مقدمة

من أنا؟

قد لا يهمُّ كثيرًا من أنا.

قد يكون سبب اتخاذي لهذه المهنة — وهي مفهومة بما فيه الكفاية من تسمية هذا العمل حتى دون قراءة كلمة واحدة منه — هو أنه لم يكن لديَّ أي وسيلة أخرى لكسب العيش، أو قد يكون السبب هو توقًا لم أتمكن من التغلب عليه للعمل في مجال التحري.

قد أكون أرملةً أعمل من أجل أطفالي، أو قد أكون امرأةً عزباء لا ترعى إلا نفسها.

ولكن سواء كنت أعمل بمحض إرادتي أو مُرغَمة، أو كنت أعمل لنفسي أو لأجل الآخرين، وسواء كنت متزوجة أو عزباء، عجوزًا أو شابَّة، فسأطلب من قُرائي قَبول إفصاحي بأنه مهما كانت نتائج ممارستي لمهنتي على الآخرين، فإنها، فيما يختص بي، لم تؤدِّ بي إلى قساوة القلب.

ما هو سبب تأليفي لهذا الكتاب؟

لديَّ سببٌ رئيس لذلك، وبما أنه لا يمكن أن تكون لديَّ رغبة في إخفائه عن القارئ؛ لأنه لو كنت أميل لهذا سرًّا إذن ما كنت سأجمع هذه المذكرات من الأساس، كما يجب أن أقول إنني أكتب لأُظهر، ولو قليلًا، أن المهنة التي أنتمي إليها مفيدة جدًّا بحيث لا ينبغي احتقارها.

أعلم جيدًا أن مهنتي محتقَرة. لقد كنت أعلم طوال الوقت هذه الحقيقة تمام العلم، حتى إنني أبقيت مهنتي سرًّا عمَّن حولي. وسواء كان هؤلاء من الأقارب أو الأصدقاء، أو مجرد معارف، فلا أجد حاجة هنا لذِكر هذا الأمر.

يظن أصدقائي أنني خيَّاطة، تغيب عن منزلها يومًا أو أسبوعًا، بينما أعدائي، من لديَّ منهم، مُقتنعون إلى حدٍّ بعيد بأن حياتي محل شك كبير.

في قرارة نفسي أشعر بالحيرة حول أي طرف أخدعه أكثر؛ أصدقائي الذين يظنون أنني في غاية البراءة، أم أعدائي الذين يعتقدون أنني لست بعيدةً كل البعد عن أن أكون آثمة؟

إن مهنتي ضرورية، ولكن العالم يتحاشى من هم على شاكلتي. ومع ذلك فأنا لا ألوم العالم على الكثير من أحكامه. أنا واعية تمامًا بأن ثَمة شيئًا بغيضًا بشكلٍ خاص فيما يتعلق بالجاسوس. ومع ذلك، من المعترف به أن للجاسوس أهميةً خاصة بقدر ما هو بغيض.

سرعان ما سيكتشف العالم خسارة نظام التحري، ولكن إذا حدثت مثل تلك الخسارة، وظهرت جليةً بعض النتائج السيئة التي من المؤكَّد أنها ستتبع إلغاءه، فسيظل العالم يتجنب مصادقة المحقِّق من اللحظة التي تلي استئنافه لمهام منصبه.

قلتُ إنني لا أشكو من هذه المعاملة؛ لأنني، كما أشرتُ، واعية تمامًا لأن المجتمع ينظر إلى مصادقة جاسوس باعتبارها أمرًا مَقيتًا، وعلى الرغم من ذلك فنحن، المحقِّقين، ضروريون، تمامًا كجامعي القُمامة؛ ومِن ثَم أكتب هذا الكتاب كي أساعد على أن أبيِّن — من خلال تجربتي — أن للمحقِّق بعض الحق في أن ينال امتنان المجتمع.

أدرك أنه قد يُنظَر إلى المحقِّقة نظرةً أكثر كراهية حتى من زملائها الذكور في المهنة، ولكن مع ذلك لا يمكن دحض أنه إذا كان ثَمة طلب على المحقِّقين من الرجال، فلا بد بالمثل أن يكون ثَمة طلب على المحقِّقات من النساء اللواتي يعملن جاسوسات لدى الشرطة. يوجد مُجرِمون وكذلك مُجرِمات، وفي الواقع أعرفُ من خبرتي أنه عندما تصبح امرأة مجرمةً، تكون أسوأ بكثير من المجرمين العاديين من الذكور؛ ومِن ثَم يستتبع ذلك أن يكون من الضروري ثَمة وجود لمحقِّقين من الجنسين.

دعونا نكتفي، وبشكلٍ نهائي، بقول إنني أعلم أن مهنتي محتقَرة، ولكنها ضرورية ولا أخجل منها. أعرف أنني قمت بعملٍ جيد خلال مسيرتي المهنية، ولكن ما زال يتعين عليَّ فهم أنني قد أحدثتُ الكثير من الأذى؛ ولذلك أظن أن رصيد العمل الذي أنجزته على مدى حياتي يُحسَب لصالحي.

أثناء تسجيلي لهذه الروايات على الورق سأُولي عنايةً كبيرة لتجنُّب ذِكر نفسي قدر الإمكان. أقرِّر هذه القاعدة، ليس بدافع من أي تواضع شخصي — على الرغم من أنني سأذكر على نحوٍ عابر أن محقِّقك يمكن أن يكون متواضعًا، رجلًا كان أو امرأة — ولكن ببساطة لتجنُّب استخدام ضمير المتكلم «أنا»، الذي أرى أنه يشوِّه الكثير من الكتب. لتحقيق هذه الغاية، ولتجنُّب استخدام هذا الضمير، سأسرد، بقدر الإمكان، الحكاياتِ مُستخدِمةً ما أعتقد أنه يُعرَف باسم «ضمير الغائب»، وفيما سأسمِّيه أنا بالأسلوب الأبسط.

يمكنني أن أشير أيضًا، أثناء انخراطي في كتابة هذه السطور الافتتاحية، إلى أن المحقِّقات في الكثير جدًّا من الحالات، هن فقط من يمكن استخدامهن للكشف عن أمور بعينها. لا أحتاج هنا إلا للتلميح إلى طبيعة هذه الاكتشافات؛ فالكثير منها بالغ الأهمية بحيث لا يمكن الاعتراف بالإشارة إليها تفصيلًا في عمل بهذا الطابع، وفي كتاب يُنشَر في العصر الحالي. ولكن دون الخوض في تفاصيل، سيفهم القارئ أن لدى المحقِّقة فرصًا أكبر بكثير مما لدى الرجل فيما يتعلق بالمراقبة الوثيقة، ومراقبتها لأمور لا يستطيع الرجل أن يُدانيها في التنصت عليها ببساطة.

أدرك أنه لا بد أن تمثِّل فكرة الجواسيس العائليين موضوعًا بغيضًا للتأمل؛ إذ إن التفكير في احتمال وجود محقِّقة بين أفراد العائلة هو عمليةٌ مُزعجة. ولكن من ناحيةٍ أخرى، يمكن الدفع فقط بأن الرجل الذي لديه أسرار يُخفيها هو مَن عليه أن يخشى مِن أن يُراقَب؛ ومِن ثَم فمن المُبرَّر مراقبة من يخشَون ذلك.

ومع كل ذلك، فمن المؤكد أن المحقِّقين من النساء والرجال من ضرورات الحياة الإنجليزية اليومية؛ وأنني محقِّقة، وأعتقد أنه من المناسب أن أُعرِّف العالم بعض خبراتي.

ماذا ستكون قيمة هذه الخبرات؟

لا يمكنني التخمين، ولن أقول إنه لا يهمُّني أن أعرف، ولكنني آملُ أن تُظهِر رواياتي هذه أنه مع أن المؤكد أن الكثير من الجرائم يمرُّ دون اكتشاف، فإن عمل المحقِّق يكشف، وبسهولة، عن كثير من أعمال الشر الأكثر غموضًا والأفضل تخطيطًا. علاوةً على ذلك، آملُ أن يتأكد الناس من وجود الكثير من الخير الذي يمكن العثور عليه، حتى بين المُجرمين، وأن مخالفة رجل للقانون لا يستتبعها بالضرورة أن يكون غليظ القلب.

والآن، لنستعرض عملي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤