من صحة وقوة، كان جميل المُحَيَّا جمالًا تحسده عليه الإناث قبل الذكور؛ إذ كانت أمه جميلة وأبوه جميلًا رغم فقره.

ذات يوم، بينما كان سعيد يتبوَّل إلى جانب حائط أحد الفنادق الكبرى، تصادف أنْ أبصرَتْه سائحة وهي تطل من نافذة حجرتها بالفندق، فأُعجِبت بجماله وبهاء طلعته، ووجدت نفسها تميل إلى هذا الشاب الوسيم بكل جوارحها ومشاعرها وقلبها، ولكن ماذا بوسعها أنْ تفعل، وهي في الطابق الثاني عشر، وهو على الأرض في الشارع. فلا يمكنها أنْ تناديه أو تتحدث إليه. فظلت تراقبه وتمتع عينيها بالنظر إلى جماله، حتى انتهى سعيد من التبول، وسار في حال سبيله، وأما هي فما زالت تُشيِّعه بنظرها حتى توارى عن بصرها واختفى وهو يدخل شارعًا جانبيًّا.

ابتعدَت تلك السائحة عن النافذة، وجلست في حجرتها تفكر في ذلك الشاب وجماله، وماذا عساها تفعل لكي تصل إليه، إنها لا تعرف اسمه، ولا مهنته حتى تكلف أحد عمال الفندق باستدعائه إليها، ومع ذلك، فلم تغب صورته عن مخيلتها، بقية يومها وطول ليلها … لم تذق عيناها النوم، في تلك الليلة. لا بد لها أنْ تحظى بالحديث مع ذلك الشاب المليح وتُمتع عينيها بالنظر إلى ملامحه الفذة الجمال … هل تسير في الشوارع المحيطة بالفندق حتى تعثر عليه؟ هذا هراء، فمن يدري، ربما كان من منطقة أخرى غير منطقة الفندق.

أصبح الصباح، وهذه السائحة الأجنبية تتقلب في فراشها وهي على أحرَّ من الجمر، والنار تتأجج في جسمها وقلبها بحب ذلك الشاب الذي أبصرته يتبوَّل بجوار الفندق.

سبحان من يحكم التدبير؛ كان لبائع الثلج حساب لدى الفندق الذي تقيم به تلك السائحة الولهانة، فأرسل صَبِيَّه سعيدًا، لإحضار المبلغ من مدير الفندق، وهكذا ذهب سعيد في ذلك الصباح إلى الفندق، فإذا بالسائحة تبصره وهي في القاعة الكبرى، فنهضتْ بسرعة واتَّجهت نحوه، وأشارت إليه بأن يصحبها، فصحبها وهو لا يدري لماذا تريده، ولا إلى أين سيذهب معها.

كان سعيد، بحكم علاقته بالسائحين واحتكاكه بهم، قد تعلَّم بعض الكلمات والعبارات الأجنبية، ولا سيما باللغات الإنجليزية والفرنسية والإيطالية، شأنه في هذا شأن جميع البائِعِين المتجوِّلِين وماسِحي الأحذية وغيرهم من يرتزقون من السائِحِين.

ركب سعيد المصعد مع تلك السائحة، حتى الدور الثاني عشر، ودخل معها حجرتها بحسب طلبها. وما إنْ دخلَا الحجرة حتى أقفلَت السائحة باب الحجرة من الداخل بالمزلاج، وانهالت على سعيد تُقبِّله بحرارة وتضمه إلى صدرها بعنف وشدة.

لم يسبق لسعيد أن التصَق جسمه بجسم أية امرأة. وها هو الآن يجد شَفتَي سيدة جميلة بحق، تلتصقان بشفتيه، وصدرها يلتصق بصدره، فما كان منه إلا أنْ جاراها وهو لا يدري ما يفعله … فأجلسته إلى جانبها على السرير وهي تُوسعه تقبيلًا وعناقًا، وهو يفعل المثل … وحدث ما لا بد منه … وعندما انتهى سعيد من مهمته، لم تدعه يغادر الحجرة … بل طلبت طعام الإفطار ومعه زجاجة من الويسكي، وهكذا تناوَل سعيد إفطارًا لم يَذُق مثله طول حياته وشرب الويسكي لأول مرة، وسَكِر وثَمِل … وعاود الكَرَّة مع تلك السائحة، مرات ومرات، إلى وقت متأخر من الليل.

أرادت تلك السائحة الشهوانية، أنْ يبيت معها سعيد لينهلا معًا من كئوس الحب. ولكنه اعتذر لها بعدم استطاعته التغيب عن بيته ليلًا، وإلا هام أبوه وأمه على وجهيهما يبحثان عنه في جميع الطرقات، فرضيت على مضض أنْ تتركه ينصرف على أنْ يأتي إليها في صباح اليوم التالي … وقدَّمت إليه كيسًا جميلًا من الجلد به عشرون جنيهًا ذهبًا … وانصرف سعيد على هذا الشرط.

قلق رضا وزوجته لتأخُّر ابنهما سعيد عن المجيء إلى البيت حتى هذه الساعة. وساورتهما الشكوك والمخاوف، وهما ساهران، إلى أنْ جاء سعيد. فسألاه عن سبب تأخره، فلم يجب بشيء وإنما قدَّم لأبيه الكيس وبه العشرون قطعة ذهبية. فدهش أبواه، وسألاه عن مصدرها، فطلب أنْ ينتَحِي بأمه جانبًا ليخبرها بذلك.

اختلى سعيد بأمه، فأسرَّ إليها، في صراحة تامة، بكل ما حدث بينه وبين تلك السائحة الفائقة الجمال، ذات الجسم البض الناصع البياض … ولمَّا أخبر والدته بأن العشرين جنيهًا ذهبًا تساوي أكثر من أربعة آلاف جنيه مصري، شَجَّعَته على أنْ يتمادى معها لكي ينال ذهبًا أكثر. ولما أفضت الأم إلى زوجها بحقيقة مصدر تلك النقود، وماذا كان من لهفة السائحة إلى ابنهما سعيد … عرف رضا السبب الحقيقي، فمن شابه أباه فما ظلم، ولكن الأم لم تعرف ذلك السر الخفي.

عاد سعيد إلى السائحة مبكرًا في صباح اليوم التالي، وتكرَّر الدور ولكن على نطاق أوسع حتى جاء المساء، فأخذ العشرين جنيهًا ذهبًا وأعطاها لأبيه، على أنْ يذهب إلى السائحة في صباح كل يوم … وهكذا ظل سعيد يتمتع مع تلك السائحة الجميلة عدة أيام ينال في كل يوم منها نفس المبلغ.

تأكدت هذه السائحة أنها تجد متعة مع سعيد، لم تعهدها قَط مع زوجها الذي مات في العام الماضي، ولا مع أي رجل من مواطنيها الذين عاشرَتْهم بعد موت زوجها. كما تأكدت بأنها لن تستطيع فراقه أو العودة إلى بلدها بدونه … ففاتحته في أنْ يتزوجها، فتصحبه معها إلى بلدها.

ولما كان سعيد نفسه يجد متعة ولذَّة بالِغَتَين في معاشرة هذه السائحة، رغم كونها أكبر منه سنًّا … وافق مبدئيًّا، على أنْ يستشير والديه، فإن وافقا، كان بها ونِعمَت، وإلا فلن يتزوَّجَا … فرأت السائحة صواب قوله، إلا أنها خشيت عدم موافقة الوالِدَين فأخبرَت سعيدًا بأن يذهب من فوره ويحضر والديه إلى الفندق دون أنْ يخبرهما بالغرض من مجيئهما. على أنْ تخبرهما السائحة بما تريده، بطريقتها الخاصة. وكما يقول المثل الإنجليزي: «المفتاح الذهبي يفتح كل باب.»

جاء أبو سعيد وأمه إلى الفندق، فبهرتهما فخامته؛ إذ لم يَدخُلا أي فندق كبير من قبل. ولما جاءت السائحة وسلَّمت عليهما بأدب واحترام فائقَين، دُهِشا لجمالها الفتان وأدركا أنَّ ابنهما سيكون سعيدًا بحق مع هذه الغادة الحسناء.

طلبت السائحة للوالدين الشاي والجاتوه، وبعد أنْ شَربا وأكَلا، أخرجت مائة جنيه ذهبًا ووضعتها أمامهما على المائدة. وطلبت من سعيد أنْ يُترجِم لهما أنَّ هذا المبلغ لهما إنْ وافقا على الزواج.

تشاوَر رضا وزوجته معًا، أمام السائحة وأمام سعيد، أعلمها أنَّ السائحة لن تعرف أية كلمة واحدة مما يتحدثان به، فقرَّرَا أنَّ الزواج بهذه المليحة الثرية فُرصة لا تُعوَّض، هذا من جهة، ومن جهة أخرى ستكون معاشرة سعيد لها حلالًا وشرعية عسى الله أنْ يغفر له ما تقدَّم من ذنبه، بأن عاشرها بضعة أيام في الحرام، وطلبَا من سعيد أنْ يُترجِم لها، أنهما يوافقان على الزواج بشرط واحد، وهو أنْ يأتي سعيد لزيارتهما مرة في كل عام.

وافقَت السائحة على هذا الشرط، وأخذ رضا الذهب، فقالت السائحة: خير البر عاجله، فلنطلُب المأذون الآن ليعقد عقد الزواج، فوافق رضا، كما وافقَت زوجته، وتزوَّج سعيد السائحة بسُنَّة الله ورسوله، وبقي معها.

في صباح اليوم التالي للزواج، ذهبت السائحة إلى سفارة بلدها بالقاهرة، وطلبتْ منهم استخراج جواز سفر لسعيد … فعارَض أولو الأمر بالسفارة بحُجة أنها لا بد أنْ تتزوج من مواطنيها، ولكثير منهم ميزات تُشبِه ما يمتاز به سعيد وجعلها تُؤْثِره على أبناء جِلدتِها. فقالت لهم: ما من رجل من مواطنِيَّ كسعيد، إنَّ به ميزة لو أبصرَتْها نساؤكم، لتمنَّت كل واحدة منهن أنْ يكون لها منه ولد.

اضطر المسئولون بالسفارة إلى إجابة السائحة إلى مَطلبِها؛ إذ هددتهم بأنها، في حالة عدم السماح لسعيد بالسفر معها إلى بلدها، ستبيع كل ممتلكاتها هناك وتعيش بمصر مع سعيد بعد أنْ تعطيه كل ما تملك.

ذهب رضا وزوجته إلى المطار لتوديع ابنهما وعروسه، وفي المطار أعطت السائحة والد سعيد معظم ما كان معها من نقود ذهبية، كما أعطت الأم، كل ما كانت تتحلَّى به من مجوهرات؛ إذ كانت هذه السائحة واسعة الغنى … وهكذا رحل سعيد وعروسه سعيدَين.

من نافلة القول، أنْ نذكر أنَّ رضا، والد سعيد، ترك عمله بالبلدية. فلم يعد بحاجة إلى القروش التي يتقاضاها كل شهر … وسبحان المعطي؛ إذ غدَا من أصحاب ألوف الجنيهات.

انتقلت أسرة رضا المكوَّنة منه ومن زوجته ومن ثلاث بنات كُبْرَاهن في السادسة من عمرها، إلى شقة اشترياها في عمارة ضخمة بحي راقٍ. وخصَّصا فيها حجرة لسعيد عندما يحضر لزيارتهما مع زوجته في كل عام … وأثَّثا تلك الشقة بأثاث فخم يتناسب ومركزهما الحالي. وافتتح رضا متجرًا لمستخرجَات الألبان، بنفس الحي الذي يسكن فيه. بعد عام، جاء سعيد وزوجته الفاتنة لزيارة أبيه وأمه وأخواته، وأحضرَا معهما الكثير من الهدايا، مما خفَّ حَمْله وغلا ثمنه. وبقيا بالقاهرة أسبوعين.

هكذا كان سعيد وزوجته يحضران في كل سنة، وفي عاشر مرة، تُوفِّيت زوجة سعيد بالقاهرة أثناء الزيارة، فدفنها.

كانتْ زوجة سعيد الأجنبية قد ذكرت في وصيتها أنَّ سعيدًا هو وارثها الوحيد، فسافر سعيد إلى بلدها وباع جميع ممتلكاتها هناك وجاء بثمنها إلى مصر، فاشترى مزرعة كبيرة لتربية الماشية ومصنعًا ضخمًا لمستخرَجات الألبان.

بعد مرور عام على وفاة زوجة سعيد الأجنبية تزوَّج سعيد ابنة عمه بعد أنْ تخرَّجت في كلية الزراعة، قسم إنتاج حيواني؛ وجعلَها تدير مصنع الألبان بينما يتفرَّغ هو للمزرعة.

استطاع رضا تعليم بناته حتى تخرَّجْن في الكليات النظرية والعملية، وتزَوَّجن أزواجًا ذوي مراكز سامية. وهكذا:

ملك الملوك إذا وهب
لا تسألَنَّ عن السبب
الله يفعل ما يشا
ء فقِفْ على حد الأدب

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤