الفصل الرابع

قلب المادة

يستعرض هذا الفصل الكواركات العلوية والسفلية، والإلكترونات، والنيوترينو الشبحي، والدور الذي تلعبه هذه الجسيمات، وكيف أن كتلتها وغيرها من السمات الأخرى الخاصة بها ذات أهمية محورية للحياة، والكون، لكن ليس لكل شيء. كما يستعرض الفصل الأشعة الكونية والأدلة على وجود أشكال غير أرضية من المادة لا توجد على نحو طبيعي على الأرض، كما يستعرض النيوترينوات من حيث إنتاجها داخل الشمس والنجوم، وعلم فلك النيوترينوات.

***

وصفنا كيف تحقَّقَ اكتشافُ البنية الذرية واكتشاف البروتون منذ قرن مضى نتيجة تشتُّت حزم الجسيمات العالية الطاقة المصطدمة بها. ومع ذلك، في حالة كلٍّ من الذرة والبروتون، جاءت أولى الدلائل على وجود بنية داخلية في وقت مبكر عن ذلك، من اكتشاف الأطياف.

كانت أولى الدلائل على وجود الإلكترونات داخل الذرة هي اكتشاف أن العناصر الذرية تبعث الضوء بأطوال موجية متمايزة تتجسد — على سبيل المثال — على صورة ألوان متباينة بدلًا من المدى الكامل لألوان قوس قزح، وهو ما يُطلَق عليه الخطوط الطيفية. نعرف في وقتنا الحالي أن ميكانيكا الكم تقصر حالات حركة الإلكترونات داخل الذرات في مجموعة منفصلة، وكل حالة لها مقدار محدَّد من شدة الطاقة. حين تكون الذرة في أدنى طاقة إجمالية لها يُعرَف هذا الوضع باسم «الحالة القاعية»، بينما جميع الأوضاع الأخرى تكون مستويات الطاقة فيها أكبر وتُعرَف باسم «حالات الإثارة». تنتج الأطياف الذرية عن إشعاع الضوء أو امتصاصه عندما تقفز إلكترونات هذه الذرات بين حالات الإثارة المختلفة، أو بين حالة الإثارة والحالة القاعية. تظل الطاقة الإجمالية محفوظة، والفارق في الطاقة بين الحالتين الذريتين يساوي طاقة الفوتون الذي جرى إطلاقه أو امتصاصه خلال العملية. وقد كشفت أطياف هذه الفوتونات عن الفوارق بين مستويات الطاقة هذه للذرة، ومن هذه المجموعة الثرية من البيانات أمكن استنتاج صورة لمستويات الطاقة. وهكذا فسَّرَ تطوُّر ميكانيكا الكم كيفية ظهور أنماط مستويات الطاقة: فهي تتحدَّد وفق طبيعة القوى الكهربية والمغناطيسية التي تربط الإلكترون بالنواة المركزية؛ وتحديدًا في حالة أبسط الذرات — الهيدروجين — ترتبط عن كثب بحقيقة أن شدة القوة الكهربية بين الإلكترون والبروتون تتناقص بالتناسب مع مربع المسافة بينهما.

وقعت مجموعة مشابهة من الظروف في حالة البروتون؛ فحين أُجرِيت أولى تجارب «مهشمات الذرات» في خمسينيات القرن العشرين وستينياته، اكتُشِفت العديد من الجسيمات المشابهة للبروتون لكنها أثقل وقصيرة العمر، وتُعرَف باسم «التجاوبات» أو الرنين. ظهر نطاق كامل من الحالات، وبالنظر للأمر من منظورنا الحالي يبدو من البديهي وجود أدلة على أن البروتون والنيوترون نظمًا تتألف — كما نعرف الآن — من الكواركات، إلا أن الأمر لم يكن بمثل هذا الوضوح وقتها. إن حركة هذه الكواركات هي التي تمنح البروتونات والنيوترونات أحجامها، تمامًا مثلما تحدِّد حركة الإلكترونات حجم الذرات. أيضًا الكواركات هي التي تزوِّد البروتونات والنيوترونات بشحناتها الكهربية وخواصها المغناطيسية. ورغم أن الشحنات الكهربية للكواركات التي تؤلِّف النيوترونات يكون مجموعها في النهاية صفرًا، إلا أن مغناطيسيتها المنفردة لا تتلاشى، وهو ما يؤدي إلى وجود العزم المغناطيسي للنيوترون. فقط حين تكون الكواركات في الحالة الأدنى من الطاقة ينشأ الترتيب الذي نسميه البروتون أو النيوترون، أما لو جرى استثارة كوارك واحد أو أكثر إلى مستوى أعلى من الطاقة داخل نطاق الجهد الكهربي الذي يربط بينها، فسيتكون أحد التجاوبات القصيرة العمر ذو طاقة الوضع — أو الكتلة — الأكبر بالتكافؤ مع مقدار الاستثارة. وهكذا تكون الدراسة الطيفية لحالات التجاوبات القصيرة العمر ناتجة عن استثارة الكواركات المؤلفة للبروتونات.

إلى هنا والأمر يشبه ما حدث مع الذرة، بَيْدَ أن هناك اختلافات مهمة؛ فحين تُزوَّد الإلكترونات بالمزيد والمزيد من الطاقة، فإنها ترتفع إلى مستويات أعلى من الطاقة، وفي نهاية المطاف تندفع خارجةً من الذرة، وفي هذا السيناريو نقول إن الذرة «مؤينة». في الفصل الثاني رأينا كيف أن درجة حرارة قدرها ١٠٤ درجات كلفينية توفِّر الطاقة الكافية لتأيين الذرات، كما الحال داخل الشمس. في حالة البروتون، حين يُقصَف بطاقات عالية، ترتفع كواركاته إلى مستويات أعلى، وتُرَى التجاوبات القصيرة العمر. هذه الطاقة تنطلق بسرعة، من خلال انبعاث فوتونات أو جسيمات أخرى — كما سنرى — وتتحلل حالة التجاوب ويعود البروتون أو النيوترون مجدَّدًا إلى حالته الأصلية. لم يسبق أن نجح أحد في تأيين بروتون وحرَّر أحد الكواركات المكوِّنة له على نحو منفصل؛ إذ تبدو الكواركات كما لو أنها محتواة على نحو دائم في مساحة قدرها ١٠−١٥ أمتار؛ أي «حجم» البروتون. خلا ذلك، وهو ما ينتج عن طبيعة القوى بين الكواركات، تتشابه القصة نوعيًّا مع قصة الإلكترونات داخل الذرة. فالمستويات المستثارة قصيرة العمر، وتطلق طاقة زائدة، عادةً على صورة فوتونات أشعة جاما، ثم تعود مجدَّدًا إلى الحالة القاعية (بروتون أو نيوترون). وعلى نحو معاكس، يمكننا استثارة إحدى حالات التجاوب هذه من خلال تشتيت الإلكترونات من البروتونات أو النيوترونات.

آخِر أجزاء التشبيه جاءتنا عام ١٩٧٠. فقد تشتتت حِزَم الإلكترونات — التي تم تعجيلها وصولًا إلى طاقات مقدارها ٢٠ جيجا إلكترون فولت — بعد اصطدامها بالبروتونات في ستانفورد بكاليفورنيا. وعلى نحو مشابه لما حدث مع رذرفورد منذ نصف قرن، لوحظ أن الإلكترونات تتشتت عبر زوايا كبيرة. وهذه نتيجة مباشِرة لاصطدام الإلكترونات بالكواركات، الجسيمات الأساسية شبه النقطية التي تتألف منها البروتونات.

خلال الثلاثين عامًا التالية جرى التوسُّع في هذه التجارب إلى طاقات أعلى، وأحدثها ما تم في معجل الهادرونات والإلكترونات (هيرا) في هامبورج بألمانيا. وقد منحتنا صور البروتونات العالية الدقة الناتجة فِكَرًا أساسية بشأن طبيعة القوى التي تربط بين الكواركات بعضها ببعض، وقد أدى هذا إلى ظهور نظرية للكواركات تُعرَف باسم نظرية الديناميكا اللونية الكهربية، وسنعرف عنها المزيد في الفصل السابع. وقد نجحت قدرة هذه النظرية على وصف تفاعلات الكواركات والجلوونات على مسافات تقل عن ١٠−١٦ أمتار في اجتياز كل اختبار تجريبي.

كواركات ذات نكهات

يكفي تجمُّع ثلاثة كواركات معًا لتكوين البروتون أو النيوترون، وهناك نوعان مختلفان (أو «نكهتان») للكواركات مطلوبان من أجل تكوين البروتون أو النيوترون؛ وهما يُعرَفان بالكواركات العلوية والسفلية (وعادةً ما يشار لهما بالاختصارين و على الترتيب). ويتكون البروتون من كواركين علويين وثالث سفلي، فيما يتكون النيوترون من كواركين سفليين وثالث علوي.

للكواركات شحنات كهربية. ويحمل الكوارك العلوي شحنة مقدارها ٢ / ٣ من الشحنة (الموجبة) للبروتون، فيما يحمل الكوارك السفلي شحنة قدرها −١ / ٣ (أي شحنة سالبة). ومن ثَمَّ فإن الشحنة الكهربية الإجمالية للبروتون أو النيوترون هي مجموع الشحنات المنفردة للكواركات، وهكذا فإن البروتون (كواركان علويان وكوارك سفلي) يساوي ٢ / ٣ + ٢ / ٣ − ١ / ٣ = +١، أما النيوترون (كواركان سفليان وكوارك علوي) فيساوي −١ / ٣ − ١ / ٣ + ٢ / ٣ = ٠.

جدول ٤-١: خصائص الكواركات العلوية والسفلية.
الكوارك علوي سفلي
الشحنة +٢ / ٣ −١ / ٣
ك × س٢ (ميجا إلكترون فولت) ٤ ٥
اللف المغزلي ١ / ٢ ١ / ٢
للجسيمات زخم زاوي ذاتي، ويُطلَق عليه اسم «اللف المغزلي»، ويقاس مقدار اللف المغزلي بوحدات ثابت بلانك، ، مقسومة على ، ومتى استخدمت هذه الصيغة في عموم الفيزياء الذرية وفيزياء الجسيمات، يشار إليها بالرمز . ويملك كلٌّ من البروتونات والنيوترونات والكواركات من اللف المغزلي المقدار ، أو اختصارًا «لف مغزلي قدره ١ / ٢».
يمكن جمع اللف المغزلي أو طرحه ما دام الناتج ليس سالبًا؛ لذا الجمع بين جسيمين لكلٍّ منهما لف مغزلي قدره ١ / ٢ ينتج عنه إما صفر أو ١، بينما الجمع بين ثلاثة كواركات ينتج عنه إما ١ / ٢ أو ٣ / ٢. للبروتون والنيوترون لف مغزلي قدره ١ / ٢، وهو ناتج عن اتحاد اللف المغزلي لثلاثة كواركات وفق الصيغة السالف ذكرها. وحين تتحد الكواركات بإجمالي لف مغزلي قدره ٣ / ٢، تكون طاقتها الإجمالية أكبر بنحو طفيف، وهذا ينتج عنه تكوُّن الجسيمات القصيرة العمر المعروفة باسم «التجاوبات »، والتي تملك نحو ٣٠٪ إضافية من الكتلة مقارَنَةً بالبروتون أو النيوترون، وهي تعيش لأقل من ١٠−٢٣ ثوانٍ قبل أن تتحلل ثانية إلى البروتونات والنيوترونات الأكثر استقرارًا. (١٠−٢٣ ثوانٍ هو وقت قصير لدرجة يستحيل تصوُّرها، لكنه تقريبًا الوقت الذي يستغرقه الضوء في اجتياز نواة ذرة وحيدة.) تسمح قواعد ميكانيكا الكم (مبدأ الاستبعاد لباولي) فقط لارتباطات معينة أن تحدث بين مقادير اللف المغزلي ونكهات الكواركات، وهذا هو ما يمنع ثلاثة كواركات علوية أو سفلية «متطابقة» من الاتحاد بحيث يكون صافي لفها المغزلي ١ / ٢، ومن ثَمَّ لا يوجد أشقاء للبروتون والنيوترون بشحنة قدرها +٢ أو −١ مكوَّنَة على الترتيب من ثلاثة كواركات علوية أو ثلاثة كواركات سفلية. على النقيض، حين تتحد ثلاثة كواركات بلف مغزلي قدره ٣ / ٢، يُسمَح لثلاث «نكهات» متطابقة من الكواركات بالاتحاد معًا؛ ومن هنا توجد أمثلة على اتحاد ثلاثة كواركات علوية ، وثلاثة كواركات سفلية (يشير الرمزان العلويان إلى شحنتيهما الكهربيتين). التفاصيل الكاملة للكيفية التي تظهر بها هذه الارتباطات تتضمن خواصَّ للكواركات تحكم القوى الشديدة التي تربط بين الكواركات (انظر الفصل السابع)، بَيْدَ أنها تخرج عن نطاق هذه المقدمة الوجيزة.
fig6
شكل ٤-١: اللف المغزلي للكواركات وكيف تتحد.

تبلغ كتلة الكواركات المنفردة نحو عشرة أضعاف كتلة الإلكترون. وبما أن البروتون والنيوترون لهما كتلة متشابهة — تبلغ نحو ألفي مرة قدر كتلة الإلكترون — ثمة سؤالان علينا الإجابة عنهما؛ الأول: كيف يحصل البروتون والنيوترون على هذه الكتلة الضخمة؟ والثاني: هل كتل هذه الكواركات، التي يمكن اعتبارها مماثلة لكتلة الإلكترون، تشير إلى وجود نوع من الوحدة العميقة بين المكونات الأساسية للمادة؟

تتحد الكواركات بعضها ببعض بإحكام، وتبقى على الدوام في مجموعات ثلاثية كتلك التي تكون الجسيم الذي نسميه البروتون. لم يحدث قطُّ أن عُزِل أحد الكواركات عن رفاقه، وعالم الكواركات يمتد فقط لمسافة ١٠−١٥ أمتار التي هي مساحة حجم البروتون، وهذا الاحتجاز داخل «الفمتو كَوْن» البالغ حجمه ١٠−١٥ أمتار والذي نسميه البروتون، هو ما يمنح الكواركات طاقتها الإجمالية البالغة نحو ٩٣٨ ميجا إلكترون فولت، والتي هي كتلة البروتون. رأينا كيف أن ثمة علاقة بين الأطوال والطاقة، وأن المسافات في نطاق ١٠−١٥ أمتار تكافئها طاقة قدرها نحو ١ جيجا إلكترون فولت. علاقة التكافؤ الفعلية ذات الصلة هنا تتضمن عوامل قدرها ٢ و ، وهو ما يخرج بنا عن نطاق هذه المقدمة الوجيزة، لكن النتيجة هي أن الكوارك العلوي أو السفلي — الذي إن تُرِك وحيدًا ستكون طاقته بضعة ميجا إلكترون فولت — حين ينحصر داخل الفمتو كَوْن البالغ حجمه ١٠−١٥ أمتار ستكون طاقته نحو ٢٠٠ إلى ٣٠٠ ميجا إلكترون فولت. إن الكواركات تتفاعل بقوة مع بعضها (ويجب أن يكون الأمر كذلك لأنه لا مهرب لها!) والتفاصيل الكاملة للكيفية التي صارت بها كتلة البروتون ٩٣٨٫٤ ميجا إلكترون فولت تحديدًا تقع خارج نطاق أي نظرية نملكها في الوقت الحالي.
الكوارك السفلي أكبر من الكوارك العلوي بنحو بضعة ميجا إلكترون فولت. لا نعلم سبب هذا (في الواقع، لا نعلم السبب وراء امتلاك هذه الجسيمات الأساسية، بما فيها الإلكترونات، لمقادير الكتل التي تملكها)، لكن هذا يفسِّر سبب كون النيوترون أكبر قليلًا من البروتون. إن التجمُّع الثلاثي لكواركين علويين وكوارك سفلي (البروتون)، والتجمع الثلاثي لكواركين سفليين وكوارك علوي (النيوترون)، سيكون له كتلة قدرها نحو ١ جيجا إلكترون فولت، وذلك بفضل انحباس الكواركات داخل منطقة مساحتها ١٠−١٥ أمتار. ستكون هناك اختلافات في نطاق ١ ميجا إلكترون فولت نتيجة لخاصيتين: (١) أن النيوترون به كوارك سفلي إضافي على حساب كوارك علوي مقارَنَةً بالبروتون، والكتلة الأكبر بهذا الكوارك السفلي تمنح النيوترون إجمالًا كتلةً أكبر من الثلاثي المكافئ المكون للبروتون. (٢) القوى الكهروستاتيكية بين كواركين علويين وكوارك سفلي (كما في البروتون) ستختلف عن تلك الموجودة بين كواركين سفليين وكوارك علوي (كما في النيوترون). هذه الاختلافات أيضًا تسهم في الطاقة الإجمالية في نطاق الميجا إلكترون فولت؛ وبهذا يكون فارق الكتلة بين النيوترون والبروتون (١٫٣ ميجا إلكترون فولت من واقع التجارب) راجعًا إلى القوى الكهروستاتيكية بين الكواركات المكونة لكلٍّ منهما، والكتلة الذاتية الأكبر للكوارك السفلي مقارنة بنظيره العلوي.

الكواركين العلوي والسفلي أشقاء في عائلة الكواركات، لكن الإلكترون لا يتكوَّن من كواركات، وفي حدود علمنا هو جسيم أساسي شأنه شأن الكوارك، وبهذا ينتمي الإلكترون إلى عائلة مختلفة، تُعرَف باللبتونات. ومثلما يتجمع الكواركان العلوي والسفلي معًا، بفارق قدره وحدة واحدة بين شحنتيهما الكهربيتين (بمعنى أن +٢ / ٣ − (−١ / ٣) = ١)، فالإلكترون أيضًا له شقيق تختلف شحنته الكهربية عن شحنة الإلكترون بمقدار وحدة واحدة فقط. هذا الجسيم، عديم الشحنة الكهربية، يُعرَف باسم «النيوترينو».

تُنتَج النيوترينوات في عمليات التحلُّل الإشعاعي للعديد من الأنوية الذرية. ففي هذه العمليات، تظهر النيوترينوات إلى جانب أشقائها الإلكترونات. على سبيل المثال، ما دام النيوترون ليس حبيسًا داخل نواة، فإنه يتحوَّل إلى بروتون من خلال إطلاق إلكترون ونيوترينو خلال هذه العملية. يُطلَق على هذا اسم تحلُّل بيتا، حيث ينتج عدم استقرار النيوترون عن امتلاكه كتلة أكبر قليلًا من كتلة البروتون. تسعى الطبيعة للوصول إلى حالات الطاقة الأدنى، وهو ما يُترجَم في هذه الحالة إلى حالة الكتلة الأدنى. إن مقدار الكتلة الزائد الذي يملكه النيوترون هو الذي يجعله غير مستقر (قليلًا) حين يُترَك منفردًا. وإذا امتلكت مجموعة كبيرة من النيوترونات، كلٌّ منها حرٌّ عن الآخَرين، فبعد حوالي عشر دقائق سيتحلل نصفها بفعل نشاط بيتا الإشعاعي. وإذا أشرنا إلى النيوترون والبروتون بالرمزين و على الترتيب، وإلى الإلكترون والنيوترينو بالرمزين و ، يمكن تلخيص تحلُّل بيتا للنيوترون بالمعادلة التالية:
fig7
شكل ٤-٢: تحلُّل بيتا للنيوترون.
ليس للنيوترون شحنة كهربية إجمالًا، ويظل الوضع كذلك في تحلُّل بيتا؛ إذ يملك البروتون وحدة واحدة موجبة، تعادِل شحنة الإلكترون السالبة. والبروتون، الذي هو أخفُّ حالة مكونة من ثلاثة كواركات، يتسم بالاستقرار (أو على الأقل إذا كانت البروتونات غير مستقرة، فإن متوسط أعمارها أكبر من ١٠٣٢ أعوام!)

النيوترينو

إضافة إلى عدم امتلاكه شحنة كهربية، لا يملك النيوترينو أي كتلة، وهو يخترق كل شيء تقريبًا. فالنيوترينوات، التي لا تتأثر بأيٍّ من القوى العاملة داخل المادة الكثيفة، يصعب للغاية كشفها، وهي فعليًّا أكثر الجسيمات انعدامًا للتأثير قاطبة.

النيوترينو هو أول «حفرية» متخلفة عن الانفجار العظيم، وهو رسول آتٍ من أولى العمليات التي جرت في الكون. تحدِّد النيوترينوات مدى السرعة التي يتمدَّد بها الكون، وقد تحدِّد أيضًا مصيره النهائي. في النجوم كالشمس، تلعب النيوترينوات دورًا أساسيًّا في تكوين العناصر الثقيلة الضرورية للحياة. تحصل الشمس على طاقتها عن طريق اندماج البروتونات المتلاطمة قرب مركزها، بحيث تتَّحد مكوِّنة أنوية الهليوم، وخلال هذه العملية تتحول بعض البروتونات إلى نيوترونات بواسطة أحد أنواع نشاط بيتا الإشعاعي، وتنبعث النيوترينوات خلال هذه العملية. والتأثير هائل: فالنيوترينوات تُنتَج داخل الشمس بمعدل قدره ٢ × ١٠٣٨ كل ثانية؛ هذا يعني الرقم اثنين متبوعًا بثمانية وثلاثين صفرًا، وليس بإمكاني حتى أن أتخيَّل كيف أمنحك فكرةً عن مدى ضخامة هذا الرقم، فهو أشبه في ضخامته بحجم الكون الإجمالي مقارنةً بحجم ذرة وحيدة. هذه النيوترينوات تندفع إلى الفضاء والعديد منها يضرب الأرض، وخلال كل ثانية تمر تخترق أجسادنا جميعًا نحو ٤٠٠ مليار من النيوترينوات الآتية من الشمس.

أيضًا يتسبَّب النشاط الإشعاعي الطبيعي للعناصر على الأرض، على غرار اليورانيوم، في تحرير النيوترينوات؛ إذ يضربنا منها نحو ٥٠ مليار جسيم كل ثانية، وهكذا تنتج الشمس مقدارًا عظيمًا من النيوترينوات؛ إذ يصلنا منها كل ثانية بعد الانتشار عبر مسافة قدرها ١٠٠ مليون كيلومتر نحو ثمانية أضعاف المقدار الذي يأتينا من تحت أقدامنا هنا على الأرض. نحن أيضًا نشارك في النشاط الإشعاعي (بصفة أساسية من خلال عمليات تحلُّل البوتاسيوم في عظامنا) ونطلق نحو ٤٠٠ نيوترينو كل ثانية.

إجمالًا، النيوترينوات هي أكثر الجسيمات شيوعًا على الإطلاق، بل إن ما يطير منها في أرجاء الكون يزيد في عدده عن الفوتونات؛ الجسيمات الأساسية للضوء.

وهي أيضًا شائعة لدرجة أن كتلتها يمكنها التأثير على جاذبية الكون. لو أن للنيوترينوات كتلة، فهي ضئيلة للغاية لدرجة أنه لم يستطع أحد إلى اليوم قياسها، لكن هناك سُبُلًا آخذة في الظهور توحي بإمكانية عمل ذلك (موصوفة في الفصل العاشر).

النيوترينوات الآتية من الشمس تخترق المادة دون ممانعة تقريبًا، ولهذا يخترق منها أسرَّتنا في الليل عددٌ مماثلٌ لما يخترق أجسامنا في ضوء النهار. وبمقدور النيوترينو أن يخترق مسافةً قدرها سنة ضوئية من مادة الرصاص دون أن يرتطم بشيء. هذه الخاصية للنيوترينوات عادةً ما تُذكَر في المقالات العامة، وهذا يجعل السؤال البديهي التالي يقفز إلى عقولنا: كيف نتمكن من الكشف عنها؟ والجواب هو أن ثمة شيئين يساعداننا في هذه المهمة.

الشيء الأول هو استخدام مصادر ضخمة للغاية للنيوترينوات بحيث تعمل الصدفة مفعولها ويرتطم نيوترينو أو اثنان بالذرات الموجودة في الكاشف ويتم تسجيلهما. فرغم أن النيوترينو الوحيد قد يتفاعل مع المادة مرة واحدة كل وقت طويل (أو كل سنة ضوئية)، فإن الشمس تنتج من النيوترينوات عددًا ضخمًا يجعل عامل الصدفة يعمل في صالحنا. قد لا أملك أنا أو تملك أنت فرصة الفوز في اليانصيب، لكن إذا شارَكَ في السَّحْب عددٌ كبير من الأفراد فسيكون الحظ حليف أحدهم. وفي وجود عدد كبير من النيوترينوات مسلَّط علينا، سيرتطم بعضها بالذرات في طريقه. وهكذا باستخدام وعاء كبير بما يكفي من المادة — من الماء أو الحديد أو حتى سوائل التنظيف (الكلور على الأخص مفيد في الكشف عن النيوترينوات) — أمكن الكشف عن بعض النيوترينوات العرضية الآتية من الشمس. وثمة علم جديد يُسمَّى علم فلك النيوترينوات آخِذ حاليًّا في البزوغ. وقد كشف هذا العلم بالفعل عن أن النيوترينوات الفعلية الآتية من الشمس عددها أقل مما قد يقودنا فهمنا للشمس إلى توقُّعه، إلا أن الشمس ليست هي المشكلة؛ إذ يبدو أن شيئًا ما يحدث للنيوترينوات وهي في الطريق، وسنستعرض هذا في الفصل العاشر.

الخاصية الثانية التي تساعدنا هي أن النيوترينوات «خجولة» على مستوى الطاقات المنخفضة فقط، كتلك التي تطلقها الشمس. وعلى النقيض، النيوترينوات ذات الطاقة العالية (كالتي تُنتَج في بعض العمليات الكونية أو في معجلات الجسيمات العالية الطاقة) لها ميل أكبر بكثير للكشف عن نفسها؛ وهكذا تمكَّنَّا داخل المعجلات عالية الطاقة من إنتاج النيوترينوات ودراستها تفصيليًّا. وهنا أيضًا حصلنا على أول التلميحات على أن للنيوترينوات كتلة صغيرة غير صفرية، وقد يجعلنا هذا نعيد التفكير في أفكارنا الخاصة بعلم الكونيات.

الجسيمات المضادة

الكواركات والإلكترونات هي البذور الأساسية للذرات، وللمادة كما نعرفها. لكن ليست هذه القصة كلها؛ إذ توجد أيضًا صورة معكوسة من الجسيمات تُعرَف بالجسيمات المضادة، التي هي أصل المادة المضادة. لكل نوع من الجسيمات جسيم «مضاد» خاص به: جسيم له نفس الكتلة واللف المغزلي والحجم ومقدار الشحنة الكهربية التي يحملها الجسيم الأصلي، لكن الشحنة الكهربية تكون معكوسة. وهكذا، على سبيل المثال، نجد أن للإلكترون السالب الشحنة إلكترونًا مضادًّا موجبَ الشحنة، يُعرَف باسم «البوزيترون»، والذي يجب عدم الخلط بينه وبين البروتون؛ فالبروتون أثقل بنحو ألفي مرة من البوزيترون، وله جسيم مضاد خاص به — البروتون المضاد — الذي يحمل شحنة سالبة. والقوى التي تمكِّن الإلكترون والبروتون من الاتحاد لتكوين ذرة الهيدروجين هي التي تمكِّن أيضًا البوزيترون والبروتون المضاد من تكوين ذرة الهيدروجين المضادة.

يمكننا تلخيص شحنات الجسيمات الأساسية والجسيمات المضادة التي قابلناها إلى الآن في الجدول رقم ٤-٢.
جدول ٤-٢: الجسيمات الأساسية للمادة والجسيمات المضادة.
الجسيم الشحنة الجسيم المضاد الشحنة
الإلكترون −١ البوزيترون
النيوترينو ٠ النيوترينو المضاد ٠
الكوارك العلوي +٢ / ٣ الكوارك العلوي المضاد −٢ / ٣
الكوارك السفلي −١ / ٣ الكوارك السفلي المضاد +١ / ٣
بما أن البروتون يتكوَّن من كواركين علويين وكوارك سفلي، ، يتكوَّن البروتون المضاد من كواركين علويين مضادين وكوارك سفلي مضاد، . ومن المعتاد الإشارة إلى الجسيم المضاد بنفس رمز الجسيم الأصلي، لكن مع وضع شرطة فوقه. هذا هو الحال ما لم تكن شحنة الجسيم المضاد محدَّدة، وفي هذه الحالة يأخذ الجسيم المضاد علامة الشحنة الكهربية المعاكسة (كما في حالة البوزيترون، الذي يشار له بالرمز لأسباب تاريخية). وعلى نحو مشابه، بالنسبة إلى النيوترون الذي يتكوَّن من كواركين سفليين وكوارك علوي، ، يتكوَّن النيوترون المضاد من كواركين سفليين مضادين وكوارك علوي مضاد . وهكذا رغم أن النيوترون والنيوترون المضاد لهما الشحنة عينها، فإن بنيتهما الداخلية هي التي تميِّز بينهما. أيضًا النيوترينو والنيوترينو المضاد لهما الشحنة عينها، لكن الخاصية الفارقة بينهما أكثر تعقيدًا؛ فحين تتفاعل النيوترينوات مع أحد جسيمات المادة — نيوترون مثلًا — فإنها تتحول إلى إلكترونات ويتحوَّل النيوترون إلى بروتون، وهكذا يتم الحفاظ على الشحنة الكهربية الإجمالية:
وهكذا نرى أن ثمة صلة بين النيوترينو والإلكترون، كما توجد صلة مشابهة بين النيوترينو المضاد والبوزيترون. يمنع الحفاظ على الشحنة الكهربية النيوترينو المضاد من التفاعل مع النيوترون على نحو مشابِه لما سبق، لكن إذا التقى النيوترينو المضاد ببروتون، يمكنه الكشف عن نفسه كما يلي:
رأينا كيف تتحد ثلاثة كواركات من أجل تكوين جسيم كالبروتون أو النيوترون (بصفة عامة تُعرَف الجسيمات التي تتألف من ثلاثة كواركات باسم «الباريونات»). وهكذا تُعرَف الجسيمات التي تتألف من تجمُّع ثلاثة كواركات مضادة إجمالًا باسم الباريونات المضادة. ومن الممكن أن تتجمع الكواركات والكواركات المضادة. لذا، إذا استخدمنا الرمز للإشارة إلى الكوارك العلوي أو السفلي ، واستخدمنا الرمز للإشارة إلى الكواركات المضادة، فمن الممكن أن يصير لدينا أربع تجميعات ثنائية من الكواركات والكواركات المضادة . ومثلما يُعرَف تجمُّع ثلاثة كواركات باسم الباريون، فإن هذا المزيج الثنائي من الكواركات والكواركات المضادة يُعرَف باسم «الميزون». وكما الحال مع البروتون والنيوترون، هناك حالات «تجاوب» عالية الطاقة لهذه الميزونات أيضًا.
أحد أشهر خواص المادة المضادة هو أنها حين تقابل المادة العادية، يفنى الاثنان في ومضة من الإشعاع، على غرار فوتون الضوء؛ لذا ليس من قبيل المفاجأة أن الميزونات لا تبقى طويلًا. فالكوارك والكوارك المضاد — المنحصران داخل الفمتو كَوْن البالغ حجمه ١٠−١٥ أمتار — يفني كل منهما الآخر خلال جزء على المليار من الثانية أو أقل من ذلك. لكن مع ذلك، تلعب الميزونات السريعة الزوال دورًا في بناء الكون، وأكثر الميزونات شيوعًا هي التركيبات الأخف المعروفة باسم «البايونات»، على غرار كل من الميزون باي (المكون من كوارك علوي وكوارك سفلي مضاد، ) و (المكون من كوارك سفلي وكوارك علوي مضاد ) والتي تنَبَّأ بها المُنظِّر الياباني يوكاوا عام ١٩٣٥ كجسيمات سريعة الزوال موجودة داخل الذرة، وتوفِّر القوة الشديدة الجاذبة التي تبقي على نواة الذرة متماسكة، وقد أكَّدَ الاكتشاف اللاحق لهذه الجسيمات عام ١٩٤٧ على صحة النظرية. واليوم، بتنا نعلم بشأن بنيتها الداخلية، ولدينا أيضًا فهم عميق للقوى المؤثرة على الكواركات، والكواركات المضادة، والتي منها تتألف الميزونات والباريونات وفي النهاية نواة الذرة (انظر الفصل السابع).
هناك تجميعتان متعادلتا الشحنة يمكننا تكوينهما: كوارك علوي وكوارك علوي مضاد ، وكوارك سفلي وكوارك سفلي مضاد . وهاتان التجميعتان تؤلِّفان البايون المتعادل الشحنة الكهربية، ، وتعتبران بذرة ميزون آخَر، هو الميزون إيتا المتعادل الشحنة الكهربية، . أما عن السبب وراء اتحاد كوارك منفرد بكوارك مضاد آخَر منفرد على هذا النحو، بينما تنجذب ثلاثة كواركات أو ثلاثة كواركات مضادة لبعضها من أجل تكوين الباريونات أو الباريونات المضادة، فهذا ما سنناقشه في الفصل التالي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤