حكم الضمير

كان يعيش في فقرٍ مُدقِع، ولكنه كان مُواطنًا صالحًا.

تعرَّفت على جون كامب عن طريق مسألة تافهة للغاية، كما ستعرفون لاحقًا.

كان حينئذٍ يبلغ من العمر ثلاثين عامًا تقريبًا، وغير مُتزوج. سرعان ما عرفت أن لديه رغبةً كبيرة في الزواج، ولم يكن يرغب في الزواج من شخص بعينه. بدت لي رغبته غير نابعة من أي عاطفة شخصية، بل من العقل.

لا أظن أنني قلت إنه كان صانع أحذية.

أنا على وشك أن أسرد قصةً رومانسية عن صانع الأحذية هذا، ولكنني لن أغلف السرد بأي حالة من الحالات الرومانسية الباريسية المعتادة. لقد كان صانع أحذية لندنيًّا عاديًّا وأخرق، ولم يكن مهندمًا للغاية، وكان بالكاد يكسب ما يُغطي تكاليف المعيشة، ولا يأكل اللحم إلا مرةً واحدة في الأسبوع — يوم الأحد على وجه التحديد — ويعيش على الأسماك المملحة، والرنجة، والقواقع، ونحو ذلك من طعام الفقراء المبارك طوال الأسبوع. لماذا أقول على الأسماك المملحة والرنجة والقواقع إنها طعامٌ مبارك؟ ببساطة لأنها رخيصة الثمن ووفيرة، وتُقيم أود الفقراء، ولولاها كانوا سيُعانون من نظامهم الغذائي الفقير؛ كانوا سيُعانون ليس من وطأته، بل من ضآلته.

لم أرَه مخمورًا قط خلال الأشهر العديدة التي عرفته فيها، ولم أسمعه يتلفَّظ بأي كلمة عنيفة قط، ودائمًا ما كان يتبع توجهًا فكريًّا جديدًا.

كان أحد أفراد الطبقات الدنيا.

ربما يوجد العديد من الرجال مثله وسط الطبقات الدنيا. هذا ما آمله؛ فمع أن الكثيرين يعيشون ويموتون دون أن يتركوا بصمتهم في تاريخ العالم، فقد عاشوا حياتهم بشرف، وحسب ما نراه يوميًّا في جميع الطبقات، لا بد أن تكون ذكرى حياة طيبة، حتى إن كانت ضائعة، تعزيةً عظيمة جدًّا على فراش الموت.

لم يكن رجلًا سعيدًا، مع أن تعاسته لم تبدُ لي نابعةً من الظلم الذي حاق به على يد العالم، ولكن من الوعي بأنه كان محرومًا من فعل الخير لبني جيله.

أرجوكم لا تُسيئوا فهمي، أو فهمه.

لم يتصرف كأنه رجلٌ يشكو من ظلم العالم له لأن العالم فشل في فهمه. لم تكن شخصيته ساخرة ولا مُتشائمة ولا حزينة، ولكنني متأكدة تمامًا أنه كان يشعر بالأسف في الأغلب لأنه لم يستطع فعل خير للعالم بخلاف عيش حياة مُواطن صالح (وهو وضع لم يكن يقدره بما يكفي)، وأن العالم قد عامله بطريقةٍ حالت دون أن يتمكن من أن ينفع المجتمع.

لا أقول إنه كان مُحقًّا في شعوره بأن العالم لم يكن مُنصفًا معه. إنني مُدركة تمامًا أن المجتمع لا يمكنه البحث عن الشباب النابغين أو يتكهن بوجودهم؛ فأنا لا تُعوزني معرفة أن العالم على استعداد لمكافأة عبقرية بعينها وبسخاء، ولكنه ليس مستعدًّا لرعايتها قبل أن تصير معروفة. ومع ذلك فأنا لا أدين جون كامب لشعوره بمرارةٍ أكبر تجاه العالم أكثر مما كان يبوح به عمومًا، ولا بتمسُّكه بالاعتقاد بأن العالم قد أضرَّ به بإهماله إياه.

صحيحٌ أن الرجال يصنعون أنفسهم بأنفسهم أو يُساعدهم أصدقاؤهم في ذلك، ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن رجلًا فقيرًا جاهلًا، يُعاني في الحياة الأخرى بسبب أن قُوى العالم لم ترعَه عندما تركه أبوان مُهملان جامحًا دون توجيه، ينبغي أن يفكر مثل هذا الشخص بهذه الطريقة.

اسمعوا حجته.

«أعرف أن لديَّ ما من شأنه أن يُفيد العالم، ولكن يديَّ مكبَّلتان بالجهل، وأنا شابٌّ بلا حول ولا قوة، ولا بد أن أعيش كذلك، وأن أموت كذلك.»

ما رأيكم في تلك الحجة؟ إنه من الخطأ الإيمان بها، ولكنها طبيعية للغاية.

مع ذلك، قد يقول البعض إن العديد من الرجال الذين لم تكن مكانتهم الاجتماعية أعلى من جون كامب، قد نجحوا في الارتقاء بأنفسهم إلى مكانةٍ بارزة، ولكن في حالاتهم، كقاعدة عامة، تلقَّى هؤلاء الرجال الرعاية في شبابهم المبكِّر، ووُضع أساس للبناء عليه لاحقًا. مثال ذلك بلومفيلد؛ وهو أحد العباقرة الذين ارتقَوا من الحِرفة الوضيعة التي انتمى إليها كامب.

مرةً أخرى، كانت طبيعة موهبته تستلزم المساعدة في إظهارها؛ فالرجل الذي يمتلك موهبة في الكتابة يتزوَّد بريشة، ورزمة من الورق، وزجاجة حبر، وسكين قلم. أما الرسَّام فعليه المضي إلى ما هو أبعد من ذلك، وأن يشتري مجموعةً باهظة الثمن من الألوان وقماش الرسم، ولكن عندما تأخذ موهبتك الشكل الإسقليبيوسي، أي عندما يكون شغفك أن تكون طبيبًا، لا يمكنك الشروع في ممارسة موهبتك فورًا؛ فلا بد أن تعمل بصبرٍ سنوات طويلة ومكلِّفة، ثم تبدأ في الصعود بتواضع وببطء، وألا تستخدم معرفة بجرأة في البداية؛ لئلا تظهر حداثة تلك المعرفة وكأنها جهل، وأن تُقاتل لسنوات وسنوات، وربما طوال حياتك، قبل أن يتطلع العالم إليك ويصيح قائلًا: «انظروا إليه! لقد نفع كل الناس.»

أن ينفع العالم؛ كان هذا هو ما يطمح إليه بشغف جون كامب، الإسكافي، البالغ من العمر ثلاثين عامًا.

وبينما أكتب أتذكَّر المناسبة التي التقَينا فيها لأول مرة. دائمًا ما تكون الحشود في الشارع عامل جذب للمحقق؛ لأنه قد يحدث — وهو ما يحدث فعلًا في الأغلب — أن يكون مطلوبًا منه إتمام مهمة بعينها.

رأيت حشدًا في إحدى الليالي في المناطق التقليدية في حي «وايت تشابل»، وتبيَّنت اثنين مباشرةً، إذ وجدت امرأةً فاقدة الوعي ورجلًا، يبدو ضعيفًا ولكن تظهر عليه أمارات التعقل، يتعهَّد المرأة التعيسة الحظ بالرعاية.

وإذ لم أُولد لأُصدِر الأوامر، ولا كنت مُعتادة على تلك الرفاهية، تيقَّنت بمجرد أن وقعت عيني عليه، أنه كان يبدو في مكانه الطبيعي في هذا الموقف؛ يفعل ما يعرف أنه في حدود قدرته، ودون التأثر بأولئك الذين كانوا من حوله.

بينما كنت أقترب، سمعته يقول: «تنحَّوا جانبًا أيها الرفاق! إذا كان ثَمة شيءٌ تحتاجه هذه السيدة بشدة، فهو الهواء النقي. من فضلكم، تنحَّوا جانبًا أيها الرفاق!»

وهذا ما شرع «الرفاق» في فعله بالتراجع للوراء قدمين تقريبًا، ثم على الفور تقدَّموا إلى الأمام أكثر من قدم ونصف.

«انظروا هنا يا رفاق؛ لا تُثبتوها هكذا.» قال هذه التوجيهات إلى الرجال الذين كانوا يُثبتون المرأة المسكينة بقوة من شأنها أن تُعيق أحد جنود حرس الشرف الملكي. أردف قائلًا: «ارفعوها جيدًا، وقليلًا على أحد جانبيها، بحيث يتدلى رأسها قليلًا إلى أحد الجانبين؛ إذا كان أي شيء قد دخل في حلقها فستختنق إذا ثبَّتموها يا رفاق. ربما تكون غيبوبة من التي تحدث بسبب الوهن. هل يمكن أن يذهب أحدكم يا رفاق ويشتري القليل من البراندي بثلاثة بنسات؟»

وهو ما فعله أحد الرفاق؛ الذي كان فاسق المظهر، والذي أخشى أن تكون مهنته الحقيقية هي السرقة، ولكن بدافع الإنسانية، حتى بين اللصوص، لا بد أن أقول إنه عاد وهو يحمل البراندي وبعض الماء في قصعةٍ تخص إحدى الحانات.

كانت الحالة هي واحدة من تلك النوبات العادية التي تحدث في الواقع بسبب الضعف المرتبط بحالةٍ نفسية غالبًا ما تكون صرعًا. كانت هذه المسكينة رفيعة وباردة ورثَّة الثياب وهزيلة، وهي المآسي التي نراها نحن أفراد الشرطة يوميًّا لدرجة أننا نعتاد عليها بشدة بحيث ينظر إليها أقلنا رحمةً باعتبارها أمورًا مُزعجة.

انتظرت حتى استعادت المرأة المسكينة وعيها و«عادت إلى العالم» حسب التعبير الدارج، وحتى نظرت حولها، كما لو كانت قد وُلدت في عالمٍ غريب؛ استعادت حواسَّها البائسة واستجمعت شتات نفسها، وتلفَّظت بخجل ببعض العبارات التي بدت كأنها أعذار، واستعدَّت لأن تنسلَّ بعيدًا.

قال الطبيب المُرتجل: «هيَّا يا رفاق، لنُعطِها بعض المال. هيَّا نجمع بعض المال.»

يؤسفني القول إن الشك تفشَّى فيَّ لحظةً، ونظر المحتشدون بتشكك إلى فاعل الخير الطيب، قائلين إن هذا يكفي.

كما أنبأت نظرات التشكك، لم يتجاوز المبلغ الذي جُمِّع، كما أتذكر، بنسين ونصفًا، فأعطى فاعل الخير الطيب (وهو يرمق الحشد بنظرات ازدراء) هذا المبلغ الزهيد إلى المرأة المسكينة، التي ظهر عليها الخجل والأسف أكثر من أي وقت مضى وهي تتلقى هذا الإحسان.

أما أنا فتبعت فاعل الخير، الذي عرفت من ملابسه أنه كان عاملًا عاديًّا جدًّا.

تبعته دون أي نية سيئة إلى حي «البرج» حتى دخل منزلًا شديد الفقر، لدرجة أنه لم تكن ثَمة حاجة لغلق الباب الذي كان يتأرجح بكسل دون رِتاج.

في نفس الأمسية، قمت ببعض الاستفسارات في محلٍّ تُديره أرملة، أبدت رغبةً قليلة في البيع ورغبةً كبيرة جدًّا في الكلام، لدرجة أنني تفحَّصت الكثير من الأغراض التي كانت تعرضها للبيع كمجرد حجة. أخذت أفحص نوعًا من المظلات التي تُشبِه المظلات الرسمية التي يستخدمها الناس لإخفاء وجوههم من الفضيحة.

لم أكن مخطئة؛ فعندما تعرَّفت على الجوار على نحوٍ أفضل، تأكَّدت من أن محل السيدة «ويدو جرين» كان مُلتقى الشارع، وكان يُضاهي أي تجمُّع اجتماعي من هذا النوع في الجانب الغربي، فيما يتعلق بالحديث عن سمعة الناس. أظن أن سمعة شخص واحد على الأقل كانت تُدمَّر كل ساعة خلال ساعات العمل الرسمية.

عرفت الكثير من المعلومات من «ويدو جرين»، والتي كانت بالمناسبة تستخدم أيضًا آلة عصر الملابس الميكانيكية، التي تُعتبر بيانو الفقراء!

كان يبدو أن جون كامب شابٌّ لطيف، ولكن بعض الناس كانوا يعترضون على ذلك ويقولون إنه عكر المزاج بعض الشيء.

بعدما استفسرت أكثر عن هذا القول، تبيَّن أنه كان شابًّا محترمًا، يعتني بأخته، ولا يُسرِف أبدًا في الشراب (كان هذا هو التعبير اللطيف المتَّبَع في الجانب الشرقي للمدينة للإشارة إلى المشروبات الكحولية)، ودائمًا يدفع إيجار مسكنه. ومع ذلك لم يكن يرتاد المحل؛ لأنه لم يكن يرغب في أن يكون مَدينًا لأي شخص (كانت هذه إشارة إلى عدم دعمه للمحل، كما رأيت)، ولكن «ما لم يكن في صالحه هو أنه كان عابسًا»، ومع ذلك فقد كان مُلتزمًا بمواعيده في إصلاح الأحذية، ويستخدم أفضل الخيوط والجلود.

لست بحاجة إلى قول إنه لم يكن صعبًا أن أتعرَّف على آل كامب. كنت مُنشغلةً في ذلك الوقت فيما عُرِف حينها باسم قضية «مخبوزات السكر الكبيرة» (مع أنه قد يبدو للقارئ أن من الغريب استدعاء امرأة محققة للعمل في هذه القضية)؛ ولذلك كنت أعيش في حي «أولجيت ووايت تشابل». وحيث إنه لم يكن بوسعي ممارسة قدراتي المهنية إلا في ساعاتٍ معيَّنة، فقد كان لديَّ قدرٌ كبير من وقت الفراغ.

التقيت بكامب في اليوم الثاني من إقامتي المؤقتة في هذا الجزء من لندن، وفي اليوم الثالث تعرَّفت عليه بالاستعانة بحذاء كان يحتاج إلى إصلاح، والذي كنت قد اشتريته من صاحبة منزلي التي كان شكها في الأمر واضحًا؛ لأن تصرُّفي هذا كان غير مُعتاد.

طرقت الباب بقدر ما أستطيع بطريقة الطرقتين التي كنت قد عرفت أنها الأسلوب الذي يتبعه آل كامب، وبعد مرور بعض الوقت — لأن مِطرقة الباب كانت مفكوكة ومعوجَّة، ناهيك عن عدم وجود مِصد — أتت الأخت، كما علِمت لاحقًا، لتفتح الباب.

لم تكن جميلة المنظر؛ فقد كان فكُّها بارزًا لدرجة أنه، للوهلة الأولى، أضفى على وجهها ذلك التعبير الشرير الذي يُشبِه كلب البولدوج كثيرًا، ولكنني، إذ كنت قد اعتدت تدقيق النظر في الوجوه بدلًا من إلقاء نظرة سريعة عليها، أدركت سريعًا أنها كانت شابَّةً لطيفة وجذَّابة (بغضِّ النظر عن فمها وفكها).

لست بحاجة هنا إلى الإسهاب في سرد لقاءاتي الأولى مع جون كامب؛ لأنني لديَّ مسألةٌ أهم لأكتب عنها؛ ولذلك دعوني فقط أقول إنني وجدت أنه كان يبدو رجلًا جادًّا وهو جالسٌ يؤدي عمله الشاق، وكان الضوء الخافت الضبابي يسقط على جبهته، التي كانت عريضة وضخمة، ولكنها كانت خشنة ومحاطة بشعرٍ أسود باهت المظهر بعض الشيء وناعم، ولكنه غير معتنًى به جيدًا.

يُعتبر كسر الحواجز مع الآخرين وكسب صداقتهم جزءًا من مهنتي، وسرعان ما فعلت ذلك مع كامب.

بعد بضعة أيام كنا على وفاقٍ شديد. قبِلني تمامًا زائرةً له وليس مجرد زبونة. عندما كنت أدخل كان يرفع نظره عن عمله ويبتسم ابتسامةً لطيفة ولكنها مُتعَبة، ثم ينحني فوق عُدَّته ويطرق الجلود التي يعمل عليها.

لقد كان بالتأكيد سيئ الحظ للغاية من نواحٍ كثيرة؛ فقد كان دون شك أسمى من مهنته، ولم يكن يميل إلى الرضا بهذا الحال الذي كانت قد وضعته فيه الصدفة وإرادته، حتى إنه كان مُجبَرًا على التظاهر باحترام مهنته البائسة، ولكنه لم يكن بوسعه أن يشعر بذلك. لم يحاول قطُّ أن يشغل مكانةً عالية في مهنته؛ لأنه على الرغم من كونه حِرفيًّا جيدًا لم يكن قد عمل بانتظام في صناعة الأحذية. كان قد اضطرَّ في وقتٍ مبكر من حياته إلى أن يعمل صبي توصيل في متجر أحذية؛ لأن ظروف الحياة في منزله كانت سيئة، ومن هنا تعلَّم الحِرفة ومارسها في النهاية.

وبما أنه دائمًا ما يوجد رجالٌ ينتفعون من كل الفرص الممكنة، فقد مُنح كامب من العديد من أرباب هذه المهنة الذين وظَّفوه لديهم أسوأ أجر مقابل أفضل عمل؛ وذلك ببساطة لأنه لم يكن بوسعه أن يكون طرفًا في أي عقد عمل رسمي.

يؤسفني القول إن هذا النظام جعله أكثر سخطًا على قدَره أكثر مما كان من الممكن أن يكون.

في زيارتي الثالثة، وجدته يُعالج عامل تحميل أبله، ويخلع له ضرسًا من فكه الضخم باستخدام الكماشة العادية التي يفرد بها الجلود.

كما ترَون، فالأمر مع جون كامب يُشبِه تمامًا حفلةً مسائية يكون فيها الرجل النبيل الذي يلتفُّ حوله ويتعامل معه عددٌ أكبر من الناس هو من يبذل جهدًا أكبر من أي شخص آخر من أجل ترفيههم عمومًا. كان عامة الناس في الحي يُبْدون الشفقة عليه لكَوْنه شخصًا غريب الأطوار بأن يشتروا له كوبًا صغيرًا من البيرة، وفي المقابل يستفيدون من غرابة أطواره لمصلحتهم الشخصية.

قال العامل الغبي: «شكرًا يا صديقي!» وغادر الغرفة دون أن يوجِّه أي كلمة لأخت كامب.

قلت لكامب: «إنه لم يدفع لك شيئًا!»

أجاب: «أجل؛ فأنا لا أتقاضى أجرًا مطلقًا لقاء المشورات الطبية.»

أعترف أن الجواب كان مُتعجرفًا بعض الشيء، ولكنه كان رجلًا قليل الاطلاع، وليس دائمًا ما يكون الجُهلاء فحسب هم المغرورين. وأودُّ أن تُلاحظوا أنه عندما يرفض رجلٌ فقير، يجني ما يقل عن خمسة عشر إلى ثمانية عشر شلنًا في الأسبوع، أجرًا هو يستحقه، فلا بد أن تكون ثَمة قيمة في الإيثار والزهد أكبر مما نراه من أول وهلة.

قلت لكامب: «ولكن كان سيتعين عليه دفع شلن لو ذهب إلى طبيب أسنان؛ كان عليك أن تأخذ منه ستة بنسات.»

«أوه! كان يمكن أن يحصل على إذن من مسئول الإغاثة بالذهاب إلى طبيب الأبرشية، ويخلع ضرسه بدون مقابل.»

«ولكنه كان سيُضيع وقته إن فعل ذلك.»

قال كامب: «أجل، هذا صحيح.»

بالمناسبة، لقد كان وقت العشاء، وكان كامب قد ترك عشاءه دون مقابل من أجل أن يخلع ضرس العامل.

لم ننسجم أنا وأخت كامب. بدا لي أنها استاءت من تدخُّلي، مع أنني متأكدةٌ من أنني لم أعوِّقهما بأي حال من الأحوال. كانت لعنة الفقر جليَّةً عليها، بينما انتصر أخوها على هذه اللعنة بحكمته؛ فقد كان حكيمًا على الرغم من قلة معرفته. إنني أدرك أن الحكمة تستلزم المعرفة، ولكن خبرتي تبيِّن أنه يمكن أن يُصاحب الكثير من الحكمة القليل جدًّا من المعرفة. علاوةً على ذلك، أعرف من خبرتي أنه في الكثير من الأحيان لا تكون المعرفة الهائلة مصحوبة بأي حكمة على الإطلاق.

بطريقة أو بأخرى بدأت أُعجَب بجون كامب.

ولكنني لم أكن سعيدة بغروره على الإطلاق.

وبهذه الجملة ربما يدرك القارئ سرًّا شخصيًّا ربما لم يكن من الصعب للغاية معرفته بالفعل.

كان يعرف الكثير عن الطب، ويعرف أكثر عن فلسفته. كان كتابه المفضَّل هو كتاب جونستون «كيمياء الحياة العادية». كان يحفظ الكتاب عن ظهر قلب تقريبًا، وكان يُسهب بالكلام عنه بطريقةٍ تكاد تكون مؤثرة، عندما نأخذ في الاعتبار شغفه البائس بمهنةٍ لن يمكنه على الأرجح أن يُمارسها أبدًا.

أما فيما يتعلق بالسياسة فقد كان ليبراليًّا أصيلًا، ولكن لم تكن تُسيطر عليه تلك الآراء المتطرفة التي، كما لا بد أن نعترف، يؤمن بها عامةً من علَّموا أنفسهم بأنفسهم. لقد علَّم هذا الرجل نفسه بنفسه تمامًا؛ فقد تلقَّيت منه رسائل بعد ذلك، ويتعين عليَّ أن أقول إنها كانت تعكس مستوًى تعليميًّا كان يستحق الثناء. من خلال هذه الرسائل كان يمكن رؤية أنه قد يكون هو من علَّم نفسه بنفسه؛ فقد كانت تحتوي على الكثير من الأحرف الكبيرة، والكثير من الغموض في أسلوب الكتابة، ولكن كان يمكن ملاحظة أن الرجل كان جادًّا وصريحًا. كانت كل جملة تعكس مجهودًا كبيرًا، وكل سطر كان يحوي شيئًا، وكل حرف كان مثاليًّا بذاته وبطريقته الخاصة.

ولكنه لم يكن ينتمي إلى «الحركة الميثاقية» بالمعنى المتعارَف عليه للكلمة.

فقد قال لي في إحدى المرات:

«ذهبت ذات مرة إلى أحد اجتماعات الحركة الميثاقية، ولكنني لم أحضر مرةً أخرى أبدًا. إذا كانت الميثاقية تعني أي شيء، فهي تعني أن أولئك الذين يُعانون لن يُعانوا بعدئذٍ. حسنًا، لقد ذهبت، ووجدت أن الرجال هناك كانوا عمالًا أقوياء ومُعافين، وقد كانوا على وجه الخصوص من أولئك الأوفر حظًّا بيننا نحن العمال — مثل المهندسين والحدَّادين — ممن يحصلون على أفضل أجر بيننا. لم يكن لديهم إلا القليل مما يدعو للشكوى، بينما لم يكن العمال المظلمون — أعني كل من يستخدمون الإبرة في عملهم، كصانعي الأحذية والخياطين — الذين بالكاد يستطيعون الحصول على القليل من الخبز، والأقل كثيرًا من الجبن، موجودين في الاجتماع على الإطلاق. لم يكن لديهم الوقت للذهاب. دفعوني بأكتافهم بعيدًا، ولم يكن من الممكن سماع صوتي وسط صراخ وصياح كل أولئك الرجال الضِّخام. ما أذهلني هو أنني لم أتخيَّل أبدًا أن يكون الاجتماع بمثل هذا القدر من الاستبداد؛ لذا لم أحضر أيًّا من تلك الاجتماعات مرةً أخرى؛ فهي أكذوبة لا أكثر.»

في أثناء هذه الأحاديث، وبينما كان يعمل، وأنا كذلك، لم تقل الأخت شيئًا، ولكنها كانت تنكبُّ بانهماك على عملها الشاق للغاية، وهو خياطة الملابس العسكرية.

رأيت من خلال حركات يديها في الحياكة الصعبة لملابس جنود سلاح المدفعية، أن أصابعها كانت زرقاء تمامًا وخشنة، وفي أوقاتٍ أخرى كنت أرى الشُّحوب الشديد والإرهاق باديَين عليها وسط السترات الحمراء الخاصة بجنود مُشاة الخط.

أظن أنني قلت من قبلُ إنها كانت ذات وجه مليح، عدا فكها البارز، ولكن أغلب الناس لم ينظروا إلى ما هو أبعد من هذا العيب الخلقي، الذي كان واضحًا جدًّا وهي تتناول وجباتها البائسة، وكانوا يُعاملونها بإجحاف. لقد تقبَّلت هذا الاستنكار الدائم بطريقةٍ هادئة ودون استياء، ولكن لم يخلُ تقبُّلها من الإدراك لذلك الاستنكار، فغرقت في نوع من اللامُبالاة الذليلة والمقزِّزة، والتي يؤسفني القول إنها لا بد أنها كانت غالبًا ما تؤدي إلى زيادة تحامُل الناس عليها.

بعد حوالَي أسبوعين من معرفتي بهذا الرجل الاستثنائي، وبينما كنت أتحَّدث مع كامب حول أحد فصول كتاب جونستون للكيمياء، الذي أعترف بأنني اشتريت نسخةً منه وقرأته، وبينما كانت جوانا كامب تعمل، حسب خبرتي، في ظل ظروف جديدة، فقد كانت محاطة بأقمشة الفانيلا البيضاء المخصَّصة للملابس الصيفية لجنود البحرية، وبينما كنا مشغولين هكذا، إذ كانت الساعة الثالثة من عصر يوم جميل من أيام شهر أبريل، وكانت الرياح الخفيفة تمرُّ بوعاء زهور الربيع المرصَّع بالعملات المعدنية وتهزُّه برقة، سمعنا صوت خطوات قوية وثقيلة على الدَّرَج.

حينئذٍ، نظر كامب إلى أخته التي كانت عند الباب. وقد يكون سبب أنها كانت تبدو أكثر شحوبًا هو تبايُن لون وجهها الشاحب مع لون الأقمشة الناصعة البياض التي كانت تُحيط بها، ولكن بدا لي كما لو أن وجه هذه المرأة المسكينة قد اصطبغ بشيء من حُمرة الدماء.

فُتح الباب مهتزًّا دون أي طرقة تمهيدية، ودخل إلى الغرفة جنديٌّ من جنود مُشاة الخط وكان قويَّ البنية، ولكنه بسيط جدًّا.

قد يكون وجودي هو ما صنع فرقًا في لقائهما، ولكن سواء كان هذا هو الحال فعلًا أم لا، فيمكنني القول إن هذه المرأة الكادحة لم تُقابل سؤال الجندي عن حالها بأي حماسة، ولكن بالكثير من الود اللطيف والهادئ.

لقد كان هذا الجندي رجلًا شديد الصدق، ولكنه، كما فهمت، كان قد حاد عن الطريق قليلًا في شبابه (مثل معظم الجنود)، ولكن انضباط الجيش أعاده إلى الطريق الصحيح مرةً أخرى.

قال لها بمرح: «لقد عادت سَريَّتي إلى البرج يا جوانا.» ثم أردف مُوجهًا حديثه إلى كامب: «لذا ستراني كثيرًا يا جاك.»

عند هذه النقطة قلت: «أظن أنني أُزعجكم.»

رد الجندي: «أوه، لا يا سيدتي.» على نحوٍ كان واضحًا أنه يوحي بأنه كان له نصيبٌ ما من ملكية هذه الغرفة، ثم قال وهو ينظر حوله بطريقة الجنود: «ستسعنا الغرفة نحن الأربعة.»

ثم خلع مِعطفه، وفك حمالاته، وجلس على طاولة جوانا وبدأ يضع خيطًا في الإبرة.

لأن الفقراء ليس لديهم وقت ليُضيعوه، رأيت على الفور أن هذه كانت مهنته القديمة، وأنه كان يساعدها في هذا المكان الفقير كي يكسب لقمة عيشه.

قال، بينما كان يأخذ قِطع القماش المُسرَّجة بالفعل التي كانت تضعها جوانا أمامه: «وأين الطاولة والأغراض الأخرى؟»

أشارت إلى كومةٍ مغطَّاة في الغرفة، غالبًا ما دفعتني للتساؤل عن ماهيتها.

قال الجندي (الذي كان عريفًا كما رأيت): «أوه، لم أرَها.» ثم كرَّر معتذرًا عن إضاعة الوقت: «لم أرَها.» واتجه في ثلاث خطوات إلى الكومة، وأزاح الغطاء القذر، ثم ألقى نظرةً على الطاولة وعلى كرسيين أو ثلاثة وبعض الأشياء الأخرى، ثم غطَّى كل شيء مرةً أخرى، وعاد في ثلاث خطوات أخرى إلى مقعده. أظن أن تلك الخطوات كانت أطول وأكثر رشاقة من الأولى.

عندما جلس نقر بيده على ذراعه الأخرى وقال:

«سأنتهي من العمل عليهم سريعًا يا جوني، وبعد ذلك!»

هنا ارتسمت على وجهه نظرةٌ مُشرِقة جعلته يبدو جذَّابًا للحظات.

بالطبع لم يتطلب الأمر أي استشفاف عميق لفهم ما كان يجري.

كان الجندي والخيَّاطة مخطوبين وعلى وشك الزواج، وكانا قد اشتريا بعض الأثاث، ولكنهما كانا فقط ينتظران حتى يضع شارة رقيب على معطفه.

حسنًا، لقد كان من الجيد رؤيتهما وهما يعملان بجد. لم يكن سيئًا في شغل الإبرة، كما هو حال عدد قليل من الجنود. في الواقع، أعتقد أن مُقاول الجيش قد حصل منه على عملٍ أفضل من أي شخص آخر. لقد بدا بالتأكيد أنه يحيك كل غرزة بتصميم وجدية.

كانت هذه هي المناسبة الوحيدة التي رأيت فيها الجندي.

في أحد أيام الأسبوع نفسه، وعندما كانت جوانا خارج المنزل تأخذ مجموعةً ضخمة من الملابس المُنجَزة إلى صاحب عملها، وهو مُقاول ملابس يعمل من الباطن لدى الجيش كنتُ قد رأيته ذات مرة (كان يبدو يهوديًّا وسيمًا نوعًا ما) في ذلك اليوم حكي لي كامب قصة الخطوبة.

تمامًا كما كان الرجال يُقابلون جوانا بعدم اكتراث على مدى حياتها، كان هو أيضًا أضحوكة النساء؛ لذا عندما التقيا صدفةً (في تلك الجنة الصغيرة في شرق لندن، حديقة فيكتوريا)، كان واضحًا أن كليهما شعر بالامتنان للصراحة التي تعامل بها أحدهما مع الآخر، وكان هو من بادَرها بالحديث بالتقاطه مظلتها. كان كلٌّ منهما قد كابَد قدرًا كبيرًا من الألم من الطريقة التي عاملهما بها العالم، وبما أن براعة الألم العقلي تكمن في تطهير الناس، فسرعان ما اكتشفا أنهما مُناسبان بعضهما بعضًا.

عندما كانا يخرجان للنزهة يوم الأحد (علِمت بهذا الأمر من كامب) كانا دائمًا ما يتعرَّضان للسخرية. لا بد من أن أعترف أنهما للوهلة الأولى يبدوان زوجَين قبيحَين، وقد كان قُبحهما أكثر وضوحًا بسبب التناقض بينها؛ إذ إن ذقنه وفكه كانا منحرفين بشكلٍ شديد البروز. ولكنني أعتقد أن السخرية العامة التي كانا يُقابَلان بها قد منحتهما ميزة الشعور بنوع من الشفقة المتبادلة من قسوة الناس، والتي أعطتهما بعد فترة شكلًا من أشكال الرضا والإشباع؛ لأنها أظهرت لهما كم هو مقدَّر لهما أن يكونا معًا.

من جانبي، أعتقد أن جوانا وتوم هابسي كانا سعيدَين سعادةً هادئة وبائسة وصادقة، وأن كلًّا منهما قد أحبَّ الآخر حبًّا صادقًا بطريقةٍ بائسة وواضحة.

قلت إنني لم أرَ العريف مرةً أخرى — وهو ما شعرت أنه خسارة لأنني كنت قد أحببت هذا الرجل القبيح — وهذا لأنني استُدعيت من هذا الحي وشرعت في عملٍ آخر.

لم أسمع أي شيء آخر عن آل كامب. ويمكنني أن أُضيف أنهما لم يعلما أبدًا بمهنتي الحقيقية، ولكنها افترضا أنني أتلقَّى دخلًا سنويًّا صغيرًا، وأنني غريبة الأطوار قليلًا، ومع ذلك أتصرَّف بلطفٍ شديد عمومًا.

مرَّت ستة أشهر؛ ستة أشهر مثَّلت أهميةً كبيرة لامرأة في مهنتي.

كنت قد انتقلت إلى خارج لندن، وكانت هذه هي الليلة الثانية بعد عودتي، عندما وجدت، بعد ذهابي إلى المكتب، زميلاتي يتناقشن بجدية بشأن خبر كان قد وصل إليهن. كان الخبر عبارة عن تفاصيل جريمة قتل وقعت في شرق لندن.

قبل ساعتين، وفي حوالَي الساعة الثامنة مساءً عندما كان الليل قد حل، كان تاجرٌ كبير قد قُتل رميًا بالرصاص. كان قد تلقَّى الطلقات كاملةً في صدره؛ لذا لا بد أن عدوَّه كان يُواجهه. ولكن على الرغم من أن الناس قد لاحظوا ما حدث على الفور، ومن أن القتيل كان على قيد الحياة عندما اقترب عدة أشخاص منه، إلا أنه لم يتمكن من قول كلمة واحدة، ومات صامتًا كما عُثر عليه.

حدثت هذه الواقعة في مكانٍ يُدعى «نيو فورد»، وعلى مقربةٍ كبيرة من جدولٍ مائي.

لم يكن هذا المكان الذي سقط فيه هذا الرجل المسكين قتيلًا يبعد إلا أمتارًا قليلة عن منزله، وكان قد شُوهِد وهو يسير في أحد الحقول جيئة وذهابًا كما لو كان ينتظر شخصًا ما. يمكنني أن أُضيف أن الأمر كان كما يلي؛ كان ينتظر شابَّة، يبدو أنه كان من المشهور على نحوٍ سيئ السمعة أنها كانت معتادة على مقابلته في الحقل الذي وُجد فيه يُحتضَر.

وكما هو معتاد في حالات القتل الواضح، أُعلنَ بسرعةٍ كبيرة عن المكافأة الحكومية المعتادة في هذه القضية.

والآن أنا لست بحاجة إلى إخبار القارئ أن المحققين دائمًا ما يتحمَّسون بشدة للحصول على إحدى هذه المكافآت الحكومية السخية، تمامًا كما تتطلع طالبات مدرسة للبنات لرؤية مدرس جديد وأنيق.

يتمتع كل رجل أو امرأة بيننا بفرصةٍ مُتساوية في الحصول على الجائزة أولًا، وبما أن مبلغ مائة جنيه استرليني نقدي لن يكون مُتاحًا كل يوم في الأسبوع، فإننا في الشرطة نتطلع إليه بقدرٍ كبير من الإجلال.

ذهبت إلى «نيو فورد» وألقيت نظرةً على القتيل.

كنت أعرف هذا الوجه؛ لأنني لا أنسى أبدًا أي ملامح رأيتها من قبل، ولكنني لم أستطع التعرف عليه؛ وهذا بسبب ذلك التعبير الجديد العجيب الذي يُضفيه الموت على وجه الإنسان.

حاولت ساعةً كاملةً أن أتذكَّر أين رأيت وجهه، وما هي الروابط المتعلقة به.

أعترف بأنني فشلت في ذلك، وعدتُ مرةً أخرى إلى القسم حيث عُرفت تفاصيل القضية؛ وهو القسم الموجود في المنطقة التي ارتُكبت فيها الجريمة، وجلست وأنا أشعر بإرهاقٍ شديد على الرغم من أنني لم أمشِ سوى نصف ميل.

كنت معروفة جيدًا في المكتب؛ لذا لم أُواجه أي عقبات فيما يتعلق بهذه المسألة.

سألت: «هل حصلتم على أي دليل؟» وأنا متأكدة تمامًا أن صوتي كان مُتعَبًا ومُجهَدًا.

قال رقيب، يفترض أنه لا يُضاهيه أحد فيما يخص سرعة الكشف عن القضايا: «فقط القليل من المعلومات التي تخص دليلًا واحدًا فحسب.»

الدليل الذي أشار إليه هو دليل، في حالات إطلاق النار العادية، أثبت الجُرم على القاتل الفعلي في مناسباتٍ عديدة. أقصد الحشو، أو بالأحرى المثبِّت، الذي يُستخدم في تثبيت الطلقة النارية في ماسورة السلاح الناري. إذا لم يكن هذا المثبِّت عبارةً عن قرص من الورق المقوَّى، أو من مادة تُباع لأغراض الحشو، فغالبًا ما يكون قطعةً من الورق مُزِّقت من أحد الأغراض التي بحوزة الشخص الذي يستخدم السلاح الناري.

لقد حدث في كثير من الحالات التي لم يشتعل فيها هذا المثبِّت ويحترق ذاتيًّا، أن عُثر على ما يكفي من الورق، سواء كان مكتوبًا أو مطبوعًا، الذي يُثبت تورُّط أطراف بعينها في الفعلة. وبالفعل توجد حالاتٌ مسجَّلة تطابقت فيها الحافَّة الخشنة لقطعة الورق النصف المحترقة تمامًا مع أخرى موجودة في جيب أحد المشتَبه بهم، بحيث إنه بناءً على مثل هذا الدليل الظرفي ثبتت تهمة القتل على المُذنب.

وفي القضية قيد النظر، عُثر على مثبِّتٍ مجعَّد — كان على الأرجح في فوهة سلاح ناري، إلى جانب الرصاصة التي استقرَّت في جثة السيد هيجام — والتُقط بالقرب من المكان الذي كان الرجل قد سقط فيه قتيلًا، وفي غضون ساعة من وقوع تلك الكارثة.

كان عبارة عن البقايا المحترقة السوداء للنصف العُلوي من صفحةٍ مطبوعة لكتاب بتنسيق «ديمي أوكتافو»، كما يقول عمال الطباعة؛ أي بمقاس مائتين وواحد وعشرين ملِّي متر في مائة واثنين وأربعين ملِّي متر.

كانت الورقة تحمل عنوان العمل في السطر الرئيس: «كتاب جونستون لكيمياء الحياة العادية.»

عرفت حينئذٍ أين كنت قد رأيت القتيل. في مرة، كنت أرافق جوانا كامب وهي تحمل مجموعةً كبيرة من الملابس إلى صاحب عملها (كان ذلك في المساء، وكانت تخشى أن يُسرَق عملها منها إذا ذهبت بمفردها)، وأتذكَّر أننا رأينا القتيل، وأتذكَّر أيضًا أنه، وهو يستلم عملها، أبدى نحوها نوعًا من الاهتمام الملحوظ، الذي كان مزيجًا بين المزاح والاهتمام الحقيقي.

تذكَّرت أيضًا أنها قالت لي كم كان صعبًا على الفقراء تحمُّل الكثير من أجل الحصول على كِسرة خبز.

أعترف أن الفكرة استرعت ذهني في اللحظة التي رأيت فيها قصاصة الورقة المطبوعة؛ هل مُزِّقت هذه الورقة من نسخة كتاب جون كامب؟

من جهتي، كانت هذه مسألةً يمكن اكتشافها بسهولة. لم يكن عليَّ سوى أن أزور صانع الأحذية وأن أذكر جونستون في مَعرِض الحديث، ثم أطلب أن أرى الكتاب.

ربما كان من القسوة التجسس على الرجل الذي كان يُقابلني يوميًّا باعتباري أكثر من مجرد أحد معارفه، ولكن لو كان من شأن هذا النوع من المُراعاة أن يعوق دومًا مسار العدالة، ما كانت شئون العالم العادية ستستمر.

يظل أي شخص صديقك حتى يخالف القانون الذي لا بد أن تحرص على تطبيقه لأن ذلك من واجبك، وعندئذٍ لا يكون لك الحق في العفو عنه لأنه صديقك؛ لأنك إن فعلت ذلك فإنك تعترف ضمنيًّا أنك لم تعفُ عن بقية الناس لأنهم لم يكونوا أصدقاءك.

ذهبت إلى منزل كامب في صباح اليوم التالي.

لم أطرق باب المنزل المُتأرجح؛ فقد كانت المطرقة لا تزال معلقة بالباب ومعوجَّة، وما زال الباب بدون مِصد.

صعدت إلى الطابق العُلوي مباشرةً، وشيءٌ يدق في قلبي وأنا أفعل ذلك ويقول: «يا لكِ من قاسية! يا لكِ من قاسية!» نقرت على الباب.

أتذكَّر كم كانت تلك الأصوات تبدو لي صادقة وجازمة. آخر مرة كنت أقف فيها في تلك الغرفة، كنت هناك بصفتي صديقة لهذا الرجل، أما الآن فقد كنت أدخلها عدوَّةً له، وبصفتي أشتبه في ارتكابه جريمة قتل؛ فقد كانت تلك هي مهمتي.

أجل، لقد كنت على وشك استخدام تلك الصداقة السابقة وسيلةً لتنفيذ عملي. أعلم أنني كنت أقوم بواجبي، وأنا واثقة تمامًا أنني في هذه اللحظة كنت أؤدي واجبي، ولكن شيئًا ما، أعتقد أنه ضميري، قال لي إن هذا ليس جيدًا.

قال صوتٌ ضعيف: «ادخلْ».

سمعت صوتًا نابضًا سريعًا، كان في الواقع صوت دمي وهو يندفع مُتدفقًا إلى قلبي، وفتحت الباب ودخلت.

لقد خذلني قلبي وأنا أفعل ذلك؛ وهذا لأنني كنت أفتقر إلى الأمل.

كان يجلس وحيدًا على كرسي عمله.

لم يكن يعمل.

تبيَّنني عندما دخلت إلى الغرفة، ولكنه لم ينهض أو يمد يده.

قال بشرود: «كيف حالكِ؟» ثم بشرودٍ مؤلِم، أخذ أحد أكثر أدواته استخدامًا؛ فقد كان يستخدمها في اليوم ألف مرة، ونظر إليها بتعبيرٍ غريب وشارد، كما لو أنه لم يكن قد رآها من قبل.

ثم وضعها وأخذ قطعة من الشمع الذي كان يستخدمه في مهنته، وبدأ يضغط عليه بشرود صانعًا أشكالًا مختلفة.

بدت الغرفة مُوحِشةً بشدة، وعلى الرغم من أنها لم تكن تمتاز بنظافتها عندما كنت معتادة على رؤيتها، فقد بدا المكان حينئذٍ أشد قذارة على نحوٍ لا يوصَف مما كان عليه. كما حل على المكان طابعٌ مُوحِش وكئيب، لم يكن موجودًا على الإطلاق عندما كنت أرتاده يوميًّا.

لم يكن ثَمة أثر لأخته؛ لا خيوط، ولا قِطع قماش، ولا كرسي انتظار، ولا سلة عمل قذرة من كثرة جرها على الأرض. أما الطاولة التي كانت تعمل عليها، فقد وُضعت جانبًا في مقابل الحائط، وفي المكان الذي كان فيه الأثاث المغطَّى.

كان قفص عصفور التفاحي لا يزال معلقًا في النافذة. أوه! إنني لم أذكر عصفور التفاحي الأبتر الذيل الذي كانت تُطعمه الأخت وتُسميه «تويت»، ولكن العصفور كان قد مات بالتأكيد؛ على أي حال كان القفص فارغًا وجافًّا ومغبرًّا.

بدا كامب مُتعَبًا ومُنكسرًا للغاية، وبما أنه يتعين علينا نحن المحققين أن نُلاحظ كل شيء، فقد لاحظت أن شعره الأسود الحريري، الذي لم ينَل ما يستحقه جماله الطبيعي من الرعاية اللازمة، قد غطَّاه كلَّه الشيبُ.

أظن أنني لست بحاجة إلى إخبار القارئ أنه لم يمرَّ على وجودي في الغرفة لحظتين قبل أن أشعر أن الحياة القديمة التي سكنت هذه الغرفة قد ولَّت ولن تعود أبدًا.

عندما دخلت الغرفة كانت تفصل بيني وبينه الأرضية المُتربة غير المكنوسة. كان جالسًا على كرسيه، خاملًا ومنكسرًا.

كان ثَمة انحناءةٌ قبيحة في كتفيه، لم تكن موجودةً عندما كنت أزوره. كانت يداه — اللتان كنت أراهما في السابق نشيطتين ومتحمستين — هامدتين وتتدلى كل واحدة على إحدى ركبتيه، وكان ثَمة ظلٌّ كبير يكسو وجهه يتجاوز ظلام غرفته، فمع أن شمس النهار كانت مُشرِقة كان يُغطي زجاجَ النافذة ترابٌ قديمٌ كثيف.

قلت في نفسي إن الأخت كانت غائبة عن المنزل منذ أسابيع، وربما ليس منذ شهور.

كان المجلد الأول من كتاب جونستون «كيمياء الحياة العامة» مفتوحًا ومقلوبًا، على كومة من أدوات العمل اليومية وقصاصات من الجلود، عند قدميه.

رأيت أن كومة الأوساخ والقمامة حوله (والتي يبدو أنها تنم عن صنعه للأحذية كما ينبغي)، كانت أكبر وأعلى بكثيرٍ مما كانت عليه عندما كنت آتي كل صباح تقريبًا لعدة أسابيع كي أجعل الوقت يمرُّ عليه بسرور، كما آمل، بينما كنت أستمع إلى حديثه الذي كان يتَّسم بقليل من الاطلاع وحكمةٍ أكثر.

بدا هذا الرجل المسكين مُكتئبًا للغاية.

بدا لي أن قلبه كان يدمى.

كان الإشراق قد اختفى تمامًا من وجهه، وكذلك الصبر، والأمل الضعيف. ساد اليأس ملامح وجهه كلها، وبدا أن أي إرادة، كانت قد بدت على ملامحه ذات يوم، قد انسحقت وذهبت أدراج الرياح.

من جانبي، لم أكن أعرف ماذا أقول.

نظرت حولي لبضع لحظات، ثم قلت:

«أتمنى أنك على ما يُرام منذ أن رأيتك آخر مرة.»

قال وهو ينظر بحزن في أرجاء الغرفة: «أجل، على ما يُرام.»

ثم عمَّ الصمت.

وجدت أن حس العدالة بداخلي قد يذبل.

قلت أخيرًا:

«هل انتهيت من صنع آلتك؟»

وذلك لأنه، من بين أفكار أخرى، كان الرجل المسكين قد أولى اهتمامه لصنع آلة يستطيع صانعو الأحذية من خلالها القيام بعملهم دون أن ينحنوا فوقها بالطريقة المعتادة، وهو ما يُعزى إليه الكثير من أمراض الرئة والكبد التي يُصاب بها الرجال في مهنته.

قال، بنظرةٍ زائغة فارغة تحدِّق إلى ما هو وراء جدران تلك الغرفة الضيقة القذرة: «لا، لم أفكر في الأمر مؤخرًا.»

وحينئذٍ شرعت في تنفيذ واجبي.

قلت وأنا أشير إلى الكتاب المُلقى مقلوبًا على الأرض: «ولكنني أرى أنك ما زِلت تُطالِع كتابك.»

أجاب قائلًا: «كنت أحاول القراءة، ولكنني لا أستطيع.»

كان يتحدث كطفلٍ مريض. أعلم أنني لو كنت ضربته، على وجنتَيه على سبيل المثال، ما كان سيستاء من ذلك.

جثوت على ركبتي لآخذ الكتاب وأنا أشعر، ويؤسفني أن أقول ذلك، أنني مثل يهوذا عندما مد يده الآثمة ليأخذ الثلاثين قطعة من الفضة ثمن خيانته للمسيح.

ولكن كلماته التالية تلك أوقفتني:

«لقد كانت أيامًا سعيدة للغاية عندما كنتِ تأتين إلى هنا وتتحدثين معي عن جونستون العجوز، أليس كذلك؟»

لم أستطع أن ألتقط الكتاب.

سألته: «أين أختك؟» وكنت سأضيف متسائلةً بنبرةٍ أكثر مرحًا إن كانت قد تزوَّجت، ولكن شيئًا ما، أظن أنه كان تعاطفي مع ما ألمَّ بالمكان وبالرجل، أوقف الكلمات في حلقي.

لم يتحرك، ولم ينظر نحوي وهو يُجيب، وعادت عيناه تنظران إلى الأمام مرةً أخرى نفس النظرة العمياء، إن كان لي أن أستخدم مثل هذا التعبير، التي كنت قد أشرت إليها سابقًا.

«ماتت.»

ردَّدت قائلةً: «ماتت!»

«أجل، لقد ماتت جوانا منذ شهر أو أكثر، لكنني لا أعرف بالضبط كيف يمرُّ الوقت.»

لم أكن أعرف ماذا أقول، وفي الواقع كِدت أعترف له بمهمتي وأطلب منه أن يغفر لي لأنني ظلمته.

ولقد أحسنت صنعًا باحتفاظي بهذا الاعتراف لنفسي، كما ستُظهِر الحكاية.

قلت: «صحيح، لا بد أنها كانت صدمةً مُحزِنة لتوم هابسي.»

اعترت وجهَه نظرةٌ شرسة للحظة، ثم خبت مرةً أخرى.

قال: «لقد كان خطؤه إلى حدٍّ ما؛ لأنه لم يثق بها.»

قلت متسائلةً: «لم يثق بها؟» وأعترف بكل صدق أنه، مع أنني كنت أشفق على هذا الرجل المسكين الذي أمامي، بدا لي عجيبًا أن تكون جوانا كامب قد أثارت الغيرة في قلب حبيبها.

أجاب كامب: «لا، لم يثق بها. لم يستطع أن يفهم أنه كان عليها التصرف بلطف مع الناس في المستودع، وأن الأمر لم يتجاوز اللطف فحسب.»

«ولكنهما بالتأكيد لم يتشاجرا يا جون، أليس كذلك؟»

«بل تشاجرا.»

«وهل افترقا؟»

«أجل، افترقا.»

قال هذه العبارات بصبرٍ يائس كاد أن يجعلني أحبه.

«و… وماذا حدث بعد ذلك؟»

«ماذا حدث؟ ماذا يحدث لمعظم النساء عندما يتعرَّضن لعدم الاحترام؟ ألا يجعلهن ذلك يفقدن احترامهن لأنفسهن؟» وأردف بابتسامةٍ عذبة، وإن كانت شديدة الشحوب: «لقد كانت امرأةً صالحة.» وكرَّر بصوتٍ يُشبِه نحيبًا جافًّا قاسيًا: «امرأة صالحة، وما كان على توم هابسي أن يكون قاسيًا هكذا معها؛ لأنها كانت ستفقد عملها، وأُقسِم بحياتي إنه لم يكن ثَمة ما يدعو للشكوى حتى هجرها هابسي.»

«هل هجرها؟»

«أجل. لقد بدأ يُراقبها ذات ليلة خارج المستودع، وعندما خرجت وهي تضحك، على الرغم من أن هذا كله كان كي تُحافظ تلك المسكينة على عملها، أمسكها من ذراعها. رأيت عليه علاماتٍ سوداء وزرقاء في اليوم التالي، ثم دفعها بعيدًا عنه ووصفها بذات الفك البارز القبيح …» وهنا توقَّف واكتسى وجهه بلونٍ يُشبِه حُمرة الخجل، ثم أكمل قائلًا: «أستميحكِ عذرًا، كنت سأقول كلمةً لا تودِّين سماعها.»

«ولكن ماذا حدث؟»

سأل بنوع من الشراسة الرقيقة قائلًا: «ماذا حدث؟ ما الذي يحدث لأي امرأة، سواء كان فكها بارزًا قبيحًا أم لا، عندما لا تهتم بما قد يحل بها؟ لقد أمضت حياتها في صبر بما يكفي، دون أن تظن أبدًا أن أي رجل سيُلاحظها على نحوٍ إيجابي، تعيش هنا في منزلي الفقير، حتى اقترب منها توم هابسي. وبعد ذلك عندما غادر لم تعُد تهتم بما يحل بها.»

توقَّف للحظة، ثم تابع قائلًا:

«كنت مريضًا في ذلك الوقت، وكنا أفقر من المعتاد، وإلا ما كنت سأدعها تذهب إلى ذلك المستودع الملعون. إلامَ آلت الأمور؟ أتذكَّر أنني قرأت في المؤلفات القديمة عن زوجةٍ طلبت من زوجها أن يقتلها، وألقت بنفسها على السيف. كان ذلك بالضبط ما حدث مع جوانا المسكينة. إنه لم يزعج نفسه كثيرًا بها، وألقاها بعيدًا كما تُلقين حذاءً باليًا.»

تساءلت، بأنفاسٍ مُتقطعة وعصبية: «من كان هذا الشخص؟» كنت قد بدأت أخشى من أنني قد فهمت المأساة بأكملها، والتي كان عليَّ أن ألعب فيها دورًا فظيعًا كنت أنا من جلبته على نفسي.

كانت إجابته كما توقَّعت. لقد كان الرجل الذي سقط صريعًا برصاصة في الرئة اليسرى؛ إنه مُقاول الملابس الذي يعمل من الباطن لدى الجيش، والذي كانت جوانا كامب تعمل لحسابه، والذي، على حد علمي، أبدى نحوها نوعًا من الاهتمام الملحوظ (أيًّا كان سببه) الذي كان يختلف عن العاملات الأخريات.

أيًّا كان سببه!

ولكن هل يمكن تخمين السبب؟

أعتقد أن هذا ممكن. لقد كان القتيل شهوانيًّا بالمعنى الدقيق للكلمة، وماذا سيفعل الشهواني؟ سيتبيَّن أنه عندما تصل شهوة أحدهم إلى الشبع، تتطلب الشهية تحفيزًا أقوى وأشد. لو كان ممكنًا، بوسعي أن أعطي هنا بعض الأمثلة الفظيعة على مدى الفسق الذي يمكن أن يقع الشهواني المزعوم فريسةً له، ولكن ذكر هذه الأمثلة ليس مقبولًا. ومع ذلك يمكنني أن أُلقي الضوء على الخطيئة نفسها بأن أُشير إلى الفصل الافتتاحي لقصة الكاتب أوجين سو، الذي يصف فيه حياة شخص شهواني. عندما ينغمس ذلك الشهواني في الإثم ويغرق فيه، يفشل الجمال في إرضائه، ويحتقر البراءة، وتعلو غرائزه بقدر وحشية وغلظةِ مَن كانوا يُحيطون به.

يمكننا أن نجد مقارنةً أوضح وأنسب فيما يختبره المرء مرارًا عندما يرى رجلًا شديد الوسامة، أو امرأةً فائقة الجمال، تتخذ من شريكٍ عادي المظهر جدًّا زوجًا لها مدى الحياة.

أظن أن هذا الرجل البائس — الذي كان الفقر هو المحفِّز لخطيئته — كان محاطًا في الكثير من الحالات بالشابَّات الجميلات اللواتي كن يسعين لأن يعملن لحسابه، بصفته مقاولًا عسكريًّا كبيرًا، وأنه أصبح مُغرَمًا بجوانا كامب الفقيرة والقبيحة وغير الجذَّابة بسبب طبيعته الأخلاقية المنحلَّة، أو تطوُّر لا أخلاقي في طبيعته.

بعد صمت طويل جدًّا، قال الرجل البائس:

قال بحزن وهو يجثو على إحدى ركبتيه: «أراها هناك الآن عندما أحضروها من حوض السفن مبتلةً وميتة. لم أتعرف عليها في البداية، بسبب الطين الأسود الموجود في أحواض السفن. لا يمكنني أن أتخلَّص من صورة جوانا المسكينة في ذهني؛ ها هي، هناك، ترقد ويداها المسكينتان، اللتان عملتا بكد، تتدليان إلى جانبها، والمياه السوداء تنساب تمامًا كالدموع من عينيها المغلقتين. وضعوها هنا بالضبط.» وأشار إلى موضعٍ بيده اليمنى القاسية، وأصابعه التي أصبحت مسطَّحة بفعل العمل الشاق لسنواتٍ عديدة، وأضاف: «وقد بدت مُبتسمةً تقريبًا. وعندما انحنيت إلى الأمام لتقبيلها، جذبوني إلى الخلف وسألوني إن كنت قد فقدت عقلي. كنت أنا وجوانا وحيدين في هذا العالم؛ فقد ماتت أمنا بعد ساعة من ولادة جوانا، ولم يهتم أبونا بنا مطلقًا.» تابع، مُشيرًا إلى نفس الموضع مرةً أخرى: «ها هي هناك. أمضينا أربعة أيام معًا.» ثم أشار إلى غرفة الخزانة التي كانت تستخدمها غرفةً للنوم: «عندما أخذوا جوان أخذوا قلبي ودفنوه معكِ يا جوان، دفنوه معكِ.»

سقط إلى الأمام على الأرض، وفوق الموضع الذي كانت الأخت التعيسة الحظ قد وُضعت فيه، ولكن لم تبلل أي دموع وجنتيه؛ فقد كان حزنه أشد قسوة من ذلك.

والآن، ماذا كان عليَّ أن أفعل؟

ها هو الكتاب. أما أبعد قليلًا هناك، فربما يكون هذا هو القاتل.

ماذا لو كان الرجل الذي سقط قتيلًا بطلقٍ ناري شخصًا حقيرًا بلا قلب؟ ماذا لو كان عدم وجوده في العالم أفضل من وجوده فيه؟ أمام القانون، كل الناس سواسية، وحياتهم مقدَّسة.

لا تقتل.

هذه القاعدة ساريةٌ سواء كان الشخص تقيًّا أو عاصيًا، صادقًا أو مُخادعًا. لا تقتل.

كان الكتاب أقرب إليَّ منه.

وكان جاثيًا في ذهول، وعيناه تحدِّقان في اتجاهٍ آخر غير اتجاهي. لو كان ينظر نحوي، ما كنت انحنيت وقلَّبت صفحات الكتاب.

كان رقما الصفحتين المطبوعتين على قطعة الورق النصف المحترقة الموجودة في مبنى قسم الشرطة، والتي كانت بمثابة شاهد إثبات، هما الرقمين ٧٥ و٧٦. قلَّبت صفحات الكتاب دون ضوضاء وبأقل حركة ممكنة.

كانت الصفحة رقم ٧٤ موجودة، أما الصفحتان رقم ٧٥ و٧٦ فكانتا مفقودتين، ثم تلاها الصفحة رقم ٧٧.

كانت الورقة التي تضمُّ الصفحتين ٧٥ و٧٦ ممزَّقة بفظاظة من الكتاب، تاركةً بعض الأجزاء الخشنة من الورق حول الخيط المستخدم في حياكة الأوراق معًا.

نظرت إليه بفزع بعدما تأكَّدت من أنه هو القاتل.

ومع ذلك، أشفقت عليه.

ماذا كان عليَّ أن أفعل؟

ما الذي يمكنني فعله، إلا واجبي؟

لا أعرف كم مضى من الوقت منذ لحظة اكتشافي للحقيقة حتى تلك اللحظة التي تحدَّث فيها معي، لكن بحسابٍ تقريبي أعتقد حقًّا أنه قد مرَّت دقائق قبل أن يُقطَع الصمت.

«وداعًا، لن يرى أحدنا الآخر مرةً أخرى.»

سألت بالقليل من الخجل: «لمَ لا؟»

«سأسلِّم نفسي إلى الشرطة.»

بالطبع لم يكن لديَّ أدنى شك حول هُوية قاتل مقاول الجيش اليهودي.

قلت باستغراب: «لماذا تسلِّم نفسك إلى الشرطة؟»

«لأنني ارتكبت جريمة قتل.»

تلفَّظ بهذه الكلمات بأبسط الطرق وأكثرها ثباتًا، بلا خوف ولا ألم ولا خجل. منذ تلك اللحظة، بدا لي أنه كان في تلك الحالة التي اختبرها معظم الناس، عندما تتسبب صدمةٌ كبيرة في شلِّ العقل بحيث يبدو غير قادر على ممارسة التفكير المنطقي؛ عندما لا تؤثر فينا كثيرًا الأفعال التي نرتكبها بأنفسنا — أو أفعال الآخرين — بحيث نصبح في ظل مثل هذه الظروف في شِبه ذهول.

لقد كان مخدَّر الإحساس بصورةٍ بائسة، لدرجة أنه لم يُلاحظ أنه لم يهولني مطلقًا ما قاله. أما من جانبي، فلم أتمكن من ممارسة لعبة مزدوجة على هذا الرجل. لقد كان شديد الصراحة معي، وكان كذبي عليه سيكون حقًّا أمرًا شديد الحقارة.

قلت: «أنا محققة.»

نظر لأعلى، ولكن لم يبدُ على وجهه أي دهشة أو تشكُّك في كلامي.

واصلت قائلةً وعيني مصوَّبة نحو الأرض: «هل تفهم؟ أنا محققة.»

قال ببساطةٍ مُثيرة للشفقة: «حقًّا؟»

«ما الذي دفعك لقتله؟»

فجأةً بدا جامحًا وهو يُجيب قائلًا:

«لماذا ينبغي أن يعيش الأشرار؟»

هززت رأسي وأجبت:

«لماذا ينبغي على الأخيار أن يقتلوا الأشرار؟»

«يجب ألَّا يعيشوا؛ لا نفع منهم على الأرض.»

كما ترون، لقد عامل العالم هذا المخلوق المسكين أسوأ معاملة، حتى إنه انقلب عليه عندما دمَّرت بيتَه جريمةٌ عادية لا يُعاقِب عليها العالم بصرامةٍ شديدة.

ربما يكون الوعظ أمرًا محمودًا للغاية، ولكن توجد أوقات وأماكن معيَّنة لإلقاء العظات، وشعرت أمام يأس هذا الرجل أنه لم تكن ثَمة حاجة لأن أُلقي خطبةً بهذا الشأن. إذا انتهك اليأس القانون، فليكن. لا بد من تطبيق القانون، ولكن إذا لم نكن نَقْوى على فعل أي شيء إلا الوعظ، فدعونا نترك اليأس وشأنه. من ناحيتي، أعتقد أنني أميل إلى مساعدة الشخص، مهما كان، إذا كان يائسًا.

لذا انتقلتُ إلى مناقشة الحقائق.

سألته: «كيف نفَّذتَ الجريمة؟»

نهض واقفًا على الأرض حيث كانوا قد وضعوا أخته التعسة، وكانت ألواح الأرضية لا يزال عليها علامات من طين حوض السفن الأسود الذي كان يُغطي جثتها عندما أُحضِرت إلى المنزل الفقير (يمكنني أن أُضيف أن إحدى زميلات المتوفاة في العمل قد تعرَّفت على وجهها بينما كان الماء لا يزال يخرج منه)، نهض بطريقةٍ آلية تمامًا، إن صح القول، واتجه إلى كومة القاذورات وقِطع الجلود المكدَّسة بالقرب من كرسي عمله، ووضع يده بطريقةٍ شاردةٍ غريبة في كومة القاذورات تلك، وبعدما أخذ يتحسس بداخلها لبضع لحظات، أخرج مسدسًا عاديًّا وصدئًا.

لقد كان مُلقمًا.

كان السؤال الطبيعي الذي سيطرأ على ذهن أي محقق هو:

«لماذا هذا المسدس مُلقم؟»

لذا قلت له: «عجبًا، إنه ملقم.»

أجاب ببعض من الارتباك الأحمق: «أجل.»

قلت: «لم تكن لتؤذي نفسك بالتأكيد، أليس كذلك؟»

نظر إلى أعلى، وكانت هذه هي اللحظة الوحيدة طيلة مقابلتنا التي ارتسم فيها على وجهه تعبيرٌ آخر غير الاكتئاب الشديد. وعندما رفع وجهه قال:

«هل تظنين أن بوسعي أن أقتل نفسي؟ لا! إنني أعرف نفسي جيدًا، لن أفعل ذلك.»

سأدع القارئ يتأمل في التناقض الواضح بين اعترافه بالقتل من ناحية، ومَقْته الواضح للانتحار من ناحيةٍ أخرى.

سألته قائلةً: «إذن لماذا هذا المسدس ملقم؟»

أجاب قائلًا:

«أنا … أنا لا أعرف.»

لذا تابعت قائلةً:

«ولكن كيف فكَّرت في ارتكاب هذا؟»

عاد إلى حالة اللامبالاة الأولى وأجاب قائلًا: «كيف؟ لقد ارتأيتُ أنه لا بد أن يُقتَل، مثل الكثير من الجِيَف، واشتريت المسدس، ودفعت للصبي بالمتجر بعض المال كي يُريني كيفية تلقيمه، ثم ذهبت إلى الحقل الذي كنت أعلم أنه سيلتقي فيه بامرأةٍ أخرى منهن. علِمت بذلك من إحدى النساء بالمستودع، والتي كانت تعرف كل شيء عن هذا اللقاء. اقتربت منه، ثم …»

هنا توقَّف عن الكلام، وبدا كأنه قد غرق في سلسلة من الأفكار الغامضة.

سألته: «ثم؟»

أجاب بطريقةٍ سريعة وشِبه مُندهشة قائلًا: «أوه، ثم سقط صريعًا رميًا بالرصاص!»

حتى حينئذٍ بدا لي كلامه غريبًا؛ بسبب الأسلوب الغريب الذي صاغ به الكلمات.

ولكن السؤال الكبير ظل قائمًا؛ لماذا كان المسدس ملقمًا؟

سأُغفِل سرد قصة اعتقال هذا الرجل المسكين؛ لأنه لا داعي للسرد التفصيلي لموضوعٍ مؤلم بشدة كهذا. يكفي أن أقول إنه لم يُبدِ أي رد فعل على الإطلاق عندما اتُّهم بالقتل العمد، وذهب إلى الزنزانة المظلمة وهو يتنهد كثيرًا، ولكن دون أن يبدي أي مقاومة.

من ناحيتي، شعرت أن شيئًا ما، بخلاف ما قاله، ينقص المسألة حتى تتَّضح.

ونحن المحققين، عندما نشكُّ نتساءل.

كانت هذه هي خطتي في القضية التي أكتب عنها الآن.

كان أول من استجوبته هو الفتاة التي كانت ستلتقي بالمدعو هيجام ليلة مقتله.

لم تَجنِ من هذه الجريمة سوى النفع؛ لقد انتفعت منها ولكن لفترةٍ قصيرة. كانت شابَّةً وقحةً وبذيئة، ولها عينان جريئتان، وكانت تُجيب على أسئلتي بنبرةٍ دلَّت بوضوح على أنها كانت تفضِّل صفعي على وجهي على أن تُجيب على أسئلتي.

عندما سألتها إن كانت قد رأت رجلًا، شعره أسود يصل إلى كتفَيه تقريبًا، جاثيًا بالقرب من المكان الذي قُتل فيه هيجام، أجابت بالنفي. ولكن كيف كانت ستُلاحظ ذلك؟ فهي لم تكن تبحث عن أشخاص من ذوي الشعر الأسود الطويل، بل عن السيد هيجام المسكين. هل رأت أي شخص في الجوار؟ لا، بالطبع لا. فهي لم تذهب إلى هناك ليراها أي شخص سوى المسكين السيد هيجام. كرَّرت سؤالي مرةً أخرى عما إذا كانت قد رأت أي شخص في الجوار، وكان ردها بالإيجاب، إن كان عليها أن تُجيب. لقد رأت جنديًّا. هل تستطيع وصفه؟ لا، لم تستطع. لقد رأته مرةً واحدة يقف أسفل مصباح الغاز في زاوية الحقل بالقرب من الطريق، وكان ذلك كافيًا جدًّا لها. لماذا كان كافيًا لها؟ لأنها إذا نظرت إلى رجل مرةً ثانية، فهذا يعني أنه يستحق النظر إليه، أجل.

كانت هذه هي كل المعلومات التي حصلتُ عليها من هذه الشابة البالغة الوقاحة، والتي، كما يمكنني أن أشير، عادت، بعدما تركتها في هذا المكان، لتحظى باهتمامٍ خاص لديَّ بعد حوالَي عامين من انتهاء قضية «حكم الضمير».

من وجهة نظر المحقق، لا يُعتبر كل الأشخاص الذين ربما يكونون مُذنبين أبرياء حتى تثبت براءتهم.

لذا، وبصرف النظر عن اعتراف صانع الأحذية، فالجندي المجهول الذي رأته الفتاة التي استجوبتُها كان من المرجَّح جدًّا أن يكون هو المُذنِب.

كان من المقرَّر إجراء التحقيق في ذلك المساء الذي أعقب وضع جون كامب رهن الاحتجاز، وبالطبع حضرت.

أثارت القضية بعض الضجة، بناءً على أن القاتل سلَّم نفسه للعدالة، لكني لست بحاجة إلى إخباركم أن التحقيق قد استمر، بقدر ما سمحت به الأدلة، بالضبط كما لو كان كامب لا يزال حرًّا طليقًا.

أحتاج هنا فقط للإشارة إلى دليل الطبيب؛ وهذا لأن وحدها إفاداته تؤثر على مسار هذه الحكاية.

أخرج الرصاصة التي كان قد استخرجها من جثة القتيل، ثم شرع في وصف المسار الذي سلكته.

يمكنكم تخيُّل دهشتي عندما طلبت الرصاصة وحاولت وضعها في ماسورة المسدس الذي كان كامب قد أعطاني إياه، ووجدت أنها لا تتناسب مع حجم ماسورة مسدسه.

لذا كان من الواضح أنه إذا كان كامب قد أطلق النار على ذلك الرجل، فقد استخدم سلاحًا آخر غير الذي كان قد أعطاني إياه، ولكن إذا كان الأمر كذلك، فلماذا خدعني فيما يخص المسدس؟ إنه لم يسعَ لإخفاء الجريمة، فلماذا سعى إلى تضليلي فيما يخص السلاح المستخدَم؟

بعد المزيد من التدقيق في الأمر، وجدت أنه لم يكن بوسعه، بالطبع، أن يعرف أن من شأن دليل الرصاصة أن يكون في صالحه.

أدليت بشهادتي، التي أظهرت بجِلاءٍ التناقض التام بين أقوال كامب والدليل الذي قدَّمه الطبيب فيما يتعلق بالرصاصة.

كان من المستحيل تمامًا حل هذه التناقضات، وبعد الكثير من الاقتراحات الجوفاء وغير العادلة، تأجَّل التحقيق.

ومع ذلك، لم أكن عازمة على أن تمرَّ الليلة دون أن يتضح الغموض.

كنت في قسم شرطة الحي، وكانت الساعة حوالَي الحادية عشرة مساءً، عندما اجتذب صوت وَقْع موكب من خطوات الأقدام المقتربة أسماع جميع الضباط بالقسم.

ذهبنا إلى الباب، وحسبما أذكر كان السجَّان يعبث بمفاتيحه التي كانت تُصلصل بصوت عالٍ، وهناك كانت آتيةً نحونا محفةٌ يحملها اثنان من رجال الشرطة ويحيط بها عدد من الأشخاص، الذين كان معظمهم من الطبقة الدنيا، وكان وقع همهماتهم المتداخلة على آذاننا المتمرسة يُنبئنا أن الحالة التي كانت محمولة على المحفة لم تكن حالة سُكْر.

توقَّف الشرطي، الذي كان يقود الموكب، والذي كانت تحيط به هيبةٌ وجِلة، عندما اقترب من الباب.

قال السجَّان الذي كان يقف خلفي: «إنها حالة انتحار ناتجة عن الإسراف في الشراب!»

قال الرقيب، عندما توقَّف، وحذا حذوه بقية رجال الشرطة الذين كانوا يتبعونه: «انتحار!» لكن لم يحذُ حذوه الغوغاء الذين احتشدوا حوله، وكانوا في ذلك الحين يحدِّقون فيه في محاولةٍ بائسة لفهم ما يحدث، وأفواههم مفتوحة على آخرها من هول الإثارة.

قال السجان: «كنت أعرف ذلك. كان يجب عليَّ البقاء.»

سأل مُفتش الرقيب قائلًا: «ما الأمر، يا بروجلي؟»

قال الرقيب: «قضية عسكرية يا سيدي، جنديٌّ أطلق النار على نفسه في غرفة في شارع «هير»، في الغرفة التي كان يعيش فيها السجين كامب، صانع الأحذية.»

بعد سماع هذه الكلمات لم أكن بحاجة إلى التخمين؛ إذ صِرت متأكدة من أن الجندي هو توم هابسي.

رفعت الغطاء الرديء الذي كان موضوعًا على الجثة؛ غطاءً كان قد أُخذ من غرفة «السجين كامب»، وعندئذٍ رأيت بما لا يدع مجالًا للشك ما تبقَّى من ملامح توم هابسي، بينما كان الحشد المُتلهف يتجمع حولي وهو سعيد بفرصة رؤية هذا المنظر المرعب.

وهكذا في غضون ستة أشهر، بعد بعض التوجيهات الرسمية نُقلت الجثة إلى المشرحة؛ وبذلك كانت جوانا كامب قد انتحرت، وكذلك فعل الجندي المبتهج توم هابسي، وثالث الثلاثي المتواضع، جون كامب، مُلقًى في السجن بعدما اعترف بارتكابه جريمة القتل.

لا أريد ان أدع القارئ يظن أن هذه القضية غير حقيقية لأنها قد تبدو مبالغًا فيها؛ فالفقراء والبؤساء عادةً ما يجدون الموت أفضل من الحياة. وبالفعل في هذه القضية تحديدًا، كان الرجل والمرأة في غاية الوحدة والبؤس قبل أن يتقابلا، بسبب عيوبهما الجسدية، فلا عجب أنهما سقطا فريسةً لليأس عندما حطَّم حبَّهما رجلٌ أناني وبلا قلب.

وجد الباحث في المشرحة على جثة توم هابسي المسكين تلك الرسالة التي برَّأت جون كامب، مع أنه كان بوسعي إنقاذه لو كانت الرسالة سقطت من الجثة في طريقها إلى المشرحة.

وذلك لأن الرصاصة التي استُخرجت من جثة هيجام، كان حجمها يتناسب بالضبط مع المسدس الذي وُجد في يد هابسي اليمنى، والأكثر من ذلك أن الرصاصة التي استُخرجت من صدغ توم حيث كانت قد استقرَّت، كانت قد صُبَّت في نفس القالب (كما أثبتت علامة كسر) الذي صُبَّ فيه الدليل الذي قدَّمه الطبيب في التحقيق الخاص بمقتل مُقاول الجيش.

بعد ذلك ذهبت إلى زنزانة جون كامب بعد حصولي على إذن بذلك.

بالمناسبة، لن أذكر نص رسالة توم هابسي التي وُجدت على جثته؛ لأنها كانت مكتوبة بهجاءٍ سيئ، وبأسلوبٍ مبالغ فيه وعاطفي، وهو ما قد يبدو سخيفًا لقُرائي الذين لن يُبالوا كثيرًا. يكفي أن أذكر أنه قال إنه قد أخذ على عاتقه تطبيق القانون بنفسه، أولًا بقتل «من أغوى جوانا»، ثم بقتل نفسه.

كما قلت، ذهبت إلى زنزانة جون كامب.

حدَّثته قائلةً: «جون كامب، أنت لم تقتل السيد هيجام.»

نظر إلى أعلى بذهول.

ثم أخبرته بكل شيء.

لم ينتحب؛ فقد كان محطَّمًا تمامًا، ولم يُبدِ أي اندهاش عندما أخبرته أن ورقة السلاح الناري هي ورقة من الكتاب الذي كان مُغرَمًا به بشدة، ولم ينتبه كثيرًا لشرحي الذي مفاده أنه لا بد أن الجندي قد مزَّق ورقةً من الكتاب عندما كان يفكر في ارتكاب جريمة القتل.

كل ما قاله كان: «مسكين يا توم!»

بعد مرور بعض الوقت، فهمت كيف تصادف وجود كلا الرجلين في الحقل في نفس الوقت الذي وقعت فيه الحادثة.

كانت الشابَّة التي كان من المقرَّر أن تلتقي بهيجام، والتي كانت تشعر بفخرٍ شديد بهذه المقابلة، قد نقلت الخبر إلى إحدى رفيقاتها (والتي بالطبع كانت تعرف كل شيء عن الكلام الدائر عن موت جوانا)، وكانت هي التي أبلغت الأخ والجندي بأمر هذا اللقاء، ولكنني لم أعلم أبدًا نيَّتها من وراء ذلك، إلا أنني تكهَّنت أنها فعلت ذلك بدافع تطبيق تلك العدالة البشعة والقاسية التي تكمن في قلب كل إنسان؛ والتي تُسمى الانتقام.

أجل، كان كل ما قاله هو: «مسكين يا توم!»

قلت له أخيرًا: «ولكن، يا جون، لماذا قلت إنك أنت الذي قتلت الرجل؟»

نظر إليَّ بأكبر قدر من البساطة المُنهَكة، وقال:

«لقد ذهبت لقتله، وكان يجب عليَّ أن أفعل ذلك لو لم يفعله توم. لم أعرف حينئذٍ من الذي أطلق عليه النار. لقد كنت أنوي قتله؛ لذا سلَّمت نفسي.»

إذن، ها قد قصصت عليكم حكايتي «حكم الضمير».

يعيش جون كامب الآن في أستراليا، وهو بحالٍ جيد، وأنا لست آسفة على أنني ساعدته على أن يكون في حالٍ جيد. لقد ردَّ لي منذ فترة طويلة المالَ الذي كنت قد أعطيته إياه، كما أنه يُخبرني أنني إذا احتجت لبعض المال فعليَّ أن أخبره بذلك.

أعتقد أنه سعيد لوجوده في أستراليا؛ حيث إنهم لا يتَّسمون بالتدقيق من الناحية الاجتماعية كما هو الحال هنا في إنجلترا، حتى فيما يتعلق بالأطباء. لقد تمكَّن منذ فترة طويلة من أن يعمل مساعدًا ثانيًا في أحد المستوصفات، وأنا متأكدة من أنني لن أتردَّد لحظةً في تناول وصفة طبية من إعداده، حتى ولو كان قد أعدَّها في الظلام!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤