مُؤجِّر مدى الحياة

غالبًا ما نكون نحن المحققين — وعندما أقول نحن المحققين، بالطبع أعني المحققين والمحققات — أول من يتحرك فيما يخص القضايا ذات الأهمية القصوى للأفراد خصوصًا، وللجمهور عمومًا. (ربما يكون من الجيد هنا أيضًا أن أشير إلى أن مسوَّدة هذا العمل راجعها محرِّر أدبي عادي. وهي لا تظهر كما كتبها المؤلف فعلًا. قد يكون هذا الإشراف على العمل ضارًّا بمبدأ «التماثل مع الحياة خارجه»، ولكن بممارسته، تحقَّق بعض الوضوح في الأسلوب.)

على سبيل المثال، اكتشفتُ قضية من تلك القضايا منذ بضعة أسابيع فحسب.

تُوفيت فجأةً سيدة، كانت حياتها منعزلة ومتحفظة إلى حدٍّ ما، ولم يكن يُقيم معها أحد إلا مدبِّرة للمنزل. ومن الغريب أن ابن السيدة وصل إلى المنزل قبل ساعتين من أن تلفظ أنفاسها الأخيرة. وبما أن المنزل الذي حدثت فيه الوفاة كان بعيدًا عن المدينة، وكان من الضروري أن يعود الابن على الفور تقريبًا إلى لندن، تُرك المنزل لبعض الوقت في رعاية مدبرة المنزل السالفة الذِّكر — أو كان من الأصح القول تحت سيطرتها — وهي امرأة كانت ذات سمعة سيئة في الحي الذي يقع فيه منزل ربة عملها الراحلة.

لاختصار هذا الجزء من هذه الواقعة، والخاص بمدى فعالية المحققين الشُّرطيين التي لا يفهمها الناس جيدًا، والتي لا تؤثر تأثيرًا مباشرًا على الطرح قيد البحث، يمكن في بضع كلمات القول إنه في الوقت الذي كان يفصل بين مغادرة الابن ووصوله، نُهب المنزل بكفاءةٍ شديدة.

بالطبع، أحاط الجيران الابن علمًا على الفور بالشكوك التي كانت تُساور العديد منهم فيما يتعلق بالجناية التي كانوا متأكدين من أنها قد ارتُكبت، وسرعان ما كان هذا الرجل في وضعٍ جعله يقتنع بأن سرقةً قد حدثت.

جرى التحدث إلى الخادمة، وأُخبرَت عن جريمتها، وهو ما نفته بوقاحة، وطُردت على الفور، هدَّدت بحماقة بأنها ستتخذ إجراءاتٍ قانونيةً فيما يتعلق بتشويه سمعتها.

رفض نجل السيدة الراحلة اتخاذ أي إجراء في مسألة السرقة، قائلًا إنه لا يمكنه أن يسمح بالزجِّ باسم والدته ووفاتها في إجراءات شُرطية وقضائية، وترك الأمر يمر، أو هكذا افترض، ومع ذلك يجدر هنا ملاحظة أنه عانى من مشقةٍ ضخمة بسبب غياب بعض الأوراق المرتبطة بوفاة والدته.

بعد مرور أربعة أشهر ظهرت الشرطة في المشهد، وبكفاءةٍ تُعتبر مثالًا على قيمة قوة المباحث. بالطبع كانت الشرطة قد سمعت، بالطريقة المعتادة، عن السرقة المُشار إليها، ولكنها لم تتمكن من اتخاذ أي خطوة ما دامت لم تحصل على موافقة أي مدَّعٍ عام للتحرك، ولكن لا يعني عدم تحرك الشرطة في القضية أنها قد نسيتها.

تحدث جريمة سرقة في الحي، ويُمنَح أمر تفتيش، وتبدأ عملية بحث وتقصٍّ. وفي سقيفةٍ خلف منزل صغير، يملكه زوجان ذكرت المدبرة بالفعل أنها تعرفهما، وكانا يأتيان إلى المنزل في الفترة التي كانت فيها المدبرة المسئولة الوحيدة عنه؛ عُثر على صندوق أموال مدهون بورنيش اليابان الأسود.

على الفور، ربطَ المحقِّق الذي قام بهذا الاكتشاف بين الصندوق والسرقة التي وقعت في منزل السيدة الراحلة، وبعد فحص دقيق، والعثور على الحرف الأول من لقبها محفورًا على غطاء الصندوق، أصبح مُقتنعًا بشدة بأن تخمينه كان صحيحًا، حتى إن ساكن المنزل وُضع رهن التحفظ، على مسئوليته الخاصة.

ثبتت التهمة على الرجل التعِس. تمكَّنت الشرطة، خلال سلسلة رائعة من التخمينات الموفَّقة والتحقيقات الجادَّة، من التوصل إلى الابن، وهذا المذكور آخِرًا تمكَّن من أن يُخرج مفتاحًا — واحد من مجموعة مفاتيح للمنزل كانت تخص والدته الراحلة — كان يفتح صندوق الأموال المعني، والذي استُخدم عنوةً بطريقةٍ معيَّنة لم ينتج عنها كسر الصندوق.

ومع ذلك رفض هذا الرجل اللجوء إلى القضاء، وأُفرجَ عن السجين وسط خوفه من الاعتقال والاستجواب.

أيٌّ من الرجلين — الرجل أو المحقِّق — قام بواجبه تجاه المجتمع؟ سأترك هذا السؤال ليُجيب عليه قُرائي. إن هدفي من اقتباس هذه الواقعة الخاصة بعمل جهاز المباحث هو إظهار مدى أهميته، حتى في المواضع التي يفترض فيها خطأً من يجب أن يرفعوا الدعوى أن الصبر واللين يشكِّلان مسارًا أفضل من العدالة والقصاص العادل.

كثيرًا ما تبدأ شرطة المباحث بمباشرة القضايا وتكتشف وجود بعض من يشغلون منصب المدَّعي العام ممن ليس لديهم أدنى فكرة بمقتضيات شَغْل مِثل هذا المنصب.

لقد وقع العديد من القضايا التي لها نفس هذا الطابع تحت إشرافي الخاص، والتي كان العديد منها شديد الأهمية. ولعل أهمها هي تلك التي أنا على وشك سردها، والتي اخترت لها عنوان «مُؤجِّر مدى الحياة».

كما يحدث في الكثير من الأحيان، أُوكلت إليَّ هذه القضية في وقت لم أكن أتوقع فيه تلقِّي أي عمل، وعندما كنت في الواقع «قد أنهيت عملي لهذا اليوم»، كما كان يقول محقِّق وصديق قديم لي، وهو زميل مات منذ فترة طويلة (قُتل على يد مصرفي نبيل كان قد غادر المدينة إلى الأبد، وبعد قَتْل جون هيمينجز رحل عن إنجلترا بلا عودة).

كان يوم من أيام الأحد عندما أُعلمتُ لأول مرة بواحدة من أغرب القضايا التي خضعت لمراقبتي. دائمًا ما أُنهي عملي في أيام الأحد، وحتى إذا كنتُ منخرطة بشدة في قضيةٍ ما فغالبًا ما أرتاح في هذا اليوم. لن أعمل أيام الأحد إذا كان باستطاعتي ذلك، فأنا أجتاز بحر العمل الأسبوعي، إذا جاز التعبير، كي أصل إلى شاطئ الراحة في يوم الأحد. وعندئذٍ يكون لديَّ أربع وعشرون ساعة أستريح فيها قبل أن أغوص في بحر التحقيقات مرةً أخرى.

إنني ما يُسمونها برفيقة الثرثرة، ولا بد لي من الاعتراف بأن من عادة النساء الحديث عن الفضائح، ويُطلعنني على هذه الفضائح في غضون ثلاث ساعات من التعرف إليهن.

كانت السيدة فليمبس من بين آخرين ممن كنت أعرفهم منذ بضع سنوات. أعتقد أنني تعرَّفت عليها لأول مرة لأن اسمها أدهشني كَوْنه غير شائع، ولقد كان الأمر غير عادي؛ لأنه بعد أربع وعشرين ساعة فقط من معرفتي بها كنت أعرف أنها كانت متزوجة من سائق عربة أجرة، وأنه كان هولنديًّا من ناحية الأب، وأنه يعمل في تجارة بيع ثعابين البحر في سوق بيلينجسجيت.

لقد كان هذا التعارف والملاحظة البحتة لاسم فليمبس هو ما أدَّى إلى سلسلة من الأحداث غير العادية التي سأضعها الآن أمام القارئ تمامًا كما ربطتها معًا، مع الوضع في الاعتبار فقط أنني سأتجنَّب ذِكر نفسي في السرد بقدر ما أستطيع.

كما ذكرتُ آنفًا، أنا أتخذ من يوم الأحد عطلةً. وبعد التعرف على آل فليمبس، وبعد التأكد من أن سائق عربة الأجرة — ربما مع بعض المعرفة بتلك الطريقة المرحة لقضاء يوم الأحد التي سمعت أن الأجانب يمتازون بها — كان مُعتادًا على استخدام عربة الأجرة الخاصة به كسيارة خاصة في أيام الأحد، ويأخذ زوجته في نزهة، وجدت أن يوم إجازتي أكثر بهجة مما كنت أعتقد حتى ذلك الوقت. ببساطة، خلال الصيف الذي تعرَّفت فيه على آل فليمبس، كنت باستمرار أغادر لندن معهم وندخل بضعة أميال في الريف.

بالطبع كان فليمبس هو من يقود العربة، وكنت أنا وزوجته نجلس بالداخل، والنوافذ كلها مفتوحة، حتى نتمكن من الحصول على أكبر قدر ممكن من هواء الريف.

أجد، بالرجوع إلى اليوميات التي احتفظت بها منذ أن التحقت بالخدمة، والتي أعكف على كتابتها بغرض المتعة، وكذلك لأخفِّف عن ذهني التفاصيل التي من شأنها أن تُثقِله؛ إذ إنني قد أضيف أنني أضع في هذه اليوميات — والتي لا يمكن طباعتها — كل كلمة في قضية أسمعها بأكبر قدر أتذكَّره، وكل تفصيلة بقدر ما أستطيع صياغتها. أقول إنني أجد، بالرجوع إلى يومياتي، أنه في يوم الأحد الرابع الذي خرجت فيه مع آل فليمبس في عربتهم، وفي الأسبوع السادس من معرفتي بهذين الشخصين، اللذين وجدت أنهما عمومًا في غاية الاحترام، أُعلمتُ لأول مرة بواحدة من أفضل القضايا التي شاركت فيها على الإطلاق، حتى وإن كانت واحدة من أكثرها تكديرًا.

يمكنني إعادة سرد المحادثة التي استرعت فضولي تمامًا كما حدثت؛ لأنه بحلول الوقت الذي انتهت فيه الرحلة كنت قد حصلت على خيطٍ رائع للقضية التي تشغلني، حتى إنني فكَّرت أنه من الضروري أن أدوِّن ما عرفته فعلًا.

كانت السيدة فليمبس امرأةً صالحة تحب أن تسمع نفسها وهي تتحدث، وهو، كما يُقال، عيب في جنس النساء. من الساعة التي سمحت لها فيها بالتعرف إليَّ توقَّفت عن التحدث كثيرًا إلى تلك المرأة الطيبة؛ إذ كنت أُنصت إليها فحسب، ونادرًا ما فتحت فمي إلا لطرح سؤال.

بالمناسبة، ينبغي أن أُضيف هنا أنني لم أتطفل أبدًا على آل فليمبس؛ فدائمًا ما كنت أُساهم بأكثر من ثلث الطعام والمشروبات التي كنا نأخذها معنا في العربة؛ ومِن ثَم أظن أنني قد دفعت حصتي من استخدام عربة الأجرة، التي كانت ستُقلُّهم سواء كنتُ في لندن أو جيريكو.

استرعى انتباهي أول كلمات قالها الرجل وزوجته فيما يخص القضية.

كنا قد ركبنا العربة، هي وأنا، أما هو فكان ينظر إلى النافذة وهو يفرد قبعته القديمة مرارًا وتكرارًا.

قال: «جيمي»، إذ كان اسمها جيمايما، «إلى أين نذهب اليوم؟»

ردَّت قائلةً: «حسنًا، يا جان»، كان قد عُمِّد تيمنًا باسم أبيه الهولندي، «إننا لم نتوجه إلى طريق «ليتل فوربيني رقم اثنين» في هذا الصيف الميمون.»

قال جان صائحًا بنبرةٍ مُنتصرة: «لقد حُسم الأمر، سنتوجه إلى «ليتل فوربيني رقم اثنين».»

صعِد جان إلى مقصورته، وقاد العربة إلى خارج الفِناء بسرعةٍ كبيرة، حتى إنه للحظةٍ، بينما كنا نمرُّ على أحجار الطريق، دار بخلَدي أن الطريق الوحيد الذي كنا على وشك أن نسلكه هو طريق الهلاك.

بطبيعة الحال دفعني الطريق السريع الاستثنائي، الذي كنا على وشك أن نسلكه، لتوجيه بعض الاستفسارات؛ إذ إنه يمكن للجمهور أن يفهم بسهولةٍ أنه إذا كان ثَمة أمرٌ واحد لا يقوى المحقِّق، ذكرًا كان أم أنثى، على تحمُّله أكثر من أي أمر آخر، فهو الغموض.

قلتُ، متحدثةً بالطريقة التي تتحدث بها طبقتها؛ إذ يمكنني القول إن نصف نجاح المحقِّق يعتمد على تعاطفه أو تعاطفها مع الأشخاص الذين يحاول استقاء المعلومات منهم: «يا له من طريقٍ غريب ذاك الذي نسلكه، يا سيدة فليمبس!»

قالت السيدة فليمبس: «أجل.» وإذ تنهَّدت أدركتُ أن ردَّها كان ينطوي على أكثر مما قد يبدو للمستمع العادي. لا أستخدم تعبير «المستمع العادي» عبثًا على الإطلاق، ولكن ببساطة بالمعنى المِهني.

«هل هو سر؟»

صاحت بينما كانت العربة تمرُّ فوق المطبَّات التي شكَّلتها أحجار شوارع لندن: «ماذا تقصدين؟ «ليتل فوربيني»؟»

فأضفت بابتسامة: «رقم اثنين.»

هزَّت رأسها وأجابت قائلةً:

«لم يكن ثَمة رقم اثنين، على الرغم من أنه كان لا بد أن يكون موجودًا.»

كانت هذه الإجابة محيِّرة. شعر كلٌّ من الزوج والزوجة بتعاطفٍ مشترك فيما يخص «ليتل فوربيني رقم اثنين»؛ ومع ذلك بدا أنه لم يكن ثَمة وجود على الإطلاق ﻟ «ليتل فوربيني رقم اثنين».

أردفتُ قائلةً: «أخبريني عن الأمر يا سيدة فليمبس، إذا لم يكن سرًّا.»

أجابت بهذه الكلمات: «هذا ما سأفعله، يا عزيزتي، عندما نصل إلى الحدائق، ولكنني لا أستطيع الآن ونحن نتخبط فوق أحجار الطريق.»

قطعنا ستة أميال خارج لندن، ووصلنا إلى الطريق الريفي المنبسِط. لا حاجة لقول أين ذهبنا؛ لأن الأماكن ليست لها قيمة في هذا السرد.

يكفي القول إننا كنَّا على بعد ستة أميال خارج لندن، وكنا نسير على طريقٍ ريفي منبسِط.

بينما كنَّا ننعطف في الطريق أصبحت السيدة فليمبس متحمِّسةً بعض الشيء، وبعد ذلك على الفور استدار سائق العربة وقال وهو ينظر إلى زوجته:

«إننا على وشك الوصول إلى الموضع المحدَّد.»

استمرَّت العربة في السير لمسافة مائتَي ياردة تقريبًا، ثم سحب جان فليمبس المِقوَد، ونزل من مقصورته.

قال وهو يُشير إلى إحدى العلامات على جانب الطريق: «ها هي العلامة بالضبط، وهي تُطابق تمامًا المكان الذي فقدتُ فيه ليتل فوربيني رقم اثنين.»

وعند هذه النقطة علَّقت السيدة فليمبس قائلةً:

«اللعنة على الثلاثين جنيهًا تلك!»

«لا يهم، أيتها المرأة العجوز، يعلم الرب أننا حينئذٍ كنا نريد هذا المبلغ بشدة، ولولا هو ما كنت أنا من سيقود عربة الأجرة هذه؛ لذا لا داعي للعبوس هكذا، أيتها العجوز.»

سيُوافق القارئ على أن محادثة كهذه كانت مُثيرة بما يكفي لجذب انتباه أي شخص، أما لمحقِّقة فقد كانت تُوحي بالكثير.

لم أقل شيئًا حتى بدأت العربة في التحرك مرةً أخرى، وكان بوسعي أن أخمِّن كم كان الرجل يقدِّر هذا المكان بشدة من الإيقاع البطيء الذي تركناه به، ومن المرات العديدة التي نظر فيها إلى الوراء إلى علامة الطريق تلك ورَنا إليها.

في الوقت نفسه كانت السيدة فليمبس — داخل العربة — تهزُّ رأسها بحزن، وكان بوسعي أن أرى، من شكل عينيها الحزينتين الشاردتين، أن فِكرها كان في موضعٍ آخر بعيد جدًّا عني وعن عربة الأجرة.

حينما انتبهت — وهو ما حدث بعد وقت قصير بصيحة وعبارة حادَّة وقاطعة؛ إذ لاحظت أن من عادة النوع الأغلظ من الناس أن ينهي سريعًا أي تعبير عن المشاعر — ذكَّرتُها بأنها قد وعدت أن تُخبرني بقصة ليتل فوربيني.

«انتظري، يا عزيزتي، حتى نصل إلى الحدائق، وسيُخبرك جان القصة بنفسه؛ فهو يرويها أفضل مني.»

ومِن ثَم لم أنبس ببنت شفة أخرى حتى انتهينا من تناول عشائنا البسيط في حدائق الشاي، التي كانت وِجهتنا. عندما انتهى تناول العشاء، وكان جان يدخِّن غليونه، ذكَّرتُ السيدة فليمبس مرةً أخرى بوعدها، وإذ أخبرَت زوجها بالأمر بدا لي أنه لم يكن عازفًا على الإطلاق عن إنعاش نفسه بسرد القصة.

من الضروري أن أقصَّ ما قاله؛ حتى يتسنى للقارئ تقدير كيف يتمكن المحقِّق من حل القضايا.

«كنتُ عائدًا إلى البيت في عربتي ذات ليلة، منذ وقت بعيد …»

قاطعته السيدة فليمبس قائلةً: «حدث الأمر في عام ثمانية وأربعين، عندما كان الفرنسيون يُقاومون لوي فيليب.»

«كنتُ ذاهبًا إلى البيت، ولم أكن في مزاجٍ جيد. عندما مررت بهامبستيد هيث، لفتت انتباهي امرأةٌ كانت تمشي مترنحةً وهي تحمل ما اعتقدت أنها حُزمة.»

فقالت السيدة فليمبس: «لقد كانت طفلة.»

أردف جان قائلًا: «أجل، كانت كذلك، ولم يكن قد مرَّ على وجودها في هذا العالم الثمين سوى أسبوعين. أوقفت العربة وأنا أراها تترنَّح؛ واختصارًا لهذه الجزئية، أخبرتها أن بإمكانها أن تصعد وتجلس في المقصورة إلى جانبي؛ إذ إنه لم يكن من الممكن أن أسمح لمتشردةٍ أن تجلس داخل العربة وعلى وسائدها. كانت ضعيفة للغاية، وكانت الرضيعة أكثر طفلة مسكينة رأيتها في حياتي، ولكنها كانت جميلة عند النظر إليها كما رأيتها على ضوء المصباح الغازي.»

قاطعته جيمايما موضِّحةً: «كما رآها على ضوء المصباح الغازي!»

«حسنًا، بعد تبادل بعض الحديث مع تلك الشابة أوقفت العربة عند إحدى الحانات، واشتريت لها ولنفسي شرابًا. وسواء كان الرُّم هو ما جعلني أفكر في هذا، أو كانت الفكرة في رأسي من قبل ولم أكن أعلم، ما إن احتسيت الرُّم حتى أصبحت الفكرة واضحة أمامي. قلتُ وأنا أشير إلى الطفلة: «ماذا ستفعلين بها؟» فقالت وهي تنظر إلى الخارج نحو لندن: «لا أعلم.» سألتها عن الأب فقالت: «لا.» بعد ذلك نظرت إلى الخارج وأشرت إلى لندن، بعد ذلك هزَّت رأسها، ولكنها لم تبكِ؛ فقد كانت، على ما أعتقد، شديدة الضعف بحيث لا تقوى على ذلك. أردفتُ قائلًا: «إن كنتِ لا تستطيعين فعل أي شيء لها (إذ كانت قد أخبرتني بجنس المولودة) فقد يتمكن شخصٌ آخر من ذلك؛ كما ترَين، أنا وزوجتي العجوز لم يكن لنا عائلة أبدًا».»

علَّقت السيدة فليمبس قائلةً: «لم يكن لنا عائلة أبدًا؛ هذا شيءٌ مؤسف.»

تابع السيد فليمبس قائلًا: «فسألتني الفتاة: «عجبًا! من الذي يرغب في إثقال كاهله بطفل امرأة أخرى؟ النساء لديهن ما يكفي من المشاكل مع تربية أطفالهن.» أجبتها: «أنا أرغب في ذلك؛ فزوجتي العجوز لم تُنجب أي أطفال، وليس من المرجَّح أن تنصلح الأمور.» سألتني الشابَّة: «هل ترغب في ذلك فعلًا؟» وارتسم على وجهها تعبيرٌ مروِّع لا أرغب في رؤيته أبدًا على أي وجه آخر. «أجل.» هكذا قلت، «وسيكون كل شيء عادلًا وعلنيًّا، وسأعطيكِ عنوان زوجتي العجوز والنقود التي معي لقاء الحصول عليها.» ومن هنا أتت تسمية الطفلة ﺑ «ليتل فوربيني»؛ كَوْن هذا هو المبلغ الذي كان في جيبي بعدما دفعت ثمن الرُّم، وبعد يوم كامل من العمل وأجرة تبلغ شلنًا واحدًا فقط. حسنًا، خلاصة الأمر أن تلك الشابة البائسة أعطتني الطفلة، وأعطيتها الأربعة البنسات، ونزلت من العربة وسارت في الطريق ثم انعطفت، ولم تنظر إلى الوراء مرةً واحدة، ولم تأتِ إلى منزلنا مرةً واحدة — مع ذلك، ربما تكون قد فقدت العنوان، وإذا كانت قد فقدته، إذن فهي ليست سيئة للغاية في نهاية المطاف، وربما تكون قد ماتت — على أي حال، هكذا وصلنا لاسم «ليتل فوربيني».»

كرَّرت السيدة فليمبس كنوع من التصديق على كلامه قائلةً: «هكذا وصلنا لاسم «ليتل فوربيني»، ليُبارك الرب قلبها الصغير.»

فقلت: «أجل، ولكن ماذا عن «ليتل فوربيني رقم اثنين»؟»

«أوه! لقد كان هذا قبل خمس سنوات فقط. لم تسعد عزيزتي جيمي — أقصد جيمايما — عندما أحضرت «ليتل فوربيني» المسكينة إلى البيت، وأعتقد أنها ظنَّت أنني كنت أعرف عن هذا الأمر أكثر مما كنت أعرف حقًّا، حتى صارت غير مُرتاحة للغاية على خلافي، ولكن فلتفكر زوجتي كما تشاء، فأنا متأكدٌ أنه لم يكن ثَمة أمٌّ أكثر حزنًا مما كانت عندما أُخذت «ليتل فوربيني» منَّا وتغيَّرت حياتها للأفضل.»

قالت السيدة فليمبس، وفي عينيها دمعتان أو ثلاثة، كما لاحظت: «تغيَّرت إلى الأفضل كثيرًا!»

«يا إلهي! أتخيَّلها الآن وهي آتيةٌ تحمل عشائي، وهي لم تتجاوز العاشرة من العمر، وكيف كان سائقو عربات الأجرة الآخرين يتحدثون معها، وكيف رغبوا جميعهم في تقديم التعازي عندما ماتت، وهو ما كان طبيعيًّا. أجل، لقد اشتقنا إليها عندما ماتت في التاسعة من العمر.»

عقَّبت السيدة فليمبس قائلةً: «في التاسعة من العمر، قبل خمس سنوات.»

«وكان أمرًا طبيعيًّا أن نفكر في أن حبيبتنا «ليتل فوربيني» كانت طيبة، وأننا كنا وحيدين وقد نجد طفلةً أخرى، وربما كان هذا هو السبب الذي جعلني أشرع في البحث عن «ليتل فوربيني رقم اثنين»، وليُبارككِ الربُّ يا عزيزتي، لا تمرُّ ليلة في الأسبوع لا يجد فيها سائقو عربات الأجرة، وحتى رجال الشرطة أنفسهم، امرأة تجول الشوارع وهي تحمل رضيعًا لا تعرف ماذا تفعل به.»

«قبل ثلاثة أشهر، كانت «ليتل فوربيني» ما زالت على قيد الحياة، وكانت تجلس على علامة الطريق التي أشرت إليها، وفي إحدى ليالي شهر يوليو من ذلك العام رأيتها هناك. دقَّ قلبي بشدة حتى شعرت أنه يكاد يصعد إلى حلقي؛ لأن الأمر بدا وكأن كل هذه السنوات لم تمر، وكأن أم «ليتل فوربيني» تقف على قارعة الطريق أمام رأس حصاني مرةً أخرى. لقد كانت شابةً أخرى من تلك الشابات، كانت امرأةً تحمل رضيعةً ولا تعرف ماذا تفعل بها. تحدَّثت معها؛ إذ كانت لديَّ تلك التجربة السابقة مع الشابة الصغيرة، سرعان ما جعلتها تفهمني، هذا على الرغم من أنني أؤكد لكِ أن قلبي كان يدقُّ بشدة وأنا أفكر في «ليتل فوربيني». لم تفهمني في البداية، ولكنها فهمتني أخيرًا، وكنت أظن أنها كانت خائفة قليلًا من الطريقة التي تحدَّثت بها، قائلةً إن العناية الإلهية قد تدخَّلت، بينما لم يكن الأمر سوى أنا. أخذت العنوان بجشع، ولكنني عندما عرضت عليها خمسة الشلنات وتحدَّثت إليها بود، تراجعت إلى الوراء وناجت السماء إن كان بإمكانها بيع طفلتها. وبعد ذلك وعدت أن تأتي لزيارتنا ولترى زوجتي العجوز، وظلَّت تُقبِّل الطفلة حتى عاد قلبي يدقُّ بشدة مجددًا، ثم ركضت وذراعاها مفرودتان وتتأرجحان من جانب إلى آخر كالرافعة، ولم تأتِ أبدًا لرؤية زوجتي العجوز!»

عقَّبت السيدة فليمبس قائلةً: «ولم تأتِ أبدًا! ولو كانت أتت ماذا كنت سأقول، ولو كانت فقأت عينيَّ ما كنت لأشتكي.»

تابع السيد فليمبس قائلًا: «لأنه كما ترين، لم ترَ زوجتي العجوز هذه الطفلة أبدًا.»

«لم أرَها أبدًا!» هكذا قالت السيدة فليمبس.

أردف الرجل قائلًا: «لأنه لا بد أن تعرفي أنني قد بِعتُ طفلة هذه المرأة قبل أن أغادر علامة الطريق هذه خلفي بميلٍ واحد.»

كرَّرت السيدة فليمبس وهي تهزُّ رأسها قائلةً: «بميلٍ واحد!»

«أسأل الرب ألا يُدخلنا في تجربة، ولكنني لم أستطع مقاومة إغراء الحصول على الثلاثين جنيهًا تلك؛ لأنني كنت في ذلك الوقت مُفلسًا تمامًا؛ إذ كان يتوجب عليَّ دفع تعويضات بعد دهسي لرجلٍ مُسنٍّ كان مذعورًا أكثر منه مُصابًا، ولكنه كان المُسن الأعند الذي قد يُقابله سائق في موقف كهذا. وكان عليَّ أن أدفع له مبلغ الثلاثين جنيهًا، وهو ما بدا لي شكلًا من أشكال العناية الإلهية عندما عرضت عليَّ المرأة ذلك المبلغ نفسه؛ إذ كنت أشعر بالأسف على الثمن الذي دفعته لدهسي لهذا السيد العجوز العنيد بينما كنت غارقًا في التفكير في «ليتل فوربيني» الضائعة.»

بحلول هذا الوقت كان الفضول قد بلغ مني مبلغه. كان من المستحيل تجنُّب استيعاب أن الطفلة التي تخلَّت عنها الأم البائسة وأعطتها إلى سائق عربة الأجرة قد بيعَت حرفيًّا في غضون عشرين دقيقة من حصول السائق عليها.

ولعله من الضروري أن أشير إلى أنني لم أكن مندهشة من فكرة أنه من غير المرجَّح على الإطلاق أن يكون هذا السائق قد قابل امرأةً ثانية في حياته على استعداد للتخلي عن طفلها. فأنا، بصفتي محقِّقة، يُخجلني ويؤلمني بنفس القدر أن أعترف بأنه لا تمرُّ ليلة في مدينة لندن الكبيرة لا نعثر فيها على أمهاتٍ بائساتٍ مستعدات للتخلي عن أطفالهن. ربما ينبغي أن أُضيف أن تجربتي تقودني إلى الاعتقاد بأن هؤلاء النساء الفقيرات يكن أمهات للمرة الأولى؛ أمهات لم يُمضين سوى فترةٍ قصيرة جدًّا في الأمومة؛ ومِن ثَم بما أنهن لم يُمضين مع صغارهن فترةً طويلة بما يكفي بحيث لا يكون بمقدورهن الانفصال عنهم، ما زِلن تحت تأثير ذلك الرعب الشديد من وضعهن، وما يترتب عليه من خوف أو رهبة من الطفل؛ نتيجةً لتذكُّرهن للوقت الذي كن فيه متحررات ومحترمات. غالبًا ما تكون هؤلاء الشابات من الخادمات والعاملات اللواتي تعرَّضن للإغواء. كم هن مسكينات! نحن، المحققين، وخاصةً المحققات، نعرف ما فيه الكفاية عن تلك الأمور.

سألت السيد فليمبس قائلةً:

«من هي المرأة التي أخذت الطفلة؟»

«عجبًا! كيف لي أن أعلم؟ لقد كنت أقود مُسرعًا بينما كانت الصغيرة على أرضية عربة الأجرة بين وسادتين كي لا تصطدم بشيء، عندما نادت عليَّ قائلةً: «عربة أجرة!» فقلت لها: «مشغول.» فقالت: «سأدفع لك ما تريده.» فقلت في نفسي: «حسنًا، إنها زبونة غريبة على أي حال.» كانت في العقد الثالث من العمر تقريبًا. لقد كانت امرأةً ذات مظهر جامح كما رأيت من ضوء المصباح الغازي الذي كانت تقف أسفله، ولكنها كانت سيدةً راقية بحق، وكانت عيونها داكنة. قلت: «لا أستطيع أن أُقلَّكِ.» فقالت: «هل قطعت مسافةً طويلة على الطريق؟» فقلت: «حوالَي ثلاثة أميال.» فقالت: «ها، هل رأيت امرأةً تحمل طفلًا؟» فكاد هذا السؤال أن يوقعني من فوق مقعدي. «امرأة مسكينة تحمل طفلًا حديث الولادة جدًّا؟» هكذا قالت. وحينها من حسن الحظ — أو من سوء الحظ — وهو أحيانًا ما يكون جيدًا، وأحيانًا أخرى يكون سيئًا بلا شك؛ في هذه اللحظة بالضبط أطلقت الطفلة صرخةً عالية. سألت المرأة وهي تندفع نحو نافذة العربة: «ما هذا؟ أوه! ما هذا؟» ويمكنني أن أخبرك أنني كنت على وشك السقوط من فوق مقصورتي من المفاجأة. قالت وهي تنظر داخل العربة، وعلى ما أعتقد أنها كانت قد رأت الطفلة على الأرضية: «لقد أرسلتها السماء!» فقلت: «إنها هي نفس الشابة التي كنتِ تتحدثين عنها!» فصرخَت، ولو كان هناك شرطي في الجوار كنتُ سأواجه مأزقًا كبيرًا، مع احترامي لكِ يا عزيزتي، أرجو ألا تؤاخذيني لحديثي عن الشرطة ونحن في يوم الأحد. بعد ذلك نهضت وأخبرتها أنني وزوجتي قد فقدنا «ليتل فوربيني» الحبيبة، وكيف حصلت على هذه الطفلة؛ فصاحت مرةً أخرى قائلةً إن العناية الإلهية هي السبب في ذلك، وقالت: «ها هي الثلاثون جنيهًا، أيها الرجل الطيب»، وكانت كلها من الذهب، «خذها وأعطني الطفلة»، ثم قالت إنه لا يمكن أن أُكِن حبًّا للطفلة لأنني لم أرَها من قبل، وأنني إذا فعلت كما تطلب مني فإنني بذلك أصنع خيرًا عظيمًا. باختصار، أعطيتها الطفلة بعد بعض الوقت، وأخذت الثلاثين جنيهًا، وهكذا لم ترَ زوجتي العجوز الرضيعة أبدًا وكيف بدَت، كما كنت آمل ألا تأتي والدتها المسكينة إلى منزلنا. ولم تأتِ أبدًا؛ لذا ربما كل هؤلاء الأمهات المسكينات مُتشابهات، ولا يهمُّهن رؤية أطفالهن بعدما هجرنهم؛ ومن ثَم لا يسألن عنهم مرةً أخرى. وبهذا، لم ترَ زوجتي العجوز «ليتل فوربيني رقم اثنين» أبدًا.»

قالت السيدة فليمبس: «لم أرَ «ليتل فوربيني رقم اثنين» أبدًا!»

الآن يمكنني على الفور أن أقول إن هذه الحكاية التي سردها رجلٌ عادي بالإنجليزية الدارجة، وهو يدخن غليونه الفخاري العادي في حدائق الشاي العادية في ضواحي لندن، استدعت كل الفطنة والذكاء اللذين وهبتهما الطبيعة لي. لقد استيقظت المحققة بداخلي تمامًا بينما تكشَّفت لي ببطءٍ هذه القصة الاستثنائية، والتي حُكيت دون أي نية للتأثير في المستمع، وتخلَّلتها توقفاتٌ عديدة وتلويحاتٌ كثيرة بالغليون وتكرار لم أحبِّذ ذكره للقارئ.

لقد كانت قصة تلك المرأة، التي حصلت على الطفلة، لافتة للنظر من البداية إلى النهاية.

لقد كانت سلسلة الحقائق كما سُردت — باعتبار أن كلام السائق صادق، وبما أنه لم يكن يبغي أي غرض من خداعي فقد كنت أميل إلى افتراض أنه كان يقول الحقيقة — رائعةً منذ بداية الأحداث وحتى النهاية.

استُهلت القائمة الاستثنائية للحقائق غير العادية بامرأة، من الواضح أنها تنتمي إلى طبقةٍ جيدة، موجودة في الشارع في وقتٍ متأخر من الليل، وتُنادي على عربة أجرة؛ ثم تبع ذلك سؤالها عن امرأةٍ تحمل طفلةً حديثة الولادة جدًّا. يلي ذلك اكتشاف وجود الطفلة في عربة الأجرة، وصراخها بأن الرب كان رحيمًا بها؛ وفي النهاية لا بد من النظر في حقيقة أنها كانت تحمل معها ثلاثين جنيهًا من الذهب، والتي قدَّمتها على الفور إلى سائق عربة الأجرة مُقابل الطفلة.

نظرًا لاعتيادي على تقييم الحقائق، وتتبُّع المعاني الواضحة — وهو ما يُشبِه النهج الذي يتبعه المُحامون، وهي عادةٌ شائعة لدى جميع المحققين — فقد كوَّنت حجةً مقبولة ضد هذه السيدة، قبل أن أبدأ باستجواب السيد فليمبس بأريحية وبطريقةٍ شِبه فضولية حول القصة التي أفصح عنها لي.

بما أنها كانت تعلم أن المرأة قد مرَّت من ذلك الطريق بدا واضحًا لي أنها قد رأتها، وأنها خمَّنت أنها مُتسولة، وهذا في وقتٍ سابق من المساء قبل أن تتحدث مع سائق عربة الأجرة. وبما أنه بعدما رفض السائق أن يُقلَّها أبدت فرحًا كبيرًا عند سماعها بكاء الطفلة الرضيعة، فاستنتاجي هو أن إحباطها من رفض السائق كان مرتبطًا بطريقة أو بأخرى بالطفلة نفسها.

وبالاستمرار في اتباع هذا المنطق — فقد كانت هذه العادة حاضرة بشدةٍ داخلي، حتى إنني كنت قد أنهيت عملية التحليل بالفعل قبل أن ينتهي السائق من كلامه — وبعد أن قيَّمت على النحو الواجب حقيقةَ أنها كانت تحمل معها ثلاثين جنيهًا ذهبيًّا، وأنها رشَت السائق بها، توصَّلت إلى استنتاج أنها كانت لسببٍ مجهول في حاجةٍ مُلحَّة للحصول على الطفلة. كنت متيقنةً من أنها قد رأت والدة الطفلة في وقتٍ سابق من المساء، وأنها كانت قد شرعت في اللحاق بها كي تشتري الطفلة منها، إن أمكن، وأنها عند رؤيتها لعربة الأجرة — التي لم يكن من الممكن أن يكون سائقها على معرفة بهذه المرأة — نادت على السائق على أمل اللحاق بالمرأة والطفلة بسرعةٍ أكبر.

الأسئلة التي كنت أتمنى، بصفتي محققة، أن أجد لها إجابة هي:

من كانت هذه المرأة؟

لماذا تصرَّفت على هذا النحو؟

أين كانت؟

أدركت على الفور أنني لن أجد صعوبةً كبيرة في التحقق من مكانها، شريطة أن تكون ما زالت تعيش في تلك المنطقة، وشريطة أن يعطيني السائق خيطًا ما يمكنني من خلاله التعرف على هويتها.

يمكنني أن أخبركم على الفور أنني شعرت بوجود جريمة في هذا الأمر كله؛ فالأطفال لا يُشترَون في الظلام في خوف ورِعدة، إن كان كل شيء يمضي بوضوح وصدق.

لذا، متظاهرةً بكَوني مهتمةً حقًّا بالقصة، وهو ما كان حقيقيًّا، بدأت بطرح الأسئلة.

«هل علمت أي شيء أكثر عن هذا الأمر؟»

رد السائق: «لا شيء.»

وبالطبع، ردَّت زوجته وكرَّرت ما قاله.

«ألم ترَ المرأة مرةً أخرى؟»

«لا، أبدًا.»

وهو ما كرَّرته السيدة فليمبس مرةً أخرى؛ لذا من الآن فصاعدًا لن أذكر تكرارها للردود مرةً ثانية.

«منذ متى حدث هذا؟ إنك تُثير اهتمامي كثيرًا!»

«في شهر يوليو المبارك من هذا العام سيكون قد مرَّ خمس سنوات.»

«إذن فقد كان في يوليو من عام ١٨٥٨.» وهو ما علمته من تاريخ وفاة «ليتل فوربيني».

«أجل.»

(لا بد أن أوضح هنا للقارئ أنه على الرغم من أنني اخترت هذه القضية الفريدة، «مؤجِّر مدى الحياة»، لتكون السرد الأول في كتابي، فإنها واحدة من قضايايَّ اللاحقة الأروع.)

فقلت له: «هل أنت متأكد تمامًا من علامة الطريق؟»

«أجل، تمامًا.»

«أيَّ نوع من النساء كانت؟»

أردف السائق قائلًا: «لا يمكنني القول أو الجزم بأكثر من أنها كانت ذات مظهر جامح، وكانت ذات عيون سوداء كبيرة، وأنها كانت سيدةً راقية بكل ما تحمله الكلمة من معنًى.»

«لا تؤاخذني على فضولي الشديد، ولكن هل لاحظت أي شيء مميز في طريقة كلامها؟»

«شيء مميز؟ بحسب علمي، لا.»

«لم تُلاحظ أي علامة أو أي شيء غير عادي في طريقة كلامها؟»

«لا، لا شيء. ها! كأنني أسمعها الآن وهي تقول «سلاسين جنيهًا»، وهو ما استطعت فهمه بالكاد في البداية؛ «فلافين جنيهًا لقاء تلك الطفلة، فلافين جنيهًا». ولكن لماذا جفلتِ يا عزيزتي؟»

هنا أضافت زوجته قائلةً: «حسنًا من الطبيعي أن تجفل هذه المسكينة بعد ما حكيته عن طريقة بيع تلك الشابة لابنتها «ليتل فوربيني».»

حقيقة الأمر هنا أنني كنت قد جفَلتُ لأنني ظننت أنني وضعت يدي على خيطٍ جيد. نحن المحققين لدينا ما يُشبِه الدليل المرجعي لعلم مهنتنا، ونحن نحفظ كل سطر فيه عن ظهر قلب. أحد الفصول الرئيسة الأهم في ذلك الدليل غير المكتوب، هو الفصل المخصَّص للتعرف على الهوية. سيتفاجأ غير المختصين بمعرفة كم نمتلك من الطرق للتعرف على الهوية من خلال علامات وأساليب معينة وبعض الخصائص الشخصية المميزة، ولكن في المقام الأول من خلال طرق الكلام التي لا تُحصى، وشكل الكلام، ومواضيع الحديث، وفي المقام الأول الإعاقات الكلامية أو العلامات المميزة لطريقة الكلام. على سبيل المثال، إذا قيل لنا إن الشخص الذي نُلاحقه دائمًا ما ينطق حروفًا معينةً في غير موضعها، نميل إلى أن نتغاضى عن مُشتبَه به مُطابق للوصف من جميع النواحي الأخرى، إلا في هذه الحالة التي ينطق فيها حروفًا في غير موضعها. نعلم أنه مهما كانت براعة ومكر الرجل الذي نُلاحقه، فلن يتمكن من منع ظهور هذا العيب الكلامي، حتى وإن كان حريصًا، وهو ما لا يحدث أبدًا. قد ينجح في تغيير ملابسه أو صوته أو شكله أو مظهره، ولكنه لن ينجح أبدًا في تغيير طريقة كلامه ونطقه للحروف.

والآن، من بين قائمة العيوب الكلامية، ثَمة عيبٌ يتعذر فيه نطق حرف «الثاء» الصعب النطق، ويستبدل بنطق هذا الحرف الصعب حرف «فاء» أو «دال»، أو أحيانًا بأيٍّ منهما، بحسب بنية الكلمة.

ولقد أمَّلتُ أنني قد اكتشفت هذا العيب الذي يمكن تمييزه في هذه المرأة التي ابتاعت الطفلة.

«هل تقصد يا سيد فليمبس أن تقول إن المرأة قالت «فلافين» بدلًا من «ثلاثين»؟ يا له من أمرٍ غريب!»

فقال: «لقد قالت «فلافين»، وقد كان هذا هو سبب عدم فهمي لما تقول في البداية. لقد قالت فلافين، ولكنني لم أفهم ما تقصده إلا عندما سمعت صوت النقود الذهبية.»

«وهل رأيتها أو سمعت عنها أي شيء بعد ذلك؟»

«كان هذا من المستبعد أن يحدث ذلك، لو كنتِ رأيتِ كيف غادرت مسرعةً.»

«أيَّ طريق سلكَت؟»

«عجبًا، بالطبع عندما قابلتها يا عزيزتي كانت آتية من مكانٍ ما كي تتبع الشابة التي كانت تحمل الطفلة، وعادت في اتجاه لندن، وقد مررت بها حتى صارت خلفي، ولم تنظر نحوي أبدًا.»

لم أسأل أي أسئلة أخرى.

أعتقد أنني التزمت الصمت، وخاصةً عندما استقللنا عربة الأجرة وكنا في طريقنا إلى المنزل مرةً أخرى.

في الواقع، قالت السيدة فليمبس إنها لم يكن لديها أدنى شك في أن زوجها قد أزعجني بقصتهما عن «ليتل فوربيني».

ومع ذلك، عندما وصلنا إلى علامة الطريق كانت السيدة فليمبس تتحدث عن هذا الموضوع أكثر من أي وقت مضى، ولست بحاجة للقول بأنني، على الرغم من أنني ربما أكون قد تحدَّثت قليلًا، كنت غارقة في التفكير في محاولة للربط بين الأمور.

بعدما عبرنا علامة الطريق كان كل منزل على جانبَي الطريق يجذبني بطريقةٍ غريبة. كانت عيناي تتعلقان بكل منزل نمرُّ به، مُتخيلةً أن كل منزل من هؤلاء قد يكون هو الذي يأوي الرضيعة.

وقد عزمت أن أعمل على هذا الأمر.

حتى ذلك الحين، كان لديَّ الحقائق الآتية:
  • (١)

    لا بد أن المرأة كانت تعيش بالقرب من الطريق، وإلا ما كانت سترى المتسوِّلة وطفلتها، بافتراض أن المتسولة وطفلتها كانتا على الطريق السريع عندما رأتهما المرأة.

  • (٢)

    لا يمكن أن يكون الوقت الذي مر بين رؤية المرأة ولقاء سائق عربة الأجرة طويلًا جدًّا، وإلا ما كانت ستأمل أبدًا في العثور على الأم والطفلة.

  • (٣)

    جرى الأمر قبل خمس سنوات فقط؛ ومن ثَم من المحتمل ألا تكون المرأة قد انتقلت من الحي.

  • (٤)

    تُشير طريقة شراء الطفلة إلى أنها ستُستخدم بغرض الخداع؛ في أغلب الظن لتحلَّ محل أخرى.

  • (٥)

    ومن ثَم فقد تأذَّى أحدهم نتيجة لممارسة هذا الخداع؛ في أغلب الظن وريثٌ ما.

  • (٦)

    لم تكن المرأة من المحتاجين، وإلا ما استطاعت تقديم ثلاثين جنيهًا من الذهب إلى شخصٍ غريب، وكما هو واضح في وقتٍ قصير جدًّا؛ لأنه كان واضحًا أنه لا يمكن أن تكون قد جرت أي مطالبة بالطفلة عندما رأت أنها كانت مع الأم.

  • (٧)

    أيًّا كانت هُويَّتها فقد كان العيب الكلامي العادي الذي يتمثل في عدم القدرة على نطق حرف «الثاء» استثنائيًّا للغاية في حالتها.

  • (٨)

    أهم ما في الأمر أنه كان لديَّ تواريخ.

لم يكن فليمبس المسكين وزوجته يعلمان أنهما كانا يمدان محققةً في دهاء الثعبان بالمعلومات في عربتهما الأجرة. أظن أنهما كانا يعتقدان أنني امرأة تعيش على ما تدرُّه لها ممتلكاتها الصغيرة، وأنني أزيد من دخلي بصنع القبعات النسائية بين وقت وآخر.

بالمعلومات التي كنت قد حصلت عليها بالفعل قرَّرت أن أحاول الوصول إلى حقيقة هذا الأمر حتى جذوره، ويمكنني أن أذكر أيضًا أنه بما أنني لم أكن أعمل على أي قضية أخرى في ذلك الوقت، فقد شرعت في العمل صباح يوم الاثنين، وأخبرت السيدة فليمبس أن لديَّ شأنًا ما يجب أن أهتمَّ به، فتمنَّت لي تلك المرأة المخدوعة التوفيق من أعماق قلبها.

سكَنتُ في أول مكان تمكَّنت من العثور عليه بالقرب من علامة الطريق تلك. كانت غرفةً ريفيةً صغيرة ولطيفة، وكانت زهور العسل تحيط بكل نافذة فيها.

يمكنني القول إن الجزء الأول من عملي كان سهلًا للغاية.

في غضون يومين من وصولي إلى مسكني الصغير في كوخ زهور العسل، كنت قد اكتشفت ما يكفي ليسوِّغ مواصلتي البحث.

كما قلت، لم يكن لديَّ أي سبب للشك في سائق عربة الأجرة؛ لأنه لم يكن من الممكن أن يكون لديه أي غرض من خداعي، ولكن الدليل هو أساس عمل المحققين.

كان أول شيء فعلته هو العثور على أي آثار للأم، إن أمكن.

من المهم تذكُّر أن الأم أبدت حزنًا كبيرًا على فقدان الطفلة، وأنها مع ذلك لم تطرق باب السائق أبدًا. كان الاستنتاج الذي توصَّلت إليه هو أنه بما أنها أظهرت حبًّا للطفلة، وبما أنها لم تسعَ أبدًا لرؤيتها بعد تخلِّيها عنها، فلا بد أن ما حال دون ذلك هو إحدى مُصيبتين؛ إما أنها قد جُنَّت، أو أنها قد ماتت.

ولكن أين كان يمكنني أن أُجري التحريات؟

بالطبع من أول مسئول إغاثة يعيش بعد علامة الطريق، في المكان الذي كانت فيه الأم قد افترقت عن طفلتها، وفي الاتجاه المُعاكس للاتجاه الذي كانت قد سلكته عربة الأجرة؛ لأنني أعرف الكثير عن هؤلاء الأمهات الفقيرات؛ إذ دائمًا ما يهربن بعيدًا عن أطفالهن عندما يفترقن عنهم، سواء كان هذا الافتراق عن طريق القتل، أو الهجر، أو بمصادفة فاعل خير (مثل سائق عربة الأجرة)، يكون مستعدًّا — كَوْنه ليس لديه أطفال — لتحمُّل مسئولية طفل يشكِّل عبئًا على أمه التي أنجبته.

تجاوزت علامة الطريق، واستفسرت، ثم وجدت منزل مسئول الإغاثة في الوقت المناسب. أُجيبَ عن أسئلتي بسرعةٍ كبيرة. أعتقد أن الرجل افترض أنني قريبة لها، وأنني قد أجعله ينال بعض الفضل، من خلال نشاطه، بتعويض الأبرشية عن التكاليف البائسة التي دفعتها في دفن المرأة الفقيرة.

إذ كانت قد ماتت.

كانت الظروف تشير بما لا يدع مجالًا للشك إلى أنها هي المرأة التي انفصلت عن طفلتها، بحيث لم يكن لديَّ أي شك معقول في استنتاجي.

في ليلة الخامس عشر من شهر يوليو منذ خمسة أعوام، أُحضرَت امرأة في عربة نقل إلى باب المسئول. قال الرجل الذي كان يقود تلك العربة إنه وجد المرأة مُلقاة على قارعة الطريق، وإنه لو لم يكن حِصانه قد لاحظ أنها كانت مُلقاة هناك قبل أن يلاحظ هو، فلا بد أنها كانت ستُدهَس.

نُقلت المرأة إلى المستوصف المخصص للفقراء، ولم تُغادره إلا إلى القبر.

لم تسترد وعيها أبدًا وهي في المَشفى المخصص للفقراء. وعندما استردت وعيها جزئيًّا وجدوا أنها تُعاني من حمَّى، وبما أنها كانت قد صارت أمًّا حديثًا جدًّا (لم يكن قد مضى عليها أكثر من أسبوعين)، فقد جعل فقدانها لطفلتها محاولة التغلب على هذه الحمى فاشلة تمامًا.

ماتت في اليوم العاشر من ظهور الحمى، وكانت قد توقَّفت عن الكلام قبل ثلاثة أيام من وفاتها.

(ربما يجدر بي الإشارة هنا إلى أنني أوجز في هذه الصفحة أقوال مسئول الإغاثة وامرأة معدمة كانت تعمل ممرِّضة في المستشفى الخيري.)

كنت أفهم جيدًا أن هذا الانعدام في القدرة على الكلام كان بسبب الأفيون، الذي كانت التجربة قد علَّمتني أنه يُعطى في جميع الحالات التي لا يكون لمُصاب الحمى فيها أي فرصة للنجاة، وبغرض تهدئة الهلوسات التي من شأنها أن تجعل الموت أكثر بشاعة.

ولكن ما قيل لي إنها قد قالته في الأسبوع الذي يسبق ذلك، كان كافيًا لإقناعي أنها والدة الطفلة؛ إذ ورد أنها كانت تُنادي على طفلتها وهي تضغط على صدرها الهزيل، وأنها كثيرًا ما كانت تصرخ قائلةً إنها تسمع صوت عربة الأجرة بعيدًا جدًّا.

عُدتُ إلى مسكني الصغير غيرَ مسرورة؛ فإذا كان ثَمة شيءٌ واحد يُصيبنا بالفشل نحن المحققين بكل تأكيد أكثر من أي شيء آخر، فهو الموت؛ ففي هذه الحالة لا يكون بيدنا ما نفعله. لا تعني المسافة لنا لا شيئًا، ولكن لا يمكننا الوصول إلى الجانب الآخر من القبر. لا نهتم كثيرًا بالوقت، حيث نرى أن الذاكرة تُجْدي نفعًا بصورة أو بأخرى أثناء الحياة. أما السرية فهي تُثير سخريتنا بكل أشكالها، فيما عدا سرية القبور.

إن الموت هو ما يُصيبنا بالفشل، وكثيرًا ما يُوقِف قضيةً ما عندما تكون على وشك أن تكتمل، حتى إنها تُقنِع عديمي الخبرة بافتراض اكتمالها.

لقد رأيت على الفور أنني قد فقدت شاهدتي الرئيسة في القضية؛ وهي الأم.

حينئذٍ تبادَر إلى ذهني السؤال؛ هل ما زالت الطفلة نفسها على قيد الحياة؟

إن كانت ميتةً فستكون هذه نهاية تحقيقاتي.

ومع ذلك، فالمحققون لا يتخلَّون عن القضايا أبدًا، بل القضايا هي التي تتخلى عنَّا.

أصبح من الضروري الآن التحقق من الأطفال الذين وُلدوا في شهر يوليو عام ١٨٥٨ في المنطقة التي تقع فيها علامة الطريق؛ لأنني قد بيَّنت بالفعل أن مُشترية الطفلة لا بد أن تكون قد جاءت من مكانٍ ما في الحي لشرائها. وكذا، قد ألمحت إلى أن الطفلة التي تُشترى في مثل هذه الظروف، والتي تتطابق مع ظروف بيع الطفلة موضع البحث، تقتضي استخدام الرضيعة سرًّا؛ ومن ثَم «بطريقةٍ شرعية ظاهريًّا»، كما يقول المُحامون، وهو أمرٌ غير قانوني على الأرجح، بصورةٍ تُوقِع ضررًا على شخصٍ يستفيد من وفاة الطفلة.

لقد كانت مهمة التحقق من الأطفال الذين وُلدوا في المنطقة خلال شهر يوليو، على نفس القدر من سهولة مهمة إقناع نفسي بأن المرأة التي اشترت الطفلة المعنية من سائق عربة الأجرة قد سجَّلتها باعتبارها مولودةً جديدة.

في أغلب الظن أن القارئ قد بنى قضيةً افتراضية كما فعلت أنا، وهي على النحو الآتي:

رأت المرأة المُشترية الأم والطفلة قبل ساعة أو أكثر من لقائها بالسائق، وتجاذبت معها أطراف الحديث.

تأكَّد هذا الافتراض من المعلومة التي حصلت عليها، وهي أن هذه المرأة، التي عُثر عليها على قارعة الطريق، كان معها نصفا كراون في جيب ثوبها. لا بد من تذكُّر أنها قد رفضت المال الذي عرضه عليها فليمبس.

يُفترَض أنه، في الوقت الذي يفصل بين رؤية المرأة والمساومة مع سائق عربة الأجرة، ظهرت حاجةٌ مُلحَّة إلى شراء طفلة حديثة الولادة، وعندئذٍ تذكَّرت المرأة رؤيتها للمتسولة والطفلة، وأمَّلت أن يشكِّل فقر هذه المخلوقة البائسة فرصةً لها؛ لذا شرعت في العثور عليها. وعندئذٍ أدَّت سلسلة من الأحداث — التي قد يسمِّيها القارئ العادي أحداثًا خيالية، ولكن، بصفتي محققة، يمكنني القول إنها أحداثٌ حقيقية وتحدُث يوميًّا في صور وأشكال عديدة — إلى حصولها على الرضيع.

بحثتُ في سِجلَّين، وأجريت من التحقيقات ما ارتأيته مُفيدًا. لحسن الحظ في كلتا الحالتين، لم يكن عليَّ التعامل مع أمين السجل، بل مع نائبه، الذي يكون، في العادة، ليِّن العريكة وأسهل في التعامل معه. نحن المحققين لدينا الكثير من العمل الذي يقتضي التعامل مع أمناء السجل بدرجاتهم الوظيفية الثلاث.

كنت أعلم أنه على الأرجح كان يتعيَّن عليَّ التعامل مع ما نسمِّيه في مهنتي ﺑ «أفراد العائلة». وفي هذا الحالة لم يكن يتعين عليَّ التعامل مع زوجة أو أخت عامل أو حِرفي، كان سائق العربة قد قال إنها كانت سيدةً «راقية» (نظرًا لخبراته اليومية يتمتع سائقنا محل الذِّكر بنظرةٍ جيدة تمكِّنه من تخمين الوضع الاجتماعي لراكبيه جيدًا)، ولقد عرفت في الحال من امتلاكها لثلاثين جنيهًا أنها كانت ميسورة الحال.

يعلم قُرائي أن مهنة أو حرفة الأب تُذكَر دائمًا في سجل الولادة، وقد كانت لديَّ فكرة عن ماهية الأب أو الأب المزعوم فيما يخصُّ هذه المسألة.

كان الاحتمال قائمًا أن يُذكَر في السجل أنه «رجلٌ نبيل».

بعد فحص كلا السجلين وجدت ثلاثة مواليد مسجَّلين في ذلك الشهر، وكان الوصف المذكور لآباء هؤلاء المواليد هو «رجلٌ نبيل».

سجَّلت العناوين الثلاثة، ولست بحاجة إلى أن أقول إنني قدَّمت عذرًا معقولًا جدًّا لفعل ذلك، وهو ما عضدته بالطبع بتقديم عدة عملات فضية تحمل نقوشًا لصورة جلالة الملكة.

وهنا أودُّ أن أحثَّ القارئ على أنه لا يحتاج للشعور ولو بقليل من الاحترام لعملي حتى الآن؛ فقد كانت هذه العملية حتى هذه اللحظة هي أبسط وأسهل ما يمكن أن يُكلَّف به أي محقق. لقد اختُرعت السجلات لنا نحن المحققين؛ فهي الدواء الذي نستخدمه في سعينا لعلاج الفوضى الاجتماعية.

في الواقع، يمكن القول إن قيمة المحقق لا تكمن في اكتشاف الحقائق، بقدر ما تكمن في ربط الخيوط معًا واكتشاف ما تعنيه.

قبل انقضاء اليوم، استبعدت مستخرجَين، اعتبرت أنهما بلا قيمة، من المستخرجات التي حصلت عليها من السجلات. أما المستخرج الثالث فقد احتفظت به ليقيني الشديد أنه مرتبط بالمسألة، وهذا يرجع لحقيقتين تعرَّفت عليهما قبل نهاية اليوم. تكمن الحقيقة الأولى في اكتشاف أن المنزل الذي زُعم حدوث الولادة موضع البحث فيه كان على بعد تسعمائة ياردة من علامة الطريق التي كانت قد بدأت فيها هذه المسألة برمَّتها، والثانية في أن والدة الطفلة كانت ماتت أثناء ولادتها.

شعرت بيقينٍ شديد بأنني كنت على الطريق الصحيح أخيرًا، ولكن قبل أن أستشير المُحامي الخاص بي (معظم المحققين بغضِّ النظر عن مكانتهم يكون لهم بالضرورة مُحامون، وهم بالطبع مُفيدون للغاية للرجال والنساء في مهنتي)، قرَّرت أن أتأكَّد تمامًا من أنني لم أكن أضيع وقتي، وكذا كي أتيقَّن تمامًا من أنني لم أكن على وشك إضاعة أموالي؛ لأنه غالبًا ما يتوجب على المحققين، مثل أي مهنة أخرى، أن يُنفقوا المال كي يتمكنوا من الحصول على المزيد.

عندما علمت أن الأسرة تتكون من الرضيعة — وهي وريثة كانت حينئذٍ تبلغ من العمر خمس سنوات — والأب، وأخته، ركَّزت شكوكي على الفور على الأخيرة، باعتبارها هي المرأة التي اشترت الطفلة.

إذا كانت هي هذه المرأة فقد كنت أعلم أن لديَّ القدرة على إدانتها، في عقلي، من خلال سماعها وهي تتحدث؛ فكما نتذكر، قلتُ إن العيوب الكلامية هي واحدة من أكثر وسائل الكشف المؤكِّدة المُتاح استخدامها للمحققين الرفيعي المستوى.

تمكَّنت بالطبع من دخول المنزل بسهولة، وهذه هي الميزة الخاصة التي تتفرد بها المحققات، والتي تمنحهن في العديد من الحالات قيمةً لا تُقدَّر بثمن تفُوق تلك التي يتمتع بها أقرانهن من الذكور، ألا وهي أن بإمكانهن دخول المنازل التي بالكاد يستطيع المحققون الرجال الوقوف أمامها دون إثارة الشكوك.

أتذكَّر تمامًا حجتي الأولى — ونحن المحققين لدينا الكثير منها — مثل التظاهر بأنني خادمة، أو السؤال عن صديقٍ مشتركٍ مفترض، أو البحث عن عمل في الخياطة والتطريز، أو بتوصية من أحد الفقراء في الحي، أو بطرح استفسار مقبول يخص الحي الذي يدَّعي المحقق أنه غريب عنه. قدَّمت نفسي بصفتي صانعة قبعات نسائية وخياطة جاءت لتوِّها إلى الحي، وبمساعدة بطاقة تعريف فعلية أحملها دائمًا معي، وهي على نفس القدر من فاعلية المفتاح السحري الذي يفتح كل الأبواب الكبيرة، سرعان ما كنت في حضرة السيدة.

تعرَّفت عليها قبل أن تتحدث من عينيها السوداوين الكبيرتين اللتين لاحظهما سائق عربة الأجرة، حتى في عتمة الليل.

لم تلفظ ست كلمات قبل أن يخونها لسانها؛ إذ نطقت حرف «الفاء» في موضع كان ينبغي فيه نطق حرف «الثاء».

يمكن تمييز هذا النطق السيئ بشدة عندما يكون مكتوبًا، ولكنه قد يستخدم لوقتٍ طويل في الحديث دون أن يُلاحظ. قد يشعر المستمع بوجود خَطْب ما في اللغة التي يسمعها، ولكن سيتعيَّن عليه التركيز بشدة ليكتشف موضع الخطأ، هذا إن لم يكن قد تلقَّى تحذيرًا مسبقًا.

وقد كنت قد تلقَّيت تحذيرًا مسبقًا.

ذهبتُ، وأذكر أنه بينما كنت أغادر الغرفة دُعيتُ للعودة وللقيام بزيارةٍ أخرى.

وقد فعلت.

إلى هذا الحد كان كل شيء واضحًا.

كنت قد وجدت المنزل، ومُشترية الطفلة، والطفلة نفسها، فقد كانت أنثى؛ أو كنت متأكدةً من أنني فعلت.

ما كان يتعين عليَّ اكتشافه حينئذٍ هو السبب وراء الاستيلاء على الطفلة، ومن الذي قد يكون قد عانى جرَّاء ذلك.

حان حينئذٍ وقت التشاور مع المُحامي الخاص بي. من هو وما اسمه، هي أمور ليست ذات أهمية للقارئ. أولئك الذين يعرفونه سوف يميِّزون رجل القانون هذا بوصفٍ واحد فقط؛ وهو أن لديه أصغر وأنعم وأنصع يد في مهنته.

وضعت، بطريقةٍ عملية تتَّسم بالسرية، القضية كاملةً بين يدَيه؛ بما فيها من أسماء وتواريخ وأماكن وشكوك واستنتاجات، وكلها مرتبةٌ ترتيبًا مقبولًا.

قال المُحامي: «أعتقد أن القضية واضحة لي، ولكنني لن أُبدي رأيًا اليوم. اتصلي بعد أسبوع.»

«أوه! يا إلهي، لا! لا يمكنني الانتظار أسبوعًا يا عزيزي «ﻣ…» سأتصل بك بعد ثلاثة أيام.»

اتصلت به في اليوم الثالث، في وقتٍ مبكر من الصباح.

أبدى المحامي تبرُّمه وقال إنه مشغول جدًّا، ولا يمكنه الانتظار لحظةً واحدة، ثم تحدَّث معي لمدة عشرين دقيقة. لا بد أن أقول بالأحرى إنه أسهب في الحديث؛ لأنني بالكاد استطعت إقحام نفسي في الحديث، ولكن ما يقوله يستحق عمومًا الإنصات إليه.

كان يرغب في المزيد من المعلومات؛ إذ أراد أن يعرف اسم المرأة قبل الزواج ومكان زواجها من السيد شيدلي، الذي سأفترض أنه اسم العائلة المعنية في هذه القضية.

كان عليَّ أن أخبره بهذه التفاصيل الإضافية، وأن أعود لزيارته مرةً أخرى بعد ثلاثة أيام أخرى.

للوهلة الأولى، كان الأمر صعبًا بعض الشيء، ولكن ما كان استثنائيًّا بما يكفي هو أنني وجدت أن الطريق للحصول على هذه المعلومات كان بسيطًا للغاية؛ إذ كخطوةٍ أولية، بعدما تأكَّدت من الرجل الذي يسكن على الطريق الرئيس في ذلك الحي من المكان الذي دُفنت فيه السيدة شيدلي، زُرتُ قبرها، على أمل أن اسم عائلتها ومكان إقامتهم قد يكون محفورًا على الحجر، وهو الحال عادةً بين زوجات طبقة النبلاء.

ولكن في حالة هذه السيدة لم يكن يوجد أي ذكر لاسم عائلتها ولا لمكان إقامتهم، ولكن على الرغم من ذلك لم أغادر المقبرة دون الحصول على المعلومات الكافية التي احتاجها المحامي الخاص بي.

كانت السيدة قد دُفنت في مقبرةٍ خاصة في بداية سراديب الموتى، وكان يمكن رؤية التابوت عبر الحواجز الشبكية لبوابةٍ كان مثبَّتًا عليها شعار نبالة من النحاس المنقوش.

بالطبع كَوْني محققةً لا بد لها أن تكون على علم بالعديد من النقاط؛ كنت أعرف أن الشعار لا بد أنه يشير إلى المتوفَّى؛ لذا فُوجئ حارس المقبرة كثيرًا عندما تحدَّثت معه مرةً أخرى في وقتٍ لاحق من اليوم، وأخبرته أنني أريد شفَّ مسحة من اللوح النحاسي المعني.

كان طلبي غير معتاد؛ لذا كان عليَّ التعامل مع الصعوبات المعتادة المتمثلة في الشك والتحامل، ولكن المُثير للدهشة هو مقدار الشك والتحامل الذي يمكن لخمسة شلنات شراؤه، ولاختصار هذا الجزء من حكايتي سأقول إنني نجحت في النهاية في أن آخذ معي نسخةً طِبق الأصل من شعار النبالة الخاص بالسيدة الراحلة. لا حاجة لقول كيف فعلت ذلك؛ إذ يعرف أي شخص كيفية أخذ صورة طبق الأصل من أي سطح محفور بوضع ورقة عليه وفَرْك قطعة من الفحم أو الطباشير الأسود على الورقة. يمكن محاولة هذه التجربة على أي غلاف منقوش، باستخدام ورقة عادية وقطعة من قلم رصاص.

أخذت هذه النسخة إلى المحامي وانتظرت ثلاثة أيام.

كان لديه ما يكفي من المعلومات ليخبرني إيَّاها بنهاية اليوم الثاني.

اكتشف، بأبسط الطُّرق وأكثرها طبيعيةً في العالم، سببًا للاستيلاء على الطفلة، ولم يقتصر الأمر على حصوله على تلك المعلومات، بل إن المعلومات المُتعلقة باسم الرجل المُتضرر من الفعل، ومصلحته في هذا الأمر برمَّته، كانت بحوزة المحامي.

لم يُثنِ أيٌّ منَّا على الآخر من أجل اكتشافاته؛ إذ كان كلٌّ منَّا يدرك أن الآخر لم يفعل شيئًا سوى تطبيق المبادئ والقواعد العادية لعمله.

كنت قد حصلت على المعلومات بالرجوع إلى السجلات، أما هو فقد حصل عليها، أولًا، من خلال مراجعة كتاب عن طبقة النبلاء مُلَّاك الأراضي وشعاراتهم، وثانيًا من خلال دفع بعض المال وفحص وصية محفوظة لدى السلطات في نقابة المحامين المدنيين.

كان المحامي قد وجد شعار النبالة كما نسخته من بوابة المقبرة في كتاب عن طبقة النبلاء مُلَّاك الأراضي، وعلِم أن إحدى الضِّياع قد انتقلت ملكيتها من حوزة السير جون شيرلي في عام ١٨٥٦ بوفاته إلى ملكية ابنته، الوريثة، وزوجة المحترم نيوتن شيدلي. كذلك بيَّن السجل أن السيدة شيرلي شيدلي قد تُوفيت في عام ١٨٥٧، وأنه طبقًا لاتفاق زواجها تئول الممتلكات إلى أطفالها. كانت شيرلي شيدلي، وهي ابنة لهذه السيدة، سُمِّيت على اسمها، هي من آلت إليها ملكية تلك الضِّياع الضخمة، بينما كان الأب نيوتن شيدلي، بصفته الوصيَّ الوحيد الباقي على قيد الحياة، هو من يسيطر عليها.

هكذا كان الوضع.

«يمكنني رؤية كل شيء بوضوح.» هكذا قال المحامي، الذي يتعين عليَّ أن أقول إنه قد تجاهَل المجهود الذي بذلته في هذه المسألة وكأنه لم يكن. «يمكنني رؤية كل شيء بوضوح. يتزوج المدَّعى عليه نيوتن شيدلي من وريثةٍ تظلُّ محتفظةً، بموجب اتفاق زواجها، على ملكية ضيعتها من خلال أوصياء. وكما هو الوضع في الحالات العادية تئول هذه الضِّياع بعد مماتها إلى أولادها، إن وُجدوا، ولكن هنا يأتي دور السؤال الدقيق؛ إذا كان لديها أطفال وتُوفُّوا جميعًا قبلها، بافتراض أنها تُوفيت قبل زوجها، يصبح الزوج، بموجب حق ولادة أطفالهما، مؤجِّرًا مدى الحياة لممتلكاتها، ولكن حسب اتفاق الزواج، في حالة وفاة الزوجة دن إنجاب أطفال يرثون ممتلكاتها، تنتقل الممتلكات إلى شقيق والدها.»

قلت مستفهمةً: «حسنًا؟»

«إن الدافع وراء الإتيان بوريثٍ زائفٍ واضحٌ. لقد ماتت السيدة وهي في مدة النفاس، كما تُثبت تواريخ وفاتها وولادة مولودتها المفترضة — لقد وُلدت طفلتها ميتةً على الأرجح؛ وعليه فقد ماتت الأم دون أن تُعطي للأب حقًّا عادلًا في التأجير مدى الحياة — وبموجب شروط اتفاق الزواج يتعين أن تنتقل الملكية على الفور عند وفاة الزوجة إلى عمها، شقيق والدها. لتجنُّب ذلك أُخذت ابنة المرأة المتسوِّلة لتحلَّ محلَّ الرضيعة المتوفَّاة. إنها من أوضح القضايا التي جمعت خيوطها معًا.»

توقَّفت هنا قائلةً: «ولكن …»

قال مُتسائلًا: «ماذا؟»

«تشير حجتك إلى وجود مُتواطئين.»

«أجل.»

«أربعة: الأب وأخته والطبيب والممرضة.»

قال المحامي: «أربعة على الأقل.»

«هل تعرف من هو المالك الحقيقي للضِّياع؟ أو هل سمعت عنه من قبل؟»

سيلاحظ القارئ أنني والمحامي كنا قد أصدرنا حكمًا في القضية بالفعل.

«لا أعرفه. لقد استعلمت عنه مرتين أو ثلاثة. إنه السير ناثانيال شيرلي. بناءً على ما سمعته لا يتمتع بسمعةٍ جيدة، ومع ذلك من المستحيل تمامًا — كما سمعت — توجيه أي اتهام إليه.»

أجبتُ: «سيكلِّف هذا مالًا.»

فردَّد المحامي قائلًا: «سيكلِّف هذا مالًا.»

لقد لاحظت دائمًا أنه عندما يكون لدى المحامي أي شيء غير لطيف ليقوله، فإنه عادةً ما يردِّد ما تقوله أنت.

«هل هو غني؟»

«من؟» هكذا سأل المحامي بهذا الأسلوب المُولَع بالدقة الذي يُزعج أي امرأة، حتى وإن كانت محققة.

«السير ناثانيال شيرلي.»

«حسبما سمعت، ليس كذلك.»

«من إذن الذي سيدفع النفقات؟»

«من الذي سيدفع النفقات؟» هكذا كرَّر المحامي ما قلته، ثم أضاف بعد صمت كما لو أنه يريد أن يبيِّن وجود فرق بين كلامي وكلامه: «ستكون هناك نفقات بالتأكيد.»

«هل نتحدث مع السير ناثانيال على الفور؟»

«يمكنكِ «أنتِ» التحدث إلى السير ناثانيال على الفور. أما أنا فسأنتظر حتى يتحدث هو معي.»

قلت مندهشةً: «أوه!»

«أجل.» أجاب المحامي وهو يقلِّب بلطفٍ إصبعًا ثقيلة من الشمع الأحمر لم أرَ قط مثيلًا له في أي مكتب محاماة على مدى مسيرتي المهنية.

كان واضحًا أن القضية ستُترَك تحت تصرُّفي إلى أن تسلك الأمور مسارًا واضحًا، وعندئذٍ سيتولَّى المحامي زمام القيادة. لقد لاحظت أن المحامين الذين تعيَّن عليَّ التعامل معهم يميلون بشدة إلى هذا الأسلوب الحذر في أداء العمل.

ربما نميل، نحن المحققين، إلى النظر بشكل من الاحتقار إلى مثل هذا الحذر؛ إذ نعلم أن أمورًا كثيرة تعتمد على الجرأة والمخاطرة، ولأننا نعرف أنه إذا تصرَّفنا بمثل هذا الخوف فلن نكسب ما يكفي لسدِّ رمقنا.

«سأراك مرةً أخرى يا سيد «ﻣ…» في غضون أيام قليلة.»

قال وهو يبدو مُنزعجًا قليلًا: «حسنًا، أيًّا كان ما ستفعلينه لا تتخلَّي عن القضية؛ فكِّري في الأمر جيدًا، ودعيني أراكِ مرةً أخرى بعد ثلاثة أيام.»

قلت: «شكرًا لك! سآتي عندما أريدك.»

أظن أنني لاحظت مزيجًا من المفاجأة والرضا ارتسم على وجه المحامي؛ فقد فُوجِئ لأنني أظهرت بعض الاستقلالية، وشعر بالرضا بسبب كلامي الذي يوحي بأنني لم أكن أنوي التخلي عن القضية.

أتخلى عن القضية!

مع عدد القضايا الجيدة التي ربما أكون قد انخرطت فيها، كنت أعرف أن أيًّا منها لم تقرِّبني من تحقيق الشهرة، وإلى حدٍّ ما، الثروة التي أحلم بها، مثل هذه القضية؛ إذ يمكنني إخباركم أننا نحن المحققين نُشبِه الممثلين أو المطربين أو الكُتَّاب المسرحيين الذين يأملون دائمًا في نيل بعض التميز الذي من شأنه أن يرتقي بهم إلى قمة مجال عملهم.

كنت قد ادَّخرت بعض المال؛ فأنا لست مسرفة، وعلى الرغم من أن نفقاتي الضرورية كانت ضخمةً فقد جنَيت قدرًا جيدًا من المال طوال عدة سنوات، ولم أنفق سوى القليل؛ لذا عقدت العزم على أن أجد المال اللازم لبدء هذا التحقيق والمتابعة فيه.

حتى هذه اللحظة كنت قد جمعت الحقائق فقط. أما الآن فكان عليَّ إثباتها.

لفعل ذلك كان من الضروري أن أستطيع دخول المنزل.

كما يعلم القارئ، كنت قد قمت بأولى محاولاتي عندما زُرتُ المنزل وقدَّمت بطاقة تعريف صغيرة تُثبِت أنني الآنسة جلادن، صانعة قبعات نسائية وخياطة، تغيب عن منزلها يومًا أو أسبوعًا.

كنت دائمًا ما أنفِّذ هذه الحيلة التي نفَّذتها بنجاح مع السيدة فليمبس وأثمرت عن الاتفاق على صنع قبعتين وقلنسوة لها، وفي الواقع يمكنني القول إنني تلقَّيت دروسًا كمبتدئة لتحسين مهاراتي في كلتا المهنتين؛ كي أنفذ عملي الفعلي على نحوٍ أفضل، وهو، وسأكرِّر هنا مرةً أخرى، عملٌ ضروري، مهما كان محتقَرًا.

إذا ما اختفى المحققون من العالم فسرعان ما سيكتشف العالم غيابهم، وسيتمنَّى عودتهم، أو بعضهم، إلى العمل مرةً أخرى.

لكنني لم أستطع الانتظار حتى تُرسِل الآنسة شيدلي في طلبي، حتى بافتراض أنها تذكَّرتني وتذكَّرت أن تطلبني؛ فحتى هذا الافتراض كان موضع شك.

ولذلك أصبح من الضروري أن أعرض بضاعتي على تلك السيدة مرةً أخرى، فأرسلت عينة من عملي إلى منزلها ومعها رسالة مُفادها أن ما معي من مال كان يوشك على النفاد، وأنني بدأت أشعر بالقلق.

كان الرد على ذلك أنه يمكنني القدوم إلى المنزل في الساعة التاسعة من صباح اليوم التالي.

وصلت هناك في الموعد.

كان المنزل شديد الروعة ومليئًا بالخدم، وكان عددهم المُدهش يدل على الغنى الفاحش.

كانت سيدة المنزل، الآنسة كاثرين شيدلي، واحدة من ألطف النساء وأكثرهن بهجة؛ فهي رصينة وودودة وهادئة، وتمتلك القدرة على جعل الناس يشعرون بالألفة وكأنهم في منزلهم، وهي صفةٌ شديدة الندرة، ونعلم جيدًا نحن المحققين كيف نقدِّرها.

أقمتُ في غرفة مدبِّرة المنزل، وسرعان ما أصبحتُ مُحاطة بالعمل.

لم يكن قد مضى على وجودي في المنزل الضخم سوى ساعتين حين رأيت الطفلة الصغيرة التي كانت أمورٌ كثيرة قد اعتمدت على ولادتها.

كانت طفلةً لطيفة جدًّا، ولم يكن ثَمة شيءٌ استثنائي للغاية فيها، وكان عمرها، الذي أخبرتني به مدبرة المنزل، يتوافق تمامًا مع قصة سائق عربة الأجرة.

منحني ظهور الطفلة، التي كانت مليحة عند النظر إليها وليست جميلة، تلك الفرصة التي كنت أنتظرها. لقد كنت متأكدة تمامًا من أنني سأرى الوريثة عما قريب؛ إذ كنت أعلم أنه إن لم يكن الأطفال توَّاقون إلى رؤية وجوه جديدة في المنزل، فالفتيات الأصغر سنًّا اللاتي يتعهدن برعايتهم دائمًا ما يتشوَّقن لذلك.

«لقد فقدت الآنسة الصغيرة والدتها، أليس كذلك؟» هكذا سألت مدبرة المنزل التي كانت صادقة وصريحة، وهي صفة نُكنُّ لها، بطريقة أو بأخرى، نحن المحققين الكتومين احترامًا كبيرًا.

ردَّت مدبرة المنزل قائلةً: «أجل، لم تعرف الآنسة شيدلي والدتها أبدًا.»

«حقًّا؟! كيف كان ذلك؟ هلَّا ناولتِني الشمع الأبيض؟ شكرًا لكِ!»

«لقد ماتت السيدة شيدلي وهي في مدة النفاس.»

قلتُ: «يا إلهي! يا لها من سيدةٍ مسكينة!» ثم توقَّفت قليلًا وسألتها: «هل كنتِ تعرفينها يا سيدتي؟»

رفعت مدبرة المنزل عينيها لوهلة، وهي تبدو مُستاءة قليلًا، ثم سرعان ما استعادت أسلوبها اللطيف العادي وأجابت:

«أجل، لقد كنتُ مدبرة المنزل لدى والدتها، ثم صِرت مدبرة منزل والدها حتى وقت زواجها، وقد جئنا معًا إلى هذا المنزل.»

«ها! إذن فقد كنتِ حاضرة عند وفاة هذه السيدة المسكينة؟»

أردفت السيدة العجوز قائلةً: «عفوًا يا عزيزتي، لا أظن أنه توجد أي حاجة للشفقة على سيدتي — كما كنت أدعوها دائمًا بالسيدة شيرلي على اسم والدتها بعد وفاتها — فقد كانت صالحة بما يكفي لألَّا تخشى الموت كثيرًا.»

«إذا سمحتِ لي بالسؤال، يا سيدة دومارتي، هل ماتت دون مُعاناة؟»

«لقد كنتُ متأكدة من ذلك.»

«أوه! ألم تكوني حاضرة يا سيدة دومارتي؟»

«نعم يا عزيزتي، لم أكن حاضرة، ولن أسامح نفسي أبدًا على عدم وجودي في ذلك الوقت، ولكننا في الواقع لم نتوقع أي زيادة في الأسرة لمدة شهرين كاملين من الوقت الذي كانت تُعاني فيه السيدة المسكينة، وكنت قد ذهبت — لن أسامح نفسي أبدًا — إلى منزلي في الريف لأرى أقاربنا — أقصد أقاربي وأقارب سيدتي؛ فكلانا من نفس المنطقة.»

«أوه!» هكذا قلتُ باقتضاب؛ إذ كان من الواضح أن السيدة دومارتي كانت عديمة النفع من ناحية كَوْنها شاهدة.

«لم يكن أبدًا ثَمة شيءٌ مؤسف أكثر من هذا. يا إلهي، يا عزيزتي، لقد أربكني الحديث عن هذا الأمر بشدة، حتى إنني أظن أنني قد أخطأت في الحياكة! بلى، لقد فعلت؛ فالطولان مختلفان!»

سألت قائلةً: «ولكن السيدة لم تكن وحدها، أليس كذلك؟»

أجابت قائلةً: «نعم، لم تكن وحدها.» ثم قالت بنبرة صوت مختلفة عن تلك التي كانت تتحدث بها، وبصوتٍ أعلى: «لكنك تبدين مهتمة بالعائلة اهتمامًا غريبًا، أليس كذلك؟»

أجبت قائلةً: «يا إلهي، لا، ولكنها طريقتي عندما أكون أعمل لدى عائلة. أستميحك عذرًا، ولن أزعجك مرةً أخرى.»

أومأت السيدة العجوز بجدية وهي تزمُّ شفتَيها، وبدأت تفكُّ الغرزة الخاطئة التي كانت قد حاكتها، ولكنها لم تصمت طويلًا. سرعان ما بدأت تتحدث مرةً أخرى، وكنوع من الاعتذار لكَوْنها كانت حادةً بعض الشيء، صارت أكثر تواصلًا مما كانت عليه.

قالت: «لم تكن سيدتي وحدها، لكن ربما يكون قد حدث ما هو أكثر من ذلك فيما يخصها. على سبيل المثال، كان السيد شيدلي غائبًا عن البيت، ولكن لا شك في أن أخته كانت موجودةً.»

«ماذا؟! لم يكن موجودًا في المنزل عندما ماتت زوجته؟»

«نعم، عزيزي المسكين. وقد قيل لي إن قلبه كاد أن ينفطر عندما علم بالكارثة عبر التلغراف الكهربائي، وربما كان ذلك سيحدث لولا وجود ابنته الصغيرة. لقد أحزنه الأمر حتى إنه لم يتمكن من السفر لمدة يومين. لقد عرفت بالخبر عبر التلغراف الكهربائي، ولن أسامح نفسي أبدًا على غيابي.»

ها قد حصلت على معلومة!

كان من الواضح — إن كنت سأصدق مدبرة المنزل، والتي لم يكن لديها أي مبتغًى من خداعي — أن الأب، كشأن السير ناثانيال شيرلي، كان يجهل الوضع الحقيقي للمسألة.

قلت: «هل تعتقدين»، وهو سؤال كان سيُفضي إلى مسارٍ آخر في القضية، «هل تعتقدين أن الطبيب الذي باشر السيدة كان طبيبًا ماهرًا؟»

ردَّت مدبرة المنزل قائلةً: «ليُباركك الرب يا عزيزتي!» وبدأت ألاحظ أنها بدأت تشعر بالرضا، وليس الغضب، عن الاهتمام الذي كنت أبديه بالعائلة، «لقد كان الدكتور إلكينز أمهر الأطباء.»

سألت بطريقةٍ استفهامية: «كان؟»

أجابت مدبرة المنزل بصوتٍ ينمُّ نوعًا ما عن الإيمان بالقدر: «لقد مات. ينبغي أن أقول إنه لم يكن رجلًا شديد القوة أبدًا، وإنه ما كان ينبغي أن يجرب هذه الرحلة أبدًا. لقد سافر إلى جزيرة ماديرا يا عزيزتي، ومات هناك.»

وها هو شاهدٌ آخر من بين الشهود الأربعة الذين كنت أعتمد عليهم قد صار من المستحيل استجوابه.

قلت وأنا أنتقل إلى فرعٍ آخر من قضيتي: «ربما أهملت الممرضةُ السيدةَ المسكينة.»

أجابت مدبرة المنزل العجوز قائلةً: «أوه يا إلهي! لا يمكن؛ فقد كانت المسألة برمَّتها مفاجئةً وغير متوقعة، وقد أعقبت الوفاةُ الولادةَ مباشرةً، حتى إن الممرضة لم تُستدعَ إلا بعد ساعات من موت سيدتي المسكينة. كان الإنسان الوحيد الذي كان معها ليُساعدها في كربها هو أختها العزيزة، السيدة شيدلي، التي اعتنت بها طوال معاناتها. لقد نجت الآنسة شيدلي نفسها بحياتها بصعوبة، ومنذ ذلك الحين صارت كالأم لطفلتنا الحبيبة.»

إذن فمن بين الشهود الأربعة المفترضين لم يبقَ سوى واحدة فقط هي التي يمكن أن تُفيدني في كشف السر، وهذه الشاهدة هي المتَّهَمة بالكامل بالاحتيال؛ إنها أخت زوج السيدة الراحلة، وأخت الأب المفترض، الذي اعتبرته حينئذٍ مخدوعًا على الأرجح مثل السير ناثانيال شيرلي الذي من المؤكد أنه تعرَّض للخداع هو الآخر. إن الأب المفترض لم يصل إلى البيت إلا بعد يومين من وفاة السيدة؛ أي بعد يومين على الأقل من الولادة المفترضة للطفلة التي أصبحت حينئذٍ وريثة الممتلكات الضخمة.

لم يكن الأب في المنزل وقت الولادة ولا الوفاة.

ولم تُستدعَ الممرضة.

وقد مات الطبيب.

لم يبقَ سوى شقيقة الزوج. كيف يمكنني التقرب منها؟ لقد كان من مصلحتها في المقام الأول التزام الصمت. ستكون حذرة، ولا يمكنني أن آمل الحصول على أي معلومات منها.

بدأت أرى أن فرص نجاحي تتضاءل أكثر فأكثر.

ولكنني لم أيأس.

في تلك الأمسية نفسها، وبعد أن كنت قد غادرت المنزل ليلًا، توجَّهت إلى المنزل الذي كان يعيش فيه الدكتور إلكينز، بعد أن عرفت العنوان من مدبرة المنزل، ووجدت أنه كان لا يزال ملكًا لأحد الأطباء الذي، وباختصار، كان من اشترى أعمال الدكتور إلكينز منه عندما قرَّر مغادرة إنجلترا.

لقد كان الاستفسار عما إذا كان للدكتور إلكينز مساعد أم لا، وإذا كان لديه فأين يمكنني العثور عليه؛ أمرًا في غاية السهولة.

لا، لم يكن للدكتور إلكينز أي مساعد.

كنت قد شكرت مدبرة منزل الطبيب على معلوماتها، وكنت أستدير لأرحل عندما خجلت من نفسي لشيء أغفلته عندما قالت:

«كان لدى الطبيب مُتدرب.»

فسألتها: «وأين هو؟»

«يا إلهي! كيف لي أن أعرف يا سيدتي! أظن أنه في أحد المستشفيات في لندن. على الأقل أعرف أنه قال إنه كان ذاهبًا لأحد المستشفيات، وإنه كان سيصبح «جاي».»

شحذت هذه العبارة شجاعتي؛ إذ كان لديَّ بعض الخبرة مع طلاب الطب؛ فقد كانت لديَّ قضية أصبح فيها أحد هؤلاء الطلاب سجيني في النهاية. عرفت أنه عندما قال هذا الشاب إنه سيصبح «جاي»، أنه كان يقصد أنه كان على وشك أن يصبح طالبًا في «مستشفى جاي» فوق جسر لندن.

سألت الخادمة قائلةً: «ماذا كان اسمه؟»

«يا إلهي يا سيدتي! أتمنى حقًّا ألا يكون قد وقع في أي مشكلة. لقد كان عيبه الوحيد، عندما كان معنا، هو الرقص؛ فقد كان مُولَعًا به.»

«لا توجد أي مشكلة. أريد أن أوجِّه إليه سؤالًا فحسب.»

قالت السيدة العجوز: «ليُباركك الرب! اسمه جورج جيفينز؛ إنه شابٌّ ذو شعر أحمر مُشرِق، كان يحاول تغيير لونه دائمًا، ولكنه دائمًا ما كان يصبح أكثر إشراقًا بعد كل محاولة.»

تركت مدبرة المنزل العجوز بعد أن قلت لها إنني سأزورها مرةً أخرى (وهو ما لم أفعله أبدًا).

في تلك الليلة نفسها أرسلت رسالة إلى مدبرة منزل آل شيرلي، كما كان يُطلَق على قصر السيد شيدلي، مُفادها أنني لن أتمكن من الوجود معها في اليوم التالي، وعندما أشرقت شمس اليوم التالي كنت في لندن.

سرعان ما وصلت إلى مستشفى جاي، وفي غضون ربع ساعة من التجول في المبنى عرفت أن السيد جورج جيفينز كان طالبًا في ذلك المكان، وأعطاني الحارس، بابتسامة، عنوانه الخاص.

حينئذٍ كانت الساعة التاسعة والنصف، وعند وصولي إلى المنزل ودخولي إلى الممر، خمَّنت أن السيد جيفينز كان يتناول الإفطار من صوت نقر ملعقة على فنجان أو طبق سمعته بوضوح.

عندما قالت له صاحبة المنزل إن ثَمة سيدةً ترغب في رؤيته، توقَّف صوت نقر الملعقة.

كنت معتادة على الإنصات بحدةٍ أكبر من المعتاد — فأنا أومن أنه يمكن تدريب الحواس لتصبح أكثر حدة لأي مدًى — وسمعت السيد جيفينز وهو يقول:

«لماذا، بحق الجحيم، لم تقولي إنني غير موجود؟»

ثم صاح قائلًا: «أهذا أنتِ يا ماتيلدا؟»

أجبت قائلةً: «لا، أنا لست ماتيلدا.»

قال (بارتياحٍ أدهشني) وهو يقترب من الباب: «أوه! أوه! إذن من أنتِ، يا سيدتي، بحق الجحيم؟»

أذهلني أكثر، وأنا مستعدة للاعتراف بذلك، أنه عندما رآني لم يُبدِ أي رغبة استثنائية في التعرف بي أكثر.

وقد وضح نفوره أكثر عندما قلت له إنني أتيت لأمرٍ يخص العمل.

كان شابًّا يبدو مُنهَكًا وهزيلًا، وبدا لي كأنه عاش نحو ثلاث سنوات في سنةٍ واحدة.

ومع ذلك طلب مني الدخول إلى غرفة الاستقبال. وكانت شقته هي أكثر شقة بائسة وذات أثاث مدمَّر دخلتها على الإطلاق، ثم بعد أن غادرت صاحبة المنزل الغرفة منزعجةً سألني بأسلوبٍ فظٍّ عما أريده مستخدمًا لفظًا غير لائق، ولكنني سأمتنع عن اقتباسه.

«لقد كنت تلميذًا لدى الدكتور إلكينز، أليس كذلك؟»

قال بارتياح: «أوه، بلى.»

«لقد كنت تلميذه في عام ١٨٥٨، أليس كذلك؟»

«بلى، في عام ١٨٥٨.»

عندئذٍ، بعدما تجاوز خوفه الجلي مني، لاحظت أنه بدأ يشكُّ في أمري.

«أريد فقط أن أعرف، هل تتذكر ولادة طفلة في منزل آل شيرلي في يوليو من نفس ذلك العام؟»

«ماذا؟ طفلة السيدة شيدلي؟ أوه! أجل، أتذكَّر هذا بشكلٍ خاص. ولماذا تسألينني عن ذلك بحق السماء؟»

«ببساطة لأنني أريد معرفة تاريخ مسألة ذات صلة بي شخصيًّا، وسيمكنني تحديده على الفور إذا عرفت تاريخ ميلاد ابنة السيد شيدلي.»

قال السيد جيفينز: «حسنًا، يمكنني إخبارك، إنها أغرب صدفة ستسمعينها في حياتك. اجلسي يا سيدتي، واسمحي لي باستكمال إفطاري؛ إذ لا بد أن أذهب لمحاضرة بحلول الساعة العاشرة.»

وهكذا جلست. أول درس للمحقِّق هو مُجاراة الضحية، والدرس الثاني هو قبول حسن ضيافة الضحية إن قدَّمها. لا شيء يدفع الرجال أو النساء إلى الكلام بسهولةٍ أكثر من السماح لهم بملء فمك بالطعام أو الشراب!

سألني قائلًا: «أترغبين في احتساء فنجان من الشاي؟»

فعلت ذلك على الفور.

قال: «يا إلهي! أذكر هذا اليوم جيدًا، فقد كان الخامس عشر من يوليو؛ لأنني أتذكَّر جيدًا أنني رأيته على ورقة الاستدعاء — «إنه في الخامس عشر من يوليو، عام ١٨٥٨، ارتكبتَ عمدًا ومع سبق الإصرار والترصد، وإلخ إلخ …» — في الواقع، كما ترين، لقد كان عيد ميلاد مدبرة منزل سيدي العجوز، وكنت قد وعدتها بمفاجأة، وقد كانت هذه المفاجأة هي حزمة كاملة من المفرقعات النارية، كانت كلها مشتعلة وجاهزة تحت نافذتها تمامًا. كان الشرطي يمرُّ في ذلك الوقت؛ ولهذا تلقَّيت طلب الاستدعاء، وكان عليَّ دفع غرامة خمسة شلنات وثلاثة عشر شلنًا مقابل الخسائر. حسنًا، أتذكر التاريخ. لديَّ ورقة الاستدعاء حتى الآن. أتذكر أن الحاكم كان ذاهبًا إلى منزل آل شيرلي؛ وهو ما أعطاني الفرصة لإطلاق المفرقعات النارية، ولكن، بحق الرب»، وأكمل وهو يتناول قضمةً كبيرة من خبزه المحمَّص الجاف قائلًا: «لا بد أن أسرع، وإلَّا فلن أصل أبدًا في الوقت المناسب لحضور المحاضرة.»

تابعت قائلةً: «معذرةً يا سيدي، ولكنني أرغب في سماع كل التفاصيل عن التوقيتات. في أي ساعة عاد الدكتور إلكينز إلى المنزل قادمًا من منزل آل شيرلي؟»

«أعتقد أنها كانت حوالَي الساعة العاشرة، وفي الحادية عشرة اتصلوا به، واضطر إلى العودة إلى المنزل مرةً أخرى!»

قلت: «ها، بالضبط! والآن نأتي إلى النقطة التي تهمُّني بشكلٍ خاص. أعرف أنه عاد إلى المنزل، وإلا ما كنت سأرغب في معرفة أي شيء عن هذه المسألة. هل لي أن أسأل لماذا عاد إلى المنزل، أو ما هو العذر الذي قدَّمه لك عندما غادر منزله؟ هل قال إنه سيعود إلى منزل آل شيرلي؟»

«أوه أجل! وأنا متأكد تمامًا من أنه ذهب إلى هناك؛ لأن السائس هو من أتى ليطلب منه القدوم.»

قلت بنبرة شغوفة: «هل هذا ممكن؟ أتمنى أن تخبرني كل شيء عن هذا الأمر! لأنني كما ترى مهتمة للغاية بمعرفة التفاصيل.»

قال: «حسنًا، انظري»، ويجب أن أعترف أن سلوك الشاب تحسَّن بعد التعارف، تمامًا كما يتحسن في الغالب سلوك كلب بشع بعد بعض الوقت؛ «سأخبرك بكل شيء. لم يكن من المتوقَّع أن يبقى إلكينز في المنزل الكبير في تلك الوظيفة لمدة شهرين كاملين؛ لذا قد تخمِّنين أنه فوجئ إلى حدٍّ ما عندما استُدعي في الساعة العاشرة مساءً، في الخامس عشر من يوليو. عاد قبل الساعة الحادية عشرة، وأتذكر أنني سألته عما إذا كان كل شيء على ما يُرام، وأتذكر أنه قال لا، ولم يكن من المحتمل على الإطلاق أن يكون أي شيء على ما يُرام.»

«ما الذي كان يعنيه بذلك؟»

«حسنًا، أنتِ لا تُدهَشين بسهولة، أليس كذلك؟»

قلت وأنا أنظر ببساطة إلى الشاب في عينيه: «لا.»

لا يمكنني إعادة العبارة التي قالها، ولكنها كانت تعني بوضوحٍ أن السيدة شيدلي لم تُنجب طفلةً حية، وأنه كان من غير المحتمل إلى حدٍّ كبيرٍ أن يكون ذلك قد حدث.

كانت هذه هي المعلومات التي أردتها بالضبط، ولكن لم يكن من الممكن أن أُظهر ذلك؛ لذا قلت بأقصى ما استطعت التظاهر به من نفاد الصبر:

«ولكني أريد أن أعرف الآن الوقت الذي ذهب فيه الطبيب إلى المنزل مرةً أخرى. هذا إن كان قد ذهب أصلًا، وهو ما أشك فيه.»

لا بد أنني جعلت الشاب يتخلى تمامًا عن حذره بطريقتي التي بدت حقيقية؛ إذ وضع كأسه على الطاولة، وتحدَّث بأكثر نبرة مهذَّبة تحدَّث بها منذ أن قابلته قائلًا:

«أوه، ولكني أؤكد لك أنه ذهب بالفعل إلى المنزل وعاد في غضون ثلاث ساعات تقريبًا. أؤكد لك أنه بدا مُستاءً على نحوٍ مُدهش، وعندما سألته عما إذا كان ثَمة خَطْب، أجاب بأن السيدة شيدلي قد ماتت. لم يزِد على ما قاله، ودخل غرفته دون أن يتمنَّى لي ليلةً سعيدة، وهو ما كان أمرًا مُستغربًا للغاية منه؛ لأنه رجلٌ مهذَّب جدًّا. حسنًا، يمكنك أن تتوقعي دهشتي في صباح اليوم التالي عندما قالت لي «الأم سماك» العجوز، معذرةً، أقصد عندما قالت لي مدبرة منزل الطبيب: «إذن توجد وريثة في المنزل الكبير. أفترض أنه سيكون لدينا أعمالٌ استثنائية، أليس كذلك؟» حسنًا، وقد كان كذلك. وعندما سألت الطبيب طلب مني أن أصمت، وأضاف أن ولادةً أخرى قد حدثت، ثم توسَّل لي ألا أقول شيئًا عن هذه المسألة، ولم أفعل حتى الحين. ولكن هذا لا يهم كثيرًا الآن؛ إذ يمكنني الحديث عن الأمر والإضرار كثيرًا بسمعة الطبيب العجوز المسكين، ولن يشعر بذلك؛ فقد غادر عالمنا وصعد إلى السماء؛ فلنأمل أن ينال الخلاص. لقد ارتكب خطأً، كما ترين، وكنت أخشى قول أي شيء عن الأمر؛ إذ ربما يكون قد ساعد في وضع السيدة المسكينة في لحدها، أحيانًا ما يقوم الأطباء بالفعل بهذا النوع من الأشياء، ولا يكون أمامهم خيارٌ آخر، ولكنني أتمنى حقًّا، يا سيدتي، ألا يكون لديكِ المزيد من الأسئلة التي تريدين طرحها عليَّ، وآمل أن أكون قد أسديت إليكِ خدمة. إذا انتظرتُ أكثر من ذلك فسأتأخر كثيرًا على المحاضرة، ولن يكون ثَمة نهاية للتوبيخ.»

حسنًا، أجبته قائلةً إنه لم يكن ذا نفع كثير لي، ولكنني شكرته على أي حال، وسألته أن يسمح لي بزيارته مرةً أخرى.

فغَرَ فاه مُندهشًا. قال إنه لا يهتم كثيرًا بزيارة النساء له؛ لأن ذلك النوع من الأخبار ينتشر بسرعة، وقد حدث هذا لأحد زملائه وكانت عواقبه سيئة. ولكنه قال إنه يمكنني أن أزوره مرةً أخرى، وسألني إن كان يمكنني استخدام اسم «ووكر» في المرة القادمة؛ لأنه لم يكن يرغب في معرفة اسمي؛ إذ سيسهل عليه تذكُّر هذا الاسم، ثم قال إنه لا بد أن يغادر.

قال هذا ثم اندفع مسرعًا، تاركًا إياي وحدي في غرفة الاستقبال بصحبة ملاعق صاحبة المنزل الفضية.

كنت قد علمت أكثر بكثير مما كان يفترض، أكثر مما هو نفسه كطبيبٍ يمكن أن يظن، ولم أكن بحاجة إلى زيارته مرةً أخرى، ولكنني في ذلك الوقت كنت أظن أنني يجب أن أفاجئه بالظهور بشخصيتي الحقيقية، وبأن يكون فعَّالًا في استدعائه كشاهد.

ما الذي عرفته بالإضافة إلى ما كنت أعرفه بالفعل عن القضية؟

لقد عرفت أكثر بكثيرٍ مما يمكنني أن أصرِّح به لقُرائي، ومع ذلك لا بد أن أضع هذه المعلومات في جعبة اكتشافاتي بطريقةٍ روتينية إلى حدٍّ ما.

فلتعلموا إذن أن الطبيعة يمكن أن تحمل دليلًا على عجز بعض النساء عن أن يصِرْن أمهات لأطفالٍ أحياء، بحيث إنه بعد موتهن بفترةٍ طويلة، حتى ولو بعد مئات السنين من موتهن، إذا كان الهيكل العظمي كاملًا يمكن للأطباء أن يُقسِموا على وجود مثل هذا العجز.

بالمعلومات التي حصلت عليها، عرفت أن بحوزتي الدليل على جُرْم الآنسة شيدلي. سيحسم فحص بقايا جثة السيدة المسألة، وإذا تمكَّن سائق عربة الأجرة من التعرف عليها، ولم يكن لديَّ أدنى شك في أنه يستطيع ذلك، ستثبُت عليها التهمة في عقر دارها في حال أنكرتها.

ماذا عليَّ أن أفعل؟

كان واجبي الفعلي أن أُبلغ الوريث القانوني، السير ناثانيال شيرلي، على الفور باكتشافي، ولكن أين هو؟

كان بإمكاني اكتشاف ذلك بسهولة، على الأرجح، بالعودة إلى منزل آل شيرلي والقيام بالمزيد من التحقيقات.

عند وصولي إلى القصر في وقتٍ مبكر من صباح اليوم التالي، لم أستطع أن أمنع نفسي من النظر إليه بشيءٍ من الرهبة، ولقد كانت المعرفة الحديثة حاضرة بداخلي بقوة، حتى إنه قبل وقت قصير كان هذا المنزل مثل باقي المنازل الأخرى.

رحَّبت مدبرة المنزل بي ببهجةٍ مسَّت قلبي، ولكنني قلت لنفسي إن عليَّ أن أتذكر أنني لا بد أن أتصرَّف وفقًا للعدالة وليس الشفقة. إن غاية عمل المحقق هي العدالة، وإن كان يعلم مقامه، فعليه ألا ينظر إلى ما هو أبعد من تلك الغاية.

ما كان يتعين تمامًا أن أفهمه من مسألة «مؤجر مدى الحياة» هذه، هو أنه يوجد أُناسٌ يتمتعون، عن طريق الاحتيال، بممتلكات ليس لهم أي حق فيها. كان هذا وضع لي الحق، بصفتي محققة، في تصحيحه، وكان هذا هو العمل الذي كنت أنوي إتمامه.

لم أفكر كثيرًا في كم كنت أتمنى بشدة لو أنني لم أشرع في هذه المسألة أبدًا، ولم أستجوب زوجة سائق عربة الأجرة، ولم أواصل هذه التحقيقات.

بدا أن العمل الذي أنجزته نال إعجاب الآنسة شيدلي بشدة؛ إذ قالت مسرورةً لمدبرة المنزل إنني «كنز في مجال أشغال الإبرة.»

أفترض أن هذا النجاح هو الذي مهَّد الطريق لكسب ود مدبرة المنزل. ومهما يكن من الأمر فمن المؤكد أنها في هذا الصباح قد أجابت على معظم أسئلتي؛ أسئلة نتجت بكل تأكيد من ملاحظاتها الخاصة، بحيث لم يكن بوسع هذه السيدة العجوز المسكينة أن تشكَّ مطلقًا في أنني كنت أستجوبها.

عرفت الكثير خلال ذلك اليوم الطويل من العمل وأنا جالسة في غرفة مدبرة المنزل.

لنبدأ بسيد المنزل؛ قالت مدبرة المنزل إنه سيدٌ «مُحتفًى به» للغاية، ولكنه «غريب الأطوار، يا عزيزتي»؛ وبعد سؤال أو نحو ذلك، حصلت على توضيح لما كانت تعنيه بغرابة أطواره، التي لم تتمثل في شيء سوى محاولته لجَنْي ضعف كمية القمح التي كان يُنتجها أكثر المزارعين تقدمًا من الهكتار من الأرض.

تابعت مدبرة المنزل قائلةً: «تقول الآنسة شيدلي إن شقيقها المُخلِص يأمل أنه إن نجح في القضاء على الجوع — وهو ما تؤكد الآنسة بشدةٍ أنه سيحدث إذا ضاعف كمية القمح الذي تُنتجه الأرض — فحينئذٍ سيكون المحصول وفيرًا لدرجة أن الناس لن يحتاجوا إلى الخبز، كما هو الحال الآن.»

أعترف أن هذا القول مسَّ قلبي؛ فمع أني محقِّقة فأنا أيضًا امرأة. لقد أذهلني ذلك كَوْنه أمرًا جميلًا ونبيلًا أن يعمل رجلٌ طوال حياته لنفع الناس؛ وهذا هو ما فعله سيد منزل آل شيرلي بكل تأكيد، إذا كان ما قالته مدبرة المنزل صادقًا. لم أجد أي سبب للشك فيما تقول.

كما قالت أيضًا إنها علِمت أنه كان يعمل بجدٍّ كل يوم على مدى السنة، ويُجري التجارب سواء على الأرض أو في ورشة كيميائية بدا أنها كانت لديه في المنزل.

لم يكن مُنغمسًا في الملذَّات، وكان يرتدي ملابس بسيطة، ويأكل ما يسدُّ جوعه فحسب، ولا ينام سوى سُوَيعاتٍ قليلة.

سألتها عما إذا كان سعيدًا.

ردَّت مدبرة المنزل العجوز بحكمة تجربتها البسيطة قائلةً: «كيف يمكنه أن يكون سعيدًا وهو يقضي حياته كلها مُحاولًا المساعدة في إسعاد الآخرين؟»

غيَّرت الموضوع، وسألتها إن كان مُولَعًا بابنته.

بدا أنه كان مكرِّسًا نفسه لابنته بطريقةٍ بسيطة وواضحة، لكنه ترك أمر رعايتها بالكامل تقريبًا لأخته.

سألتها: «هل كان يحب زوجته كثيرًا؟»

لوهلة، بدا أن مدبرة المنزل العجوز كانت على وشك أن تجيب بطريقة وقورة مرةً أخرى، ولكن يبدو أنها عدلت عن ذلك؛ لأنها ابتسمت وقالت:

«أجل يا عزيزتي، ولكنها كانت مُولَعة به.»

قلت: «حقًّا!»

«أجل؛ وهذا على الرغم من أنه كان كبيرًا بما يكفي لأن يكون في عمر والدها. كانت تبلغ من العمر العشرين عامًا فقط عندما ماتت يا عزيزتي، وكانت جميلة جدًّا، أؤكد لكِ ذلك، وكانت مثل امرأة قد أدَّت واجبها. لقد أحبَّته يا عزيزتي لأنه كان يحاول فعل الخير للعالم، ومع أنها كانت أصغر بكثير من زوجها فإن ذلك لم يشكِّل أي فارق على الإطلاق يا عزيزتي، لم يشكِّل أي فارق على الإطلاق، أؤكد لك ذلك. وعندما ماتت سيدتي بدت وكأنها امرأة قد أدَّت واجبها.»

«هل وافقت عائلتها على هذا الزواج يا سيدتي؟ إن سمحتِ لي أن أتجرَّأ وأطرح هذا السؤال.»

«لم يكن لدى سيدتي سوى والدها لتستشيره يا عزيزتي؛ لأنه لم يكن ثَمة أقارب آخرين للعائلة سوى شقيق السيد توماس، وهو السير ناثانيال، الذي كان في مكانٍ بعيد جدًّا في ذلك الوقت، كما أنه لم يكن زائرًا مرحَّبًا به في روتلاندشاير، التي منها أتينا. يعيش السيد شيدلي بالقرب من لندن للذهاب إلى الجمعيات، وليكون بين رجالات العلم.»

سألتها وأنا أكمل الحياكة: «هل ترين السير ناثانيال هذه الأيام؟»

«أوه لا، إننا لا نراه أبدًا؛ فهو والسيد شيدلي لا يتفقان على نحوٍ جيد، مع أن انطباعي أن سيدنا يمنحه دخلًا أكبر مما كان يدفعه له السير توماس.»

«ولكن، مع أنك قد تظنين أنني وقحة لطرحي الأسئلة، أليس كذلك؟»

ردَّت مدبرة المنزل قائلةً: «لا على الإطلاق، أبدًا. لقد صنعتِ تلك القطعة الأخيرة بشكلٍ جميل.»

«حسنًا، كنت سأسأل؛ كيف لم يحصل السير ناثانيال على الضِّياع مع اللقب؟ كنت أظن أن الضِّياع مرتبطة باللقب بشكلٍ عام.»

قالت مدبرة المنزل: «هذا صحيح يا عزيزتي، ولكن في حالتنا كان الأمر مختلفًا. لم يرِث السير توماس الضِّياع من أبيه، ولكنه جنى المال الذي اشتراها به من خلال البنوك؛ لأنه كان مصرفيًّا، وكان قد حصل على الجزء الأكبر من المال الذي بدأ به من زوجته الأولى؛ لأنهم كانوا عائلةً فقيرة، بعدما بدَّد البارون السادس كل شيء أمكنه تبديده، وذلك هو السبب في أن السير توماس ترك جميع الضِّياع لابنته، وهو الأمر الذي أعرف أن السير ناثانيال لم يغفره له أبدًا، أبدًا.»

سألتها: «أين السير ناثانيال؟»

«إنه يعيش يا عزيزتي — وإن كان لا بد لي أن أقول إنك مهتمة كثيرًا به — في برايتون معظم الوقت؛ فقد كان رجلًا فظيعًا، وصحته ليست كما ينبغي أن تكون، ولكن على الرغم من كل ذلك فهو رجلٌ نبيل في مظهره وعند التحدث إليه أيضًا.»

سألتها: «ما الخطأ الذي ارتكبه؟»

وهنا فشلت مدبرة المنزل في الرد، ولم تتمكن من تقديم أي دليل سوى شائعات غامضة للغاية وضعيفة، وكلها تميل إلى جعلي أتحيز لصالح الرجل الذي كنت أعلم أن من واجبي أن أقدِّم له سجل اكتشافاتي.

قالت مدبرة المنزل: «من المؤكَّد أن ثَمة شيئًا سيئًا حِيال السير ناثانيال، وإلا كان سيغدو مرحَّبًا به هنا بكل تأكيد، ولكنه ليس موضع ترحيب هنا. وعلى الرغم من ذلك فأنا متأكدة تمامًا من أنه يحصل على ما يمكِّنه من عيش الحياة التي يعيشها؛ حياة رجل نبيل.»

بعد ذلك ساد صمتٌ قصير، قطعته بقولي:

«هل كان السيد شيدلي غنيًّا عندما تزوَّج سيدتك الصغيرة؟»

«مقارنةً بسيدتي يا عزيزتي، لا، ولكن إذا لم نُقارنه بها فقد كان ميسور الحال؛ ميسور الحال للغاية. قال الناس في مسقط رأسنا، بالطبع، إن سيدتي الشابة — الوريثة والجميلة — قد ألقت بنفسها إلى التعاسة، ولكن ذلك كان هراءً يا عزيزتي؛ فهي لم تكن أبدًا أكثر سعادة.»

وهكذا مر الصباح. في كل لحظة كنت أعرف بعض الحقائق الصغيرة الجديدة التي قد تكون مفيدة لي، ولكن المؤكَّد هو أنه بحلول الوقت الذي وصلت فيه وجبة عشاء مدبرة المنزل، كان رأيي بآل شيدلي — الأخ وأخته — قد لانَ كثيرًا، وبدأت أنظر ببعض الشك تجاه السير ناثانيال؛ إذ لا توجد مقولةٌ أكثر صحة من مقولة إن كل فضيحة صغرت كانت أم كبرت تُثقِل كاهل صاحبها.

يمكنني القول إنني ظللتُ أعمل في منزل آل شيرلي لأكثر من أسبوع، وبحلول اليوم السابع تبدَّل رأيي كثيرًا في آل شيدلي إلى الأفضل.

لا بد أن تأخذوا في اعتباركم أننا نحن ضباط الشرطة نرى الكثير من أسوأ جوانب البشر، حتى إننا، بدلًا من اتباع المبدأ المسيحي الذي يؤمن بأن كل الناس صادقون حتى يثبت أنهم لصوص، نؤمن بأن كل الناس لصوص حتى نتأكد من أنهم أناسٌ شرفاء؛ ومِن ثَم عندما وقعت على القضية التي أعتبرها قضيتي الكبرى، افترضت بطبيعة الحال طبعًا أنني أتعامل مع جريمة، وهو ما كان حقيقيًّا بلا أدنى شك، ولكن لا بد أن أضيف أنني وجدت أن الجريمة مشوبة بطابع يكاد يرقى إلى النُّبل، ومع ذلك فقد كانت جريمة.

ولكن مهما وجدت أن رأيي في آل شيدلي قد تحسَّن، فلم أتردَّد لحظةً في تصميمي على إبلاغ السير ناثانيال في النهاية بالوسيلة التي احتِيلَ بها عليه. لم يكن هذا سوى العدل، والعدل، كما سبق أن قلت، هو الغاية الحقيقية من عمل المحقق.

لقد عملت في ذلك المنزل أسبوعًا، وخلال تلك الفترة أُتيحت لي فرصٌ عِدة لإقناع نفسي بالمعدن الحقيقي للأشخاص الذين يعيشون فيه، وللحصول على جميع التفاصيل التي قد تكون مفيدة لي، وعلى أي معلومات استطاعت مدبرة المنزل تقديمها لي.

أعتقد أنه سيكون من الجيد عند هذه النقطة تلخيص ما توصَّلت إليه في عملي خلال ذلك الأسبوع.

أولًا: أظن أنني قلت إن السير ناثانيال ورث اللقب فقط؛ فالممتلكات التي تركها السير توماس شيرلي لابنته كان قد حصل عليها بنفسه بوصفه مصرفيًّا. تألَّفت تلك الممتلكات مما لا يقل عن أربع ضِياع كبيرة، وكان الدخل الآتي منها يتراكم فيما يمكن أن يُطلَق عليه الفائدة المركبة.

وخلال هذا الأسبوع، بناءً على اقتراح من المحامي الخاص بي، بدت لي القضية بشكلٍ آخر يختلف عما كانت عليه سابقًا. منع وجود الفتاة الصغيرة، والوريثة، الأب من التمتع بكامل الدخل الذي تدرِّه ممتلكات زوجته الراحلة، والتي كان سيحصل عليها لو كانت الطفلة قد ماتت؛ لذا كان من الواضح أن استبدال الطفلة الميتة بأخرى حية ورعايتها، كان الغرض من ورائه أكبر من الاحتيال. كان من الواضح أنه إذا كانت الرغبة في الحصول على الحق في حيازة الممتلكات مدى الحياة — وكانت هذه هي الرغبة الوحيدة — هي الدافع للاحتيال، فالشخص أو الأشخاص الذين يمكنهم ارتكاب مثل هذا الفعل لن تمنعهم الرحمة من التخلص من الطفلة البديلة، أو، على أي حال، من الاستفادة منها أقصى استفادة ممكنة، ومع ذلك فهم لم يستفيدوا من هذه المنفعة الأخيرة؛ إذ إن الأب المفترض لم يُطالب في الواقع بحقه في ملكية ابنته المفترضة، بل ترك الدخل السنوي بأكمله يتراكم (عرفنا هذه الحقيقة ببعض الصعوبة).

كان هذا الاكتشاف — والذي لا أحتاج إلى الخوض في تفاصيله؛ فهي ليست ضرورية لتوضيح قضيتي ولا لها مصداقيةٌ كبيرة عندي — لا يزال يُذهلني أكثر فيما يخصُّ قناعتي الأولى بأن الدافع وراء الاستبدال بالطفلة الميتة أخرى حية نبع من الرغبة في الحفاظ على حيازة الممتلكات.

أثناء ذلك الأسبوع رأيت الآنسة شيدلي مرتين، وفي كل مرة أكون أعمل في شيء يخص شغل الإبرة.

قالت (وهي تهم بالخروج): «صباح الخير، ألا يُصيبك العمل لساعاتٍ طويلة بألم في رأسك؟»

أجبت: «لا، شكرًا لسؤالكِ.»

فقالت: «إن الحديقة مفتوحة أمامك بالكامل وقتما ترغبين في المشي.»

وكانت هذه هي الطريقة التي رأيت بها السيد شيدلي؛ إذ بالاستفادة من هذا الإذن باستخدام الحديقة والأرض عامة (لا بد أن يستغلَّ المحققون كل المزايا المقدمة لهم وكل ما يمكنهم الحصول عليه عمومًا)، رأيته وهو يفحص عدة رُقَع من مختلف أنواع القمح، والذي بدا لي أن نصف الحديقة كانت شِبه ممتلئة بمحصوله.

لقد كان رجلًا لطيفًا وصادقًا على نحوٍ مُدهِش، ذا عيون داكنة وعميقة، ووجه يرتسم عليه تعبيرٌ محبَّب وشديد اللطف، يُشبِه نوعًا ما ذلك التعبير الذي يرتسم على وجه فتاة يهودية يافعة جدًّا وراقية.

بما أن المحققين دائمًا ما يسألون عن كل ما يرونه ولا يمكنهم فهمه، فقد يكون من السهل تخمين أنني سألته عن المغزى من زراعة القمح في حديقة.

جعلني الجواب الذي حصلت عليه أكثر رغبة في التخلص من قناعتي الأولى، وهي أن استبدال طفلة بأخرى كان جريمةً دافعها الجشع.

عرفت بعدئذٍ من مخبرتي العامة — مدبرة المنزل — أن السيد شيدلي كان يقضي كل وقته (الشتاء في مختبَره، والربيع والصيف والخريف في حديقته وفي حقول تجارب متنوعة في ضِياعٍ مختلفة) في عمل تجارِب على القمح وحبوبٍ أخرى، بغيةَ زيادة متوسط إنتاج القمح لكل هكتار. أرى هنا أنني قد وقعت في فخ التكرار.

ليس من المعتاد أن يحاول المجرمون أن يكونوا طيبين مع بني جنسهم من البشر — لو فعلوا ذلك، أو أمكنهم فعل ذلك، فسيكونون أسعد — ومِن ثَم فاحتمال كَوْن السيد شيدلي مُجرمًا صار احتمالًا أضعف بكثير بعدما علِمت بهذه السمة الجيدة في شخصيته. أرى من خبرتي الشخصية أن الشخص — رجلًا كان أو امرأة — الذي يحاول أن ينفع المجتمع نادرًا ما يكون سيئًا في أعماقه؛ لأنه لو كان سيئًا ما كان سيفكر في أي شخص آخر غير نفسه.

تحدَّث السيد شيدلي بلطفٍ شديدٍ كبير معي، وسألني عن رأيي في هذا وذاك، ونزع قفاز البستنة عن يده كي يقطف لي بعض حبات الفراولة.

أظن أنني عُدتُ إلى المنزل وأنا خجِلة قليلًا من نفسي، وربما لو تصادَف أنني كنت قد مررت فجأةً أمام مرآة، فربما كنت سأخجل من الآنسة جلادن ومما تفعله.

ولكنني لم أتردد أبدًا ولو للحظةٍ واحدة في تصميمي على تحقيق العدالة، وعلى مقابلة السير ناثانيال وإخباره بكل شيء. ما كنت سأصبح ملائمة لمهنتي لو كنت سمحت لنفسي في أي وقت من الأوقات بتجاهل واجبي بداعي الشفقة، أو بأي ذريعة أخرى قائمة على التفضيل الشخصي.

في المرة الثانية التي رأيت فيها الآنسة شيدلي، كنت ذاهبة إلى مسكني الصغير لقضاء ليلتي هناك، وقالت: «ثَمة سيدة تعيش بالقرب منكِ — أعتقد أنها تُدعى السيدة بلينهام — أعتقد أن ظروفها المعيشية سيئة للغاية، ولكنها تُخفي فقرها مُراعاةً للأيام التي كانت فيها في حالٍ أفضل. أتمنى أن تكتشفي الوضع الحقيقي لحالتها؛ لعلكِ تستطيعين تولِّي أمر ذلك على نحوٍ أفضل مني بكثير.»

لقد تولَّيت الأمر فعلًا، وكان من دواعي سروري وألمي أن أرى الآنسة شيدلي تقوم بأفضل ما يمكن لامرأة فعله، وهو القيام بعملٍ خيري واجب.

كنت قد عرفت سابقًا من مدبرة المنزل أن الآنسة شيدلي كانت تقضي كل وقتها تقريبًا في رعاية المحتاجين وأطفال الأبرشية.

بصراحة، بدا لي أن آل شيدلي هم أفضل من قابلت على الإطلاق.

وكنت أنا من سيدمِّر هذا المنزل!

بحلول نهاية الأسبوع سئمت من عملي، وربما أعترف — دون أن أكون عاطفية — أنني كنت قد اتخذت قرارًا بألا أجني أي مال منه سوى نفقاتي القانونية، وهو مقابل ما أنفقته، لا أكثر ولا أقل. كان هذا هو ما عزمت عليه فيما يخص المسائل المالية، وهو ما كنت أنوي أن أكون حازمة فيه عندما أتعامل مع السير ناثانيال. أؤكد لكم أننا نحن المحققين قادرون على أن يكون لنا ضمائر، وعلى التصرف طبقًا للمبادئ والشرف.

في نهاية ذلك الأسبوع كنت قد وضعت خُططي، وغادرت منزل آل شيرلي يعتريني شيء من الحزن، وأنا أعلم جيدًا أنه في المرة التالية التي سأدخل فيها هذا المكان، سأدخله بشخصيتي الحقيقية.

في غضون ست ساعات من إلقائي تحية المساء على الآنسة شيدلي، كنت قد وصلت إلى برايتون وبصحبة السير ناثانيال شيرلي.

كنت قد بعثت برسالةٍ مفادها أن سيدةً اسمها جلادن (وهو الاسم الذي أنتحله كثيرًا أثناء عملي) ترغب في رؤيته، ويتعين عليَّ القول بأن الرد الذي سمعته يقوله كي يُبلَّغ لي لم يكن مُرحِّبًا بالمرة.

لم أكن مُرتبِكة بالطبع.

بعثت له ببطاقةٍ كنت قد كتبت عليها: «أمرٌ متعلق بآل شيرلي.»

سمعته وهو يقول: «قل لها أن تصعد.»

وهو ما فعلته.

لم أحبه من اللحظة التي رأيته فيها. كان مظهره الخارجي يدل على أنه رجلٌ نبيل بلا أدنى شك، ولكنه كان ينتمي إلى نوع من الرجال يمكنني التعرف عليه في لمح البصر؛ النوع الذي لا يقول أي شيء فظٍّ أمامك أبدًا، وبداخله — سواء أمامك أو خلف ظهرك — لا يفكر في أي شيء لطيف أيضًا.

الأنانية! هذا ما يمكنك أن تراه في كل قسَماته؛ أنانية مهذَّبة بلا شك، ومع ذلك فهذا التهذيب لا ينفي كَوْنه جشعًا تمامًا. لا يحتاج بعض الناس إلا إلى بذل جهد قليل جدًّا للتصرف بتحضُّر بدلًا من التصرف بفظاظة، وعلى النقيض من ذلك، فالعديد من الرجال الذين يتكلمون بفظاظةٍ يكونون رقيقي القلب كامرأةٍ طيبة.

«ماذا تريدين؟» هكذا قال بنبرةٍ مُتحضرة وأنا أدخل الغرفة، ولكنه لم يكن ينظر نحوي.

قلت بأكثر نبرة متحضرة ممكنة وأنا أغلق الباب: «أريد رؤيتك.»

نظر إليَّ بسرعة. كان يُعاني من حالة اهتزاز العين التي تجعل صاحبها غير قادر على النظر إلى أي شيء أو أي شخص لمدة خمس ثوانٍ فحسب. كثيرًا ما كنت أتساءل إن كان بوسع أولئك الناس أن ينظروا بثبات حتى إلى انعكاساتهم في المرآة.

«عفوًا، من أنتِ؟»

قلت: «أنا محققة.»

رأيته ينكمش على نحوٍ ملحوظ في مقعده. على الرغم من كَوْني امرأة، فإنني أعتقد أنه ظن أنني رجلٌ مُتنكر في زي امرأة.

استعاد طبيعته سريعًا، ولكنني لاحظت أن الجلد حول شفتَيه تحوَّل إلى اللون الأسود، وأن لون شفتَيه تحوَّل إلى لونٍ أبيض عكِر.

«صحيح؟» هكذا قال، وعندما شرع في الحديث كان كلامه ينمُّ عن أنه قد استعاد هدوءه تمامًا.

هل قلت لكم إنه كان في حوالَي الخمسين من عمره؟ لقد كان قريبًا من هذا العمر. كان شعره خفيفًا، وفي طور الشيب، ولكنه صفَّفه على جبهته بأناقة وجعَّده على نحوٍ مثالي. كان يرتدي ثيابًا كثياب الشباب اليافعين، وكانت ملابسه على أحدث صيحات الموضة.

قلت: «جئت لأقدِّم لك بعض المعلومات.»

«تابعي الحديث.»

«عندما تُوفِّيت السيدة شيدلي تركت ابنة.»

«تابعي.»

كنت أعرف من نبرة كلامه، على الرغم من أنه قاله بأدبٍ جم، أنه كان قد أصابه الملل بالفعل.

أردفت قائلةً: «على الأقل، من المفترض أنها ماتت وتركت ابنة.»

كان على وشك أن يهمُّ بالكلام، ولكنه فكَّر جيدًا وعدل عن ذلك وظل صامتًا، ومع ذلك لاحظت أن اللون الداكن حول شفتَيه قد ازداد.

تابعت قائلةً: «ولكنها في الواقع لم تترك ابنة.»

عندئذٍ كان قد تغلَّب على انفعاله، وأنا على استعداد لأن أصرِّح بأن مشاعره لم تخُنه أبدًا على مدى باقي المقابلة، ولكنني لم أتمكن أبدًا من حسم ما إن كانت تلك القسوة ناتجة عن مرض أو عن إصرار.

سألني قائلًا: «ما الذي تركته؟»

«لم تترك أي أطفال.»

«أوه! إذن هل تقصدين القول إن ممتلكات آل شيرلي ملكي؟»

«أجل.»

استدار في كرسيه ونظر إليَّ بتمعُّن. رأيت أنه كان معتادًا على مثل هذه المعارك، وهي التي أعطته الخبرة في تحقيق الانتصارات.

«وهل تعرفين كل شيء عن هذه المسألة؟»

«أجل، أعرف كل شيء.»

«لماذا أتيت إليَّ؟»

«لأنك الشخص الذي لا بد أن آتي إليه.»

«لماذا لم تذهبي إليهم؟»

سألته: «من تقصد؟»

أجاب: «آل شيدلي.»

كانت إجابتي هي: «لقد غادرت منزل آل شيرلي لتوِّي.»

أضاف، وهو يعود ليجلس في كرسيه كما كان: «هذا ما ظننته.» وعلى الرغم من أن هذه الإجابة قد تبدو قاسية، يمكنني أن أؤكد للقارئ أنه قالها بألطف نبرة ممكنة.

تابعت قائلةً: «عجبًا، كيف كنت سأعرف تفاصيل هذه المسألة دون الذهاب إلى المنزل؟»

سأل بتهذيبٍ بالغ: «كم المبلغ؟»

«المبلغ؟»

تابع قائلًا: «أجل، كم المبلغ؟ أظن يا عزيزتي — إذ إنني أوافق على ما تقولينه، وأقبل تمامًا أنك محققة — أنك ستحقِّقين مكسبك مني ومن آل شيدلي. لقد ذهبتِ إليهم، والآن تأتين إليَّ. كم تريدين؟ أظن أنه يمكننا الاتفاق. أعتقد أنك تريدينه مكتوبًا، أليس كذلك؟»

«هل تقصد يا سير ناثانيال، ما هي المكافأة التي أنتظرها لقاء المعلومات؟»

«بالضبط يا عزيزتي، كم تريدين؟ وأخبريني على الفور. أظن أنه يتعين أن أدفع أكثر من آل شيدلي إذا كانت الأخبار التي تقولينها صحيحة.»

أجبت قائلةً: «أستميحك عذرًا، ولكن آل شيدلي لا يعرفون أي شيء على الإطلاق عن هذا الاكتشاف الذي قمت به، وقد أتيت إليك على الفور. لم أعرف حقيقة هذه المسألة إلا منذ أقل من أسبوعين.»

وقد كانت هذه هي الحقيقة تمامًا.

«أوه! فهمت؛ ستذهبين إليهم بعدما تتركينني. أنا لا ألومك، بل أنا مُعجَب بك في الواقع. إنك امرأةٌ ذكية وحاسمة، إذا كنت تستطيعين الاستمرار في هذا الأمر. هيَّا، أيًّا كان المبلغ الذي سيقدِّمونه لكِ لإخفاء هذا الاكتشاف، فسأدفع لك ضعفه لتُظهريه بأكبر وضوح ممكن ضدهم. ما قولك؟»

قلت: «معذرةً»، ولا بد أن أعترف أنني شعرت فعلًا وكأنني أود الخروج لاستنشاق هواء البحر المنعش مرةً أخرى، «ولكن لا يهمني كسب المال من هذا العمل.»

استدار ونظر لي دون أي انفعال، بل ارتسم على وجهه تعبيرٌ يعني بكل وضوح: «هل هي حمقاء، أم أنها تخدعني؟»

قلت: «كل ما سأطلبه هو استعادة الأموال التي أنفقتها، ومقابل وقتي بالراتب العادي الذي أتلقَّاه من الحكومة.»

أجاب قائلًا: «ها! تمامًا» — تغيَّر تعبير وجهه في اللحظة التي بدأت فيها الحديث عن استعادة المبالغ التي دفعتها — «لا بد أن تستعيدي الأموال التي أنفقتِها، مع الفائدة. لكن أولًا، يا عزيزتي، أثبتي لي أنك تتحدثين حديثًا معقولًا حقًّا.»

قلت: «لا بد أن أخوض في تفاصيل طويلة.»

نظر نحوي بهدوء، ثم قال:

«ربما لن تُمانعي كثيرًا إن دخَّنت، أليس كذلك؟»

أجبت: «لا.» وأنا ما زِلت أتمنى من كل قلبي أن أجد نفسي في الهواء الطَّلق؛ لأنني أتذكر أن فكرةً صادمة قد واتتني في ذلك الوقت، وهي أنني كنت أتحدث إلى كائن ليس حيًّا ولا ميتًا، إلى نوع من الرجال لا يصلح للقبر ولا العالم. لا أظن أنني صادفت من قبلُ إنسانًا بهذا القدر من انعدام الإحساس.

ومع ذلك، فقد كان عملي أن أخبره عن ثروته الكبيرة، هذا إذا لم تكن كل أنواع الثروة لا يختلف بعضها عن بعض له.

بدأت أحكي القضية تمامًا كما حدثت لي، بدايةً من فليمبس سائق عربة الأجرة، حتى وصلت إلى نقطة الذروة وهي الدليل الذي قدَّمه طالب الطب جورج جيفينز.

لم يُقاطعني إلا ليسأل عن عنوان كل من سائق عربة الأجرة والطالب. بعدما دوَّن العنوانين قال: «أجل!» ثم صمت وعاد ساكنًا تمامًا.

قلت أخيرًا: «والآن أنت تعرف قدر ما أعرف.»

وأنا مستعدة للاعتراف بأنني كنت قد سئمت من هذا الرجل. أخشى أنني شعرت بهذا النوع من خيبة الأمل والغضب الممزوج بالعار الذي سيشعر به أي رجل عندما يُقابَل عرضه بالزواج من امرأة بتحديق خالٍ من التعبير.

«أعتقد أنني لن أستطيع فعل أي شيء حتى يوم الاثنين، أليس كذلك؟»

«ماذا؟» هكذا سألته.

لنتذكر أننا كنا في وقتٍ متأخر من ليلة السبت.

«لا شيء حتى يوم الاثنين؟»

أجبت قائلةً: «هل لي أن أسأل يا سير ناثانيال عما تنوي فعله يوم الاثنين؟»

«أوه، أعتقد أنني سأضعهم في السجن.»

سألته: «السجن؟»

«بالتأكيد، هل ثَمة شيءٌ آخر يتعين فِعله؟ لقد كانوا يسرقونني طيلة خمس سنوات، ويستحق هؤلاء الناس العقاب. ما الذي يمكنني فعله غير وضعهم في السجن؟»

غنيٌّ عن القول أنه للحظةٍ كان من الصعب عليَّ العثور على أي رد، ثم قلت أخيرًا:

«لا، إن آل شيدلي لم يسرقوك يا سير ناثانيال؛ لأنك تتذكر أنني أخبرتك بأن السيد شيدلي لم يمسَّ قرشًا من الدخل الذي تجلبه أملاك آل شيرلي.»

«ولكنني لا أعرف ذلك. من الأفضل كثيرًا وضعهم في السجن أيتها المحققة، ونرى ما الذي سيؤدي إليه ذلك.»

أعترف أنني لم أكن أتوقع أبدًا سلوكًا قريبًا من مثل هذا السلوك الهادئ المنعدم الرحمة الذي يُشبِه سلوك القيام بالأعمال التجارية. كنت قد خططت عشرات الطُّرق للعمل على حل هذه المسألة خلال الأسبوع، وكل يوم كنت أجد فيه طريقةً أكثر مُراعاة من سابقاتها حتى انقضى الأسبوع، ولكن لم تقترب أيٌّ من هذه الطُّرق لفكرة وضع السيد والسيدة شيدلي في السجن.

أجبت قائلةً: «لا أظن أنني سأفعل ذلك يا سير ناثانيال؛ من الأفضل أن تفكر في الأمر مليًّا.»

قال البارون: «لا يمكنني رؤية ما يدعو للتفكير مليًّا فيه. لقد سرقوني؛ ولذلك فالشيء الوحيد الذي يجب فعله هو وضعهم في السجن.»

أجبت قائلةً: «من الأفضل أن تؤجل قرارك للغد يا سيدي. سأراك صباح يوم الاثنين، إذا سمحت لي.»

سأل قائلًا: «ولماذا ليس غدًا؟ لمَ لا نذهب غدًا ونضعهما قيد الاعتقال؟ هذا ما سأفعله بكل تأكيد.»

قلت: «شكرًا لك يا سير ناثانيال»، وأظن أنني تحدَّثت بقليل من الاستياء، «لا يهمني فعل أي شيء سوى الراحة غدًا، وأنا متأكدة تمامًا أنها ليست مسألةً مُلحَّة للغاية.»

«سرقتهم لي ليست مسألةً مُلحَّة؟ ما هذا الهراء الذي تقولينه يا عزيزتي. حسنًا، يوم الاثنين إذا كان هذا ما تريديه»، هكذا قال بعدما ذهب إلى النافذة ونظر إلى الليل، ثم أردف قائلًا، «سيكون الأمر على ما يُرام غدًا، وربما يمكنني قضاء الغد هنا في المنزل أيضًا. ليلة سعيدة أيتها المحققة.»

«ليلة سعيدة.»

«ولكن انتظري يا سيدتي؛ فأنتِ لم تعطيني عنوانكِ بعد.»

أعطيته بطاقة، ولكنني لم أنبس ببنت شفة. أعتقد أنني كنت قد بدأت بتخيُّل شجار معه في عقلي.

«هذه هي بطاقتك الصحيحة، كما أظن يا سيدتي، أليس كذلك؟»

«بالطبع، إنها كذلك!»

«إنك لا تخدعينني يا عزيزتي، أليس كذلك؟!»

«لا؛ ما الذي سأجنيه من خداعك؟»

بدا أن هذه الإجابة كانت مُرضية له.

«أين تمكثين في برايتون أيتها المحققة؟»

أعطيته اسم نُزُل عام صغير في البلدة كنت قد مكثت فيه للراحة في عدة مناسبات.

قلت وأنا أتجه نحو الباب: «ليلة سعيدة.»

أظن أن شيئًا ما في نبرتي أيقظ حواسه المتبلِّدة.

فقال: «إذا كنت تريدين أي مال أو شيئًا من هذا القبيل، فيمكنني إعطاؤك بعضًا منه.» تمكَّنت عندئذٍ من أن ألاحظ أكثر التعبيرات إيجابيةً الذي كنت قد رأيته حتى ذلك الحين مرتسمًا على وجهه، «أنا لست رجلًا ثريًّا، يمكنك أن تتدبري أمرك حتى الغد ﺑ…»

وهنا، ببعض المجهود الذي ينمُّ عن إرادةٍ بطيئة أخرج من كيس نقوده نصف سوفرن ذهبي.

كنت قد أحضرت له أخبارًا من شأنها أن تملأ جيوبه ببضعة آلاف من الجنيهات سنويًّا.

قلت على عجل: «لا، شكرًا لك.» وعندئذٍ غادرت الغرفة.

لم أذهب مباشرة إلى النُّزل الصغير الذي ذكرته.

عبرت صف المتاجر، وبدأت في السير دورانًا حول مسار الجرف.

لمن ساروا في ليلةٍ صيفية تحت ضوء القمر صعودًا على جرف برايتون، بينما تهمس الرياح الخفيفة أثناء مرورها، وتُقبِّل أمواج البحر الناعمة الألواح الخشبية التي تهتزُّ بصخب بالأسفل، لست بحاجة إلى أن أقول كم زادت كل هذه الأصوات الطبيعية الناعمة من الألم النفسي الذي كنت أعانيه، وفي الوقت نفسه من حزني.

لم يكن قد تفوَّه بكلمة شكر؛ لم يكن قد أظهر أي امتنان للثروة الكبيرة التي سيحظى بها. لاحِظوا أن غروري لم يُجرَح لعدم تعبيره لي عن أي امتنان، ولكن ما آلمني أنه لم يُظهِر أي امتنان على الإطلاق. لقد جاءته ثروةٌ كبيرة، واعتبرها حقًّا له. أعلم أنني لا يمكنني تجنُّب الربط بينه وبين قرد بعينه كنت قد رأيته في حديقة الحيوان. وقف هذا الحيوان — وراقبته لمدة ساعة خلال إجازتي تلك — ساكنًا ويده ممدودة، دون أن يبدو أنه يفكر فيما كان يفعله، وعندما كان أي شيء يوضع في راحة يده كان يغلق أصابعه عليه، ويدسُّه في فمه، دون النظر إلى من أعطاها له، أو محاولة معرفة أي شيء عن كُنْه هذه العطيَّة؛ ثم يُنزِل يديه ويمدُّها للخارج مرةً أخرى من بين قضبان قفصه. كان يأخذ أي شيء يقدَّم إليه، ولكن هل يمكننا مطالبته بما هو أكثر من ذلك؟

لقد قمت بواجبي كمحققةٍ نزيهة، وكنت أشعر بالأسف لإتمامي هذا العمل، ولا أمانع بالاعتراف بهذا بما أنني تركت العمل حاليًّا.

دعوني أضيف عند هذه النقطة، بما أنني قلت إنني قد توقَّفت عن ممارسة مهنة التحقيقات، إنني لم أعتمد في تقاعدي على المال الذي جنَيته من تلك المهنة. كان لديَّ دخلٌ صغير قد تُرِك لي، وهو ما أتمتع به الآن بالطبع؛ فالمحققون نادرًا ما يجمعون ثروات.

عندما وصلت إلى النُّزل الصغير الذي سبق أن أشرت إليه مرتين، أجريت استفسارات تتعلق بالسير ناثانيال شيرلي، ولست بحاجة لقول إنني لم أسمع أي شيء جيد عنه، ولكنني أؤكد أنني لم أكتشف أي سوءة واضحة تتعلق به، إلا أن الناس تحدَّثوا عنه بنوع من التحفظ، كما لو أنهم كانوا ضائعين بين حس العدالة لديهم من ناحية، وبُغضهم له من ناحيةٍ أخرى. ولكن ما تأكَّدت منه فعلًا كان ينطبق على هذا الرجل بلا أدنى شك؛ كان لديه دخلٌ جيد، ولكنه نادرًا ما كان بلا ديون؛ وهو ما يمكنني تفهُّمه. لم يستطع منع نفسه أبدًا من العيش كالنبلاء. ومع أنه كان يُنفِق كل دخله لم يكن بوسع أحد أن يُنكر عليه ذلك. لقد كان دائمًا ما يحصل على حقه من أمواله، والانطباع الذي تركه على ما يبدو أنه نادرًا ما خسِر في لعبة الحياة. مما لا شك فيه، مما سمعته، أنه دائمًا ما كان يجبر على دفع الكثير؛ إذ كان عليه الدفع مسبقًا للحصول على مُتَعه، ولكنه كان يحصل عليها. لم يستطع أحدٌ أن يقول كلامًا طيبًا عنه، ولكن في الوقت نفسه لم أجد شاهدًا واحدًا يمكنه الحكم عليه بحكمٍ سيئ صريح.

أنا معتادةٌ على الاستغراق في النوم بمجرد خلودي إلى الفراش؛ وهذا لأن صحتي جيدة، ولأنني، كما يقول الناس، صادقة وضميري حي، ولكن في تلك الليلة لم أتمكن من النوم على الفور.

لقد أبقتني فكرة ذهاب السير ناثانيال إلى المدينة واعتقال الأخ والأخت، بطريقة الآلات العديمة الشعور هذه، مستيقظةً بلا أمل في النوم. شعرت بأنه لم يكن ثَمة فائدة من مخاطبة جانبه الرحيم؛ فلو كان ذلك ممكنًا لكان من الممكن أن أقنع المِطرقة البخارية في حوض وولويتش لبناء السفن بذلك.

لقد كان كابوسًا بحد ذاته أن أتخيَّل السيد شيدلي وهو يُقتاد بعيدًا عن جهده النبيل في محاولة جعل الأرض الوفيرة أكثر خصبًا ووفرة، وأن أتصوَّر أن الآنسة شيدلي ستفترق عن الفقراء الذين ترعاهم، وستُسلب منها حياتها كسيدةٍ نبيلة لتقبع سجينةً في زنزانة.

ما الذي كان يتعين عليَّ فِعله؟

ولم يغمض لي جفن إلا عندما كنت قد قرَّرت تمامًا ما الذي يتعين عليَّ فعله. عقدت العزم على أن أستقل أول قطار في الصباح، وأن أذهب سريعًا إلى منزل آل شيرلي؛ كي أحذِّرهم وأنقذهم. لم يكن هذا العمل يشكِّل خرقًا لواجبي. كان عملي هو أن يحصل السير ناثانيال على ميراثه، وليس معاقبة السيد شيدلي وأخته.

استيقظت مبكرًا، مع أنني كنت قد نِلت قسطًا قليلًا من النوم، واستيقظت وأنا أفكر في السجن ثانيةً، وكنت أشعر بعبءٍ كبير يُثقِل كاهلي، ووصلت إلى المحطة، وقبل الساعة الحادية عشرة كنت في لندن.

استقللت عربة أجرة، ووصلت إلى الحي الذي كان فيه منزل آل شيرلي، وهناك جابهت لأول مرة الصعوبةَ الهائلة التي كان عليَّ مواجَهتها.

رأيتها وهي تغادر الكنيسة. كانت تحمل في يدها كتاب صلوات أسود وعاديًّا للغاية، وبينما كانت تخرج إلى الرواق الأمامي ارتسمت ابتسامةٌ عريضة على وجهها وهي تُخاطبني أولًا، ثم وهي تُخاطب واحدةً أخرى ممن رأتهم.

كانت واحدة من أبسط السيدات اللاتي عرفتهن، وأقلهن تكلفًا.

رأتني، وأشارت برأسها.

وبينما كانت تفعل ذلك أتت سيدة ومسَّت ذراعها.

ولكن كان من الضروري للغاية أن أحذِّرها، فذهبت إليها وقلت:

«هل يمكنني التحدث معك يا آنسة شيدلي؟»

أجابت بصدقٍ شديد: «بالتأكيد.»

«أعني في المنزل.»

«أوه، تعالَي وقتما تشائين.»

«هل يمكنني المجيء الآن؟»

نظرت إليَّ بشيء من الاهتمام الذي لاحظته، ثم قالت مبتسمةً: «ألا يمكننا فعل ذلك غدًا؟»

أجبت: «نعم.» ومن الواضح أنني كنت أتحدَّث بحزن؛ لأن وجهها صار شاحبًا قليلًا.

قالت: «تعالَي في الثالثة، لن أكون مشغولة كثيرًا.»

انحنيت، وكنت قد بدأت أسير متراجعةً خلفها، عندما استدارت بسرعة، وقالت بشيء من الحدة التي لاحظتها:

«هل ثَمة خَطبٌ ما؟»

قلت مبتسمةً: «ليس شيء لا يمكن إصلاحه.» إذ ارتأيت أنه لن يفيد أن أبعث فيها القلق.

ولكن بين ذلك الوقت والساعة الثالثة كنت قد اكتشفت سببًا جديدًا للقلق. وجدت أنه بالرجوع إلى كتاب «دليل برادشو للقطارات» الخاص بي (وهو كتاب لا تخلو مكتبة أي محقق منه) أن قطارًا سريعًا غادر برايتون مباشرةً بعد ميعاد الكنيسة. ماذا لو أرسل السير ناثانيال في طلبي على عنوان برايتون الذي كنت قد أعطيته له؟ وماذا لو أنه بعدما وجد أنني قد رحلت، استقلَّ هذا القطار السريع وهرع إلى منزل آل شيرلي بصحبة شرطي؟

كنت متأكدةً من أنه كان قادرًا تمامًا على فعل شيء كهذا، ولكنني كنت آمل من ناحيةٍ أخرى أن طبيعته الكسولة واعتقاده المعيب بأنني سأكسب منه أكثر مما سأخسر، سيدفعانه إلى الامتناع عن السؤال عني.

ولكنه لو استقل بالفعل قطار الساعة الواحدة مساءً، فمن الممكن تمامًا أن يصل إلى منزل آل شيرلي بحلول الثالثة عصرًا؛ أي بعد ساعة من موعد الغداء، وهو الميعاد الذي حدَّدته لي الآنسة شيدلي لمقابلتها. وأودُّ هنا الإشارة إلى أن أنه لا بد أن هذه السيدة كانت تتمتع بلطف ومراعاةٍ استثنائيين جعلاها تستجيب لطلبي وهي بالكاد تعرفني، وأن تُوافق على رؤيتي في ذلك اليوم الذي تكرِّس تلك السيدات معظمه للاهتمام بالفقراء بصورةٍ سرية ودون مقاطعة.

لم يمرَّ الوقت بين الساعة الواحدة والساعة الثالثة على نحوٍ لطيف جدًّا.

في تمام الثالثة كنت واقفة على عتبة باب منزل آل شيرلي.

أعترف أنني كنت أشعر بالخجل من العمل الذي كنت أضطلع به.

عندما اقتربت من الغرفة التي كنت أعلم أنه لا بد أنني سأجدها فيها، أُقرُّ بأنني كنت خائفة من أن أتبع الخادم، وعندما دخلت الغرفة وغادر الخادم، وقالت «أخبريني يا عزيزتي، ما هو الشيء المهم الذي لا يمكن تأجيله للغد؟» لم يكن لديَّ القدرة على الإجابة لبضع لحظات.

قلت: «أخشى أنك لن تسعدي كثيرًا لما سأقوله.»

قالت بابتسامةٍ لطيفة ورقيقة: «أخبريني.»

«لقد عرفت سرًّا عن حياتك بالصدفة منذ أسبوعين.»

«سرًّا عن حياتي؟!» هكذا قالت بعد برهة قصيرة من الصمت كانت مترددةً خلالها، ومن الواضح أنها كانت تحاول أن تبعث الطمأنينة في نفسها، ومع ذلك شحب وجهها عندئذٍ.

فكَّرت في نفسي: «يا لها من مسكينة! من الواضح أن لديها سرًّا واحدًا عظيمًا، وهو في الواقع لم يعُد كذلك.»

أجبت قائلةً: «أجل، ويجب أن أتحدَّث إليكِ بشأنه.»

في تلك اللحظة اعتراها شعور بالقليل من الكبرياء الذي زاد من ثقتها، ومع ذلك قالت بهدوء ولطف شديدين:

«يجب؟»

كرَّرت قائلةً: «أجل، يجب.»

تابعت حديثها بصوتٍ مرتفع قليلًا: «عفوًا، من أنتِ كي تخاطبيني وتقولي لي كلمة «يجب» هذه؟»

«أنا محققة.» هكذا أجبت مستخدمةً العبارة التي كنت أنطق بها عادةً عندما لا تعود السرية ضرورية.

قالت: «محققة؟» وكان من الواضح أنها لا تعرف كُنْه هذه المهنة الشرطية، ولكن يبدو أن تخمينها كان صحيحًا تمامًا.

«أجل، أحد أفراد الشرطة السرية.»

جفلت، وتمتمت بشيء لنفسها. لم تصرخ أو تصيح خوفًا. وفي الواقع تؤكد لي خبرتي الطويلة أنه في معظم الحالات التي يُفاجأ فيها الناس بشيءٍ مُباغت ورهيب، تكون الصدمة كبيرة لدرجةٍ تجعلهم لا يعبِّرون عن مشاعر صدمة واضحة عندما يتلقَّون الخبر. يبدو أن الصدمة تصعق الناس وتُصيبهم بالذهول، بدلًا من ألَّا تُثيرهم.

بعد لحظات قليلة أصبحت هادئةً نسبيًّا.

قالت: «ماذا تريدين؟»

أجبت: «في الواقع، أن أُنقذكِ.»

«من ماذا؟»

«من عواقب واجبي المهني.»

نظرت إليَّ باهتمام، ثم ابتسمت أخيرًا.

قالت: «هذا صحيح، عليكِ واجب لتؤديه مثل الآخرين. ما معنى هذه المحادثة؟»

«معناها يا آنسة شيدلي أنني أعلم أن الفتاة الصغيرة الموجودة في هذا المنزل ليست ابنة السيد شيدلي.»

كانت تظن أنها كانت قد هيَّأت نفسها للأسوأ، ولكنها لم تكن قد فعلت.

ارتعدت وأطلقت صرخةً قصيرةً حادَّة أثَّرت فيَّ بشدة.

قلت: «لا يمكن أن يكون ثَمة شك في ذلك.» رغبةً مني في منعها من محاولة الجدال معي حول معلوماتي، أردفتُ قائلةً: «لقد أشار سائق عربة الأجرة الذي حصُلتِ منه على الفتاة الصغيرة إلى المكان الذي قابلكِ فيه ووضع الطفلة بين ذراعيك. أرجوكِ لا تظني أن القضية لا يمكن إثباتها. لقد مات الطبيب، دكتور إلكينز، ولكنه قال ما يكفي للمتدرِّب الذي كان لديه، والذي قابلته بنفسي، وهو ما يُظهِر أن السيدة الراحلة لا يمكن أن تكون والدة الفتاة الصغيرة التي تحمل اسمها. تجنَّبي أي إجراءات قد تكون مروعة. لا أعرف ما سيحدث، إن أنكرتِ كل شيء، ولكن سيكون من الممكن تقديم رفات السيدة شيدلي دليلًا ضدك.»

صدمها هذا الكلام صدمةً لا تُوصَف، وهو ما كنت أقصده جزئيًّا.

«من المؤكَّد أنهم لن يعبثوا بقبر أختي المسكينة ويُهينوها، أليس كذلك؟»

«في الواقع أنتِ مخطئة؛ فالقانون لا يعرف الشفقة عندما تكون الحقيقة محل شك.»

«ولكن، ولكن ماذا تريدين مني أن أفعل؟»

«اعترفي بكل شيء للسير ناثانيال.»

«السير ناثانيال، هل تعرفينه؟»

حينئذٍ كانت قلِقةً حقًّا، لكنها لم تُبدِ أي انفعال جامح، مثل الذي أعتقد أنه قد يفترض معظم الناس أنها كانت ستُبديه.

«كان آخر لقاء جمع بيننا البارحة فحسب!»

ساد على وجهها تعبيرٌ خاوٍ ومُميت، أو بالأحرى لا تعبير.

قالت: «إذن فقد ضاع كل شيء بالفعل.»

أجبت: «لا، ليس بعد.»

«هل هو من أرسلك، يا امرأة؟» قالتها بنبرةٍ مُنتحبة مُتحدية، إن كان من الممكن فهم ذلك الوصف.

أجبت: «لا، بالتأكيد؛ فقد جئت بمحض إرادتي لأحذِّركِ من السير ناثانيال.»

«ولكنك أتيتِ من عنده مؤخرًا.» ثم التقطت أنفاسها، مثل الغريق الذي يعتريه الأمل عندما يرى ظل وجهه على صفحة الماء، وتابعت قائلةً: «ربما لا يعرف كل شيء عن الأمر، أليس كذلك؟»

أجبت بأسف قائلةً: «بل يعلم كل شيء، حتى عناوين الناس اللازمين لإثبات قضيته.»

«وهل أنتِ من زوَّدتِه بهذه القدرة؟»

«أجل. يؤسفني القول إنني كنت مُجبَرة على فعل ذلك.»

«يا إلهي، يا امرأة، يا امرأة! ليتكِ تعلمين ما فعلتِه.»

«لقد فعلت ما كان من العدل فعله.»

قالت: «لقد فعلتِ شيئًا رهيبًا. إن السير ناثانيال لن يرحمني، ولا بد أن أتحمَّل عواقب ذلك، لا بد لي وحدي أن أتحمَّلها.»

قلت: «أليس من الأفضل أن يعلم السيد شيدلي؟»

«يعلم؟ يعلم ماذا؟»

«أن عملية الاحتيال قد كُشفت.»

«إنه يظن أن الطفلة من صُلبه، يا امرأة.»

«ماذا؟! ألم يكن يعلم أي شيء عن الحقيقة؟»

«لا شيء؛ لقد مُورِس عليه الخداع شفقةً عليه، والآن تأتين أنتِ، بعد أربع سنوات من السلام؛ إن هذا قد يقتله.»

قلت بأسًى: «ولكن، تذكَّري أنكِ حرمت السير ناثانيال شيرلي من ممتلكاته.»

ردَّدت: «السير ناثانيال، السير ناثانيال. لقد كان من الأفضل له ألَّا يكون غنيًّا أبدًا، وكان من الأفضل له لو أن ما تم كان قد تم جيدًا.»

هززت رأسي؛ فقد كنت أعرف أن الحق أحق أن يُتَّبع، وأن الممتلكات بموجب القانون من حق السير.

صرخت وهي تضرب الأرض بقدمها اليمنى: «السير ناثانيال»؛ عندئذٍ كان كل خوفها على نفسها قد زال، «لو أن السير ناثانيال كان قد حصل على الممتلكات كان سيصبح حينئذٍ مُتسولًا، في حين أنه كان دائمًا سيحصل على كل ما يحتاجه لو لم تعرفي سري. الآن سيأخذ الضِّياع، ولكن إذا كان ممكنًا أخذ رأي المالكة الراحلة، زوجة أخي، أعرف أنها كانت ستحتفظ بكل هكتار بائس ورثته من عمها. أوه، يا امرأة! ليت كان بوسعكِ فقط فهم ما سبَّبتِه من أذًى!»

قلت: «سيكون ضميري مُرتاحًا يا آنسة شيدلي، مهما حدث، ولكنه سيرتاح أكثر إن سمحتِ لي، أنا من جلبت لكِ الخراب، إن سمحتِ لي بإنقاذكِ. إنني أخشى من السير ناثانيال؛ فهو يبدو عديم الرحمة.»

أجابت قائلةً: «اسمعيني أولًا. قبل أن تتحدثي مرةً أخرى ستسمعين عذري على ما فعلته، اسمعيني ولا تتكلمي قبل أن أُنهي حديثي. لا أعلم الصدفة الرهيبة التي حدثت وجعلتكِ تعرفين سرًّا كنت أظن أنه قد دُفن في قبر أختي وفي قلبي. لا يمكنني تخيُّل كيف جمعتِ المعلومات وربطت بينها، ولكن بما أنك تعرفين الكثير فسأخبرك بالباقي، وعندما تعرفينه ستتأكدين من أنني أستحق الشفقة بقدر ما أستحق اللوم.»

انحنيت وأنا أشعر كما لو كنت سجينة هذه السيدة المسكينة بدلًا من أن تكون هي سجينتي إلى حدٍّ ما.

«أنتِ تعرفين أن زوجة أخي أنجبت طفلةً ميتة، وتعرفين أنه بما أن هذه الطفلة قد وُلدت ميتة، ففي حال وفاة زوجة أخي لن يتمكن زوجها من التمتع بممتلكاتها مدى الحياة؛ ببساطة لأن الطفلة وُلدت ميتة. لقد كانت هي من زرعت الفكرة في رأسي أولًا. لقد باغتتنا النكبة التي حلَّت بأختي قبل أسابيع مما كنا نتوقَّع، ولم نكن قد اتخذنا أي استعدادات. عندما علِمت أنه لن يكون بوسعها أن تكون أمًّا، وهو ما استنتجته ولم تعرفه مباشرةً، أعتقد أنه من المؤكَّد أن الخزي الذي شعرت به كان عظيمًا لدرجة أنه أدَّى لوفاتها، كما كان من المؤكَّد أنها كانت تُصلي إلى الرب قبل وفاتها أن يرسل لها طفلًا يخفِّف من معاناة زوجها بعد رحيلها؛ فمنذ اللحظة التي غادرها فيها الطبيب لم تظن أبدًا أنها ستنهض من سريرها مرةً أخرى. وعندما صرخت قائلةً إن العديد من النساء الفقيرات ستسعدن بالعثور على منزل يأوي أطفالهن الضعفاء، عندئذٍ واتتني الفكرة بعدما كنت قد رأيت المرأة والرضيع وهما يمرَّان بالمنزل في حوالَي التاسعة مساءً بينما كنت قريبة من البوابة الجنوبية، وكنت قد تحدَّثت معها. لقد أعطيت تلك المرأة المسكينة بعض النقود، وأشفقت عليها كثيرًا عندما أخبرتني أن طفلتها كانت بالكاد تبلغ من العمر أسبوعين.

ربما لم يكن من حقي أن أتحدَّث مع أختي عن هذه الأم وطفلتها؛ لأنها لم تكن في حالتها الطبيعية على الإطلاق منذ الوقت الذي غادرها فيه الطبيب وحتى لحظة وفاتها؛ ربما لم يكن ينبغي أن أستثير عقلها المُضطرب أصلًا، ولكن ما إن استوعبت ما قلته حتى صرخت باكية بأن الرب قد استجاب لصلواتها، وأمرتني بالذهاب بحثًا عن المرأة. رفضتُ في البداية، ولكنها بدت مصممةً بقوة وكأن شيئًا ما يُلهمها، فوافقت على الذهاب، وذهبت سريعًا من المنزل إلى الطريق في الاتجاه الذي سارت فيه المرأة المسكينة.

وعندما سمعت الطفلة تبكي من داخل عربة الأجرة العمومية البائسة تلك، اعتقدت أنا أيضًا أن السماء قد أشفقت علينا. أعلم الآن كم كنت مُذنِبة؛ كم كنت مذنبة بشدة.

لم أغِب عن المنزل سوى عشرين دقيقة، وسرعان ما عُدتُ وأنا أحمل الطفلة. وعندما دخلت غرفتها وأنا أحمل الرضيعة، وجدت أنها كانت لا تزال بمفردها، مع أنني لم أتخذ أي احتياطات لضمان ذلك. صرخت قائلةً إن السماء كانت طيبة معها، وإن ملاكًا طيبًا هو الذي جلب الطفلة لي.

لم يكن يوجد أي أحد في المنزل ليرى ما فعلته. لقد كان يوم الاحتفالية المدرسية المجانية لجمع التبرعات، وكان كل الخدم، باستثناء واحدة، في «فيلفت ديل» على بعد ثلاثة أميال من المنزل؛ الخادمة الوحيدة التي كانت قد بقيت في البيت كانت موجودة في العملية الجراحية مع الطبيب.

قبل الساعة العاشرة والربع، وهو التوقيت الذي عاد فيه الخدم إلى المنزل — كان قد سُمح لهم بالغياب حتى العاشرة، ولم يكن يوجد أحد يمكن إرساله في طلبهم خلال تلك الساعة والنصف المروِّعة — كانت تُحتضَر في حضور الدكتور إلكينز، الذي بدا شديد الارتباك والحيرة.

حتى في ذلك الوقت كنت أشعر بفداحة الجريمة التي كنتُ قد تورَّطتُ فيها. هذا ما شعرت به بالفعل. حتى في ذلك الوقت كنت أشعر أنني لو عارضت فكرة أختي الجامحة بدلًا من تبنِّيها، لما كانت أمرتني بذلك كما فعلتْ.

قبل وصول الطبيب للمرة الثانية — وفي اللحظة التي عادت فيها خادمتها ومعها الدواء، أرسلتها إلى الطبيب مرةً أخرى، قبل أن يعود الدكتور إلكينز مرةً أخرى، كانت قد أمرتني بأن أُقسِم على أنني لن أقول الحقيقة أبدًا بشأن الطفلة، قائلةً: «لقد أرسلتها السماء، أرسلتها السماء! رغم أنها لم تكن سوى ابنة امرأة فقيرة.»

لقد قالت لي، هكذا تابعت السيدة المسكينة، وهي تنظر إليَّ بتَوقٍ — كانت الساعة الآن الثالثة والنصف، كما رأيت في الساعة الفرنسية الضخمة الموجودة على رف الموقد، بحيث لو كان السير ناثانيال قد استقلَّ قطار الواحدة، فقريبًا ما سيصل إلى منزل آل شيرلي — وتابعت: «لقد قالت لي إن نيوتن سينكسر — نيوتن هو السيد شيدلي — إن فقدها هي وطفلتها معًا، وإنه كان يُسْدي الخير للعالم، وإنه يجب ألَّا يوقف عملَه هذا أيُّ شيء، كما تعلمين.» ثم توقَّفت، وقالت: «لقد تزوَّجت أخي لأنها كانت مُعجَبة بذكائه أكثر من إعجابها به هو نفسه.»

قالت أيضًا إنني يجب أن أُنقذ طفلةً بائسة من العَوَز، وأخيرًا قالت إنها أرادت ألا يحصل عمها على ممتلكاتها؛ وإنه كان شريرًا وفاسدًا، وإن زوجها هو من يتوجَّب أن يحصل عليها ليستخدمها لفعل الخير.

بعد ذلك، عندما سمعت جرس الباب يدقُّ في الردهة، وعرفت أن الطبيب قد عاد، رفعت يدها اليمنى ونظرت إليَّ بحدةٍ، وقالت، «إنني آمُركِ، باسم الرب.»

لم تتحدث بصوتٍ مرتفع مرةً أخرى قط. كانت تهمس فقط لزوجها برسائل، وأمسكت برأس الطبيب بين يديها، وهمست له بشيءٍ جعل الرجل المسكين يرتعد.

ثم ماتت في نفس الوقت الذي عاد فيه الخدم إلى المنزل من الحفل المدرسي الخيري.

كنت أعرف كم كنت مُخطئةً قبل حلول اليوم التالي بوقتٍ طويل، ولكن عندما نظرت إلى وجهها الساكن، يا عزيزتي، لم أتمكَّن من عصيانها، وشعرت أكثر بأنني غير قادرة على معارضة رغباتها الأخيرة عندما همست لي مدبرة المنزل، السيدة دومارتي، أنها كانت تبدو في نومها الأخير كما لو كانت قد أدَّت واجبها.

أعرف كم كان كل شيء شريرًا، ولكن بمرور السنين كنت أتمنى أن كل ما فعلته كان للأفضل. عندما عاد أخي إلى البيت في نهاية هذين اليومين، وجد تعزيةً كبيرة في وجود الطفلة الصغيرة، ولم أستطع أن أخبره أنه كان يذرف دموعًا على طفلةٍ غريبة.

مرضتُ مرضًا شديدًا، يا عزيزتي، بعد الجنازة، وظنوا أن الحزن هو الذي كان قد تغلَّب عليَّ، ولكنني أخشى أنه كان ألم ضميري أكثر من حزني على أختي، رغم أنني متأكدة من أنني أحببتها كثيرًا.

بمُضيِّ السنين اعتقدت أن كل ما فعلته كان للأفضل. كان السير ناثانيال يتلقَّى دخلًا سنويًّا كبيرًا مني؛ فقد ورثت ثروةً كبيرة بعد وفاة السيدة شيدلي بوقتٍ قصير. وقد كتبت وصيتي في صالحه، بحيث لا يصبح فقيرًا أبدًا بسبب ما فعلته، في حين أنه لو كان قد ورث الممتلكات، سرعان ما كان سيهدرها لأنه مُسرِف تمامًا.

الآن أنتِ تعلمين كل شيء. أخبريني أنتِ، يا سيدتي المسكينة، إنك ترغبين في إنقاذي، ولكن كيف تستطيعين ذلك؟»

قبل أن تسألني هذه السيدة الطيبة هذا السؤال المحزن بوقتٍ طويل، كنت قد طأطأت رأسي حزنًا وندمًا.

لا تظنوا أننا، نحن المحققين، لا نتمتع برقة القلوب؛ لأننا مضطرُّون لأن نُقسيها كالحجر في مواجهة الشرور اليومية التي يجب أن نُواجهها. لم يمضِ وقتٌ طويل منذ أن صُدم توم وايت، وهو أحد المحققين في «القسم آر»، لرؤية لص شاب، كان يُلاحقه، يسقط ميتًا عند قدميه. لم يكن توم وايت من هذا النوع من الرجال أبدًا؛ لذا لا بد أن هذا الرجل المسكين كان يتمتع بشيء من رقة القلب.

أعترف بأنني أسِفت على أنني كشفت للسير ناثانيال الأوراق التي كانت بحوزته الآن.

هل كان بإمكاني إنقاذها؟

لقد كنت عازمة على بذل قصارى جهدي.

قالت بشيء من التعب: «حسنًا؟» وسارت نحوي، ووضعت يدها برفق على كتفي.

أعترف بأنني لم أشعر أبدًا بيدٍ تستقر على كتفي بمثل هذا الثقل، مع أن لمستها كانت شديدة الرقة مثل لمسة سيدة مهذَّبة كما لا بد أنها كانت دائمًا.

أجبت قائلةً: «أنا في غاية الأسف.»

أجابت: «لا حاجة للأسف.»

«وفي غاية الخجل.»

«لماذا يا عزيزتي؟ لقد قمتِ بواجبكِ، أيًّا كان ما أغفلتُه.»

قلت: «أفضل أن أكون مكانكِ.»

أعترف أن ردودي هذه كانت عاطفيةً كمحققة. ومع ذلك فأنا أكرِّرها كما قلتها في ذلك الوقت.

ويا للأسف! بينما كنت أتحدَّث أتى صوت رنين مُفاجئ وشرس ومُلِح من جرس البوابة الضخمة.

عندما ألقيتُ نظرةً خاطفة على الساعة الضخمة، ووجدت أنها «الرابعة إلا الربع»، كنت متأكدةً من أن الزائر هو السير ناثانيال شيرلي.

إنه حتى لم يُرسِل بطاقة؛ فقط اسمه، وأنه يرغب في مقابلة السيد أو السيدة شيدلي.

وأضاف الخادم أنه قد رد عليه بأن السيد شيدلي كان بالخارج يتفقَّد الأرض، بينما كانت السيدة شيدلي في المنزل.

قطعًا، شعر السير ناثانيال بأنه كان يتمتع بالفعل بقدرٍ كبير من النفوذ، حتى إنه لم ينتظر الإذن بالصعود إلى الطابق العُلوي.

قال السير وهو يدخل: «يوم سعيد، يا كاثرين. لقد سمعت أنكِ بالمنزل؛ لذا لم أنتظر أن يهبط إليَّ الخادم مرةً أخرى.»

هذا الجبان! كان يخشى أن تحظى بميزةٍ أكبر إذا ما طال الوقت قبل أن يراها.

وبينما كان يتحدث نظر إليَّ كما لو كنت ألدَّ أعدائه. كان بالفعل قد مد يده إليَّ وأخذ ما عرضته دون قول أي شيء (مثل القرد الحلقي الذيل الذي رأيته في حديقة الحيوان)، والآن كان مستعدًّا للزمجرة؛ لأنه كان يفترض أنه لم يكن لديَّ أي شيء آخر لأقدِّمه.

عندما غادر الخادم الغرفة، التفت إليَّ وقال الكلمات الآتية بلهجةٍ لطيفة كما لو كان يسألني عن صحتي.

«ظننتُ أنني لا بد أن أجدكِ هنا أيتها العاهرة!»

«سيدي!» هكذا قلت بتعجبٍ أظن أنه كان مسوَّغًا.

«الآن لن تحصلي مني على أي شيء.» قال بصوتٍ لا يزال ناعمًا، ولكن بأبشع تعبير وجه أتذكَّر أنني لاحظته على الإطلاق.

من المؤكد أنه كان طاغيةً بائسًا، وأنه كان يشكِّل خطورة على أصدقائه (إن كان لديه أي أصدقاء) أكثر من أعدائه.

سأل مُلتفتًا إلى الآنسة شيدلي: «وماذا لديكِ لتقوليه؟»

سألته وكان صوتها ثابتًا على نحوٍ مُدهش تمامًا كمَسلكها: «ماذا لديك أنت؟»

«أنتِ تعرفين ما أتيتُ لأجله.»

قالت بلطفٍ شديد: «أجل.»

قال: «إذن فقد كشفتكِ أخيرًا؟»

كان من الواضح أنه قد تجاوز دوري في المسألة كما لو كنت لا أعرف شيئًا عنها.

هنا نظرتُ إليه — ربما بشيء من الحدة — ثم لاحظت أن السواد حول شفتيه الذي كنت قد لاحظته في الليلة السابقة كان لا يزال أكثر وضوحًا وهو يقف في مواجهة أخت زوج ابنة أخيه، وعلى وجهه أقبح نظرة انتصار يمكن أن ترتسم على وجه بشر.

قاطعتُه في هذا اللحظة قائلةً: «لحظة واحدة!»

«حسنًا؟» قالها بلطف، ولكنه كان ينظر إليَّ وكأنني كلبة من أسوأ أنواع الكلاب.

«لا حاجة لوجودي هنا. سأترك الغرفة.»

«لا لن تفعلي!» قال بجرأةٍ أعتقد أن سببها أنه لم يكن عليه التعامل إلا مع امرأتين.

«حقًّا! احذر، أنت تعلم أنني ضابطة شرطة؛ وإذا أعَقتني عن تنفيذ واجبي فسيكون ذلك على مسئوليتك الشخصية. أقول إنكما لستما بحاجة لي هنا، وأعتقد أنه من المناسب أن أغادر الغرفة.»

وبينما كنت أتقدَّم نحوه ظهر تغيرٌ آخر على وجهه. لم أكن متأكدة إن كان قد صار أكثر شحوبًا بشكلٍ عام؛ لذا بدت المنطقة حول فمه داكنةً أكثر، أم أن السواد حول شفتَيه قد زاد بالفعل، ولكن الأكيد هو أن تغييرًا ما قد حدث.

وقف في طريقي حتى اقتربت منه، ثم تراجع إلى الوراء كما لو كنت قد لمسته.

غادرت الغرفة، ولكن قبل أن أفعل قلت للآنسة شيدلي: «سأكون بالخارج. إذا ناديتِ عليَّ سأسمعكِ. لا تخافي من هذا الرجل.»

ثم غادرت الغرفة.

لم أعلم ما قيل قط.

كانت الحاجة للدخول إلى الغرفة ناتجةً عن صرخةٍ صادرة عن السيدة شيدلي، وعندها ارتأيت أنه من المناسب أن أهرع إلى الغرفة، حيث وجدت …

ولكن قبل أن أصل إلى ذلك المشهد الأخير في هذه الرواية يجب أن أُطلِع القارئ على بعض الأشياء التي لاحظتها.

عند وصولي إلى الممر خارج الغرفة التي كانت الحرب مندلعةً فيها بين السيدة شيدلي والسير ناثانيال، وجدت نفسي بالقرب من نافذةٍ كنت أعلم بالنظر إليها فقط، كَوْني محققة، أنها لا بد أن تكون على نفس خط نوافذ الغرفة التي تركتها لتوِّي؛ وهذا ببساطة لأنها كانت تطلُّ على نفس المنظر الذي كنت قد لاحظته من قبلُ دون كثير نية في فعل ذلك (إذ تصبح ملاحظة كل شيء أمام المحقق عادةً لديه).

كانت كل هذه النوافذ تطل على المساحة الواسعة أمام المنزل، والتي كانت محاطة بجدار في المقدمة وبوابتَين من الخشب المتين الثقيل. وعلى الرغم من ذلك، كان يوجد بابٌ صغير في كل بوابة، وكان واحد منهما مفتوحًا، ورأيت من خلاله وجهَي رجلين كانا يحدِّقان من عربة الأجرة، التي لم أتمكن إلا من رؤية قمتها خلف الجدار والبوابتَين.

بالكاد رأيت وجهيهما، وفي ظل هذه الظروف المُعيقة تعرَّفت على أحدهما، وكان شرطيًّا معروفًا لي.

بدون أدنى شك كان الشخص الآخر شرطيًّا أيضًا.

إذن، فهو لم يُظهِر أي رحمة، ولم يكن يسعى إلى الوصول إلى تسوية مع آل شيدلي من خلال مقابلتهم. كَوْنه شخصًا قاسيًا كان قد جلب معه شرطيَّين، وأدركت على الفور أن الوقت اللازم لإحضار الضابطين هو الذي جعله يصل إلى المنزل متأخرًا نصف ساعة. ولاعتقال الآنسة شيدلي في وقتٍ مبكر عن ذلك الذي كان يشرع فيه الآن لإتمام ذلك العمل، كان لا بد أنه يستيقظ في الصباح الباكر؛ وهي شدة لم يستطع، دون شك، أن يُجبر نفسه عليها، رغم أنها كانت ستؤدي إلى التبكير في إبداء قسوته.

كنت أراقب الوجهين من خلال النافذة المفتوحة — فقد كنَّا في نهاية شهر يوليو، وكان الطقس جيدًا — وباب البوابة الصغير، ودون أن يراني أحد لمدة دقيقتين تقريبًا، عندما سمعت الضابط الذي كنت أعرفه يقول:

«ها هو، إنه قادم.»

كان صوته أعلى من الهمس بقليل، ولكن النسيم كان آتيًا في اتجاهي، كما أنني أتمتع بحاسة سمع جيدة وحادَّة بصورةٍ استثنائية. وفي الواقع، أعتقد أنه من المسلَّم به أننا، نحن المحققات، لدينا القدرة على تدريب حواسنا الخمس بحيث تصبح أكثر حدة من منافسينا من الذكور.

من الواضح أنه كان بإمكان الشرطيَّين أن يريا عبر الحدائق، وحول المنزل، بينما لم أتمكن أنا من الرؤية إلا في اتجاهٍ مُعاكس.

ولكن بعد لحظة سمعت صوتًا رفيعًا واضحًا يغنِّي بصوتٍ خفيض ورقيق، وتعرَّفت عليه على الفور؛ لقد كان صوت السيد شيدلي؛ رب المنزل.

لم يتداخل مع صوته سوى صوت حفيف الرياح الخفيفة (وهي تحرِّك أوراق الأشجار وتُحدِث تموجات في سنابل القمح)، وفي الواقع بدت لي دندنته كأنها صوت جوقة عذب.

اقترب من المنزل، فارتفع صوته، ثم سار مُبتعدًا إلى الجانب الآخر، فتلاشى صوته حتى أصبح صوت الريح أعلى من دندنته.

تابعه رجلا الشرطة بأعينهما قدر ما استطاعا، وإذا كنت قد رأيت قطة تتفقد فأرًا فسيمكنك فهم شكل النظرة التي ارتسمت على وجهَي الضابطين بينما كانت فريستهما تنعطف عند زاوية منزله.

أظن أن هذه الأحداث استغرقت حوالَي دقيقتين.

ولكن هذا مجرد تخمين.

فجأةً سُمع صوت صرخة سريعة وحادَّة ومدوِّية.

ثم عم الصمت.

عندما سمعت الضابطين يقفزان من عربة الأجرة ويطآن الحصى بأقدامهما الثقيلة، ركضت إلى الأمام ولم أفتح الباب، بل دفعته.

كان السير ناثانيال يرقد أرضًا على وجهه.

وعلى مسافة ياردتين أو ثلاث منه، كانت الآنسة شيدلي جاثيةً على ركبتيها ويداها متشابكتان بأشد ما يمكن، وهي ملتصقة بالحائط.

يمكنني القول مباشرةً إنه كان قد مات.

بعد ذلك، عندما تمكَّنت السيدة شيدلي من التحدث بهدوء، أخبرتني أنها كانت متأكدة من أنه قد مات وهو يسقط أرضًا. عرفت أن المرض الذي كان يسري في العائلة قد أصابه؛ ذلك المرض القلبي العنيف الذي كان قد قتل شقيقه، وساهم إلى حدٍّ ما في موت ابنة أخيه الراحلة؛ السيدة شيدلي.

قالت إنها رأت على وجهه وهو يسقط نفس ذلك التعبير الذي كانت قد رأته على وجه زوجة أخيها وهي تموت، وعلى وجه والد زوجة أخيها، الذي كانت بجانبه وقت وفاته.

لست بحاجة للقول إن رجلَي الشرطة كانا قد دخلا المنزل مباشرةً قبل دخولي إلى الغرفة، التي دخلاها فور دخول الخدم.

ولكن قبل أن يصلا إلى موكِّلهما الميت، كنت قد توصَّلت إلى سلوكٍ معيَّن أتَّبعه معهما.

كان السير قد مات. حسنًا. إذن فقد عاد كل شيء لما كان عليه قبل أن أخبره بما حدث. وعلى الرغم من ذلك ربما يكون من حظه الجيد أنه مات هكذا؛ لأن مما سمعته لا أظن أنه كان سينتهي به الحال بالموت على فراشه، وإنما على فراشٍ حكومي، لو كان قد عاش لفترةٍ أطول تسمح له بالتصرف بحريةٍ أكبر في مواصلة عيش حياته الشديدة السوء.

كان هذا فقط هو السؤال الذي وقف عقبة في طريقي:

هل كان قد أخبر الشرطة بحقيقة الأمر بالضبط؟

خمنت أنه قد امتنع عن فعل ذلك. كنت متأكدة من أنه كان رجلًا لا يقول أكثر مما يلزم. لم يكن من الضروري إبلاغهم في قسم الشرطة بكل ما كنت قد أخبرته به.

ربما سيُفهَم المسار الذي اتخذته بسرعةٍ أكبر من خلال سرد الكلمات التي استخدمتها.

يمكنكم تخمين أن الضابط الذي كان يعرفني فوجئ إلى حدٍّ كبير عندما وجدني في الغرفة عندما دخلها.

«بلاكمان!» هكذا قلت بعدما جاء الطبيب وأقرَّ بوفاة السير ناثانيال (وهو ما لم يستغرق طويلًا)، وعندما أصبح ثَمة وقت لالتقاط الأنفاس في المنزل مرةً أخرى، «بلاكمان، لماذا جئت إلى هنا بحق السماء؟»

««هو» من أحضرنا.»

كان تأكيده على كلمة «هو» يُثبِت بوضوحٍ أن المتوفى هو المقصود.

«ما الذي قاله؟»

«حسنًا، كان يريد أن يُسجَن أخوه ونسيبته لأنهما سرقاه.»

«أجل، لقد كان مجنونًا.»

امتقع وجه بلاكمان وظهرت عليه أمارات دهشة بالغة.

قال وقد تحوَّل لون وجهه إلى الأحمر أخيرًا: «يا إلهي! كنت أعتقد أنه عميلٌ غريب، وأن المسألة كلها غريبة، ولكني لم أفكر في هذا! بالطبع يا «جي» (هكذا يدعونني في الشرطة)، هل أنتِ هنا لنفس المسألة؟»

قلت: «بالضبط.»

«بالطبع، الآن يتضح كل شيء.»

قلت: «بالطبع.»

من المُدهِش كيف قبِل كل من كانوا معنيين بالتحقيق تفسيري، بل حتى عامة الناس.

(لم أتردد كثيرًا في سرد هذه الحكاية؛ لأنه حتى الوقت الحالي واستنادًا إلى أحداثٍ معيَّنة، لم يُضار أحدٌ بسبب هذه الطفلة البديلة؛ فقد أدَّت دورها في مسرحية هذا العالم.)

لكن ما أرعبني هو دفتر جيب السير ناثانيال؛ لأنه كان يحتوي على عناوين سائق عربة الأجرة والسيد جيفينز طالب الطب. ومع ذلك فقد أصبح لا علاقة للآنسة شيدلي بالأمر عندما قدَّم سائق عربة الأجرة شهادته؛ لأنها كانت شاهدةً رئيسة (وأنا كذلك) في بداية التحقيق، بينما قدَّم سائق عربة الأجرة شهادته في الاستماع المؤجل. لم يكن دليل فليمبس كاملًا؛ فقد كان عليه أن يرى المتوفى كي يتعرف عليه، وقد جرت شهادته على هذا النحو: «لم أرَه من قبل، ولكن إذا كنت قد رأيت هذا الرجل من قبل، فيمكنكم أخذ رخصتي وسجني ثلاثة أشهر.»

أصبح لا علاقة لي بالأمر عندما قُدِّم هذا الدليل، وتواريت عن الأنظار أيضًا عندما أقسم الشاهد التالي، السيد جيفينز، أنه لم يرَ المتوفى من قبل على الإطلاق.

استُدعي المستشار الطبي للسير ناثانيال، وليس لديَّ أي شك في أن هذا السيد كان ذا مكانة عظيمة — لأن السير ناثانيال لم يكن يقبل إلا بالأفضل من كل شيء، من مستشاره الطبي وحتى ورنيش حذائه — وليس لديَّ شك في أن هذا الرجل النبيل كان يميل إلى حدٍّ كبير إلى إنهاء التحقيقات بسرعة. شهد، بشيء من الحزن كما هو واضح، وهو ما أعطى شهادته ثقلًا أكبر، أن المتوفى كان يُعاني منذ بعض الوقت من مرض القلب؛ الأمر الذي كان مرضًا عائليًّا، وأن المرض كان قد ازداد تقدُّمه بسرعة بسبب نمط الحياة الفوضوي الذي كان يعيشه السير، وأنه كان قد حذَّره قبل أيام قليلة فحسب ناصحًا إياه بأن يتجنَّب أي انفعال؛ لأنه قد يكون خطيرًا. قال الشاهد: «لقد أضفت أنه إذا حافظ السير ناثانيال على هدوئه، فقد يعيش حتى سن الشيخوخة المبكرة، وهو ما كان أمرًا محتملًا، ولكن كان احتمالًا ضئيلًا.»

عند سماع شهادة الطبيب، والتي أضيف إليها نتيجة فحص ما بعد الوفاة، تمكَّنت من أن أفهم بسهولة لمَ كان وجهه، وخاصةً المنطقة حول فمه، يبدو هكذا في كل مرة رأيته فيها، وكذا تمكَّنت أيضًا من فهم كم كانت طبيعته تتوافق تمامًا مع توجيهات طبيبه بتجنب الانفعال.

لقد كان واضحًا أنه كان من النوع الذي عادةً ما كانت الأنانية تُثير فيه مشاعر القسوة وانعدام الإحساس، بينما كان فجوره الطبيعي يدفعه إلى الانفعال والتصرف عكس طبيعته المتبلِّدة.

لا أشك في أن الأدلة الطبية بشأن السير ناثانيال قد أضعفت التحقيق، وهي نتيجة لا تنطلق من أي خداع متعمد للعدالة، ولكن ببساطة من حقيقة أن الحكم البشري على الأمور لا بد أن يتشكل بناءً على انطباعاتٍ سابقة. عندما يسمع الناس أن رجلًا مُتوفًى كان سيئًا، بالتأكيد لن يرغبوا في التحدث عنه في مراسم دفنه كما كانوا سيفعلون لو علموا أنه عاش حياةً شريفة.

لقد أظهرت الدهشة التي أبداها الطبيب الشرعي إلى أي مدًى يمكن، حتى لمسئولٍ قانوني عجوز، أن يتأثر بكلام شاهد عن الرجل في المحاكمة. أنا أعرف هذا الطبيب الشرعي، وهو ليس رجلًا ذا أخلاق رفيعة، ولكنه كان مُنافقًا يتظاهر بازدراء الخطيئة والاحترام الصريح للفضيلة.

بتوجيهٍ مني، كانت الآنسة شيدلي قد قدَّمت شهادتها التي كان مفادها أن السير ناثانيال جاء بخصوص أمور مالية، وأنه عندما سقط أرضًا كان على وشك البحث عن السيد شيدلي، وأنها ركضت نحوه وتوسَّلت إليه ألا ينفذ ما ينويه.

وعندما علم الطبيب الشرعي وهيئة المحلِّفين أن آل شيدلي هم من كانوا يعيلون السير ناثانيال ماديًّا منذ عدة سنوات، لم تُوجَّه للآنسة شيدلي أي أسئلة أخرى.

انتهت حكايتي، «مؤجر مدى الحياة»، التي سردتها لأبيِّن كيف يمكن لشيءٍ بسيط أن يؤدي إلى عواقب بالغة الأهمية. لو لم أستقلَّ عربة الأجرة مع فليمبس في عربة الأجرة في تلك الرحلة يوم الأحد، ما كنت عرفت أبدًا أن السير ناثانيال شيرلي هو الوريث الفعلي لضِياع آل شيرلي.

ومع ذلك فأنا سعيدة أن السير لم يستولِ أبدًا على أيٍّ منها.

عندما ماتت الفتاة الصغيرة (منذ حوالَي ثمانية أشهر)، تنازل السيد شيدلي عن الضِّياع للوريث التالي بعد السير ناثانيال. وبما أنه لم يُثبَت أبدًا أن الطفلة لم تكن ابنته، فقد كان بموجب القانون مؤجِّرًا مدى الحياة، لكنه تنازل عن حقه، ليس لأنه عرف سر أخته الكبير — فقد احتفظنا به لأنفسنا — ولكن لأنه شعر أن المالك الوحيد لممتلكات آل شيرلي يجب أن يكون شخصًا من العائلة نفسها.

وهكذا آلَ كل شيء إلى الطريق الصحيح في النهاية، ولم يُعاقَب أي شخص كي تتحقق العدالة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤