الفصل التاسع

جسد بلا قلب

كنتُ نائمًا، في عز النوم، ذات ليلة، فإذا بجرس التليفون يرن بلا هوادة، فأيقظني من أحلى نومة، فنهضتُ مفزوعًا وأمسكتُ السَّمَّاعة.

– ألو … أنت نائم؟

– نعم، نائم … فالساعة تقترب من الرابعة صباحًا … مَن أنتِ، يا ذات الصوت العذب هذا؟ وماذا تبغين من إيقاظي في هذا الوقت المبكر، وكنت أرى حلمًا جميلًا؟

– لا بد أنكَ رأيتَني في ذلك الحلم، وها أنتَ تعترف بعذوبة صوتي، فلا بد أنْ أكون جميلة حقًّا. وعلى أية حال … ألم تعرفني حتى الآن؟

– للأسف، يا هانم! فرغم صوتك الموسيقي، فإنه غريب عليَّ، لم أسمعه من قبل … من تكونين، يا ذات الصوت الذي له هذا الرنين؟

– أنا نرمين.

– ومن تكون هذه النرمين؟

– نرمين، التي كنتَ تُقبِّل قدميها قبل يديها، كي تَمُن عليك بنظرة أو تمنحك ابتسامة، أو تسمعك كلمة … هل نسيتَني؟

– كلَّا … لم أنسكِ … تذكرتكِ الآن، يا غالية … يا أغلى أنثى وقعتْ عليها عيناي … وأحلى مخلوق قبَّلَته شفتاي … وذات أعذب صوت سمعته أذناي.

– وهل ما زلتُ غالية عندك حتى الآن؟

– بل أغلى من زمان … كانت أيامكِ كلها هناء وسعادة ونعيم مقيم … فكم نَهلْنا من كئوس الحب، وكم شربنا من خمر الغرام والهيام … كانت قُبُلاتك ألذ من طعم غزل البنات، ورُضابك أحلى من الشربات، وصوتك أعذب الأصوات، وكم سعدتُ بعناقك في أجمل الأوقات، وقضينا معًا أمتع الساعات … فكيف حالك الآن، يا أحلى الفتيات؟

– أنا الآن في إجازة، جئت أقضيها في القاهرة مع ابنتيَّ: ريم ورشا.

– وماذا عن زوجكِ الكريم؟

– زوجي في عمَلِه بفرنسا … تركتُه لأزور والدتي المُسنَّة، وإخوتي وأخواتي.

المهم: كيف حالُ قلبكَ العزيز؟

– كان قلبي معكِ طوال السنين الماضية … إنني أعيش على الذِّكريات، ولا أنسى الأيام السعيدة التي قضيناها معًا ننهل من كئوس الحب … نحظى بالعناق اللذيذ والقُبلات الحلوة.

– نعم … وأنا لا أنسى الليالي الهنيئة التي تمتع فيها كل منا بالآخَر … وهكذا كان قلبي معكَ، لا يمكنه أنْ ينساكِ أو ينسى حبكَ الذي فاق كل حب.

– أنتِ تبالغين، يا نرمين. أغلب الظن، أنكِ تحاولين أنْ تجامليني.

– إنْ كان الأمر كما تزعم، فلماذا أجهدتُ نفسي بحثًا، حتى عثرتُ على رقم تليفونك. وآثرتُ أنْ أكلمك في المواعيد التي كنا نفضلها، أيام سعادتنا سويًّا … أقسم لكَ بأغلظ الأيمان، وبكل عزيز عليَّ، أنَّ قلبي لكَ وحدكَ … وعلى فكرة، أين قلبُكَ الآن؟

– لن تصدقيني، إنْ قلتُ لكِ، إنَّني أعيش بلا قلب … إذ تخلصتُ منه، وألغيتُ وجوده … إنني جسد بلا قلب.

– وهل فقدتَ قلبكَ الكبير بمثل هذه السهولة؟

– ومن أنبأكِ بأنني فقدتُه بسهولة؟ لقد فقدتُه بعد عذاب طويل، وألم الحرمان والجوع والعطش.

– هل أصابكَ الجدب والقحط من بعدي؟

– هو ذلكَ، يا نرمين، يا ألذ العالمين … من بعد قلبك، لم أجد قلبًا … ومن بعد حبكِ لم أذق حبًّا … ومن بعد حنانكِ لم أعثر على حنان صادق … ومن بعد فمكِ الحلو، لم ألق فمًا عذبًا يشبعني ويرويني.

– إنني لأصدقكَ في كل ما تقول … فما حدث لكَ حدث لي أنا أيضًا.

– هل أفهم من هذا، أنَّ الجدب الذي لحقني لحقكِ أنتِ أيضًا … والجوع الذي حط عليَّ، حط عليكِ … لا أصدق أن يحدث لكِ هذا، يا نرمين!

– صدِّقْني … فحبُّنا لم يكن لهدف، رغم أنَّكَ أصبتَ الهدف … ولم يكن لمأرب، ولو أنكَ نِلتَ مني كل مأرب … كان هو حبي الأول … وما الحب إلا للحبيب الأول … وكما قال الشاعر:

كم منزل في الحي يألَفُه الفتى
وحنينه أبدًا لأول منزل

إنه حبي الصادق الثابت. حب عميق من أبعد أغوار القلب.

– كان هذا شأن حبكِ، ومكانه من قلبي … لذا مات قلبي بمجرد زواجكِ المفاجئ، وسفركِ على الفور لتُغادري أرض الوطن لمدة تزيد على ربع قرن.

– حكمَتْ عليَّ الظروف القاسية بالاغتراب القاتل، وترْك الحبيب والحب … وهناك تعذَّبْت، لا أهنأ بنوم، ولا براحة … كنتُ كمن يفترش المَدَر، ويستند الحَجَر، مُكرهًا على السفر … أَئنُّ ولا أجد مَن يسمع أنيني … أَتوجَّع بمئات الآهات، وأحرص على ألا يسمعها أحد … وجدت مَشقَّة عظيمة، وصعوبة بالغة، في كبْت عواطفي ومشاعري التي تَفتَّحت على خفقات قلبكِ، وتألَّقَت على ومَضات عينيك.

– للأسف الشديد، مات كل شيء … ماتتِ الخفقات … وتلاشَت الومضات. وأعيش الآن على الآهات، فلا أجد مَن يسمعها … حتى الفضاء، يأبى أنْ يُردِّد صداها … وأخيرًا، وَخَط الشيب رأسي، وابيضَّ فَوْدِي الأسود، واسود يَومِي الأبيض.

– هكذا حدَث لي … ظهرتِ الشعيرات البيضاء، وبدأَتْ تغزو رأسي الذي امتلأ بالملح والفلفل.

ولَّى الزمان، وذهب الشباب، وعلينا أنْ نَجترَّ الآلام وحُرقة الفراق وقسوته:

ذهب الشَّباب فما له من عودة
وأتى المَشيبُ فأين منه المهرب؟

– ألا يمكن لحبنا أنْ يعود؟

– لا أعتقد، يا نرمين.

– ولمَ لا؟

– لم أَعُد صالحًا لحب غير مضمون … آليتُ على نفسي، أنْ أظل العمر كله أعزب، وأعيش من بعدكِ وحيدًا … أما أنتِ، فمعكِ رجل، ومعكِ بنات، ومن حقكِ أنْ تعيشي لأجلهم، وتتمتعي بهم، وتنسيني تمامًا … فالماضي لا يعود، وكفى ما كان.

– لكَ أنْ تنساني، أما أنا فلن أنساك، ولن أنسى شخصيتك الرائعة الفَذَّة … والآن: وداعًا، مع أطيب التمنيات.

– ولكِ أيضًا، أطيب دعواتي وأمنياتي … لك قُبلة أخيرة كنتُ أدخرها حتى يأتي يومها … وجاء اليوم، فأدفعها لصاحبتها، والحمد لله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤