السلاح المجهول

إنني على وشك أن أعرض هنا واحدةً من أبرز القضايا التي وقعت تحت ملاحظتي الفعلية.

سأقدِّم تفاصيل القضية، بقدر ما أستطيع، في شكل سرد.

تدور وقائع هذه القضية في إحدى المقاطعات الوسطى، وعلى مشارف قرية ريفية ونائية جدًّا، لم تسترعِ اهتمام العالم بها مطلقًا.

فيما يلي الحقائق الأولية الدقيقة للقضية. بالطبع سأغيِّر الأسماء؛ لأن هذه القضية على وشك أن تصبح علنيةً في تلك الأثناء، وبما أن التحقيقات، التي جرت في ذلك الوقت، لم تنتهِ فقط بخيبة أمل، بل إنها، لسببٍ لا يمكن تفسيره، لم تُثِر فضول الجمهور، فلا توجد حكمةٌ من حَجْب الأسماء والأماكن بحجابٍ رقيق من الخيال الأدبي الذي سيسمح برؤية الحقيقة من خلاله. إن الأسماء والأماكن المستخدَمة هنا خيالية تمامًا، ولا تمثِّل أو تحجب بأي شكل من الأشكال الشخصيات أو الأماكن الفعلية.

كان المنزل الذي حدثت فيه الوقائع الغامضة التي أنا على وشك تحليلها، هو منزل العزبة. بينما كان ساكنه ومالك الأرض الرئيس في المقاطعة، هو سيد العزبة أيضًا، والذي سأدعوه بيتلي.

يمكنني أن أقول على الفور إن مالك الأرض هذا كان رجلًا وضيعًا تمامًا — مع أن هذه الحقيقة لم تتناهَ إلى علمي إلا بعد وقوع الكارثة — لا شغف لديه سوى حب المال، تمثَّل ذلك في صورة جشع لامتلاك الفضة.

إن كل شخص يمتلك عينين تُلاحظان التفاصيل قد صادف بشرًا يحملون في طيَّاتهم أكثر التناقضات غرابةً. ها هو رجلٌ يعيش بخسة لدرجةٍ تدفع للتساؤل عما إذا كان قد جنى شلنًا واحدًا بشرف، ومع ذلك فقد كان يعتقد اعتقادًا راسخًا أن أخلاقه ستفسد إن وطئت قدماه مسرحًا. إنه من نوعية الأشخاص الذين لم يتملَّصوا من أي دائن من قبل، ولم يأخذوا قط ما هو أكثر من خصمٍ تجاري، ومع ذلك فهو من الناس الذين قد يُلقى القبض عليهم في أي يوم بتهمة تجعله يشكِّل فضيحة لعائلته.

هكذا كان المالك بيتلي. لا شك في أنه كان شديد الجشع، في حين أن رغبته في امتلاك الفضة وعرضها والتباهي بها كانت تكاد تصل إلى درجة الهوس.

كانت فضته تقليدًا كبيرًا في المقاطعة. وفي كل وجبة — وقد سمعت أن الوجبات لم تكن وفيرة ولا شهية في منزل بيتلي — كان يوضع على طاولة الطعام ما يكفي من الأطباق لدفع تكاليف إطعام فقراء المقاطعة بأكملها لمدة شهر. لم يكن يأكل سوى قطعة من لحم الضأن من طبقه الفضي.

كان السيد بيتلي عضوًا في البرلمان، وفي موسم انعقاده كان يأتي إلى المدينة، حيث كان يملك أصغر وأسوأ منزل يمكن لأي عضو من أعضاء المقاطعة الأثرياء أن يمتلكه.

كان بيتلي جشعًا، ومن ثَم كان بخيلًا؛ لذا لم يكن لديه مجموعتان من الخدم، واحدة للمدينة، وواحدة للريف. لذا، عندما كان يأتي إلى المدينة لحضور موسم انعقاد البرلمان، كان يحضر معه مجموعة خدمه من الريف، وكان يدفع لهم أجورًا بخسةً تقل عن أدنى الأجور في المدينة.

أنا متأكدة تمامًا، حسبما علِمت، أن خدم المنازل لم يكونوا يشعرون بالرضا على الإطلاق؛ وهو ما كان أمرًا طبيعيًّا تمامًا لأنهم لم يُعامَلوا معاملةً جيدة، وكانوا يتلقَّون أقل معدل أجور ممكن.

كانت الخادمة الوحيدة التي ظلَّت باقية على الدوام هي مدبرة منزل العزبة، السيدة كوينيون.

كان يُتناقَل الهمس في الحي بأنها كانت الأخت المتبنَّاة (وربما أكثر) للسيدة بيتلي الراحلة؛ وقد قيل بصراحةٍ كافية، ويؤسفني أيضًا أن أقول وبقدرٍ عام من الرضا والمُزاح، إن المالك قد تعرَّض للأذى من زوجته الراحلة.

الحقيقة هي أن بيتلي قد تزوَّج ابنة تاجر من ليفربول، على أملٍ كبير في أن تندمج ثروتها، التي كانت تبشِّر وقت زواجها بأنها ستكون ضخمة، مع ثروته، ولكن تجارة القطن كانت محفوفة بالمخاطر حتى قبل خمسة وعشرين عامًا. وحتى نختصر التفاصيل المتعلقة بهذه النقطة، والتي ليست ضرورية لفهم سياق القصة فهمًا شاملًا، يكفي أن نقول إن بيتلي لم يحصل على بنسٍ واحد منها. أما والد زوجته، الذي كان يعيش حياةً منحرفة بشكلٍ مؤسف، فقد سافر إلى أمريكا ومات هناك.

لم تُنجب السيدة بيتلي سوى طفل واحد، وهو جراهام بيتلي، وتُوفيت عندما كان يبلغ من العمر اثني عشر عامًا تقريبًا.

خلال حياة السيدة بيتلي، كانت مدبرة المنزل هي الأخت المتبنَّاة التي أُشيرَ إليها سلفًا. أما أنا، فأعتقد أنه من الأصح أن نُطلِق على السيدة كوينيون وصف الأخت الحقيقية لزوجة السيد بيتلي.

وأيًّا كان الأمر، بعد موت السيدة بيتلي، أصبحت السيدة كوينيون، على نحوٍ شِبه مُسلَّم به، وبطريقةٍ غير مُريحة، سيدة منزل آل بيتلي الفعلية.

ربما كان السيد بيتلي على علم بقرابتها لزوجته، وهو الأمر الذي سبق أن ألمحتُ إليه؛ ومن ثَم كان مستعدًّا للإقرار بأنه كان من الأفضل أن تكون هي من تبقى في المنزل وليس أي امرأة أخرى. فبغضِّ النظر عن جشعه وهوسه بالتفاخر بفضته، وجدتُ أنه لا جدال في أنه كان رجلًا يتمتع بحكمةٍ جديرة بالاحترام.

مرةً أخرى، وقعت السيدة كوينيون في فخ جشعه وهوسه بالمال، فقلَّصت من نفقات منزله، وكانت هي نفسها راضية عن تقاضيها أجرًا متواضعًا للغاية.

من كل ما عرفته، توصَّلت إلى استنتاجٍ مفاده أن منزل آل بيتلي كان منذ فترة طويلة هو أكثر منزل غير مُريح في المقاطعة، وكان هوس التفاخر بالفضة لا يؤدي إلا لتأكيد جدب هذا المنزل.

لم يدخل المنزلَ سوى عدد قليل جدًّا من الزُّوَّار، وكان حُسْن الضيافة غائبًا، ومع ذلك، وعلى الرغم من هذه المساوئ، فقد تمتَّع بيتلي بمكانةٍ جيدة جدًّا في المقاطعة، وفي الواقع حقَّق ظهوره في الصحف، بمناسبة إقامة حفلين خيريين، نجاحًا كافيًا.

من يعيشون من قُرائي في الريف سيفهمون الأسلوب المتَّبَع في منزل بيتلي عندما أقول إنه سمح على مضضٍ بصيد الأرانب على أرضه. على مدى العام، وكلما كان ذلك ممكنًا، لم يُقدَّم سوى عينات من ذلك الطعام المُمل في غرفة معيشة السيد بيتلي. في الواقع، عرفت أن القس الشاب، الذي أقام فترةً قصيرة في قرية «ترام»، كان، في تهكمٍ رقيق على حصص الطعام القليلة هذه، يدعو منزل بيتلي «جُحْر الأرانب».

نشأ الابن، جراهام بيتلي، بطريقةٍ يُرثى لها، فربما كان الأب عازمًا، بعد أن خابت آماله في جَنْي ثروة من أم ابنه، على إقناع نفسه بأن ابنه لا يستحقُّ الرعاية التي كان من شأنها أن تكون من حقه لو كانت أمه قد جلبت ثرواتٍ إضافيةً لزوجها. مما لا شك فيه أن الابن عاش حياةً قاسية؛ فكل ما حصل عليه من تعليمٍ كان مما يمكن أن توفِّره أي مدرسة قواعد أساسية عادية، ولحُسْن الحظ تصادَف أن هذه المدرسة كانت موجودة في قرية ترام.

كان يذهب إلى هذه المدرسة أحيانًا، وفي أحيانٍ أخرى كان ينطلق، مع فِتيانٍ أقل منه مركزًا بكثير، في رحلات ربما لم تكن، في أغلب الأحيان، لغرضٍ محترم كدراسة العلوم الإنسانية.

من الواضح أن الصبي كان يتعرض للاستغلال على نحوٍ مُخزٍ؛ وهذا لأنه كان مُهمَلًا.

عندما بلغ من العمر تسعة عشر أو عشرين عامًا (عرفت كل هذه التفاصيل بسهولة بعد الكارثة؛ لأن سكان المدينة كانوا مهتمين اهتمامًا بالغًا بالحديث عن الشاب التعيس الحظ فحسب)، كانت سنوات من الإهمال قد أتت ثمارها. كان مستعدًّا، دون أي شك، لإتيان أي عمل مجنون. كان الصيد غير القانوني على وجه الخصوص هو متعته؛ ربما لأنه وجده مُربحًا إلى حدٍّ كبير؛ وذلك لأنه، إحقاقًا للحق، لم يكن يحصل على أي نقود على الإطلاق. وإلى هذه النقيصة أضاف نقيصةً ثانية، وهي أنه كان يُنفق أي أموال كان يحصل عليها ولا يستطيع الإبقاء عليها بحوزته لأي فسحة من الزمن.

لا أشك شخصيًّا في أن عمليات السلب والنهب التي لحقت بممتلكات والده ربما وُضعت بعدالة في حسابه. ومن التحريات التي قمت بها، أعتقد جازمةً أنه عندما كان يُفقد أي غرض صغير من الفضة من المنزل، كان الابن يعرف أكثر مما ينبغي عن هذه المتعلقات الثمينة المفقودة.

من المؤكَّد أن السيدة كوينيون، مدبرة المنزل، كانت مخلصةً للغاية لهذا الشاب، ولكن الأموال التي كانت تتلقَّاها كأجر — وأي أموال أخرى خاصة أو غيرها من الوسائل — لم يكن من الممكن أن تُغطي احتياجات الشاب جراهام بيتلي، الذي كان يُنفق المال بالتأكيد، ولكن مصدر هذا المال كان محلَّ تشكُّك كبير جدًّا.

من الصورة التي كوَّنتها له، لا بد أنه كان شابًّا جريئًا ونشيطًا ومرحًا، لا يميل إلى أن يدع المسئولية تحُول بينه وبين رغباته. إنه باختصارٍ شخصٌ سيحصل من العالم على أكثر بكثير مما سيقدِّم له في المقابل.

كانت الفضة تُنقَل كل عام مع الخدم، وتكون الصناديق تحت الحراسة الشخصية لكبير الخدم، الذي لم يكن يتركها تُبارِح ناظره قط في رحلة نقلها من منزل الريف إلى منزل المدينة. لقد سمعت أن هذا الرجل كان يتطلع إلى تلك الرحلات بخوفٍ شديد للغاية.

مما عرفته، أظن أن قافلة صناديق الفضة كانت معدودة جيدًا إجمالًا.

في بعض الأحيان كان جراهام بيتلي يُرافق والده إلى المدينة، وفي أحيانٍ أخرى كان يُرسَل إلى أحد الأقارب في «كورنوال». أعتقد أنه كان من الأنسب للأب والابن على حدٍّ سواء أن يُرسَل الصبي إلى كورنوال في موسم انعقاد البرلمان؛ لأن الصبي كان قد أصبح بالضرورة مكلِّفًا نسبيًّا في المدينة، وهو ما كان مرفوضًا في نظر الأب، بينما وجد الابن نفسه في عالم لا ينتمي إليه على الإطلاق؛ بسبب التعليم السيئ الذي كان قد تلقَّاه.

كانت الخيول هي شغف بيتلي الصغير، كما لم يكن يوجد مزارع، سواء في ضيعة الأب أو في المناطق المُجاورة لقرية «ترام»، لم يكن يُعاني من دين شراء هذا الحِصان أو ذاك، ولم يكن الشاب يمتلك حصانًا.

من جانبي، أعتقد أنه إذا لم يكن الشاب يُكِن أي احترام لنفسه، فهذا العيب يُعزى إلى الأب إلى حدٍّ كبير؛ لأنه هو نفسه لم يكن يُكِن أي احترام لابنه.

أعرف أنني لست بحاجة إلى القول إنه عندما يكون الرجل مُغرَمًا بالخيول، فإنه عادةً ما يُراهن عليها.

لم يستدعِ الأمر الكثير من التحري للتأكد من أن بيتلي الشاب قد «راهن» بقدرٍ كبير من المال على الخيول، وأنه، في أغلب الأحيان، كان محظوظًا في مراهناته. أراد الشاب بعض الإثارة، وبعض الانشغال، ووجد ذلك في المراهنات. هل قلت إنه بعدما أُخرجَ الوريث الشاب من المدرسة سُمح له بأن يفعل ما يشاء؟ كان هذا هو الحال. أظن أن الأب لم يستطع أن يفكر في تكبُّد نفقات التحاق ابنه بمهنةٍ ما.

كانت الأوضاع في منزل آل بيتلي كما يلي: الأب مُهمِل وبخيل، والابن أهوج ومُهمَل، وينزلق يوميًّا إلى قاع الحياة؛ ومدبرة المنزل، السيدة كوينيون، لا تقول شيئًا، ولا تفعل شيئًا سوى الوجود فحسب، وربما تُظهِر ما يوضِّح أنها مرتبطة بابن أختها بالتبنِّي. كانت امرأةً ذات حس سليم وتمييز، ومن المؤكد أنها كانت تُعبِّر عن توقُّعها بأن الشاب الصغير كان يَفسد شيئًا فشيئًا بصمت وثبات، وبلا توقُّف.

بعد استيعاب كل هذه المقدمات، يمكنني الآن الشروع في سرد وقائع هذه القصة.

كان اليوم هو التاسع عشر من شهر مايو (لا يهم في أي عام)، وفي الصباح الباكر عندما اكتشف توم براون، بُستاني السيد بيتلي، الأمر.

في الخامسة والنصف صباحًا (في أحد أيام الثلاثاء)، وجد البستاني خارج باب القاعة الكبيرة جسدًا بشريًّا مكوَّمًا بطريقةٍ غريبة وممدَّدًا على الأرض. وعندما اقترب ليفحصه وجد أنها كانت جثة بيتلي الشاب.

جذب البستاني مِقبض الجرس الضخم، وسرعان ما أطلق إنذارًا جعل مدبرة المنزل والخادمة — وهما فقط مَن كانتا تُقيمان في منزل آل بيتلي عندما يكون المالك في المدينة — يهرعان إلى عتبة الباب المفتوح في غضون دقيقة واحدة.

لم تكن مدبرة المنزل قد ارتدت ملابسها كاملةً بعد، بينما كانت الخادمة ترتدي تنورةً داخلية وتلتحف بطانية.

انتشر الخبر بسرعةٍ كبيرة عن طريق صبي البستاني، الذي كان يمشي مُتسكعًا حول المنزل يتساءل أين سيده، ولكنه سرعان ما أطلق ساقيه للريح عندما اكتشف الأمر.

قالت مدبرة المنزل: «لا بد أنه أُصيبَ بنَوبة.» فطار الصبي على الفور حاملًا فَحْوى هذه الرسالة إلى القرية، فحضر طبيب القرية إلى المكان في أسرع وقت ممكن.

تبيَّن حينئذٍ أن هذه الفجيعة لم تكن بسبب نوبة.

أظهر فحصٌ بسيط جدًّا أن الشاب الصغير قد مات جرَّاء طعنة تسبَّب فيها سلكٌ حديدي شائك خشن طوله ست بوصات، والذي كان لا يزال مغروسًا في الجسم.

شهد الطبيب في التحقيق أنه لا بد أن قوةً هائلة قد استُخدمت في إقحام السلك الشائك في الجسم؛ وهذا لأن أحد الضلوع كان قد انشقَّ نصفَين جرَّاء هذا. بعد الطعن كان من الواضح أن السلك الشائك قد سُحِب بغرض إخراجه من الجسد، وهو ما قد فشل؛ لأن حوافَّ السلك علِقت بقوة في الغضروف والأنسجة المحيطة به. كان من المستحيل أن يكون الصبي هو من لفَّ السلك الشائك بنفسه بالطريقة التي استُخدم بها.

عندما سُئِل الجرَّاح عن شكل هذا السلك لم يتمكن من الرد؛ إذ لم يكن قد رأى مثل هذا السلاح من قبل. افترض أنه كان قد ثُبِّت في عمود من الخشب انتُزع منه بفعل القوة التي جعلته يعلق بالأجزاء المحيطة بالجرح، بعد إقحامه في الجسم.

سُلِّم السلك الشائك إلى هيئة المحلِّفين، واتفق كل واحد منهم بشدة مع زميله على أنه لم يرَ شيئًا من هذا القبيل من قبل؛ كان غريبًا بنفس القدر لهم جميعًا.

قدَّم السيد بيتلي، الذي تلقَّى الفاجعة بهدوءٍ شديد، دليلًا مفاده أنه كان قد رأى ابنه في صبيحة اليوم السابق لاكتشاف جريمة القتل، وحوالَي الظهيرة؛ أي قبل اكتشاف الفاجعة بسبعة عشر ساعة ونصف. لم يكن يعلم أن ابنه كان على وشك مغادرة المدينة حيث كان يُقيم. وأضاف أنه لم يفتقد الشاب؛ فقد كان ابنه مُعتادًا على أن يكون سيد قراره، وعلى الذهاب حيثما يشاء. لم يستطع تقديم أي تفسير لسبب عودة ابنه إلى الريف، أو سبب وجود المواد التي عُثر عليها معه هناك. كما لم يستطع تقديم تفسير على الإطلاق حول أي شيء مُتعلق بالمسألة.

قيل إن السيد بيتلي لم يُبدِ أي تأثُّر عند الإدلاء بشهادته، وأنه عندما جلس بعد التحقيق معه بدا مُرتاحًا، وهو ما اعتُبر فضيحةً في بلدة ترام.

علاوةً على ذلك، أُلمِح إلى أنه عندما طُلب منه الخضوع لنوع من المواجهة مع الشهود بدا قلقًا، وأجاب على الأسئلة القليلة التي وُجهت إليه بحذر.

طرح أحد أعضاء هيئة المحلِّفين — كان مستشارًا قضائيًّا (كما كان واضحًا ببعض الفطنة) والمستشار الحكيم لبلدة ترام — هذه الأسئلة على السيد بيتلي.

ربما يكون من الضروري لفهم هذه القضية فهمًا صحيحًا، سرد هذه الأسئلة وإجاباتها أيضًا هنا.

وهي كما يأتي:

«هل تعتقد أن ابنك مات حيث وُجد؟»

«لم أكوِّن أي رأي بشأن ذلك.»

«هل تعتقد أنه كان في منزلك؟»

«بالتأكيد لا.»

«لمَ أنت متأكد بشدة هكذا؟»

«لأنه لو كان قد دخل المنزل لعلمت مدبرة منزلي بمجيئه.»

«هل مدبرة منزلك هنا؟»

«أجل.»

«هل قصدت استدعاءها كشاهدة؟»

«أجل.»

«هل تعتقد أن ابنك حاول اقتحام منزلك؟»

[سأوضح سبب توجيه هذا السؤال بعد قليل. بالمناسبة، ربما ينبغي هنا أن أوضِّح أنني حصلت على كل هذه التفاصيل الخاصة بالأدلة من صحيفة المقاطعة.]

«هل تعتقد أن ابنك حاول اقتحام منزلك؟»

«ولمَ قد يفعل ذلك؟»

«ليس هذا هو سؤالي؛ هل تعتقد أنه حاول اقتحام منزلك؟»

«لا، لا أعتقد ذلك.»

«هل تُقسِم على هذا يا سيد بيتلي؟»

[بالمناسبة، لم تُفقَد أي مودَّة متبادَلة بين المالك بيتلي والمستشار الحكيم لترام، لسببٍ بسيط، وهو أنه لم تكن هناك مودة يمكن قطع أواصرها بينهما من الأساس.]

«أجل، أُقسِم على ذلك.»

«هل تعتقد أنه كان هناك أي شخص في المنزل رغب في زيارته سرًّا؟»

«لا.»

«من كان في المنزل؟»

«السيدة كوينيون، مدبرة منزلي، وخادمةٌ واحدة أخرى.»

«هل الخادمة هنا؟»

«أجل.»

«أي نوع من النساء هي؟»

«في الواقع يا سيد مورتون يمكنك رؤيتها والحكم بنفسك.»

«يمكننا ذلك بالفعل. سأطرح عليك سؤالًا آخر فقط.»

«إنني أحتفظ لنفسي بحق التقرير بشأن ما إذا كنت سأُجيب عليه أم لا.»

«أعتقد أنك ستُجيب عليه يا سيد بيتلي.»

«سنرى يا سيدي. تفضَّلْ بطرح سؤالك.»

«إنه سؤال في غاية البساطة؛ هل تنوي رصد مكافأة لمن يكشف عن قاتل ابنك؟»

لم يُجِب المالك.

«لقد سمعت سؤالي يا سيد بيتلي.»

«أجل.»

«وما هي إجابتك؟»

صمت المالك للحظات. لا بد أن أذكُر أنني أضيف تفاصيل الاستجواب الذي جمعته، أو منه بالأحرى رصدته، إلى المعلومات التي قدَّمتها جريدة المقاطعة التي سبق أن أشرت إليها.

قال السيد بيتلي: «أرفض الإجابة.»

وبناءً على ذلك، استدعى مورتون الطبيب الشرعي للإدلاء بقراره.

الآن يبدو واضحًا لي أن هذا المحلِّف كان لديه دافعٌ خفي في استجواب السيد بيتلي هكذا. وإذا كان الأمر كذلك فإنني أعترف صراحةً أنني لم أكتشف هذا الدافع أبدًا دون أدنى شك. ربما أكون قد خمَّنته أو لم أفعل؛ أعتقد أنني فعلت.

من الواضح أن الطريقة التي طرح بها السيد مورتون السؤال كانت سيئة، فكيف يمكن للأب أن يقرِّر ما إذا كان سيرصد مكافأة لاكتشاف قاتل لن يكون موجودًا قانونيًّا إلا بعد حكم هيئة المحلِّفين؟ وبالفعل يمكنني أن أضيف أن هذا السؤال لم يكن له أي علاقة بكشف لغز الجريمة، أو على أية حال لم يكن له أي علاقة واضحة بحقائق الفاجعة.

من الواضح أن أحد دافعين، كلاهما غامض، هو ما كان يدفع السيد مورتون على الأرجح. ربما كان أحدهما هو محاولة فعلية للحصول على دليل على القتل، والآخر ربما كان هو محاولة وضع المالك بيتلي، والذي قيل إن علاقته به كانت سيئة، في وضعٍ يفقد فيه احترام المقاطعة.

استدعى المحلِّفون الطبيب الشرعي فورًا، الذي أقرَّ على الفور أن السؤال لم يكن له صلةٌ وثيقة بالموضوع، ولكنه مع ذلك حضَّ المالك أن يُجيب على السؤال ما دام قد طُرح عليه.

من الواضح أن الطبيب الشرعي رأى الموقف المُحرِج الذي وُضع فيه المالك، فقال ما قاله كي يساعده في التخلص من حرج الموقف بأكثر طريقة مقبولة ممكنة.

ولكن كما قلت، بغضِّ النظر عن كل ما لديه من تناقضات وأخطاء، كان السيد بيتلي رجلًا يتمتَّع بعقلٍ جيد وواضح ورؤيةٍ جيدة. وكما لمست عدم الاتساق في هذا السؤال عندما قرأته، فلا بد أنه لاحظ القصور نفسه عندما وُجِّه إليه.

إذ بعدما أخذ بيتلي يُنصت للطبيب الشرعي بصبر حتى أنهى ذكر ملاحظاته، قال بهدوء:

«كيف يمكنني أن أقول إنني سأقدِّم مكافأة لاكتشاف قتَلة بعينهم بينما لم تُصدِر هيئة المحلفين حكمًا بالقتل بعد؟»

سأل مورتون قائلًا: «ولكن لنفترض أن هيئة المحلفين أصدرت هذا الحكم، فماذا ستفعل؟»

«حينئذٍ سيحين وقت طرحك لهذا السؤال.»

علِمت أن المحلف ابتسم وهو ينحني وقال إنه راضٍ.

يبدو لي أنه عند تلك النقطة لا بد أن يكون السيد مورتون إما قد حصل على المعلومات التي تتوافق مع نظريته، أو — بالتسليم بالدافع الأحط لسؤاله — أنه شعر بأنه قد أضرَّ الآن بسمعة المالك بيتلي بقدرٍ كافٍ في عيون سكان المقاطعة؛ إذ إن المُراسلين كانوا يعملون بلا كلل، وكان كل شخص حاضر يعلم أن ما من كلمة تُقال إلا ستُنشَر بالحرف في صحيفة المقاطعة.

ومع ذلك، فقد كان من المقدَّر أن يتعرض السيد مورتون للإساءة في غضون دقيقة واحدة.

سأل بيتلي قائلًا: «هل انتهيتم من استجوابي، أيها السادة؟»

يبدو أن الطبيب الشرعي قد انحنى عندئذٍ.

فتابع بيتلي قائلًا: «إذن قبل أن أجلس — وأرجو أن تسمحوا لي بالبقاء في الغرفة حتى انتهاء التحقيق — سأصرِّح بملء إرادتي أنني لن أرضخ للقيام بأي إعلان بناءً على محاولة إكراه غير قانونية وغير مسوَّغة على الإطلاق. إذا أصدرت هيئة المحلفين حكمًا بالقتل ضد أشخاص مجهولين، فلن أعرض مكافأة على اكتشاف هؤلاء القتَلة المزعومين.»

سأل الطبيب الشرعي: «ولمَ لا؟» وعلِمت بعد ذلك أنه اعترف بأن السؤال كان لا يُغتفر على الإطلاق.

أجاب المالك بيتلي قائلًا: «لأنني أعتقد اعتقادًا كاملًا أنه لم تُرتكب جريمة قتل من الأساس.»

وبحسب ما ورد في الصحيفة، سرت «ضجةٌ كبيرة» بعد ما قاله هذا.

سأل الطبيب الشرعي: «لا توجد جريمة قتل؟»

«نعم، أنا متأكد من أن موت المتوفَّى كان جرَّاء حادث.»

«وما الذي يجعلك تظن هذا يا سيد بيتلي؟»

«طبيعة الوفاة. لا أعتقد أن جرائم القتل تُرتكب بأي طريقة غير عادية مثل تلك التي قضت على حياة ابني. ليس لديَّ المزيد لأقوله.»

وهنا، كما يقول تقرير الصحيفة، جلس المالك بعدما أنهى كلامه.

كانت الشاهدة التالية التي استُدعيت هي مدبرة المنزل مارجريت كوينيون، وهذا بعدما كانت قد سُمعت بالفعل شهادة البستاني الذي كان قد اكتشف الجثة، وقد كانت ببساطةٍ أنه شهد بالعثور على الجثة.

كانت شهادتها فيما يتعلق بوفاة بيتلي الشاب عديمة القيمة تمامًا من وجهة نظري. ذكرت ببساطةٍ أنها قد ذهبت إلى الفراش في الوقت المعتاد (في حوالَي العاشرة مساءً) في الليلة السابقة، وأن دينا يارتون قد خلدت إلى الفراش في نفس الغرفة قبل ذلك بقليل. لم تسمع أي ضوضاء أثناء الليل، ولم يُزعجها أي شيء على الإطلاق حتى أطلق البستاني الإنذار.

بحلول دور السيدة كوينيون، استجوبها المستشار القضائي السيد مورتون.

«هل أنت وهذه، ما اسمها، دينا يارتون تنامان وحدكما في منزل بيتلي؟»

«أجل، عندما تكون العائلة غائبة.»

«ألا تخشين من ذلك؟»

«نعم.»

«لماذا؟»

«ولمَ أخشى ذلك؟»

«حسنًا، تخشى معظم النساء من النوم في منازل كبيرة منعزلة بمفردهن. ألا تخشين اللصوص؟»

«نعم.»

«لمَ لا؟»

«ببساطة لأن اللصوص لن يجدوا سوى القليل جدًّا في منزل بيتلي ليسرقوه، بحيث إنهم سيكونون في غاية الحماقة إذا اقتحموا المنزل.»

«لكن يوجد قدرٌ كبير من الأغراض الفضية في المنزل، أليس كذلك؟»

«كلها تُنقَل إلى المدينة مع السيد بيتلي.»

«كل شيء يا سيدتي؟»

«أجل، كل ذرَّة منها، عادةً.»

«تقولين إن الفتاة تنام في غرفتك، أليس كذلك؟»

«هذا صحيح.»

«هل هي فتاةٌ جذَّابة؟»

«لا.»

«هل هي غير جذَّابة؟»

«ستُتاح لك فرصة الحكم على ذلك؛ لأنها ستُستدعى كشاهدة يا سيدي.»

«أوه! ألا تعتقدين أنه كان يوجد أي شيء بين هذه الشابة وسيدك الشاب؟»

«بين دينا والسيد بيتلي الشاب؟»

«أجل.»

«أعتقد أنه لم يكن من الممكن أن تكون ثَمة أي علاقة غرامية بينهما؛ لأنه (وهنا ابتسمت) لم يرَ أحدهما الآخر مطلقًا؛ فقد أتت الفتاة إلى منزل آل بيتلي من المقاطعة المجاورة منذ ثلاثة أسابيع فقط، وبعد ثلاثة أشهر من ذهاب العائلة إلى المدينة.»

«أوه، إذن فأنت لم تتوقعي قدوم ابن سيدك إلى المنزل مؤخرًا؟»

«نعم، لم أتوقع قدوم السيد بيتلي الشاب إلى المنزل مؤخرًا؛ فهو لا يأتي إلى المنزل أبدًا عندما تكون العائلة غائبة.»

«ألم يكن معتادًا على القدوم إلى المنزل على نحوٍ غير متوقَّع؟»

«نعم.»

«هل أنتِ متأكدة من ذلك تمام التأكد؟»

«أجل، أنا متأكدةٌ تمام التأكد.»

«هل كان المتوفى لا يتلقى أي نقود؟»

«لا أعرف شيئًا عن الترتيبات المالية بين الأب والابن.»

«حسنًا، هل تعلمين أنه غالبًا ما كان يُعوزه المال؟»

«إنني حقًّا أرفض الإجابة على هذا السؤال.»

«حسنًا، هل كان مُعتادًا على أن يقترض منك المال؟»

«أرفض الإجابة على هذا السؤال أيضًا.»

«تقولين إنكِ لم تسمعي شيئًا ليلًا، أليس كذلك؟»

«بلى، لا شيء.»

«ماذا فعلتِ عندما سمعتِ جرس إنذار البستاني في الصباح؟»

«أنا عاجزة عن فهم سؤالك.»

«لكنه سؤالٌ سهل للغاية. ما هو أول شيء فعلتِه بعدما سمعتِ بالفاجعة؟»

[بعد بعض التفكير.] «ينبغي أن أقول إنه من المستحيل حقًّا، في ظرفٍ رهيب مثل هذا، أن أكون قادرة على أن أقول بوضوحٍ ما هي أول ردة فعل أو كلمات قلتها، لكني أعتقد أن أول شيء فعلته — أو أول شيء أتذكر أنني فعلته — كان الاعتناء بدينا.»

«ولماذا لم تستطع هي الاعتناء بنفسها؟»

«ببساطة لأنها دخلت في نوع من نوبة الصرع، التي تُعاني منها، عند رؤية الجثة.»

«إذن لا يمكنك توضيح أي شيء فيما يتعلق بهذه القضية الغامضة؟»

«لا شيء، كل ما أعرفه عن الأمر هو التعرف على جثة السيد بيتلي الصغير في الصباح.»

عندئذٍ استُدعيت الفتاة دينا يارتون، ولكن ما إن سمعت الشابَّة البائسة، وهي تنتظر في القاعة العامة التي كان يُعقَد الاستجواب فيها، اسمها، حتى دخلت في نوبةٍ منعتها تمامًا من تقديم أي دليل «باستثناء صراخها القوي الذي دل على أن رئتَيها كانتا في حالةٍ صحية ممتازة تُحسَد عليها»، حسبما أشارت صحيفة المقاطعة مازحةً.

قالت السيدة كوينيون: «ستتعافى قريبًا، وستكون قادرة على تقديم ما يمكنها تقديمه من أدلة.»

سألها المستشار القضائي: «وماذا سيكون هذا الدليل يا سيدة كوينيون؟»

أجابت: «ليس بمقدوري أن أجزم يا سيد مورتون.»

استُدعي الشاهد التالي (وهنا بصفتي شرطيةً قديمة يمكنني أن أشير إلى الطريقة غير المهنية التي جرى بها ترتيب الشهود)، وكان الشاهد التالي الذي استُدعي هو الطبيب.

كانت شهادته على النحو الآتي، مع حذف النقاط المهنية البحتة: «استُدعيتُ لفحص المتوفَّى صباح الثلاثاء، في حوالَي الساعة السادسة صباحًا. تعرَّفت على جثة السيد بيتلي الشاب الذي كان قد قضى نحبه. كان قد مات منذ حوالَي سبع أو ثماني ساعات، حسب تقديري؛ وهو ما يعني أن وفاته قد حدثت في حوالَي الساعة العاشرة أو الحادية عشرة في الليلة السابقة. كانت الوفاة قد نتجت عن طعنةٍ اخترقت الرئة اليسرى. لقد نزف المتوفَّى داخليًّا. أما الأداة التي تسبَّبت في الوفاة فقد بقيت في الجرح، وأوقفت النزيف الدموي القليل الذي كان سيحدث إن لم تكن موجودة. لقد مات المتوفَّى من الاختناق حرفيًّا، بعدما تسرَّب الدم إلى الرئتين وملأهما. أما جميع أعضاء الجسم الأخرى فقد كانت في حالةٍ سليمة. أما الأداة التي تسبَّبت في موته فهي أداة لا أعرفها. لا بد من أنها نوع من الأسهم الحديدية المصنوعة بطريقةٍ رديئة، ولها مِقبض. لا بد أنه قد ثُبِّتت عند استخدامها في مِقبضٍ ما، لا بد أن يكون هو ما تسبَّب في إزالة السلوك المسنَّنة وحلِّها عند محاولة سحبها من الجثة، وهي محاولةٌ حدثت فعلًا؛ لأنني وجدت أن إحدى حوافِّ السهم قد علِقت خلف أحد الضلوع. أكرِّر أنه لا دراية لي على الإطلاق بالأداة التي تسبَّبت في الوفاة. إنها أداةٌ خشنة وغليظة بشكلٍ ملحوظ. ربما يكون المتوفَّى قد عاش ربع دقيقة فحسب بعد إصابته بالجرح. إنه لم يُنادِ طلبًا للمساعدة على الأرجح. لا يوجد دليل على حدوث أقل قدر من المقاوَمة، ولا يمكنني أن أجد أي دليل، ولو صغير، يبيِّن أن المتوفَّى أبدى أي علم بالخطر حتى. ومع ذلك، بافتراض أن المتوفى لم يكن نائمًا وقت القتل — لأنه قُتل بلا شك، أو قُتل عن غير عمد — فلا بد أنه قد رأى مُهاجِمه، الذي لا بد أنه كان في مواجهته وليس خلفه، حسبما يوضِّحه مكان السلاح. من المؤكَّد أن الوفاة كانت إما نتيجة جريمة قتل أو حادث، وليست نتيجة انتحار؛ لأنني سأُراهن على سمعتي المهنية بقول إنه من المستحيل تمامًا على شخصٍ أن يدفع مثل هذه الأداة في جسده بقوةٍ مثلما حدث في هذه الحالة، وهو ما ثبت من كسر ضلع مكوَّنة من عظمٍ حقيقي. وفي ظل ظروف مثل تلك الكائنة في هذه الفاجعة، لا يمكن أن يكون انتحار هو ما أقحم السهم في الاتجاه الذي سلكه. خلاصة القول، في رأيي أن المتوفى قُتل دون أي علم من ناحيته بالقاتل.»

استجوب السيد مورتون الطبيب.

أجاب الطبيب طوعًا على استفسارات هذا الرجل.

«هل تظن يا دكتور بيتشرلي، أنه لم يتدفق أي دم خارج الجثة؟»

«أنا متأكد تمامًا من ذلك.»

«كيف؟»

«لم تكن توجد أي آثار دماء على الملابس.»

«إذن فالاستنتاج هو أنه لم تكن توجد آثار للدماء تلطخ موضع ارتكاب جريمة القتل؟»

«بكل تأكيد.»

«إذن ربما تكون الجثة قد أُحضرَت مسافةً هائلة، ومع ذلك لم تشكِّل أي بُقَع من الدماء آثارًا دالة على الطريق؟»

«ولا بقعة واحدة.»

«هل انطباعك أن الجريمة ارتُكبت في مكانٍ بعيد عن المكان الذي عُثر فيه على الجثة أم قريب منه؟»

«هذا السؤال خارج تخصصي تمامًا، وليس بوسعي أن أُجيب عليه، يا سيد مورتون؛ فواجبي هنا هو الإدلاء بشهادتي عن استدعائي لفحص المتوفى وعن سبب الوفاة، ولكني لست بحاجة إلى إخبارك أنني قد كوَّنت نظريتي الخاصة عن الفاجعة، وإذا كانت هيئة المحلفين ترغب في معرفتها فأنا على استعداد لعرضها لينظروا فيها.»

وهنا، تشاوَر أعضاء هيئة المحلفين فيما بينهم، ونتج عن ذلك أنهم أبدَوا رغبتهم الشديدة في معرفة تصوُّر الطبيب للواقعة.

[ليس لديَّ شك في أن الكلمات الآتية هي التي دفعت هيئة المحلفين إلى اتخاذ قرارها.]

قال الطبيب المحترم:

«تصوُّري أن هذه الوفاة نتجت عن الصيد غير القانوني، ولن أقول إنها كانت نتيجة عراك، بل حادث. من المعروف جيدًا في هذه المناطق، وفي الوقت الراهن، بحيث إنني لا أحتاج لإبداء أي كياسة زائفة، يا سيد بيتلي، في قولي إن بيتلي الشاب كان شديد الولع بالصيد غير القانوني. أعتقد أنه ورفاقه كانوا بالخارج يصطادون؛ فقد رأيت الشاب بنفسي في مناسبتين منفصلتين استُدعيت فيهما في زياراتٍ ليلية، في ظروفٍ مُريبة للغاية؛ وأن أحد أفراد المجموعة كان مسلَّحًا بالسلاح الذي تسبَّب في الوفاة، والذي ربما كان يحمله مثبتًا بنهاية العصا الثقيلة التي تُستخدم كثيرًا في صيد الأرانب. أظن أن الوفاة كانت بسبب حادث مروِّع؛ فنحن جميعًا نعلم مدى بشاعة الحوادث التي تقع كثيرًا عند استخدام الأسلحة، والتي ينتج عنها جروح. لقد أُصيب الشاب بجروحٍ قاتلة؛ ومن ثَم تُوفي، بعد أن حاول رفيقه المذعور سحب السهم من جسده بسرعة، وهو ما جعل السلك المسنَّن يلتصق بالجسم ويعلق خلف أحد الضلوع، في حين أن القوة المستخدَمة في مقاومة العظمة تسبَّبت في انفصال السلاح عن مقبضه. يمكن بعد ذلك بسهولةٍ معرفة سبب اكتشاف وجود الجثة خارج منزل الأب. إن رفاقه، الذين يعرفون هُويته، ويخافون من أن يُكتشَفوا ويُتَّهموا بارتكاب فعل يمكن أن يؤدي إلى إدانتهم شخصيًّا، حملوا الجسد إلى عتبة منزل والده، وتركوه هناك.» اختتم الطبيب حديثه قائلًا: «تبدو لي هذه الصيغة أكثر صيغة منطقية يمكنني أن أجدها لتفسير ظروف هذه الواقعة الاستثنائية والمُحزنة. أعتذر للسيد بيتلي عن الإهانة التي ربما أكون قد ارتكبتها بالإشارة إلى سمعة ابنه المتوفَّى، ولكن عذري لا بد أن يرتكز على الحقيقة التالية، عندما تكون الجريمة أو الفاجعة غامضةً لدرجة أن المُجرم، أو الجاني، يمكن أن يكون كإبرة في كومة قش، فمن الصواب تقليص دائرة التحقيق قدر الإمكان، وهذا لتجنُّب الشك في عددٍ أكبر من الأفراد. ومع ذلك، إذا كان بإمكان أي شخص أن يقترح تفسيرًا للفاجعة أوضح من تفسيري، فسأكون سعيدًا حقًّا بالاعتراف بأنني كنت مُخطئًا.»

[أكرِّر أنه لا شك في أن تحليل الدكتور بيتشرلي يتناسب بشكلٍ مُرضٍ ومعقول للغاية مع وقائع القضية.]

لم يطرح السيد مورتون المزيد من الأسئلة على الدكتور بيتشرلي.

كان الشاهد التالي الذي استُدعي هو شرطي بلدة ترام، وهو رجلٌ غبي ميئوس منه — كما وجدتُ من تجربتي المريرة — لا يفلح إلا في إثارة الشجار في نُزلٍ ريفي عام، ولكنه كمحقق لا يرقى لمنزلة كلبي «دارت».

بدا أنه قدَّم شهادته الضحلة بغباءٍ دعا حتى الطبيب الشرعي إلى توبيخه.

كل ما أمكنه قوله هو أنه استُدعي وذهب، ورأى لمن تعود الجثة، وأن هذا هو كل ما يمكنه قوله.

تولَّى السيد مورتون زمام استجوابه، ولكن حتى هو لم يستطع فعل أي شيء مع هذا الرجل.

«هل كان يوجد العديد من الأشخاص في المكان الذي عُثر فيه على الجثة قبل وصولك؟»

«لا.»

«كيف ذلك؟»

«حسنًا؛ لأن توم براون، البستاني، أتى لي على الفور، وهو من أتى لي أولًا؛ لأنه أول من شهد الأمر.»

وقد كان الأمر كذلك كما اكتشفت عندما ذهبت إلى ترام؛ فبعدما استرعى انتباه مدبرة المنزل انطلق البستاني براون مذعورًا إلى القرية لطلب مساعدة لا داعي لها، وهو ما سيفعله أي شخص مذعور. وإذ تصادَف أن منزل الشرطي كان هو أول منزل وصل إليه، كان الشرطي هو أول من أُعلِمَ بما حدث. لو كان قد جرى التعامل مع القضية بطريقةٍ صحيحة، كان الشرطي، بما أنه أول من أُعلِمَ بما حدث، سيحصل على الأدلة التي كان من شأنها أن تضع المحققين على المسار الصحيح فورًا.

أظهر أول سؤالين طرحهما المستشار القضائي وعضو هيئة المحلفين أنه رأى مدى أهمية الأدلة التي كان ربما كان سيقدِّمها هذا الشاهد، جوزيف هيجينز، لو كان يعرف عمله حقًّا.

كان السؤال الأول:

«لقد أمطرت ليلة الاثنين، أليس كذلك؟»

[كان ذلك قبل الفاجعة.]

أجاب هيجينز: «أجل، لقد أمطرت.»

ثم تبع ذلك السؤال المهم الآتي:

«كنتَ من بين أوائل من حضروا إلى موقع الحادث على الفور. هل لاحظت وجود أي آثار أقدام في الأنحاء؟»

يبدو لي هنا بوضوحٍ شديدٍ أن السيد مورتون كان يُتابع النظرية التي قدَّمها الطبيب بخصوص الفاجعة. فمن الواضح أنه إذا كان العديد من رفقاء الصيد غير القانوني قد حملوا الشاب الصغير بعد موته إلى باب الردهة، فمع تساقط المطر أثناء الليل سيوجد حتمًا العديد من آثار الأحذية على الأرض الناعمة.

بعد توجيه هذا السؤال، سأل الشاهد قائلًا: «ماذا؟»

كرَّر السيد مورتون سؤاله مرةً أخرى.

فأجاب هيجينز: «لا، لم أرَ أي آثار أقدام.»

«هل بحثت عنها؟»

«لا، لم أبحث.»

فقال السيد مورتون: «إذن فأنت لا تعرف كيفية القيام بعملك.»

وقد كان المحلِّف على حق؛ إذ يمكنني أن أخبر قُرائي أن آثار الأحذية قد أرسلت عددًا أكبر من الناس إلى المشنقة، كجزء من أدلةٍ ظرفية، أكثر من أي دليل آخر. إن دليل آثار الأحذية هو بالفعل دليلٌ رهيب، فإذا سقط مسمار أو اثنان أو ثلاثة وفُحصا معًا من كثب — مسمار مكسور، أو كانت كل المسامير سليمة — فقد أدَّى ذلك في مرات لا حصر لها إلى مطابقة حذاء المُشتبَه به بآثار أقدامه الموجودة بالقرب من القتيل، وكان هذا الدليل هو أول حلقة من سلسلة الأدلة التي تدفع بالقاتل إلى حبل المشنقة، أو بالمجرم القاصر إلى السجن.

في الواقع، إذا كان لي أن أنصح الأشرار بأفضل الوسائل لتجنُّب اكتشافهم، فسأقول لهم خذوا زوجًا ثانيًا من الأحذية في حوزتكم، وعندما تقتربون من مسرح جريمتكم، بدِّلوا حذاءكم بالآخر الذي تحملونه معكم وارتكِبوا جريمتكم واهربوا وأنتم تلبسونه، وبعدما تكونون قد قطعتم بعض المسافة بدِّلوه وارتدوا حذاءكم الأول مرةً ثانية، ثم أخفُوا بعنايةٍ الحذاء الذي يُثبِت تورُّطكم. عندئذٍ سيكون الحذاء الذي تلبسونه دليلًا على براءتكم، بدلًا من أن يكون دليلًا مُفترضًا على جرمكم.

لا تُصدَموا من هذه النصيحة العلنية التي قدَّمتها للأشرار؛ لأنني سأمتدح نفسي وأقول إن لديَّ طريقةً مضادَّة لإحباط مثل هذه الترتيبات الإجرامية المتعلقة بتبديل الأحذية. وبما أنني نشرت الأسلوب المتَّبَع بين أفراد الشرطة، فأي محاولة لتنفيذ الاقتراحات التي قدَّمتها فعلًا على أرض الواقع ستحظى بفرص اكتشاف أكبر مما قد يحدث من خلال اتباع المخاطرة العادية.

والآن لنعد إلى موضوعنا.

ربما باستثناء مورتون، كان شرطي ترام هو الشخص الوحيد في المدينة الذي كان لا بد أن يعرف وفقًا لمهامِّ واجبه المعتاد قيمة كل أثر قدم موجود بالقرب من الجثة، ولكنه أهمل تمامًا اتخاذ مثل هذا الإجراء الاحترازي، الذي لو كان لاحظه فلا بد أنه كان سيؤدي إلى كشف (وكشفٍ فوري)، وهو ما لم يحدث أبدًا بسبب غبائه.

ما كان مؤكدًا بلا ريب هو أن دليل آثار الأقدام كان غائبًا تمامًا.

لم يلحظ الشرطي أي شيء ولم يأخذ احتياطاته؛ ومن ثَم كان من المستحيل أن يحصل حتى أكثر المحققين ذكاءً وبراعةً على أي دليل يخص هذه الآثار؛ إذ إنه بعد انتشار أخبار الفاجعة كالنار في الهشيم، وهو ما لا يحدث إلا في القرى، جاء عشرات الريفيين يتسكَّعون في مكان الحادث؛ ومن ثَم طُمست أي آثار أقدام كان يحتمل وجودها.

باختصار، لم يستطع السيد جوش هيجينز تقديم أي دليل كان يمكن أن يستحق الاستماع إليه.

والآن، كانت الشهادة الوحيدة المُتبقية هي شهادة دينا يارتون.

قالت الصحيفة التي حصلت منها على هذه التفاصيل إنها «دخلت المحكمة وهي مُنكمشة بشدة من آثار تعاقُب نوبات الصرع التي تعرَّضت لها، وجاهدت للتخلص منها».

كانت شديدة الغباء لدرجة أنه كان لا بد من تكرار كل سؤال بست طرق مختلفة قبل أن تتمكن من الإدلاء بإجابةٍ واحدة. تطلَّب الأمر أربعة أسئلة لمعرفة اسمها، وثلاثة لمعرفة مكان إقامتها، وخمسة لمعرفة مهنتها. أما الطبيب الشرعي وهيئة المحلفين فيئسوا، بعد مجموعة من الأسئلة، من محاولة التأكد مما إذا كانت تعرف طبيعة القَسم أم لا. ومع ذلك، فقد اعتُبرت شاهدةً كُفؤةً تمامًا عندما قالت إنها متأكدة تمامًا من أنها ستذهب إلى «مكانٍ سيئ» إن لم تقل الحقيقة، ولا يُساورني شك في أنها تعرَّضت لسيل من الأسئلة المُزعجة.

وبما أن السيد مورتون قد حصل منها على تفاصيل أكثر من باقي المستجوَبين مجتمعين، وبما أنني بنيت كل تصرُّفاتي اعتمادًا على شهادتها، فربما لن يكون من الخطأ عرض أسئلة هذا الرجل وإجاباتها عليها كاملةً، كما اقتُبست بالضبط في جريدة المقاطعة النهمة للأخبار، التي نظرت إلى القضية برمَّتها بلا شك باعتبارها هبةً صحفية من السماء، وقد تمنَّى مالكوها بشدةٍ تأجيل التحقيق عدة مرات للحصول على مزيد من الشهادات.

قال السيد مورتون: «حسنًا يا دينا، في أي وقت ذهبت إلى الفراش يوم الاثنين؟»

[جرى الحصول على الإجابات عمومًا بعد الكثير من الطرق من جانب المستجوِب ليعمَّ الهدوء. سأسرد الإجابات ببساطة كما قالتها تمامًا.]

«في العاشرة.»

«هل خلدتِ إلى النوم؟»

«لا، لم أنَم.»

«لمَ لا؟»

«لأنني لم أتمكن من النوم.»

«ولكن لماذا؟»

«كنت أفكر.»

«في ماذا؟»

«أشياء كثيرة.»

«أخبرينا بواحد من هذه الأشياء.»

[لم تُجِب، هذا باستثناء ظهور أعراض نوبة أخرى.]

«سكوت، سكوت! حسنًا، هل نِمت أخيرًا؟»

«أجل، فعلت.»

«حسنًا، متى استيقظتِ؟»

«استيقظت عندما نادتني السيدة.»

«متى؟»

«لا أعرف أي ساعة كانت.»

«هل كان نهارًا؟»

«أجل، نهارًا.»

«هل استيقظتِ أثناء الليل؟»

«أجل، مرةً واحدة.»

«كيف حدث ذلك؟»

«لا أعلم.»

«هل سمعتِ أي شيء؟»

«لا.»

«هل تظنين أنكِ سمعتِ أي شيء؟»

«أجل.»

«ماذا سمعتِ؟»

«شيئًا يتحرك.»

«ما الذي كان يتحرك؟»

«الصندوق.»

«صندوق! سكوت، سكوت! أجيبيني بإجابةٍ واضحة.»

وهنا رفع صوته، وليس لديَّ أدنى شك في أن دينا كان يجب عليها أن تُرجِع الفضل في عودة نوباتها إلى هيئة المحلفين.

«هل تسمعينني؟ أجيبيني بإجابةٍ واضحة.»

«أجل.»

«هل سمعتِ أي ضوضاء عندما استيقظتِ؟»

«لا.»

«ولكنك ظننت أنكِ قد سمعتِ ضجيجًا، أليس كذلك؟»

«بلى، في اﻟ…»

«سكوت، سكوت! دعينا من الصندوق، أين كان؟»

«الصندوق؟ في القاعة!»

«لا، لا، الضجيج.»

«في القاعة يا سيدي.»

«تقصدين الضجيج؟»

«لا يا سيدي، الصندوق.»

فقال السيد مورتون: «حسنًا، دعينا من الصندوق يا عزيزتي. أريدك أن تفكري في هذا؛ هل سمعتِ أي ضجيج «خارج المنزل»؟»

«لا.»

«ولكنكِ قلتِ إنكِ سمعتِ ضجيجًا، أليس كذلك؟»

«لا يا سيدي لم أفعل.»

«حسنًا، لكنكِ قلتِ إنكِ ظننتِ أنكِ سمعتِ ضوضاء، أليس كذلك؟»

«بلى.»

«حسنًا. أين؟»

«في الصندوق.»

وهنا تذكر صحيفة المقاطعة أن رجل القانون واصل الضرب بيده على الطاولة أمامه، ثم تابع قائلًا:

«إذا تحدَّثتِ عن الصندوق مرةً أخرى يا فتاتي فستذهبين إلى السجن.»

قالت الشاهدة التعيسة الحظ مندهشةً: «السجن!»

«أجل، سجن وخبز وماء!»

عقب ذلك، دون أن تُبْدي أي ملاحظات أخرى، أُصيبت الشاهدة التعيسة بنوبةٍ أخرى، وكان لا بد من حملها خارجًا وهي تُصارع بقوةٍ شديدة يبدو أنها نتيجة للتشنجات، بينما يُمسِك بها ثلاثة رجال كان عليهم بذل جهد كبير لإبقائها هادئة إلى حدٍّ ما.

قال الطبيب الشرعي: «لا أظن أيها السادة أن هذه الشاهدة ذات أهمية. أولًا: يبدو لي أنه من المشكوك فيه أن يكون لديها القدرة على الإدلاء بشهادة. وثانيًا: أعتقد أنه ليس لديها شهادة تُدلي بها؛ فلا يستدعي الأمر تأجيل الاستجواب حتى تتعافى. يبدو لي أنه سيكون من القسوة إجبار هذه الشابَّة المسكينة مرةً أخرى على معايشة الوضع الذي عانته لتوِّها، إلا إذا كنتم مُقتنعين أنها شاهدةٌ ذات أهمية. أظن أنها قالت ما يكفي ليُظهِر أنها ليست كذلك. يبدو مؤكدًا، من إفادتها، أنها ذهبت للنوم مع السيدة كوينيون، وأنها لا تعرف شيئًا أكثر عما حدث حتى أيقظتها مدبرة المنزل في الصباح، بعدما كانت هي نفسها قد سمعت جرس الإنذار؛ لذلك أقترح أن الدليل الذي يمكن أن تقدِّمه مُتضمَّن بالفعل فيما هو موجود أمام هيئة المحلفين، وفيما أدلت به مدبرة المنزل في شهادتها.»

وافقت هيئة المحلفين على ملاحظات الطبيب الشرعي، إلا أن السيد مورتون أضاف أنه مُتحير بشأن إشارات الفتاة المُتكررة إلى الصندوق، وأنه ربما يمكن للسيدة كوينيون أن تساعد في توضيح هذا اللغز.

نهضت مدبرة المنزل على الفور.

قال السيد مورتون: «سيدة كوينيون، هل يمكنكِ تقديم أي تفسير لما تعنيه الشابَّة بإشارتها إلى الصندوق؟»

«لا.»

«يوجد صناديق بالطبع في منزل آل بيتلي، أليس كذلك؟»

«أجل، بلا شك.»

«هل يوجد صندوق بعينه؟»

«لا، لا يوجد.»

«ألا يوجد صندوق بعينه يُشار إليه بأنه «الصندوق»؟»

«نعم، لا يوجد.»

«لقد قالت الفتاة إنه في الردهة، هل يوجد صندوق في الردهة؟»

«أجل، العديد منها.»

«ما الذي تحتويه؟»

«يوجد صندوقٌ مخصَّص للأحذية والقباقيب، وصندوق على الطاولة توضع فيه رسائل البريد عندما تكون الأسرة في المنزل، وتؤخَذ منه هذه الرسائل كل يوم في الرابعة عصرًا، كما يوجد صندوقٌ مثبَّت في الحائط، لم أتمكَّن من اكتشاف الغرض منه مطلقًا، وكنتُ قد تحدَّثتُ إلى السيد بيتلي عدة مرات بشأن إزالته.»

«ما حجمه؟»

«حوالَي قدم ونصفٍ مربَّعة في عمق ثلاث أقدام.»

«هل هو مقفل؟»

«لا، الغطاء مفتوح دائمًا.»

«هل سبق أن أبدت الشابَّة أي خوف من هذا الصندوق؟»

«مطلقًا.»

«هل لديك فكرة عن أي صندوق في الردهة أشارت إليه في شهادتها؟»

«ليس لديَّ أدنى فكرة.»

«هل تعتبرين الشابة ضعيفة العقل؟»

«إنها ليست شديدة الذكاء بكل تأكيد.»

«وهل تعتقدين أن فكرة الصندوق هذه محض خيال؟»

«بالطبع.»

«وهل تعتقدين أنها فكرةٌ حديثة؟»

«لم أسمعها تشير إلى أي صندوق من قبل.»

«هذا يكفي.»

وصفت الجريدة، التي أخذت منها شهاداتي، السيدة كوينيون بأنها امرأةٌ تتمتع بقدرٍ كبير من رباطة الجأش، وأنها أدلت بما كان يتوجب عليها قوله بهدوءٍ تام وبكلامٍ واضح.

كان الطبيب الشرعي على وشك أن يختم بعدما أُدلي بكل الشهادات الممكنة، عندما تذكَّر الشرطي هيجينز أنه نسيَ ذِكرَ أمرٍ ما، وتقدَّم إلى الأمام بسرعةٍ كبيرة ليُصلح خطأه.

قال هيجينز إنه لم يكن له أي علاقة بالأدوات التي عُثر عليها مع المتوفى.

كانت هذه الأدوات عبارة عن مفتاح و«قناعٍ أسود من قماش الكريب الرقيق».

استُدعي السيد بيتلي مرةً أخرى وعُرِض عليه المفتاح، فتعرَّف عليه قائلًا إنه (حسبما اعتقد) أحد «مفاتيح المنزل». لم يكن ذا قيمة خاصة، ولا يهمُّ إن بقيَ بحوزة الشرطة.

وكما أورد تقرير الجريدة «المفتاح الآن في عهدة الشرطي.»

أما فيما يتعلق بقناع قماش الكريب، فلم يتمكن السيد بيتلي من تقديم أي توضيح فيما يتعلق به.

ثم شرع الطبيب الشرعي بعد ذلك في اختتام الجلسة، وفي خلال ذلك قدَّم العديد من الإطراءات المنمَّقة للطبيب على وجهة نظره في القضية (والتي لا أشك في أنها قضت على اهتمام العامة بالقضية، وأضعفت من يقظة قوة المباحث، التي على الرغم من أن كثيرين من أفرادها يتمتعون بالذكاء الشديد فهم بسطاء بالقدر نفسه، ولديهم استعدادٌ كبير لتقبُّل التصريحات الواضحة والمباشرة). كما دفع السيد مورتون بأن اكتشاف القناع الأسود المصنوع من قماش الكريب يبدو إلى حدٍّ كبير دليلًا يعضد طرح الطبيب. قال الطبيب الشرعي: «لو كان الشاب يصطاد بشكلٍ غير قانوني، فسيرغب بشدة في إخفاء وجهه؛ نظرًا لوضعه في المقاطعة؛ ومن ثَم فالعثور على هذا القناع الأسود على جثته — إذا سلَّمنا بتفسير الصيد غير المشروع — سيكون اكتشافًا طبيعيًّا للغاية، ولكن …»

بعد ذلك شرع الطبيب الشرعي في التوضيح لهيئة المحلفين أنه يتعين عليهم اتخاذ قرار استنادًا إلى الحقائق وليس الافتراضات. قد يكونون جميعهم مُقتنعين بأن تفسير الدكتور بيتشرلي هو التفسير الصحيح، ولكن هذا لا يمكن قبوله في القانون. لا بد أن يكون حكمهم وفقًا للحقائق، والحقائق البسيطة للقضية هي أنه عُثر على شابٍّ ميتًا، وأن أسباب وفاته تدل على أنه من المستحيل تصديق أن المتوفَّى اقترف إثم الانتحار؛ ولذلك فإنهم في ظل هذه الظروف سيشعرون أنه من واجبهم إصدار قرار بأن الواقعة جريمة قتل مقيَّدة ضد مجهول.

لم تنسحب هيئة المحلفين للتشاور، ولكن في نهاية جلسة تشاور مدتها ثلاث دقائق، كان رئيس المحلفين، السيد مورتون، هو (حسبما علِمت) مَن استحوذ فيها على الكلام كله، أصدرت هيئة المحلفين حكمًا بالقتل العمد ضد شخص أو أشخاص مجهولين.

وهكذا انتهى التحقيق.

ولن أتردَّد كثيرًا في القول إن هذا التحقيق كان أحد أضعف التحقيقات التي جرت على الإطلاق من هذا النوع. كان يتسم بالفوضى وافتقار الفهم والمنطق السليم.

أثارت وقائع القضية بعض الضجة، ولكن التفسيرات المعقولة التي قدَّمها الطبيب، والملابسات العديدة المُتزامنة، حرمت القضية من الكثير من الاهتمام الذي تستحقُّه، سواء من جانب الجمهور أو قوة المباحث؛ فلم يتبقَّ للجمهور سوى مساحة صغيرة للتخمين العادي، أما فيما يتعلق بقوة المباحث — وهنا لستُ بحاجة إلى قول ما هو معروف بالفعل — فالقوة الدافعة الرئيسة للمحقق هي تحقيق مكسب ما، وقد تبدَّدت تقريبًا في هذه القضية احتمالات تحقيق مكسب؛ لأن إمكانية تقديم تفسير حقيقي لوقائع هذه القضية قد جرت فعلًا، وإذ كان الوضع كذلك كان الأمل الموعود بتحقيق مكافأة كبيرة ضعيفًا.

ولكن مجرد سردي لهذه الرواية هنا سيكون كافيًا لإثبات أنني لم أتفق مع وجهة النظر العامة المتَّبَعة في هذه القضية.

لذا، فقد كنتُ مُحقةً كما ستُثبِت الصفحات الآتية حسبما أظن.

عرضت الحكومة بالطبع المكافأة المعتادة، ألا وهي مائة جنيه استرليني، والتي تُنشَر في جميع حالات الوفاة التي يُفترض أن تكون قد حدثت بفعل فاعل.

ولكن ما أغراني لاختيار هذه القضية للتحقيق فيها لم يكن المكافأة العادية المعتادة، بل العديد من الظروف الغريبة التي أثارت اهتمامي.

والتي كانت كما يأتي:
  • (١)

    لماذا رفض الأب عرض مكافأة؟

  • (٢)

    لماذا كان المتوفَّى يحمل أحد مفاتيح المنزل معه وقت الوفاة؟ وكيف حصل عليه من الأساس؟

  • (٣)

    ما الذي كان يعنيه الصندوق؟

فيما يخص السؤال الأول، بدا لي أن رفض الأب عرض مكافأة لا بد أنه ينجم من أحد ثلاثة مصادر؛ إما أنه كان يعتقد أنه لم تحدث جريمة قتل من الأساس؛ لذلك شعر أنه لم تكن ثَمة حاجة لذلك؛ أو أنه كان يعلم بارتكاب جريمة قتل ولكنه لم يرغب في تسريع عمل الشرطة، أو، ثالثًا، أن الأب سواء كان يعتقد بحدوث جريمة قتل أو لا، أو يعلم بكَوْنها كذلك أو لا يعلم، كان بخيلًا لدرجةٍ جعلته لا يرغب في تقديم مكافأة ستجعله يخسر مالًا دون أن يكسب أي شيء في المقابل.

أما فيما يتعلق بالسؤال الثاني؛ لماذا كان المتوفى يحمل أحد مفاتيح منزل والده معه في جيبه؟ لقد كانت حوزته للمفتاح أمرًا غريبًا للغاية، وغير مفهوم. كيف صار بحوزته؟ ولماذا كان بحوزته؟ وماذا كان سيفعل به؟

أما السؤال الثالث؛ ما الذي كان يعنيه الصندوق؟ هل كانت الفتاة البائسة دينا يارتون تُشير لأي صندوق عادي أم لصندوقٍ مميز؟ يبدو لي أنها إن كانت تُشير إلى أي صندوق عادي فلا بد أنه صندوقٌ عادي، ولكن الملابسات التي أحاطت به كانت غير عادية، ولكن الحمقى نادرًا ما يتمتعون بأي خيال على الإطلاق، وبمعرفتي لهذا لم أكن مستعدَّة أن أُسنِد إلى دينا أي قدرة على أن تنسب أي صفات غير عادية لصندوقٍ عادي، ثم عندما تذكَّرت أنه لم يكن يوجد أي شخص بالمنزل يمكنه ممارسة ألاعيب عليها سوى مدبرة منزل جادة ووقورة، لا يمكن أن تفعل شيئًا من هذا القبيل، وصلتُ إلى استنتاجٍ مفاده أن الصندوق المَعني كان صندوقًا غير عادي. «لقد كان في القاعة»، كما قالت دينا. إذا كان الصندوق صندوقًا غير عادي، وكان في القاعة، فهذا يعني أنه كان قد وصل هناك لتوِّه. هل في هذا الوقت ربطتُ ارتباطًا وثيقًا بين الصندوق والقضية؟ لا أظن ذلك.

على أي حال، عقدتُ العزم على الذهاب إلى بلدة ترام والتحقيق في القضية، وكما هو حال أمثالنا نحن المحققين، غالبًا ما يتزامن الفعل مع العزم عليه. لا أحتاج لقول إنني ما إن عقدتُ العزم على زيارة ترام فسرعان ما كنتُ أقترب من محطتها وأنا أستقلُّ أول قطار مُتجهٍ إليها بعدما عقدت العزم على الذهاب.

وأثناء رحلة ذهابي، رتَّبت في ذهني الطريقة التي سأتبعها في إنجاز الأمر.

أولًا: لا بد أن أقابل الشرطي.

ثانيًا: لا بد أن أتحدَّث مع الفتاة دينا.

ثالثًا: لا بد أن أفحص مسرح الجريمة.

سيكون كل هذا سهلًا.

ولكن ما يلي ذلك سيكون أصعب.

كان ما يلي ذلك هو استخدام ما سأكتشفه على أي شخص قد يتبين تورُّطه في الجريمة من خلال اكتشافاتي، وأن أرى ما يمكنني أن أحصده من هذا كله.

فور أن وصلت إلى ترام عثرت على الشرطي، ولا بد أن أقول إنني لم أقابل في حياتي شخصًا أكثر حُمقًا منه.

كان صريحًا ببلاهةٍ من شدة غبائه؛ فقد كان من المستحيل أن يكون غير ذلك.

لم يتمتع بأي فرصة من الهروب من صفاتي باعتباري محققة تُشبِه المثقاب، مثلما لا يتمتع عامل ثقب يافع وغض بأي فرصة في التحكم بصورةٍ مناسبة في مثقابٍ ثقيل. أعتقد أنه حتى نهاية الأحداث لم يفهم أبدًا أنني كنت محققة. لم يتمكن عقله من استيعاب فكرة وجود امرأة شرطية.

استجوبته بأقصر طريقة للسيطرة عليه؛ إذ خفَّفت من شكوكه ومن حدة لهجته بالمال الذي يحكم هذا العالم.

التقيت به وجهًا لوجه مباشرةً، وكنت أعرف ما يجب عليَّ فعله. ببساطةٍ كان عليَّ استجوابه. وهنا سأعرض أسئلتي وإجاباته بقدر ما أستطيع تذكُّرها، وكذا سأسرد ما نتج عن الاثنين.

قلت له على الفور إنني كنت أشعر بالفضول لمعرفة كل التفاصيل الممكنة عن هذه القضية، وما إن أكَّدت رغبتي هذه بإظهار أول شلن، حتى أتيحت لي في لمح البصر فرصة رؤية ابتسامته العريضة التي كشفت عن أسنانه التي لم يكن ينقص منها سنٌّ واحدة.

«أين المفتاح والقناع اللذان عُثِر عليهما مع الجثة؟»

«حسنًا، إنهما في صندوقي، بما أنني شرطي!»

«هل يمكن أن تُريهما لي؟»

«أوه، أجل بالطبع!»

عقب ذلك مضى إلى صندوق في زاوية الغرفة، وفتحه بوقار.

بصفته شرطي بلدة ترام، كان من الطبيعي تمامًا أن يحتفظ بهذه الأشياء؛ فقد صدر حكم بالقتل العمد؛ لذلك قد يتعين إجراء تحقيقات في أي وقت.

أخرج حزمةً من هذا الصندوق وفتحها، فظهرت منها مجموعة من الملابس، ومن بينها أخرج مفتاحًا وقناعًا.

فحصت المفتاح أولًا. كان مُتقَن الصنع وجميلًا ومعقَّدًا للغاية. نتعلم نحن أفراد الشرطة خلال تجربتنا الكثير عن المفاتيح؛ لذا لم أحتَج سوى نظرة سريعة لأدرك أنه كان مفتاحًا لقفلٍ معقَّد وذي قيمة أكبر من المعتاد.

كان الرقم «١٣» منقوشًا بعناية على حلقة المفتاح المصقولة بشدة.

لم يكن هذا المفتاح، بلا أدنى شك، مفتاحًا عاديًّا لقفلٍ عادي.

الأقفال والمفاتيح غير العادية لا تحمي سوى الكنوز غير العادية.

لذا، كان الاستنتاج الأول الذي توصَّلت إليه من مقابلتي مع شرطي ترام، هو أن المفتاح الذي عُثِر عليه مع الجثة يفتح قفلًا يحرس شيئًا قيِّمًا.

بعد ذلك فحصت القناع.

كان مصنوعًا من قماش الكريب الأسود، ومشدودًا على سلكٍ فضي. لم أكُن قد رأيت شيئًا كهذا من قبل، على الرغم من أنني بصفتي محققةً كثيرًا ما كان يختلط عليَّ الناس الذين يرتدون أقنعة، سواء في الحفلات التنكرية أو في مناسباتٍ أخرى أقل لطفًا.

لذا، استنتجت أن القناع كان أجنبيَّ الصنع.

[علمت في النهاية أنني كنت على حق، ولا يعود لي فضلٌ كبير في ذلك أيضًا؛ لأنه يمكن بسهولةٍ تخمين أن أي لون غير اللون الأبيض هو لون آخر. كان القناع هو من النوع الذي يُسمى بالخارج «قناعًا فاخرًا»، وهو قناع، على الرغم من أنه يغيِّر وجه من يرتديه بما يكفي ليمنع التعرف عليه، فهو مصنوع بدقةٍ شديدة لدرجة أن قماش الكريب يسمح بالتعرق بأريحية، وهي خاصية لا تسمح بها الأقنعة الرديئة.]

«هل عُثر على أي شيء آخر مع الجثة؟»

«لا.»

«هل وجدت مفتاحًا يفتح كل الأبواب؟»

«لا، فقط مفتاح واحد.»

إذن لو كان الشرطي مُحقًّا، «وإذا كانت الجثة قد ظلَّت كما هي» عندما عثر عليها البستاني براون، فالأغراض الوحيدة التي عُثر عليها هي المفتاح والقناع.

ولكن من المؤكَّد أنه كان يوجد شيءٌ آخر في الجيوب.

سألته: «هل عُثر على أي كيس نقود؟»

«لا.»

«ولا منديل؟»

«أوه، أجل كان يوجد منديل.»

«أين هو؟»

مضى إلى الحزمة على الفور.

«هل هذه هي الملابس التي عُثر عليه وهو يرتديها؟»

«أجل، إنها هي.»

حتى ذلك الحين، كنت أشعر بشعورٍ جيد.

كان الشرطي، الذي كان يبدو غبيًّا وصادقًا، مُرتابًا للغاية؛ ولذلك شعرت أنه لا بد من التعامل معه بعنايةٍ شديدة.

أعطاني المنديل بعدما أخرجه من بين بعض الثنايا في الحزمة بأكثر إصبع سبابة مسطَّح أظن أنني رأيته في حياتي.

كان منديلًا نسائيًّا.

كان جديدًا، وبدا أنه لم يكن قد استُخدم من قبل؛ إذ لم يكن مجعَّدًا ولا متَّسخًا، كما كان سيكون حاله لو أنه ظل موضوعًا لفترةٍ طويلة في أحد الجيوب. وكان مطرزًا اسم «فريدي» على طرفه، ولا شك أنه كان اختصارًا لاسم فريدريكا.

سألت الشرطي مستخدمةً نفس طريقته في الكلام: «هل كان المنديل ملفوفًا في أي شيء؟»

«لا.»

«في أي جيب كان موجودًا؟»

«لم يكن في أي جيب.»

«أين كان إذن؟»

«كان في الصديري، في مقابلة صدره، وفوق الصوف المَحوك فيه مباشرةً.»

والآن ما الاستنتاج الذي يخصُّ المنديل؟

كان المنديل يخصُّ امرأةً، ولم يكن متَّسخًا، ولم يُستخدم لفترةٍ طويلة، وكان قد دُسَّ في صدره، وكان مطرزًا عليه اسم فريدي.

كان استنتاجي كما يأتي:

كان هذا المنديل يخصُّ امرأةً شابَّة، على الأرجح، وكان اسمها الحقيقي فريدريكا. وبما أن المنديل لم يكن متَّسخًا، وبما أنه لم يتحوَّل إلى اللون الأسود بسبب الاستخدام، فهذا يعني أنه قد أخذه أو أن شخصًا ما قد أعطاه إياه مؤخرًا. وبما أن المنديل قد وُجد في صدر قميصه، فيبدو أنه كان ينظر إليه بعين الرضا. هل نفترض إذن أنه كان هديةً من إحدى الشابَّات للمتوفَّى في الوقت الذي كان فيه على وشك أن ينطلق في رحلته؟

لقد غادر المتوفى لندن في غضون ثماني عشرة ساعة من وفاته، فهل أُعطيَ له المنديل في لندن أم بعد أن غادر المدينة؟

ومرةً أخرى، هل كان للقناع أي علاقة بهذه المرأة؟

أخذته مرةً أخرى وفحصته مجددًا، فأدهشتني رقة القماش أكثر من ذي قبل، وقرَّبته من عيني لأفحصه فحصًا أدق، فوجدت أنه كان معطرًا.

كان استنتاجي إجمالًا هو أن هذا القناع يخصُّ امرأة.

مرةً أخرى بدأت في استجواب جوزيف هيجينز الشرطي.

فقلت له: «أودُّ إلقاء نظرة على الملابس.»

أجاب الشرطي: «يا إلهي، بالطبع.»

كانت مجموعةً عادية من الملابس التي كان يرتديها أي رجل من الطبقة الوسطى في الصباح، لكنها لم تكن جيدة للغاية أو عصرية كما قد يتوقع المرء أن يجد ملابس ابن رجل ثري.

[سرعان ما استجليت هذا التناقض الواضح بعدما علِمت في مساء وصولي أن المالك بيتلي كان شخصًا بخيلًا بل شديد البخل.]

لم يكن يوجد أي شيء في الجيوب، ولكن ما لفت انتباهي هو أن القماش كان «موبرًا» ورماديًّا داكنًا، وهو من ثَم ما أخفى هذا الوبر إلى حدٍّ كبير.

«أخشى أنك لم تعتنِ بتلك الملابس، أليس كذلك؟»

«إنها كما كانت عندما جُرِّد منها!»

«ماذا؟ هل كان كل هذا الوبر موجودًا في القماش؟»

«نعم.»

[كانت «نعم» هي النسخة الجديدة من «أجل»، وكان كلاهما يعني «بلى».]

«تبدو كأنها قد طُويت فوق طبقة من الحصى.»

«لا.»

كانت الملابس ملطَّخة على جانبها السفلي بعلاماتٍ من الحصى، وكانت لا تزال رطبة في هذه الأجزاء.

ذكَّرتني هذه الملاحظة بشيءٍ نتج عن التحقيق، وهو ما تذكَّرته الآن ووضعته في اعتباري أثناء فحص حالة الملابس.

كانت الأمطار قد هطلت ليلة الاثنين، واكتُشفت الجثة صباح الثلاثاء.

لم تكن الملابس كلها رطبة؛ وهذا لأن الوبر كان مجعَّدًا بشدة، وكان يطير في الهواء. كان من الضروري معرفة الوقت الذي توقَّفت فيه الأمطار ليلة الاثنين، أو صباح الثلاثاء.

كان واضحا جدًّا أن الملابس لم تتعرض للمطر في الوقت بينما أصبحت مزغبة وقت اكتشاف الجثة؛ لذلك بعد التأكد من الساعة التي توقَّف فيها المطر سأتوصل إلى الوقت (الوقت الذي اكتُشفت فيه الجثة كان في الساعة الخامسة والنصف) الذي جرى فيه التخلص من الجثة.

لم يكن الشرطي يعرف شيئًا عن المطر، وأعتقد أنه عند هذه النقطة، وعلى الرغم من الشلنات التي أعطيته إياها، بدأ يُظهر علاماتٍ فظَّةً على نفاد الصبر.

أُضيفُ هنا أنني وجدت أن المطر لم يتوقف إلا في الساعة الثالثة من صباح الثلاثاء؛ لذا كان من الواضح أن الجثة قد وُضعت حيثما وُجدت بين الساعة الثالثة والخامسة والنصف؛ أي في غضون ساعتين ونصف.

توصَّلت إلى هذا الاكتشاف في نفس المساء من صاحبة منزلي، وهي امرأةٌ مُفيدة للغاية.

والآن، ألا يُفاجأ القارئ أن الساعة الثالثة من صباح شهر مايو، وعند اقتراب الصباح، كان وقتًا متأخرًا جدًّا لممارسة الصيد غير القانوني؟

أخذ هذه الحقيقة التي لا جدال فيها بعين الاعتبار، إلى جانب عدم الحاجة إلى وجود قناع (لأن الصيَّادين غير القانونيين لا يرتدون أقنعة) وحالة الملابس، ناهيك عن نوع الملابس التي كان يرتديها المتوفى، دفعني إلى استبعاد نظرية السيد مارتون القائلة بأن الشاب قد لقي حتفه أثناء نزاع على الصيد غير الشرعي، أو بالأحرى أثناء رحلة صيد غير شرعي.

أخذت القليل من الوبر من الملابس ووضعته بحذرٍ في دفتر جيبي.

كان آخر شيء فحصته هو السلك الشائك الذي تسبَّب في الوفاة.

وهنا أعترف أنني أُحبطت تمامًا وشعرت بالهزيمة الكاملة، فأنا لم أرَ شيئًا من هذا القبيل من قبلُ قط.

لقد كان سلكًا شائكًا خشنًا للغاية، على هيئة شيء يُشبِه سهم الملكة ذا النصل العريض، ولكن الفارق الوحيد هو أن حوافَّه قد اتَّسعت من عند طرفها، بحيث بدا كلٌّ منها مثل شفرة مطواة بالية. كان المقبض غير منتظم وربما أكثر خشونة من بقية الأجزاء. كان السلاح مصنوعًا من حديدٍ شديد الرداءة؛ وهذا لأنني ثنيته بدفعه في إطار النافذة، دون استخدام أي شكل من أشكال القوة، وهو ما أثار اشمئزازًا شديدًا لدى الشرطي، الذي أتذكر جيدًا أنه أصدر صوتًا مُتعجبًا.

والآن، ماذا الذي جنَيته من زيارتي للشرطي؟ هذه السلسلة من الافتراضات:

أن المتوفى وُضع في المكان الذي عُثر عليه فيه بين الساعة الثالثة والخامسة والنصف من صباح يوم الثلاثاء، وأنه لم يُقتَل جرَّاء رحلة صيد غير قانوني، وأنه كان قد زار امرأةً شابَّةً اسمها فريدريكا قبل موته بساعاتٍ قليلة، وأنه قد حصل منها على منديل وربما قناع أيضًا.

كانت الإشكالية الوحيدة هي المفتاح، والذي عُثر عليه، بالمناسبة، في جيب ساعة صغير في المعطف عند الخصر.

لا أحتاج إلى قول إنني طرحت الكثير من الأسئلة بينما كنت أتناول الشاي في النُّزل الذي كنت أقيم فيه، وسمعت الناس يشيرون إلى سيدةٍ اسمها السيدة جرين بشكلٍ مُتكرر، فتوقَّعت أنها كانت سيدةً فضولية، وحصلت على عنوانها بصفتها سيدةً لطيفة تؤجر الغُرَف للناس، ويمكنني أن أضيف أنني في تلك الليلة نِمت في أفضل غرفة من الغُرف التي تؤجِّرها هذه السيدة اللطيفة.

كانت أكثر مُتحدثة يصعب السيطرة عليها واجهتها على الإطلاق، ولم تكن تخلو من الحدة. في الواقع، لو كانت حذرةً أكثر مما كانت عليه، أو دعوني أقول، لو كانت تتمتع بحذرٍ عادي، كانت ستصلح أن تصير ضابطة شرطة عادية جيدة، وربما كنت سأساعدها لو كانت تمتلك مثل هذه الصفة، ولكنها لم تكن سوى فكرة لا يمكن التفكير فيها بجدية ولو للحظة.

لقد كانت السيدة جرين هذه سيدةً رائعة.

كان كل ما عليك فعله هو طرح سؤال حول أي نقطة، وستجدها تترك الموضوع الذي كانت منهمكة بالحديث عنه، وتندفع في مسار حديث جديد تمامًا.

كانت نهمة للحديث عن جريمة القتل؛ وهذا لأن استنتاجها المفروغ منه كان أن جريمة قتل قد ارتُكبت.

باختصار، جاءت جميع المعلومات المقدَّمة حتى هذه النقطة، والتي لم تنتج عن سعيي الخاص، ولم أستقِها من نسخة من جريدة المقاطعة (وكثير من المعلومات الأخرى التالية) كلها من المصدر المتدفِّق بالمعلومات نفسه؛ السيدة جرين.

كان كل ما عليَّ فعله هو طرح سؤال آخر عندما أظن أننا قد استنفدنا السؤال السابق، وعلى الفور كانت تُسهب في الحديث مرةً أخرى، وهكذا واصلنا على هذا المنوال من الساعة السابعة إلى الحادية عشرة. كانت الساعة قد تجاوزت الثامنة والنصف، واقتربت من التاسعة، عندما رُفعت أدوات الشاي التي كان قد مرَّ عليها وقتٌ طويل وهي باردة ومتَّسِخة.

سألتها في سياق ما بدا لي أنه تسليةٌ ثمينة للسيدة جرين: «وما الذي حل بالسيدة كوينيون؟» وطوال هذا الوقت لم تسألني عن الشأن الذي أتيت من أجله إلى هذه الأنحاء (على الرغم من أنني كنت متأكدة تمامًا من أن شخصًا شديد الفضول كهذه السيدة كان يتُوق لمعرفة كل شيء عني)؛ لأن أي استفسار كان سيتطلب ردًّا في المقابل، وهذا ما لم تكن تستطيع تحمُّله وهي ترى أنني على استعداد للإنصات إليها؛ لذا وقع اختيارها على أهون الشَّرَّين.

«وما الذي حل بالفتاة؟»

«أي فتاة؟»

«دينا.»

«دينا يارتون؟»

«أجل، أعتقد أن هذا كان اسمها.»

«ليُباركك الرب! إن حكيت لكِ عن دينا يارتون فسيُشبِه ذلك سرد كتاب مبارَك طويل. لقد غادرت بعد يومين، وعندما لم تجد لها سريرًا في نُزُل «لامب أند فلاج» وعلِمَت أن لديَّ سريرًا شاغرًا، أتت إلى هنا. دائمًا ما يرسل لي الناس في «لامب أند فلاج» نزلاءهم الذين يبحثون عن مكان للمَبيت، فليُباركهم الرب ويُباركك! وهكذا عرفت كل شيء عن الأمر وعن الصندوق الكبير، ليُبارككِ الرب!»

[الصندوق! كان هذا بكل تأكيد ما أردت أن تأتي السيدة جرين على ذكره! سيتذكر القارئ أنني ألقيت بعض الضوء على إشارة الفتاة المتكرِّرة إلى الصندوق.]

«ليُبارككِ الرب! إن الصندوق الكبير هو ما أثار الخلاف؛ لأن السيدة كوينيون قالت إنها كانت حمقاء لخوفها من صندوقٍ كبير، لكن دينا كانت خائفة منه فعلًا، من المحتمل أن تكون الآن في المقاطعة المجاورة، في «ليتل بوكلينجتون»، حيث تعيش والدتها التي تصنع الدانتيل، ووالدها المُزارع، وحيث وُلدت دينا، في الأول من أبريل عام ١٨٣٥؛ إذ إنها تبلغ من العمر عشرين عامًا الآن. ما الذي تفعلينه؟ ليُبارككِ الرب!»

[كنت أدوِّن اسم «ليتل بوكلينجتون».]

لن أقدِّم هنا أي ملاحظات حرفية أخرى لتعليقات السيدة جرين، وإنما سأستخدمها بطريقتي الخاصة حسب الاقتضاء، وكما هو الحال في الواقع، فقد دوَّنت تعليقاتها فعلًا.

قرَّرت أن أرى الفتاة في الحال، وهذا بعدما كنتُ قد حظيت بليلةٍ من الراحة. ومن ثَم، في صباح اليوم التالي، بعدما تأكَّدت من أن صندوقي وحقيبتي مغلقان بعناية، أعددتُ وجبة إفطار سريعة، وخرجت على الفور. عند وصولي إلى المحطة كانت السيدة جرين هناك. من الواضح أنها سبقتني بعبور حقول «جووس جرين»، كما أخبرتني في الواقع.

قالت إنها اعتقدت أنه لا بد أن «تلك» قد سقطت مني، وإنها قد أتت لتتأكد.

كانت «تلك» محفظةً قديمة جدًّا لدرجة أنها كانت تُثير الفضول.

قالت: «ليُبارككِ الرب! هل هذه محفظتكِ؟ غريب، لا يوجد قطارات؟ ولكن، ليُبارككِ الرب! سيكون عليك الانتظار ساعةً كاملة لاستقلال القطار التالي. لم يمرَّ أي قطار لأي مكان منذ ساعة.»

أجبت: «سأمشي إذن.»

سألت السيدة جرين قائلةً: «هل يمكنني مرافقتك وتسليتك؟»

أجبت: «لا، لديَّ بعض الشئون التي عليَّ أن أُنجزها.»

كانت أمامي ساعةٌ إضافية، وعندما تذكَّرت أنني كنت قد رأيت الأشياء التي بحوزة هيجينز في ضوء المساء الضعيف، فكَّرت في أن الأمر كان يستحق زيارةً أخرى، وأن أُجري فحصًا ثانيًا.

وربما كان من الجيد أنني فعلت ذلك.

لا يعني ذلك أنني اكتشفت شيئًا مهمًّا آخر، ولكن النذر اليسير من الابتكار الذي أتقنته ساعد في إثبات اعتقادي بأن المتوفى قد زار امرأةً شابَّة، ربما كانت سيدة، قبل وقت قصير جدًّا من وفاته.

لم يُسَر هيجينز، الذي كانت صنعته إصلاح السروج، على الإطلاق عندما رآني مرةً أخرى، وكنت أخشى حقًّا أن أضطرَّ إلى أن أصرِّح بمهنتي لأحصل على ما أريده، ثم أُرهِبه بكياسة كي يُبقي الأمر سرًّا، لكن لحُسْن الحظ تغلَّب اعتقاده بأنني امرأةٌ مجنونة إلى حدٍّ ما على فظاظته، وهكذا بمساعدة بضعة شلنات أخرى فحصت مجددًا الملابس التي عُثر على الشاب البائس وهو يرتديها.

والآن، رأيت في ضوء شمس صباح الربيع الحارقة ما فاتني في المساء السابق. لم يكن سوى قطعة قرمزية لامعة من جديلةٍ حريرية، كتلك التي تستخدمها السيدات في تنفيذ دراسات التطريز.

كان هذا الجزء من الجديلة ملفوفًا حول أحد الأزرار عند الصدر، ثم رُبط في أعلاه على شكل عقدة فراشية أنيقة.

فكَّرت في أنها سيدةٌ شابَّة، وأنها كانت تُريح رأسها على صدره عندما ربطت هذا الجزء من الجديلة في الزر. إنها بريئة كما أعتقد، وإلا ما تصرَّفت مثل هذا التصرف الطفولي الساذج.

أزاح هيجينز ملابس الشاب الميت جانبًا باستياء وسألني:

«انظري أيتها السيدة، هل تظنين أنكِ ستحتاجين إليها مرةً أخرى؟»

«لا.»

«حسنًا، إن احتجتِ إليها فلن تحصلي عليها.»

قلت: «أوه، حسنًا!» ومضيتُ عائدةً إلى المحطة.

بالطبع كانت السيدة جرين هناك في حالة ترقُّب، على الرغم من أنني كنت قد رأيت في المنزل صباحًا ما يدل على أن اليوم كان مخصصًا لما سمعتُ اللندنيين يصفونه ساخرين بأنه «الحفلة المائية»، بعبارةٍ أخري، يوم الغسيل.

ولكن السيدة جرين تركت مهمة الغسيل هذه.

«ليُبارككِ الرب، أنا في انتظار صديق عزيز!»

«أوه، بالطبع يا سيدة جرين.»

«هل أشتري لكِ تذكرةً يا عزيزتي؟»

قلت: «أجل، لو سمحتِ. تذكرة ﻟ «ستوكلي».»

قالت السيدة جرين: «على بعد أربعة أميال. لديَّ صديقة في ستوكلي، يا تُرى هل صديقتك وصديقتي هما نفس الشخص! ما اسم صديقتك يا عزيزتي؟»

«السيدة بلوتشلي.»

«ماذا! هل هي من تعيش بالقرب من المضخة؟»

«أجل.»

«أوه، إنني لا أعرفها.»

بدا لي أن السيدة جرين قد اندهشت؛ لم أعرف مطلقًا سبب ذلك؛ إذ بما أنني لم أعرف مطلقًا أحدًا يُدعى السيدة بلوتشلي، وأنني ذكرت هذا الاسم بالصدفة، وأنني لم أزُر ستوكلي أبدًا، فلم تستفد السيدة جرين أي شيء من الاكتشاف.

«وإذا لم أعُد إلى المنزل بحلول التاسعة فلا تنتظريني يا سيدة جرين.»

«أوه! هل ستبيتين الليلة عندها؟»

«من المرجَّح جدًّا.»

«أوه!»

انحنت لي السيدة جرين احترامًا؛ إذ تكوَّن لديها انطباع بأن السيدة بلوتشلي كانت سيدةً ذات شأن، وانعكس هذا على سلوكها تجاهي.

ليس لديَّ أدنى شك في أن المعلومات التي أشاعتها السيدة جرين على الفور قد ساعدت على تسريب الغرض الفعلي الذي جعلني آتي إلى بلدة ترام.

عندما وصل القطار إلى ستوكلي اشتريتُ تذكرةً أخرى إلى «ليتل بوكلينجتون»، ووصلت إلى تلك البلدة في حوالَي الساعة الثانية بعد الظهر. لم تكن تبعد عن ترام أكثر من ستين ميلًا.

كان والد دينا يارتون هذه واحدًا من أولئك المُزارعين الصغار الذين يمتلكون عددًا قليلًا من الهكتارات، والذين يقل عددهم تدريجيًّا بلا شك في جميع أنحاء البلاد.

ربما يمكنني القول إن الفتاة المسكينة دينا أُصيبت بثلاث نوبات على الأقل خلال الاستجواب الذي أخضعتُها له، وهنا (وتكريمًا للطبيعة البشرية الريفية البسيطة) دعوني أسجِّل أنه في الواقع كان عليَّ استخدام آخر ما في جعبتي، وأن أُفصِح عن مهنتي كضابطة شرطة، بإبراز تصريحي في حضور شرطي بلدة «ليتل بوكلينجتون»، الذي أُقحِمَ في المسألة، قبل أن أتمكَّن من التغلب على اعتراضات والد الفتاة. لقد أكَّد، ولأسبابٍ مسوَّغة جدًّا، أن هذه المسألة «اللعينة» قد أجهدت ابنته تمامًا، وأن اللعنات ستحلُّ عليه إذا تسبَّبتُ في موتها.

كما قلت، أُصيبت الفتاة التعيسة بثلاث نوبات، وليس لديَّ أدنى شك في أن الأسرة قد تنفَّست الصعداء وكانت سعيدة للغاية عندما غادرت منزلهم.

كان على الشابَّة البائسة أن تبذل جهدًا جهيدًا قبل أن تجد إجابةً واحدة.

وهنا لا أحتاج إلى تكرار شهادتها الخاصة بتلك النقطة التي لم تتمكن من إكمالها عندما مثَلَت أمام الطبيب الشرعي وهيئة المحلفين، ولكنني سأبدأ من تلك النقطة.

سألتها بنبرةٍ هادئة: «دينا»، وأعتقد أن الضجة التي كانت والدتها تُثيرها كانت تتسبَّب في إصابة الفتاة بالنوبات بقدر التوتر الذي كانت تشعر به الفتاة نفسها، «دينا، أخبريني عن كل ما يخص ذلك الصندوق الكبير.»

قالت الأم: «اللعنة على ذلك الصندوق».

وهنا أصيبت الفتاة التعيسة بنوبتها الثانية.

قالت المرأة العجوز: «ها نحن ذا، لقد قتلَت دينا الآن.» ولا بد أن أعترف بأن دينا كانت مُصابة بتشنجٍ بشع، وبدت بالفعل مُرعبة للغاية. لقد قضت هذه المخلوقة المسكينة ساعةً كاملة تُحارب النوبة، وعندما عادت إلى وعيها وفتحت عينيها أغلقتهما ثانيةً عندما رأتني.

ومع ذلك، كان لا بد أن أؤدي واجبي، وهنا يكمن عذري لتعذيبي إياها.

«ماذا؟ أوه، أوه! ماذا قلت؟»

«ماذا عن الصندوق الكبير؟»

ردَّت بلهجةٍ ريفية: «لا أعرف.»

«أين كان؟»

«في القاعة.»

«ومن أين أتى؟»

«لا أعرف.»

«منذ متى كان هناك؟»

«منذ اليوم السابق.»

«من أحضره؟»

«لا أعرف.»

«هل كان رجلًا؟»

«لا.»

«من إذن؟»

«رجلان.»

«كيف أتيا؟»

«أتيا في عربةٍ ضخمة.»

«وهل جلبا الصندوق في العربة؟!»

قالت بلهجةٍ ريفية كنت قد فهمتها بالفعل: «أجل.»

«وتركا الصندوق في القاعة؟»

«أجل.»

«ثم ماذا حدث؟»

قالت بلهجةٍ فهمتها بالكاد: «ماذا؟»

«ماذا قالا؟»

«إن هذا الصندوق كان للمالك.»

«هل حمله كلاهما؟»

«أجل.»

«كيف؟»

«بحرصٍ.» [هنا بدأت تظهر عليها أعراض نوبة تشنج أخرى.]

«ما الذي حدث للصندوق الكبير؟»

«لا أعرف.»

«هل أتيا لأجله ثانيةً؟»

«لا أعرف.»

«هل هو موجودٌ هناك الآن؟»

«لا.»

«إذن هل أُرسلَ بعيدًا مرةً أخرى؟»

«أجل.»

«هل رأيتِه وهو يؤخَذ؟»

«لا.»

«إذن كيف تعلمين أنه ليس موجودًا هناك الآن؟»

«لا أعرف.»

«ولكنك تقولين إنه ليس بالقاعة، فكيف تعلمين ذلك؟»

«لقد أخبرتني السيدة كوانيان (كوينيون) أن رجالًا أتَوا وأخذوه.»

«متى كان ذلك؟»

«بعدما خلدتُ إلى الفراش.»

«هل كان موجودًا في الصباح التالي؟»

«ماذا؟»

«هل كان موجودًا في الصباح التالي عندما وجدوا الشاب ميتًا أمام الباب؟»

وهنا أُصيبت «ديني»، كما تُسميها والدتها، بالنوبة الثالثة، واضطررت إلى تركها في خِضم المراحل الأولى من نوبة التشنج؛ لأن والدها، الذي كان رجلًا صريحًا، طلب مني مغادرة منزله، وأنه لا يأبه إن كنتُ شرطية أم لا، وأنني إن لم أغادر فسيدفع بي إلى الخارج.

في ظل هذه الظروف، ارتأيتُ أنه ربما كان من الحكمة أن أرحل؛ ومن ثَم غادرت.

مكثت في ليتل بوكلينجتون في تلك الليلة على أمل اكتشاف المزيد من التفاصيل التي ربما تكون الفتاة قد باحت بها لرفيقاتها، لكن أملي هذا خاب بشدة. أولًا: لم يكن لدينا رفيقات. وثانيًا: كانت كل محاولات تشجيع الناس للكلام عن القضية تبوء بالفشل التام؛ لأن القضية كانت قد نُشرت في جريدة المقاطعة التي كانت تحظى بالانتشار في ليتل بوكلينجتون.

عند عودتي لترام، استقبلتني السيدة جرين بحفاوةٍ كبيرة؛ بالتأكيد لأنني، حسب ظنها، زُرتُ السيدة بلوتشلي، ولاحظتُ أن موقد قاعة الاستقبال كان مزخرفًا بزخرفةٍ جديدةٍ مصنوعة من ورقٍ ذي طابع جذَّاب.

شكرت السيدة جرين، وردًّا على استفساراتها، كنت سعيدة بقول إن السيدة بلوتشلي كانت على ما يُرام، باستثناء نزلة برد خفيفة. أجل، لقد قضيت الليلة هناك. ما الذي تناولته على العشاء عند السيدة بلوتشلي؟ حسنًا، لقد نسيت حقًّا. فقالت السيدة جرين: «يا إلهي، يا له من أمرٍ مؤسف!»

بعد رؤية دينا وعودتي بالقطار (وفي الواقع يمكنني دائمًا التفكير جيدًا أثناء السفر)، قلَّبتُ في رأسي كل المعلومات التي كنت قد استخرجتها بشقِّ الأنفُس من دينا يارتون فيما يخص الصندوق الكبير.

هل كان هذا الصندوق مرتبطًا بأي شكل من الأشكال بالوفاة أم لا؟

لقد كان كبيرًا؛ فقد حمله رجلان. وبحسب معلومات دينا فقد أُخذ من القاعة مرةً أخرى.

في جميع الأحوال، لا بد أن أعرف كُنْه هذا الصندوق.

كانت القضية برمَّتها لا تزال حديثة للغاية، فلم يكن قد مر على حدوثها أكثر من أسبوعين، حتى إنني كنت لا أزال متأكدة من أن جميع التفاصيل المتعلقة بذلك التاريخ الملحوظ ستبقى عالقة في الأذهان.

دفعت بالسيدة جرين للعمل؛ إذ لا يمكن لأي شخص أن يخدم هدفي أفضل منها.

«سيدة جرين، هل يمكنك اكتشاف ما إذا كانت عربة نقل غريبة تحتوي على صندوق ضخم قد شُوهدت في ترام يوم الاثنين، وقبل يوم من العثور على جثة السيد بيتلي الشاب؟»

رأيت السعادة ترتسم على وجه السيدة جرين. وبعد أن دفعت بها للعمل أصلحتُ هندامي على أفضل نحو، ومضيتُ إلى قاعة منزل آل بيتلي.

فتحت الخادمة الباب (ببطءٍ مُريب)، وأغلقته مرةً أخرى قبل أن تأخذ رسالتي وبطاقة هويتي إلى السيدة كوينيون. كانت الرسالة تتألف من عبارة تقول إنني جئت أسأل عن إحدى الخادمات.

مرَّت لحظاتٌ قليلة، ثم أدخلتني الخادمة وقدَّمتني إلى مدبرة المنزل.

وجدتها امرأةً هادئة المظهر، جميلة، وسمينة، ويرتسم على قسَمات وجهها الكثير من التصميم الهادئ. لم تكن قبيحة على الإطلاق.

كانت شديدة الهدوء.

جرت بيننا المحادثة الآتية. وسيرى القارئ أنني لم أُشِر ولو من بعيد إلى الهدف الحقيقي من زيارتي، ألا وهو تنفيذ استجواب يتعلق بالطريقة التي لقي بها السيد بيتلي الشاب حتفه. وإذا اشتكى القارئ من وجود الكثير من الزيف فيما سأقوله، فإنني أقول إنه بما أن فعل الشر هو نوع من الكذب الموجَّه إلى المجتمع، فللتغلب عليه لا بد أن يُواجهه المجتمع، من خلال موظفيه المَنوطين بذلك، بعملٍ كاذبٍ مُماثل.

إليكم محادثتنا:

«أنتِ السيدة كوينيون، أليس كذلك؟»

«بلى، كما يُطلَق عليَّ عادةً، ولكن لا يهم. أترغبين في رؤيتي؟»

«أجل؛ لقد أتيت بخصوص خادمة.»

«حقًّا؟ مَن؟»

«كنت أمرُّ عبر ترام، حيث سأبقى بعض الأيام، في طريقي من المدينة إلى يورك، واعتقدت أنه سيكون من الحكمة أن أستفسر بنفسي، وهو ما أجد أنه أفضل خطة فيما يتعلق بجميع الشئون المتعلقة بخدمي.»

«خطة ممتازة، ولكن بما أنك أتيتِ من المدينة، فلمَ لم تستعيني بمدبرة منزل من المدينة، حيث لا شك لديَّ في أنك تأخذين الشابَّة من منزل المدينة؟»

«هنا تكمن صعوبة الأمر. سآخذ الشابة، إذا كانت شخصيتها مناسبة، بدافع من الإحسان نوعًا ما. لم يسبق لها الذهاب إلى المدينة من قبل، وهنا يكمن الشك، ولكنك إن أعطيتني أي أمل بالعثور على الشابة …»

«ما اسمها؟»

«دينا … دينا … اسمحي لي بالرجوع إلى دفتر جيبي للتأكد.»

قالت: «لا داعي لذلك.» وأظن أنها بدت شاحبةً، ولكن ربما كان شحوبها، كما اعتقدت في ذلك الوقت، راجعًا إلى حالة الحداد العميق التي كانت تمرُّ بها، «تقصدين دينا يارتون.»

«يارتون، أجل، هذا هو الاسم. هل تعتقدين أنها مناسبة؟»

«هذا يعتمد كثيرًا على ما هي مطلوبة لأجله.»

«مساعدة مربِّية أطفال.»

«لأسرتك؟»

«أوه، لا يا عزيزتي، لأختي.»

«في المدينة؟»

[سألت هذا السؤال بهدوءٍ شديد.]

«لا، خارج البلاد.»

«خارج البلاد؟» ولاحظت أنها قالت العبارة بقوةٍ أكبر بكثير من هدوئها السابق، ومع ذلك فقد كانت لا تزال واهنة.

أجبت قائلةً: «أجل، عائلة أختي على وشك مغادرة إنجلترا إلى إيطاليا، حيث سيبقون هناك لسنوات. هل تعتقدين أن هذه الفتاة مناسبة؟»

«حسنًا، أجل. صحيحٌ أنها ليست شديدة الذكاء، لكنها نظيفة للغاية وأمينة، ومُولَعة بالأطفال بشدة.»

خطر ببالي حينها أن دراية مدبرة منزل آل بيتلي، التي ليس لديها أطفال، فيما يتعلق بحب دينا للأطفال، لا بد أنها كانت محدودة للغاية.

أردفت السيدة كوينيون قائلةً: «أكثر ما أحببته في دينا هو صراحتها وجدارتها بالثقة. لا يمكن أن يوجد أدنى شك في رقَّتها مع الأطفال.»

«أتسمحين لي أن أسألك لمَ استغنيتِ عنها؟»

«لقد تركتني بمحض إرادتها. لقد مررنا هنا منذ أسبوعين أو ثلاثة بظروفٍ مُحزِنة جدًّا، وهو ما أثَّر فيها كثيرًا. رغِبَت في مغادرة المكان، وبالفعل كنت سعيدةً أنها عزمت على الرحيل.»

«هل تتمتع بصحةٍ جيدة؟»

«تتمتع بصحةٍ مقبولة جدًّا.»

لم تذكر أي شيء عن النوبات.

خطر ببالي أن السيدة كوينيون استساغت فكرة سفر دينا يارتون خارج البلاد.

«أعتقد أنني سأرشِّحها لأختي. لقد أخبرتني أنه لن يكون لديها أي اعتراض على السفر إلى الخارج.»

«أوه! هل رأيتِها؟»

«أجل، رأيتها أول من أمس وقبل مغادرتي إلى المدينة؛ ومن ثَم أتيت إلى هنا. سأرشِّح الفتاة، أتمنى لكِ صباحًا سعيدًا.»

«صباحك سعيد يا سيدتي، ولكن قبل أن تذهبي، هل تسمحين لي أن أسألكِ بما أنكِ من لندن، إذا كان بإمكانك أن ترشِّحي لي خادمة بالمدينة، أو شابَّة من مكانٍ بعيد عامةً. عندما تُغادر الأسرة لا أحتاج إلا إلى خادمةٍ واحدة هنا، والآن لا يمكنني الحصول على هذه الخادمة بعدما أصبحت سمعة المنزل علكةً يلوكها مروِّجو الفضائح بسبب الفاجعة التي سبق أن أشرتُ إليها. إن الشابَّة التي معي لا تُطاق؛ إنها لم تُمضِ هنا سوى أربعة أيام فقط، وأنا متأكدة تمامًا من أنها يجب ألا تبقى أكثر من ذلك.»

«حسنًا، أظن أنه يمكنني أن أوصي لكِ بشابَّةٍ قوية ومستعدة لإرضاء أرباب عملها، وهي لم تترك منزل شقيقتي إلا بسبب مسألة السفر هذه. هل ترغبين في أن أكتب إلى مدبرة منزل أختي وأرى ما يمكن فعله بهذا الخصوص؟»

أجابت السيدة كوينيون قائلةً: «سأكون ممتنَّة لكِ بشدة، ولكن أين يمكنني إرسال خطاب لكِ في حال اضطررت لمراسلتكِ؟»

«أوه! سأبقى في ترام أسبوعًا كاملًا. لقد تلقَّيت برقيةً تجعل رحلتي إلى الشمال بلا داعي، وبما أنني التقيت هنا في ترام بصديقة لإحدى صديقاتي المتواضعات، فأنا لست في عجلةٍ من أمري.»

«حقًّا! هل يمكنني أن أسأل من هي؟»

«السيدة جرين العجوز، إنها تعيش عند ناصية السوق، وصديقتها هي السيدة بلوتشلي من ستوكلي.»

«أوه، أشكرك، ولكنني لا أعرف أيًّا منهما.»

«قد أراكِ مرةً أخرى.»

«سأكون ممتنَّة وفي غاية السعادة.»

«صباحكِ سعيد.»

ردَّت التحية، وانتهت الزيارة.

وعند عودتي إلى منزل السيدة جرين العجوز، قلت لهذه المرأة النمَّامة بأكثر براءة ممكنة، كي أجعل فعلي وكلامي متَّسِقين قدر الإمكان؛ وهذا لأنك إن لم تُحِك كذبتك ببراعة في بلدةٍ ريفيةٍ صغيرة، فسينكشف أمرك في لمح البصر:

«حسنًا يا سيدة جرين، لقد اكتشفت أنك صديقة السيدة بلوتشلي من ستوكلي!»

قالت، وقد أخذتها المفاجأة: «أجل، إنني صديقتها، ليُبارككِ الرب.»

«وأنا سعيدة بسماع ذلك؛ لأنه بما أنك صديقتها فأنتِ صديقتي يا سيدة جرين.»

وهنا أمسكتُ بيدها.

لا عجب في أنها بعد انتهاء مقابلتنا خرجت وهي ترتدي أفضل غطاء رأس لديها، مع أنه كان يوم الأربعاء فحسب. كنت متأكدة تمامًا أن ذلك كان بداعي الإجلال للسيدة بلوتشلي ولصديقتها، التي كانت قد ادَّعت أنها صديقتها، وما قالته عن أنها كانت ذاهبة لتناول الشاي معها.

لا بد أن أقول القليل عن مقابلتي مع السيدة جرين باستخدام تعبيراتها الخاصة.

«حسنًا يا سيدة جرين، هل سمعتِ أي شيء عن عربةٍ غير مُعتادة شُوهدت في ترام في اليوم السابق للعثور على السيد بيتلي الشاب ميتًا؟»

قالت السيدة جرين: «أجل يا سيدتي، ولكن، ليُبارككِ الرب، ما سبب رغبتك في معرفة ذلك؟»

«كل ما في الأمر أنني أريد أن أعرف إن كانت عربة شقيق السيدة بلوتشلي أم لا.»

«يقولون إنها عربته. لقد استفسرتُ عن تلك العربة في جميع أنحاء القرية. ذهبت إلى جونز الخبَّاز، وويلموت، الذي تزوَّج من ماري سبرينترز، وهو ما كان مقبولًا، وهو والبقَّال لم يعرفا أي شيء عنها، كما ذهبت إلى الجزَّار بالشارع الأمامي، والجزَّار بالشارع الخلفي، وإلى السيدة ماكناب التي تعمل في عصر الملابس، ولكنها لا تعرف شيئًا أيضًا، ولا حتى توم هات بائع الحليب، ولكن يا سيدتي، عندما كنتُ أتحدَّث مع صديق أحد أصدقائي الذي لم أتحدَّث معه من قبل، كان تاجر القماش هو من أخبرني كل شيء عن العربة.»

«ماذا؟» هكذا قلت بشغفٍ شديد لا يليق بمحققة تعرف عملها جيدًا.

«كان وايت تاجر القماش يتجوَّل في نزهة، وكان ينظر حوله ثم استدار باتجاه مدخل منزل بيتلي، وعندئذٍ رأى عربةً تقترب، وخمَّن أنها تتَّجه إلى متجره، ولكن، ليُبارككِ الرب، لم تكن تتَّجه إلى متجره على الإطلاق!»

«إلى أين كانت ذاهبة؟»

«حسنًا، لقد اتجهت العربة نحو منزل آل بيتلي مباشرةً، ولا بد أن كان هذا هو المكان الذي اتَّجهت إليه، وهذا هو كل شيء.»

ثم اتجهت السيدة جرين إلى عتبة الباب وهي تتحدث كالآلة دون توقُّف، وأظن أنها ارتدت غطاء رأسها الجديد على الفور؛ لأنها ارتدته قبل أن تخرج، وعندما أحضرت لي وجبتي من اللحم والبطاطس.

في هذه الأثناء، كنت أفكر في أمر الصندوق، إذا جاز لي التخيل، وأجمع الخيوط بعضها مع بعض.

كان واضحًا جدًّا لي أن صندوقًا قد نُقِل إلى القاعة؛ لأن شهادة الفتاة دينا والأدلة التي جمعتها السيدة جرين اجتمعت على دعم فرضية بذلك المعنى.

قالت الفتاة إن صندوقًا كبيرًا (لا بد أنه كان كبيرًا؛ نظرًا لأنه احتاج إلى رجلين لحمله) قد أُحضرَ إلى قاعة المنزل في عربةٍ كبيرة في اليوم السابق للعثور على الجثة.

ومن المحتمل أن تاجر القماش قد رأى في ذلك اليوم عربةً كبيرةً تنعطف من الطريق الرئيس في اتجاه منزل بيتلي.

هل احتوت تلك العربة على الصندوق الذي أشارت إليه الفتاة دينا؟

إن كان الأمر كذلك، فهل كان له أي علاقة بموت الشاب بيتلي؟

وإن كان كذلك، فأين كان؟

وإن كان مخبَّأً، فمن الذي خبَّأه؟

كانت هذه هي الأسئلة التي اجتاحت عقلي، والتي سيرى القارئ أنها كانت مهمة بما فيه الكفاية ومُحرِجة بالقدر نفسه.

كان السؤال الأول الذي لا بد من إجابته هو:

هل كان للصندوق الكبير أي علاقة بهذا الأمر؟

أولًا: كتبت رسالتي إلى المقر الشُّرطي الرئيس، وبدأت السعي لزرع إحدى موظفاتنا كخادمة في منزل بيتلي، ثم سارعت لزيارة السيد وايت، تاجر الملابس.

كان ممن يُطلِق عليهم الناس «رجلًا مرحًا»، كان يشرب قدرًا كبيرًا من مشروب الجين، ويقبل العالم كما هو. كان رجلًا يُقابله العالم بقدرٍ كبير من الاحتفاء، ولكنه كان يجد العالم مكانًا يروي فيه العطشى للشراب المسكر ظمأهم؛ لذا كان جزء من البدلة التي يرتديها مخصصًا لوضع الشراب.

كان رجلًا يهرع إليه الناس وينحنون له بثقة.

حدَّثته قائلةً: «سيد وايت، أريد مظلَّة، وكذا أرغب في التحدث معك قليلًا.»

فقال: «بكل سرور يا سيدتي.» وكنت سأراهن، لأنه على الرغم من أنني امرأةٌ مُولَعة بالقليل من المراهنة بين الحين والآخر، كنت سأراهن أنه سيقول كلمة «سيدتي» قبل جملته الرابعة.

«ها هي المظلات التي لدينا يا سيدتي.»

«أشكرك. هل تتذكر رؤية عربة غريبة في ذلك اليوم، يوم الاثنين، الذي يسبق العثور على السيد بيتلي … بيتلي … ماذا كان اسمه؟ ميتًا خارج المنزل؟ إنني أذكر تلك الواقعة المروعة لأذكِّرك باليوم.»

«حسنًا، أجل أتذكَّر يا سيدتي. لقد سمعت عن هذا من ماري جرين.»

«أيَّ نوع من العربات كانت؟»

«حسنًا يا سيدتي، لقد كانت عربة صاحب عمل فاخرة مخصَّصة لنقل بضائع البيع بالجملة.»

«أوه، كالتي تُستخدم لنقل عينات الأقمشة من تاجر إلى آخر، وأحيانًا لنقل السلع المعروضة للبيع، أليس كذلك؟»

«أجل، هكذا كانت.»

[قال كلمة «سيدتي» قبل جملته الرابعة.]

«هل كانت عربةً كبيرة للغاية بحيث يمكن لرجل أن يقف فيها مُنتصبًا تقريبًا؟»

«رجل واحد! أوه يا عزيزتي!» كان من الرجال المعتادين على قول «يا عزيزتي» باستمرار، ولكنها كانت إساءة لهذه الكلمة. «بل نصف دزينة من الرجال، ومليئة بصناديق من العينات التي يمكنك أن تُخفي في كل واحد منها … ما الأمر؟ هه؟ لماذا تسألين عن العربة؟ هه؟»

«أوه، أرجوك لا تسألني يا وايت.» هكذا قلت، وأنا أعلم أن الطريق لكسب ثقة مثل هذا الرجل هو بإظهار الأُلفة والحميمية. «لا تسألني عن هذا، ولكن أخبرني، كم كان عدد الرجال الذين كانوا يستقلُّون العربة؟»

«اثنين يا عزيزتي.»

«ماذا كان شكلهما؟»

«حسنًا، لم ألحظ ذلك.»

«هل تعرفهما، أو تعرف أيًّا منهما؟»

قال وايت: «ها! أرى ما ترمين إليه.» وأخشى أنني سمحت له أن يستنتج بأنه قد اكتشف سرًّا شخصيًّا. «لا، لا أعرف أيًّا منهما. إنهما غريبان عليَّ. بالطبع ظننت أنهما أتيا بعينات إلى متجري؛ لأنني تاجر القماش الوحيد بالقرية، ولكنهما لم يأتيا لي.»

«لقد ذهبا إلى منزل آل بيتلي كما أعتقد، أليس كذلك؟»

«أجل، لقد ظننت أنهما ذهبا في الاتجاه الخاطئ، وصِحت خلفهما، ولكن دون جدوى. أتمنى أن أستطيع وصفهما لكِ، يا عزيزتي، ولكن ليس بوسعي ذلك. ومع ذلك، أعتقد أنهما بديا سيدين محترمين. هل تعتقدين أن ذلك الوصف كافٍ؟»

«هل دخلا بعد ذلك إلى المدينة يا سيد وايت؟»

«أجل يا عزيزتي لقد فعلا، وراهنا في «الحصان الأبيض»، وبعد ذلك دُهشتُ للغاية أنهما لم يسألا عني، ثم … في الواقع يا عزيزتي، إن كنتِ ترغبين في معرفة كل شيء …»

«أوه، لا تُخفِ عني أي شيء، يا وايت.»

«حسنًا، إذن يا عزيزتي، توجَّهت نحوهما وهما يستعدَّان للمغادرة، وسألتهما إن كانا يبحثان عن شخصٍ يُدعى وايت، ثم …»

«أوه، أكمِلْ أرجوك.»

«حسنًا، قال لي أحدهما أن أذهب إلى مكان، لا يمكنني أن أكرِّره أمامكِ، يا عزيزتي؛ لذا بدا لي أنهما لم يكونا يبحثان عن شخصٍ يُدعى وايت.»

«وهل غادرا ترام من نفس الطريق الذي جاءا منه، يا سيد وايت؟»

«لا، لم يفعلا. لقد انطلقا بالعربة نحو الطرف الآخر من المدينة.»

«هل هذا ممكن؟ وأخبِرني يا سيد وايت، لو كانا يرغبان بالعودة إلى منزل آل بيتلي، هل كان بإمكانهما فعل ذلك بأي وسيلة أخرى غير العودة عبر القرية؟»

«لا، لا يمكنهم ذلك دون … دعيني أرى، يا عزيزتي … دون قطع ثلاثين ميلًا حول المروج، ولا بد لي من القول، ولا أقصد أي إساءة بذلك يا عزيزتي، إنهما لم يبدوَا من نوع الرجال المستعد لتكبُّد أي مشقة لا داعي لها، وإلا ما قالا لي أن أذهب إلى حيث طلبا مني في الواقع أن أذهب!»

«صحيح، ولكن ربما عادا وأنت لا تعرف أي شيء عن ذلك يا سيد وايت.»

«الأمر بسيط، يا عزيزتي. اذهبي إلى حارس البوابة واسأليه، فلم يمضِ على الأمر سوى ثلاثة أسابيع، وتوم يتذكر كل عربة تمرُّ على بوابته؛ إذ لا يمرُّ الكثير منها؛ لأن العمل مُصاب بركودٍ شديد. القليل من الشلنات سيجعل توم يتذكرها كلها جيدًا.»

«أوه، شكرًا لك، يا سيد وايت. أعتقد أنني سآخذ المظلَّة الخضراء، كم سعرها؟»

قال تاجر القماش وهو يتَّكئ على الطاولة خافضًا صوته: «انظري يا عزيزتي، إنني أعلم أن المظلَّة ما هي إلا حجة، وعلى الرغم من أن العمل راكد فأنا متأكد من أنني لا أرغب في بيعها لكِ، ما لم تكوني تريدينها بالفعل.» هكذا أضاف، وهو في صراع بين مصلحته كتاجر وأمانته كرجل.

قلت: «أشكرك، سآخذ الخضراء. هل تسمح لي بزيارتك مرةً أخرى؟»

«بكل سرور يا عزيزتي، كما تشائين. كلما زُرتِني أكثر كان أفضل. وانظري، إنكِ لستِ بحاجة إلى شراء المزيد من المظلات أو أي شيء آخر. كل ما تحتاجين إلى فعله هو زيارتي بطريقةٍ ودية، كما تعلمين. إنني أفهم كل شيء.»

شكرته وغادرت المتجر على الفور، وهو ما كنت أتُوق إليه. يؤسفني أن أقول إنني كنت بغيضة بما يكفي، ولم أزُره مرةً أخرى، ولكن من الناحية الأخرى قابلت وايت عدة مرات وفي أوقاتٍ غير مناسبة بالمرة.

وجدت أن ذاكرة توم حارس البوابة فيما يخص العربات يُضرَب بها المثل، وعندما ذهبت إليه تذكَّر العربة قبل أن أتمكَّن من شرح شكلها له.

أما عندما سألته إن كان متأكدًا من ذلك، هزَّ رأسه بالإيجاب، وقد أكَّد حسمه هذا شكوكي بعنف حتى إنني أصبحت واثقة من أنني على صواب.

ما لم يتلقَّ رشوة ليُبقي الأمر سرًّا.

ولكن هذا الشك كان سخيفًا؛ إذ هل يمكن رشوة بلدة بأكملها لتُبقي الأمر سرًّا؟

صرفت النظر عن هذا الشك فورًا. وفي الواقع من المزايا والنواقص الكبيرة لمهنتنا أننا لا بد أن نشكَّ بشدة في كل شيء. إن شعار «كل شخص بريء حتى تثبُت إدانته» هو شعارٌ يتمسك به معظم الناس الذين يحترمون أنفسهم، أما نحن المحققين فعلى العكس من ذلك؛ لأننا إن اعتنقنا هذه الفكرة فلن نجني ما يكفينا لشراء الملح والخبز، ولا حتى الخبز نفسه. يتعين علينا أن نؤمن أن كل شخص فاسد حتى نكتشف صدقه بعدما نكون قد فحصنا كل صنوف الأدلة اللازمة ودقَّقنا النظر فيها. وحتى عندما نفعل ذلك يؤسفني كثيرًا أن أقول إننا لا نكون متأكدين تمامًا من صدقه.

إنني أدرك أن هذه طريقةٌ سوداوية للغاية للنظر إلى المجتمع، ولكن الأناس الأكثر عقلانية في مهنتي يُواسون أنفسهم بمعرفة أن نهجنا ضروري (في ظل الظروف الحالية للمجتمع)؛ ومن ثَم تماشيًا مع القواعد السوداوية لهذا النظام، بغضِّ النظر عن مدى ما قد نشعر به نحو هذه القواعد من اشمئزاز، نحن نقوم بعملٍ جيد بحق لإخوتنا من البشر.

عند عودتي إلى المنزل بعد أن تركت حارس البوابة، الذي تأكَّدت منه أن العربة قد مرَّت ببوابته في الساعة الثامنة والنصف مساءً، قلَّبتُ كل معلوماتي الجديدة في عقلي.

لا بد أن الفتاة دينا قد رأت الصندوق في القاعة وهي ذاهبة للنوم. لنقُل إن هذا كان في التاسعة والنصف. وفي الخامسة والنصف صباحًا، أي وقت إطلاق الإنذار، كان الصندوق قد اختفى.

وهو ما استغرق ثماني ساعات.

غادرت الشاحنة ترام في الثامنة والنصف، وكي تعود إلى المنزل كان عليها أن تقطع ثلاثين ميلًا في الليل عبر أحد المروج (بالرجوع إلى روزنامتي، وجدت أنه لم يكن هناك قمر في تلك الليلة). لنقل إن شاحنةً ثقيلة تُسافر ليلًا لا يمكن أن تقطع أكثر من خمسة أميال في الساعة، وبترك ساعة من الراحة للحصان بعد قطع نصف مسافة الرحلة، نجد أن الأمر من شأنه أن يستغرق سبع ساعات لقطع تلك المسافة.

يقود هذا إلى أن أقرب وقت يمكن أن تصل فيه الشاحنة إلى منزل بيتلي هو في الساعة الثالثة والنصف، بافتراض عدم ظهور أي عوائق.

وهو ما يعني أنه لم يتبقَّ سوى ساعتين فقط قبل اكتشاف الجثة، وفي الواقع بينما كان الفجر يبزغ.

لقد كانت مثل هذه المغامرة غير معقولة حتى عند تخيلها.

أولًا: لماذا تُرِك الصندوق إذا كان سيُستعاد مرةً أخرى؟

ثانيًا: لماذا كان لا بد من استعادته في وقتٍ مبكر للغاية من الصباح مثل الساعة الثالثة والنصف؟

ومع ذلك فقد اختفى في الخامسة والنصف، وقد قالت السيدة كوينيون للفتاة (افترضتُ أن شهادة الفتاة صادقة) إن الصندوق قد أُخذ مرةً أخرى.

من استجلائي لهذه الحقائق، استنتجت؛ أولًا: أن الشاحنة التي أحضرت الصندوق لم تأخذه مرةً ثانية.

ثانيًا: أن السيدة كوينيون، لغرضٍ غير مفسَّر بعد، أرادت للفتاة أن تظن أن الصندوق قد أُخذ.

ثالثًا: أن الصندوق كان لا يزال في المنزل.

رابعًا: أنه بما أن السيدة كوينيون كانت قد ذكرت أن الصندوق اختفى، بينما كان لا يزال في المبنى، فقد كان لديها غرضٌ ما (مهم بالتأكيد) من التصريح بأنه قد أُخذ.

كان الوقت متأخرًا، ولكنني أردت أن أكمل عملي اليومي بقدر ما في وسعي.

كان يتعين عليَّ فعل أمرين.

أولًا: أن أُرسل «الوبر» الذي جمعته من الملابس إلى كيميائي مجهري. وثانيًا: إجراء بعض التحريات في النُّزل الذي كان عاملا العربة قد راهنا فيه، والتحقق من هُويتهما.

لذا، وضعت «الوبر» في صندوق من الصفيح، وأرسلته إلى الشخص الذي يتمتع بقدر كافٍ من الكفاءة لتسيير هذا النوع من التحقيقات لأجلي، وخرجت لأبعث برسالتي، ثم توجَّهت إلى الحانة، التي أعطتني السيدة جرين اسمها على الفور، وسألت عن صاحبة المنزل.

أظهر لي الاهتمام الذي أبدته في لحظةٍ أن ملاحظات السيدة جرين البسيطة وملاحظات السيد وايت الصريحة قد وصلت إلى هذا المكان.

وهنا اسمحوا لي أن أتوقَّف للحظة لأُظهر كيف يمكن للناس أن يخدعوا أنفسهم بشدة. لم أُدلِ بأي اعتراف صريح يربطني شخصيًّا بالشاحنة، ومع ذلك فقد نشأ بالفعل شعورٌ انفعالي للغاية لدى الناس لصالحي فيما يتعلق بتلك العربة.

وقد كنت في غاية السعادة بذلك؛ لأنه زوَّدني بدافع للبقاء في ترام، وهو ما كنت أريده بالضبط.

علاوةً على ذلك، فالحكاية التي أخبرت بها السيدة كوينيون عن بقائي في ترام لأنني وجدت صديقة لصديقي لن تؤذيني إن انتشرت (وهو ما لم يحدث، واستنتجت منه أن السيدة كوينيون لم تكن تثق بخادمة ترام التي كانت تعمل لديها في ذلك الوقت، وأن هذه الأخيرة لم تكن معتادة على استراق السمع)، حيث قد يفترض بي ظاهريًّا أن أخترع كذبةً تُغطي على مُعاناتي المفترضة. إليكم ملخَّصًا للحديث الذي أجريته مع صاحبة النزل.

«أوه! أنا أعلم، إنني سعيدة لرؤيتك. اجلسي أرجوكِ يا عزيزتي. اجلسي على هذا الكرسي، إنه الأسهل. وكيف حالك يا عزيزتي المسكينة؟»

اضطررت أن أجيب قائلةً: «لست في أحسن حال.»

«أوه! بالطبع.»

«جئت لأسأل، هل توقَّف شخصان يقودان عربة — عربة سوداء كبيرة يميزها لونٌ أزرق باهت (حصلت على هذا الوصف من حارس البوابة) — هنا في اليوم السابق لموت السيد — لقد نسيت الاسم — لموت الشاب الصغير؟»

«أجل يا عزيزتي المسكينة، سيدٌ طويل له شاربٌ أحمر اللون، والآخر أقصر وبدون شارب.»

«يا إلهي، هل لاحظت أي شيء غريب في الرجل الطويل القامة؟»

«حسنًا يا عزيزتي المسكينة، لقد لاحظت أنه بين الحين والآخر كانت شفته العليا ترتعش قليلًا، كما يفعل الكلاب وهم نائمون في بعض الأحيان.»

هنا تنهَّدتُ.

ثم تابعتُ قائلةً: «والآخر؟»

«أوه! كل ما بدا غريبًا فيه هو أنه كان ينطلق فجأةً مُدندنًا بأجزاء من ألحان؛ ألحانٍ تُشبه غناء الطيور وليس الغناء المسيحي الإنجليزي المعتاد، لم أستطع فهم كلماته، إن كان ثَمة كلمات.»

قلت لنفسي: «أجزاء من ألحان إيطالية!» وربطت هذا على الفور بدليل الرجل ذي القناع الأجنبي.

إذا كانا يسافران بغرض التجارة، فإن أحدهم كان بالتأكيد غير عادي؛ فالغناء الأوبرالي لا يكون عادةً من بين ميول التجار.

«هل كانا لطيفين؟»

ردَّت صاحبة المنزل بسرعة وبشكلٍ قاطع: «أوه! لقد كانا سيدين محترمين بكل ما تحمله الكلمة من معنًى، وقد قلت لزوجي إنهما ليسا مثل معظم المسافرين بغرض التجارة الذين يتوقَّفون هنا، فوافقني زوجي الرأي، وقال إن التجار يفضِّلون البيرة على الكرز، ويفضِّلون شرب الويسكي بعد العشاء على الاثنين!»

«هل شربا الخمر فقط؟»

«أجل، لا شيء سوى الكرز يا عزيزتي، وقد قالا لزوجي: «إن النبيذ جيد جدًّا. أيًّا كان ما تفعله، فأحضِره جافًّا.» فردَّ زوجي قائلًا: «سأفعل أيها السيدان».»

تلا ذلك المزيد من الكلام الذي لا أحتاج لإزعاج القارئ به، وهذا على الرغم من أنني استخلصت منه العديد من النقاط التي كانت ذات أهمية ثانوية.

لم يُسمح لي بمغادرة الفندق دون أن «أتناول» — ذاك هو الفعل الذي استخدمته صاحبة المنزل — ما يبعث على دفء وراحةٍ أقوى مما يجده المرء من مجرد تجاذب أطراف الحديث.

وكان الاستنتاج الأخير الذي استخلصته، قبل أن أخلد إلى النوم وأنا أشعر بالرضا في تلك الليلة، هو أن المسافرَين لم يكونا يسافران بغرض التجارة كما بدا، ولكنهما كانا رجلين يعيشان حياة السادة المحترمين.

والآن بعد أن أعددت قائمةً بالاستنتاجات التي تستند إلى أدلةٍ جيدة جدًّا، قبل أن أشرع في سرد سجل العمل في الأيام الآتية، لا بد أن ألخِّص هذه الاستنتاجات، إن جاز لي أن أستخدم هذه الكلمة.

فيما يأتي:

أولًا: أن المفتاح الذي عُثر عليه مع الجثة يفتح صندوقًا يحتوي على كنز.

ثانيًا: أن القناع الذي عُثر عليه مع الجثة كان مصنوعًا في بلدٍ أجنبي.

ثالثًا: أن المنديل الذي عُثر عليه مع الجثة كان يخص مؤخرًا سيدةً شابَّة تُدعى فريدريكا، وربما كان المتوفى مرتبطًا بها ارتباطًا وثيقًا.

رابعًا: أن الظروف التي أحاطت بالمتوفى أظهرت أنه لم يقُم بأي رحلة صيد غير قانوني، ولا بأي محاولة اقتحام منزل، على الرغم من وجود القناع؛ لأنه لم توجد بحوزته أي أدوات اقتحام منازل.

خامسًا: أن الشابة بريئة من المشاركة في أي عمل شرير قد يكون المتوفى قد أقدم عليه (ومع ذلك، فقد استند هذا الاستنتاج فقط إلى اكتشاف الجديلة المطرزة حول زر معطف المتوفى. هذا الاستنتاج هو الأقل دعمًا بالأدلة من بين ما يقرب من دزينة من الاستنتاجات الأخرى).

سادسًا: أن صندوقًا كبيرًا كان قد نُقِل إلى القاعة في اليوم السابق لليوم الذي عُثِر فيه على المتوفى ميتًا خارج المنزل.

سابعًا: أن الصندوق لم يؤخذ مرةً أخرى في الشاحنة التي كان قد جُلِب بها إلى المنزل.

ثامنًا: أنه أيًّا كان ما يحتويه الصندوق فقد كان شيئًا ثقيلًا؛ لأنه احتاج لرجلين لنقله إلى داخل المنزل.

تاسعًا: أن السيدة كوينيون قد سعت، لبعض الأسباب غير المسوَّغة حتى الآن، لجعل الشاهدة دينا يارتون تعتقد أن الصندوق قد أُخذ، بينما كان الصندوق، في الواقع، لا يزال في المنزل.

عاشرًا: أنه بما أن السيدة كوينيون ذكرت أن الصندوق قد اختفى بينما كان لا يزال في المبنى، فقد كان لديها دافعٌ مهم لقول إنه قد نُقل من المنزل.

حادي عشر: أن راكبَي الشاحنة اللذين بدا أنهما مسافران بغرض التجارة لم يكونا تجارًا، بل كانا سيدين محترمين ومعتادين على حياة الرجال المحترمين.

إذن فما هو الاستنتاج الموجِز لكل هذه الاستنتاجات؟

حسنًا، إن أول وسيلة محتملة للتوصل إلى حل هذا اللغز هي العثور على الصندوق.

للبحث عن هذا الصندوق، كان من الضروري أن أحصل على حرية الدخول إلى منزل بيتلي، ونتيجةً لأكثر الصدف استثنائيةً، كانت السيدة كوينيون قد وضعت بنفسها هذه الفرصة في طريقي عندما طلبت مني أن أرشِّح لها خادمة من المدينة.

بالطبع، وبلا أدنى شك، كان طلبها هذا بالحصول على خادمةٍ غريبة عن المنطقة راجعًا إلى أن تلك الخادمة، كَوْنها غريبة عن المكان، لن تُبدي أي اهتمام يُذكَر بكارثة موت الشاب الذي شعر الجميع، كَوْنهم من نفس الحي، أنهم كانوا يعرفونه بطريقة أو بأخرى.

كان عليَّ الآن أن أنتظر يومين قبل أن أتمكَّن من التحرك في هذه المسألة، ومر هذان اليومان في انتظار وصول ضابطة الشرطة التي كان من المفترض أن تلعب دور الخادمة في المنزل، وفي قبولها في المنزل وزرعها هناك.

في صباح ذلك اليوم الثاني جاءني تقرير الكيميائي المجهري.

ذكر أن الوبر المُحال إليه للفحص كان يتكوَّن من مادتين مختلفتين؛ الأولى: أجزاء من الريش. والأخرى: ذرات زغب من مادة كتانية مصنوعة من مادةٍ سوداء وبيضاء، والتي بربطها بذرَّات الريش لا بد أن تكون زغب وسادة فراش.

لقد أقنعني هذا التقرير لبعض الوقت أن الملابس كانت مغطَّاة بهذه المادة نتيجةً لاستلقاء المتوفى للنوم بملابسه هذه في وقتٍ قريب جدًّا قبل العثور عليه ميتًا.

والآن حان الوقت للنظر في سؤال: «ماذا كان انطباعي فيما يتعلق بسلوك المتوفى قبل الموت مباشرةً؟»

كان انطباعي هو أنه كان على وشك ارتكاب بعض الأعمال غير القانونية، ولكنه لقي حتفه قبل أن يتمكن من تنفيذ نواياه.

نشأ هذا الانطباع من حقيقة أن القناع أظهر نية إتيان عمل سري، في حين أن الحالة السليمة للملابس تشير إلى أنه لم يسبق الموتَ الدموي أيُّ صراع؛ فالصراع، مهما كان قصيرًا، يؤدي غالبًا إلى تلف الملابس بشكل أو بآخر، وهو ما سيُخبرك به أي جندي ذو خبرة (وربما سيخبرك بذلك مستغربًا سؤالك) أنه على الرغم من أنه قد يكون قد خرج من القتال دون خدش، إلا أن ملابسه كانت عبارة عن كتلةٍ ممزَّقة.

كان السؤال الذي يُعنى بشكلٍ رئيس بالجثة هو: من وضع الجثة في المكان الذي عُثر عليها فيه بين الساعة الثالثة (الوقت الذي توقَّف فيه المطر؛ إذ لا يمكن أن تكون الجثة قد وُضعت في المكان قبل ذلك الوقت؛ لأن الملابس، التي لم تلمس الأرض، كانت جافَّة) والخامسة والنصف صباحًا؟

هل أُحضرَت الجثة من مسافةٍ بعيدة؟

هل أُحضرَت من منطقةٍ قريبة؟

كانت الحجة المفندة لحمل الجثة مسافةً كبيرة، والتي تنطبق على جميع حالات نقل الجثث، أنه إذا كان من الخطر نقل الجثة مسافة ياردة واحدة، فإذن نقلها مائة ياردة سيكون أكثر خطورةً بمائة مرة.

وإذا ما سلَّمنا بنقل جثة بيتلي الشاب، في وضعٍ من شأنه أن يُثير الشكوك في الحال، فمن الواضح أن أولئك الذين أخذوا على عاتقهم هذا العبء أقدموا على مخاطرةٍ كبيرة.

ولكن هل كان ثَمة أي نفع واضح يُكافئ تلك المخاطرة؟

كلا، لم يكن يوجد أي نفع.

السبيل العقلاني الوحيد لتفسير التخلص من الجثة حيث عُثر عليها كان افتراض أن عدد أولئك الذين تورَّطوا في موته كان كافيًا لنقل جثته إلى مكانٍ يمكن التعرف عليه فيه والعناية به في الحال.

ولكن الاعتراض الذي يمكن إبداؤه على هذه الحجة هو أن المخاطرة كانت عظيمة لدرجة أن من شأن غريزة الإنسان الطبيعية المتمثلة في الحفاظ على نفسه أن تمنع الإقدام على مثل هذه المخاطرة. وسيتعمق هذا الانطباع بصورةٍ أعمق عندما نتذكَّر أنه كان من الممكن تأمين التعرف على الجثة بزج ورقة تحمل عنوانه في جيب ملابسه.

ثم عندما نتذكر أنه لا بد أن الفجر كان قد حل وقتَ نقل الجثة المفترض، تزيد ضآلة احتمال أن تكون الجثة قد نُقلت لمسافةٍ كبيرة.

ومن ثَم يصبح الاحتمال الأكبر أن يكون الشاب قد لقي حتفه بالقرب من المكان الذي وُجد فيه.

ثم يستتبع ذلك سؤال عن مدى قرب المكان الذي لقي فيه حتفه.

وعند النظر في هذه النقطة، يجب ألا ننسى أنه إذا كان من الخطير إحضار الجثة إلى المنزل، فسيكون من الخطير بنفس القدر نقلها من المنزل، بفرض أن جريمة القتل (إذا كانت كذلك) قد ارتُكبت داخل المنزل.

هل يمكن أن يكون هذا هو ما حدث؟

بلا أدنى شك، كان الشخصان الوحيدان اللذان كان معلومًا وجودهما في المنزل ليلة الوفاة هما السيدة كوينيون ودينا.

والآن ضيَّقنا المكان الذي ارتُكبت فيه جريمة القتل (كما سنسمِّيها) بحيث نقول إنها قد تمَّت داخل إطار المنزل. والآن، هل وقعت الجريمة في أي مكان آخر غير المنزل، ولكن بالقرب منه؟

كان المبنيان الوحيدان القريبان من المنزل، في نطاق ربع ميل، هما كوخ البستاني، وكوخ الحارس.

كان الحارس مريضًا في ذلك الوقت، وكان البستاني هو من اكتشف الجثة. كان اعتبار الحارس مُتورطًا في القضية غير وارد تمامًا. أما فيما يتعلق بالبستاني، وهو رجلٌ عجوز وخادمٌ قديم للأسرة (لأنه عمل في خدمة الأسرة منذ كان صبيًّا)، فيجب أن نتذكر أنه هو من اكتشف الجثة.

والآن، هل من المحتمل، إن كان مُتورطًا في الأمر، أن يفضح نفسه باكتشافه للجثة؟ إنه افتراضٌ يصعب للغاية قبوله.

عظيم، ثم عندما أعلن الطبيب في السادسة صباحًا أن الوفاة قد حدثت منذ ست إلى ثماني ساعات، وبما أن الجثة، بناءً على حالة الملابس التي كانت جافَّة، لم تتعرض ليلًا لهطول الأمطار، التي توقَّفت في الساعة الثالثة صباحًا، فقد كان من الواضح أنه إما أن جريمة القتل قد ارتُكبت داخل المنزل، أو أن الجثة أُبقيَت لعدة ساعات بعد الوفاة تحت سقف ما.

أين كان هذا السقف؟

باستثناء كوخ البستاني ومنزل الحارس، لم يكن يوجد مبنًى أقرب من ربع ميل؛ ومن ثَم إذا كانت الجثة قد نُقلت بعد الثالثة صباحًا إلى الموضع الذي عُثر عليها فيه، فمن الواضح أن المُتورطين في الأمر قد حملوها مسافة ثُمن ميل وقت الفجر أو بعده.

إن افتراض مثل هذا القدر من الشجاعة الأدبية لدى الأشرار كان افتراضًا بعيد الاحتمال، لا يمكن لمحقق، رجلًا كان أو امرأة، إلا أن ينظر إليه بحذر وتشكُّك.

ولكن ماذا عن افتراض أن الجثة نُقلت من القاعة، ووُضعت حيثما عُثر عليها؟

حتى الآن، كانت الأدلة الخارجية للقضية كلها تصبُّ في صالح هذه النظرية.

ولكن النظرية كانت مختلفةً تمامًا عن الخبرة الحياتية العادية.

أولًا: ما هو الدافع الظاهري الذي يمكن أن يكون لدى السيدة كوينيون لقتل الوريث الشاب؟ لا يبدو أنه يوجد أي دافع لذلك.

ما هو دافع الفتاة؟

لم تكن تتمتع بقوةٍ عقليةٍ كافية ليكون لديها دافعٌ قوي، بل إنني لا أظن أن هذه المخلوقة المسكينة قد تمكَّنت من تخيُّل فعل الشر يومًا ما.

يمكنني أن أضيف هنا أنني كنت أعتمد كثيرًا على ما قالته تلك الفتاة؛ لأنه كان متَّسقًا، ولأنها قالته وهي تحت وطأة ألم عقلي هائل، وأن أدلةً أخرى قد أثبتت العديد من التفاصيل التي ذكرتها.

استبعدتُ دينا يارتون من قائمة المشتبَه بهم.

ولكن بقبولي لأدلتها، ألزمتُ نفسي بالاعتقاد بأنه لم يكن يوجد أي شخص في منزل بيتلي ليلة وقوع الكارثة سوى دينا ومدبرة المنزل.

إذن كيف لي أن أدعم الافتراض بأن الشاب قد أمضى الليلة في المنزل ولقي حتفه فيه؟

هذا سهل للغاية.

نظرًا لأن امرأةً ضعيفة العقل مثل دينا لم تكن تعلم بوجود الوريث في منزل بيتلي، فإن هذا لا يعني أنه لم يكن هناك، وإنما أن مدبرة المنزل كانت هي فقط من تعلم بوجوده.

ولكن هل كانت ثَمة حاجة لمثل هذه السرية؟

أجل.

اكتشفتُ هذه الحقيقة قبل وصول خادمة المدينة.

كانت أوامر السيدة كوينيون الصريحة تنصُّ على عدم السماح للوريث بالبقاء في المنزل أثناء وجود العائلة في المدينة.

ومن ثَم كان ذلك سببًا وجيهًا لإبقاء مدبرة المنزل أمر وجوده سرًّا عن خادمةٍ غبية لم يكن بوسعها أن تكتم سرًّا.

ولكنني قلت إنه يتعذر وجود دافع للقتل لدى مدبرة المنزل.

لنفترض إذن أن الوفاة كانت عرَضية (مع أنه من المؤكد أنه لا توجد أي ملابسات في الفاجعة تسوغ مثل هذا الافتراض)، وبفرض أن السيدة كوينيون هي الجانية، فما الهدف من إلقاء الجثة خارج المنزل؟

كان هذا التصرف بعيدًا كل البعد عن طبيعة المرأة، خاصةً عند وقوع حادث.

أعترف أنه عند هذه المرحلة من القضية (وحتى وقت وصول زميلتي) كنتُ قد أُحبطتُ تمامًا. كانت جميع الأدلة المادية تدعم وقوع جريمة قتل أو قتل عن غير عمد تحت سقف منزل آل بيتلي، بينما تعارض الكم الكبير من الأدلة المحتملة مع أي اعتقاد من هذا القبيل.

حتى هذا الوقت، لم أكن قد ربطت بأي حال من الأحوال بين الوفاة و«الصندوق الكبير»، على الرغم من أنني اعتبرت أن هذا الصندوق هو مفتاح كشف اللغز.

كان هذا الاعتبار نتيجةً لأحد قوانين المباحث العادية، ألا وهو:

في جميع القضايا محل المتابعة في مهنتنا، يكون الكذب فعلًا مُثيرًا للشبهة سواء كانت له علاقة بالمسألة قيد البحث أم لا، وسواء كان ظاهريًّا أو قاطعًا. يجب اتباع الكذبة حتى مصدرها، واستيضاح معناها وتحديد قيمتها من عدمها. دائمًا ما يكون احتمال أن تكون الكذبة جزءًا من مكيدة احتمالًا جيدًا.

لذا، بما أن السيدة كوينيون قد كذبت على الأرجح فيما يتعلق بأخذ الصندوق، فقد أصبح من الضروري اكتشاف كل شيء عن الأمر؛ ومن ثَم كانت توجيهاتي الأولى إلى مارثا — كما كان يُطلَق عليها دائمًا (إنها في أستراليا الآن وفي حالةٍ جيدة) في مكتبنا، وأشك فيما إذا كان اسم عائلتها معروفًا لأيٍّ منا — هي البحث عن صندوقٍ كبير.

«صندوق من أي نوع؟»

قلت: «لا أعرف.»

«حسنًا، سيكون ثَمة الكثير من الصناديق في منزلٍ كبير كهذا، هل هو صندوقٌ جديد؟»

«لا يمكنني أن أخمِّن، ولكن راقبي الصناديق، وأخبريني إن وجدتِ واحدًا يبدو جديدًا أكثر من بقية الصناديق.»

أومأت مارثا برأسها.

ولكن بحلول ميعاد أول مقابلة لنا بعد تقديمي لها في منزل بيتلي، وعندما أرسلتها السيدة كوينيون برسالة إلى أحد التجار، كنت قد علِمت من السيد وايت المهذَّب أن الصناديق التي يسافر بها تجار القماش دائمًا ما تكون مطلية باللون الأسود.

قدَّمت لمارثا هذه المعلومة، ولكنها في المقابل لم يكن لديها أي معلومات لي ذات أهمية. سمعتُ منها ما كنت قد استنتجته بالفعل، وهو أن السيدة كوينيون كانت امرأةً هادئة للغاية وتتمتع برباطة جأش، «لدرجة أن الأمر يتطلب صدمةً كبيرة أو اثنتين كي تفقد أعصابها»، على حد قول مارثا.

قالت مارثا: «تذكَّري ما سأقوله، إنها قادرة على مواجهة قاضٍ بنفس الهدوء الذي تُواجه به نفسها عندما تنظر إلى المرآة، ويمكنني أن أخبرك أنها تُواجه الأمور بهدوء؛ لأنني رأيتها تتصرف هكذا مرتين.»

كان رأي مارثا أن مدبرة المنزل كانت امرأةً صالحة، ولا بد لي من القول إنني لم أتمكَّن من افتراض أنها كانت مخطئة تمامًا؛ لأن الشكوك ضدها كانت ضعيفة للغاية.

زارتني في اليوم التالي لوصول مارثا، وشكرتني ببرود لا يتناسب مع الخدمة التي كنتُ قد قدَّمتها لها، وقالت إنها تعتقد أن الشابَّة ستفي بالغرض، وطلبت مني بكل احترام أن آتي إلى المنزل.

مرَّت ثلاثة أيام، وفي ذلك الوقت لم أسمع شيئًا ذا قيمة من مُساعِدتي التي اعتادت أن تضع تقاريرها المكتوبة مرتين يوميًّا في إحدى الأشجار الجوفاء التي كنا قد اخترناها.

في اليوم الرابع حصلت على دليلٍ جديد أسترشد به.

كانت السيدة لامب، زوجة صاحب الحانة — التي أبدت اهتمامًا بالغًا براحتي في الليلة التي كنت قد استفسرتُ فيها عن الرجلين اللذين كانا قد توقَّفا لإطعام جياد العربة في إسطبلاتهما ليلة موت بيتلي الشاب — عندما سمحت لي على مضض بتركها (لقد كانت امرأةً عاطفية بشدة، وقد زاد التوفر الشديد للمشروبات الكحولية لديها من ميولها العاطفية هذه كما أخشى)، طلبت مني بتعاطفٍ شديدٍ أن أعود لزيارتها؛ لأنني كنتُ قد قلت إن عليَّ البقاء في ترام، وأن آتي لتناول كوب من الشاي معها.

على الأرجح لم يكن سيتوجب عليَّ أبدًا تناول كوب الشاي اللذيذ هذا، لولا أنني عرفت من السيدة جرين أن بيتلي الشاب كان معتادًا على التدخين واحتساء الشراب في حانة لامب.

جعلتني تلك المعلومة أحزم أمري.

ذهبت لزيارة السيدة لامب بعد ظهر ذلك اليوم نفسه، ويتعين عليَّ أن أقول إنني احتسيت كوبًا رائعًا من الشاي.

خلال تلك الضيافة الخفيفة وجَّهت دفة المحادثة نحو بيتلي الشاب؛ ومن ثَم سمعت عنه أمورًا كثيرة كانت في صالحه من وجهة نظر صاحبة حانة، ولكن ما قالته لم يُنبئ بالكثير عنه من ناحية وضعه ومكانته الاجتماعية.

«وهذا هو، يا عزيزتي، الكتاب نفسه الذي كان يجلس ليقرأه هنا في هذا المكان لمدة ساعة كاملة، و… أنا قادمة!»

هنا قاطعها صوتُ نقر عملتين من فئة نصف بنس على الطاولة المعدنية.

لم أفكر كثيرًا بشأن الكتاب؛ لأنه كان نسخةً من مطبوعةٍ عادية جدًّا كانت رائجة لسنواتٍ عديدة بين مُحبي الأدب الرخيص، وبدلًا من أن أفتح الكتاب تركته يسقط وينفتح، وليس لديَّ أدنى شك في أنني لم أُلقِ نظرة على الصفحة ولو لمرةٍ واحدة أثناء صوت اندفاع محرك آلة صب البيرة وعودة السيدة لامب.

قالت بتأثر: «يا إلهي!» فقد كانت من أكثر الأشخاص الذين قابلتهم عاطفيةً على الإطلاق. «هذا غريب جدًّا يا عزيزتي!»

سألتها: «ما الغريب في الأمر يا سيدة لامب؟»

«لقد فتحتِ الكتاب على قصته المفضَّلة!»

«قصة مَن المفضلة يا سيدة لامب؟»

«حسنًا، قصة الشاب المسكين العزيز جراهام بيتلي.»

لستُ بحاجة لقول إنني صِرتُ مهتمةً على الفور.

«أوه! هل كان يقرأ هذه القصة؟»

«كثيرًا. والغريب جدًّا في الأمر، يا عزيزتي، أنكِ كنتِ على وشك قراءتها أيضًا، مع أنه صحيحٌ أن هذا الكتاب دائمًا ما يُفتح عند نفس المكان، وأفترض أن ذلك بسبب أنه كان يقرؤه فيه في كثير من الأحيان حتى أصبح هذا الموضع مُهترئًا … أنا قادمة!»

هنا ذهبت السيدة لامب مندفعةً بعيدًا مرةً أخرى، ولا حاجة لذكر أنني في تلك الأثناء ألقيتُ نظرةً على الصفحات أمامي.

وإن قلتُ إنني كنت قد أمسكت بزمام القضية قبل أن تنتهي السيدة لامب من الدق على محرك البيرة ومن حديثها الطويل مع الزبون، فأظن أنني سأصيب معظم قُرائي بالذهول.

ومع ذلك، لا يوجد شيءٌ غير عادي في الأمر.

إذا فحصتم معظم القضايا العظيمة المكتشفة والمسجَّلة، فستجدون أن حادثًا صغيرًا كان عمومًا هو مفتاح النجاح في حلها.

وكذلك الأمر في حالة الاكتشافات العظيمة. لقد اكتُشفت واحدةٌ من أعظم التحسينات في عملية طحن الدقيق، والتي حقَّق من خلالها صاحب براءة الاختراع عدة الآلاف من الجنيهات، من خلال رؤية مطحنة تنفخ بعض الدقيق من أحد الزوايا، وكما يعرف العالم كله أن السبب الذي دفع نيوتن العظيم لاكتشاف قوانين الكون العظيمة كان سقوط تفاحة.

لذلك، كثيرًا ما يحدث في هذه الأيام التي ينتشر فيها عددٌ لا يُحصى من الصحف أن تتسَّبب نظرة بمحض الصدفة لأحد الرجال في التعرف عليه من الأوصاف المنشورة لقاتل.

الصدفة!

في تاريخ الجريمة والكشف عنها تلعب الصدفة الدور الرئيس في الحبكة.

حسنًا، توجد صحيفة بالقرب مني وأنا أكتب، وفيها تقرير عن محاكمة بتهمة الشروع في القتل، حيث لم ينقذ المرأةَ التي أُطلِقَ عليها النار سوى تدخُّل قطعة من شفرة محراث كانت تُخبئها تحت شالها، وهي القطعة التي كانت قد سرقتها قبل دقائق قليلة فقط من اصطدام الرصاصة بالحديد!

حسنًا، مقارنةً بحالة الصدفة تلك، ماذا كانت الصدفة التي قابلتني عندما اكتشفت اللغز الذي كان يحيرني من خلال قراءة قصة قيل لي إن الشاب الميت كان يقرؤها كثيرًا؟

تروي الحكاية، التي تدور في شمال إنجلترا، أن بائعًا متجولًا كان قد ترك حزمة في أحد المنازل، وأن أحد الصِّبية رأى قمتها تتحرك صعودًا وهبوطًا؛ فافترضوا أن فيها رجلًا ينوي سرقة المنزل؛ فأطلق الصبي النار على الحزمة وقتل رجلًا.

أقول إنني قد تمكَّنتُ من كشف اللغز قبل أن تعود السيدة لامب إلى «عزيزتها المسكينة».

لقد انجذب الشاب إلى القصة، وتذكَّرها وصاغها لتحقيق هدف بعينه، فما هو؟

في لحظة، تذكَّرت هوس المالك بالفضة، وتذكَّرت كم كان بخيلًا مع الصبي؛ فواتَتني فكرة أن الشاب قد وضع على الأرجح خطةً لسرقة جزء من فضة والده.

صحيحٌ أنه كان من المفهوم أن الفضة كانت تُنقَل إلى المدينة مع العائلة، ولكن هل كان الأمر كذلك فعلًا؟

والآن انظروا إلى مدى حسن توافُق احتمالات القضية مع تلك النظرية.

كان الشاب مُغامرًا وجريئًا، كما أثبتت شجاراته المتعلقة بالصيد غير القانوني.

لقد ظل يُعاني الفقر.

كان يعرف أن والده يمتلك الفضة.

لم يُسمح له بالوجود في منزل بيتلي عندما كان الأب غائبًا.

كان قد قرأ قصةً تتطابق مع نظريتي.

ترك غرباء صندوقًا كبيرًا في المنزل.

عُثر على جثة الشاب في ملابسات جعلت السبيل الأكثر احتمالًا لوجود الجثة حيث عُثر عليها هو افتراض أنها قد نُقلت من المنزل نفسه.

يفسِّر ذلك المخطَّطَ وجودُ القناع.

وأخيرًا، المفتاح، وهو مفتاح يفتح، بلا أدنى شك، حاويةً مهمة؛ وهو افتراضٌ واضح جدًّا، بالنظر إلى شكل المفتاح.

في الواقع، يمكن من خلال هذا المفتاح تتبُّع فكرة وجود كنز في المنزل.

هل يمكن أن يكون هذا الكنز موجود حقًّا؟

قبل أن تتمنى السيدة لامب ليلةً سعيدة لزبونةٍ أتت لشراء نصف لتر من البيرة الصغيرة الحجم وجالونًا من الفضائح الأشد اختمارًا، كنت قد توصَّلت إلى استنتاجٍ مفاده أن الفضة قد تكون في المنزل.

فالرجال البخلاء معروفون بالشك والجشع. ماذا لو كانت توجد بعض الفضة التي تخص العائلة والتي لم تكن مطلوبة في منزل المدينة وتُركت في المنزل الريفي، والتي لم يُودِعها المالك في بنك المقاطعة؛ اعتمادًا منه على كَوْنها آمنةً استنادًا إلى الشائعة المعتادة بأنه يأخذها كلها معه إلى المدينة، وبسبب التشكك الطبيعي الذي ربما دفعه للاعتقاد بأن غرفته منيعة ضد السرقة أكثر من أي خزانة بنك؟

إذا قبِلنا بهذا الافتراض، فسيصبح دافع الشاب واضحًا.

إذا قبِلنا بوجود بيتلي الشاب في المنزل في ظل هذه الظروف، إذن سيتعين علينا تفسير وفاته.

هنا، بالطبع، كنت ما زلت على خطأ.

إن كانت السيدة كوينيون والفتاة هما فقط من كانتا موجودتين بالمنزل، وكانت الفتاة بريئة؛ إذن فمدبرة المنزل وحدها هي المذنبة.

مذنبة بماذا؟ بالقتل أم القتل الخطأ؟

هل نُفِّذت القصة، التي اعتاد الشاب بيتلي أن يقرأها، حتى النهاية؟

هل قُتل دون معرفة هويته؟

ليس لديَّ أدنى شك في أنه كان لا بد أن اكتشف الوضع الحقيقي للقضية بدون مساعدة السيدة لامب؛ لأنه حتى في ذلك المساء نفسه، وبعدما تركتُ السيدة لامب ووعدتها أن أضع في اعتباري مناشدتها لي العودة لزيارتها مرةً أخرى، لا بد أن معلومةً صغيرة أحضرتها لي رفيقتي هي التي وضعتني على المسار الصحيح.

يبدو أن السيدة كوينيون تلقَّت رسالة في ذلك الصباح أزعجتها كثيرًا. لقد غادرت بعد الإفطار مباشرةً، وتوجَّهت إلى القرية، وعادت بعد حوالَي ساعة. كانت شريكتي قد سرقت شيئًا من جيب مدبرة المنزل أثناء نومها بعد ظهر ذلك اليوم (للأسف! يتعين علينا نحن رجال الشرطة أن نتحول أحيانًا إلى لصوص؛ لصالح المجتمع بالطبع)، وبينما كان من المفترض أن الخادمة الجديدة تضع جوارب السيدة كوينيون بترتيب ارتدائها، كانت قد حفظت عن ظهر قلب تلك الرسالة. كانت رسالةً من شخصٍ يُدعى جوزيف سبنسر وكان نصُّها كالآتي:

عزيزتي مارجريت — بحق السماء ابحثي في كل مكان عن المفتاح ١٣. يوجد الكثير من المفاتيح بحيث إنني لم ألحظ فقدانه، وإذا اكتشف الحاكم ذلك فأنا هالك لا محالة. لا بد أن يكون في مكانٍ ما. لا يمكنني أن أعرف كيف خرج من الطوق. هذا كل شيء في الوقت الحاضر. حان وقت البريد.

مع حبي الشديد، المخلص،
جوزيف سبنسر

المفتاح ١٣!

لقد كان نفس الرقم الموجود على المفتاح الذي عُثر عليه مع الشاب الميت.

أُرسلَ خطابٌ في تلك الليلة إلى المدينة موجَّهًا إلى الشرطة لمعرفة هوية جوزيف سبنسر، وفيه العنوان المكتوب على الرسالة، والذي كان مطبوعًا.

ثم جاء دور السيدة جرين.

لا، لم تكن تعرف من كان يقطن في العنوان الذي ذكَرتُه. لنشكر السماء المبارَكة أنها لم تكن تعرف شيئًا عن لندن، كما قالت. ماذا! أين ذهبت السيدة كوينيون ذلك الصباح؟ إلى جو هيجينز. لماذا؟ حسنًا، لتُلقي نظرة على ملابس بيتلي الشاب ومتعلقاته. وما الذي كانت تريده منها؟ حسنًا، في الواقع، أرادت أن تأخذ ملابسه ومتعلقاته كلها معها إلى المنزل، ولكن جو هيجينز رفض.

بالطبع تكهَّنت الآن أن جوزيف سبنسر هو كبير الخدم.

وأظهرت معلوماتي الآتية من المدينة أنني كنت على حق.

والآن، بعدما صِرت متأكدة من إجراءاتي التمهيدية، علِمت أن عملي يقبع داخل جدران منزل بيتلي.

ولكن كيف يمكنني الوصول إليه؟

واحسرتاه! إن حيل المحققين لا حصر لها! يؤسفني أن أقول إن العديد من الإعلانات اللطيفة تُخفي وراءها يد الشرطة. على كل حال، كنت أعرف أن هذا هو حال الإعلان الذي نشرتُه.

ظهر الإعلان في العمود الثاني من جريدة «التايمز»، وإليكم نسخةً طِبق الأصل منه. بالمناسبة، كنت أتلقَّى جريدة «التايمز» يوميًّا، كما هو حال معظم المحققين، خلال الوقت الذي قضيته في ترام:

«مطلوب على وجه السرعة التواصلُ مع مارجريت كوينيون أو ورثتها. المعروف هو أنها كانت قد غادرت جنوب إنجلترا (عرفت من لهجتها أنها كانت من أهل الجنوب) في حوالَي عام ١٨٣٠ لتعمل مدبرة منزل لدى أخت لها بالتبنِّي متزوجة، تعيش في إحدى مقاطعات وسط إنجلترا (مصدر هذه المعلومات، وخاصةً التاريخ المذكور، هو السيدة جرين). العنوان …» وهنا وضعت عنوانَ مكتبِ محاميِّ الإجراءات الذين أتعامل معهم، والذين كانوا قد تلقَّوا مني تعليمات بأن يُبقوا الأمر معلقًا كي تذهب السيدة كوينيون يوميًّا إلى المكتب لعدة أيام إلى أن تأتيهم رسالة مني.

يؤسفني كثيرًا أنه في حال ثبوت التهمة على السيدة كوينيون، وهو ما كنت أخشى أنه كان سيحدث، كنت أنوي أن يُلقى القبض عليها في مكتب السادة المحامين الذين كان يُفترَض أن تتوجَّه إليهم كي تعرف أمرًا في صالحها. وعلاوةً على ذلك، أنا متأكدة تمامًا من أنه قد قُبض على العديد من الأشخاص التعيسي الحظ الذين أغراهم وعد الحصول على شيءٍ يخدم مصالحهم أو منفعتهم الخاصة بالذهاب إلى أحد المكاتب.

فمثل هذا الزيف هو سمة هذا العالم المؤسف.

أقل القراء فطنةً سيدرك كيف استغللتُ هذا الإعلان عندما نُشِر.

لفتُّ انتباه السيدة جرين للخبر، ولا شك لديَّ في أنها نقلته لكل من قابلته، أو بالأحرى لحقت به، على مدى اليوم. وبالفعل قبل المساء (عندما شرَّفتني السيدة كوينيون بزيارتي بنفسها)، قيل بتأكيدٍ تام وقاطع إن السيدة كوينيون ورثت مبلغ اثنين وعشرين ألف جنيه استرليني كاملًا، ومنزل في شارع ديوت بميدان بلومزبري في لندن.

كان من الغريب، والطبيعي في الوقت نفسه، أن تسعى السيدة كوينيون لمقابلتي. لقد كنت الغريبة الوحيدة التي ربما كانت تعرفها في المنطقة، وكانت قد استغلَّت بالفعل، من وجهة نظرها، كَوْني غريبة عن الحي؛ لذلك (وبوضع الطبيعة البشرية بعين الاعتبار) لم أتعجب من أنها حاولت أن تستغلني مرةً ثانية. لم يعُد مُتبقيًا لديَّ مساحةٌ كبيرة، ولكن بما أن المحادثة الآتية هي آخر محادثة أجريتها مع السيدة كوينيون، فربما يمكن التماس العذر لي لاقتباسها هنا. وأنا بالطبع أختصرها اختصارًا كبيرًا جدًّا. بعد التحية المعتادة، وبعد التأكيد أن مارثا كانت مناسبة للغاية، قالت:

«أودُّ أن أطلب منكِ صنيعًا.»

«بالطبع، ما هو؟»

«لقد تلقَّيتُ بعض الأخبار التي ستدفعني بالضرورة للابتعاد عن المنزل.»

قلت مبتسمةً: «أظن أنني أعرف هذه الأخبار.» ثم قلت لها إنني رأيت الإعلان بنفسي في الصباح.

أخشى أنني اتَّبعت هذه الطريقة دون تردُّد لأكسب ثقتها.

وقد نجحت في ذلك.

تابعت قائلةً: «في الواقع، وبما أنك عرفت الأخبار بنفسك، يمكنني أن أطلب منك دونَ تردُّدٍ الصنيع الذي أنا على وشك أن …»

«وما هو؟»

«أرغب في الذهاب إلى المدينة، إلى لندن، لبضع ساعات لأتبيَّن هذه المسألة التي ذُكرت في الإعلان، ولكنني مترددةٌ في ترك مارثا وحدها في المنزل. لقد فوجئتِ، وربما تشعرين بالإهانة أنني أطلب مثل هذا الصنيع من غريبةٍ مثلك، ولكن الحقيقة هي أنني لا أرغب في أن يعرف أي شخص من الحي أنني غادرت المنزل. لن أغيب سوى أربع وعشرين ساعة فحسب. قد تصل الأخبار إلى مسامع السيد بيتلي، وأرغب في ألا يعرف أي شيء عنها. إنك ترين الموقف الذي وُضعتُ فيه. إذا أمكنك تشريفي يا سيدتي العزيزة فسأكون في غاية الامتنان. وبما أنك تُقيمين هنا، يبدو … لي …»

وهنا تراجعَت صامتةً.

يا لها من ماكرة! انظروا إلى أي مدًى نجحت في إخفاء دافعها الحقيقي، ألا وهو رغبتها في إبقاء من عرفوا بالفاجعة خارج المنزل لأنها كانت تخشى من فضولهم.

فوجئت! بالطبع فوجئت! في أفضل الأحوال كنت أتوقَّع أنه سيتوجَّب عليَّ الإفصاح عن هويتي للشخص الذي ستتركه في المكان إذا نجحت حيلة الإعلان، وهنا فمن خلال ما ظنَّت أنها فكرتها فقد كانت في الواقع تضع نفسها تحت رحمتي، بينما ظللت أنا متخفيةً في كل أفعالي المتعلقة بها؛ لأنني لست بحاجة للقول إنني لو كنتُ اضطررت إلى الكشف عن هويتي، ولو كنت فشلت، كانت كل المحاولات الأخرى المتأنِّية لنصب الشِّراك في هذه القضية ستنتهي، وكانت «الفريسة» ستتنبَّه، وكان ذلك سيكون هو نهاية المسألة برمَّتها.

بإيجاز للتفاصيل التي لا داعي لها، في نفس المساء في التاسعة مساءً، كنتُ حاضرةً في صالون مدبرة المنزل، وكانت هي قد انطلقت نحو أول محطة بعد ترام، والتي كانت ستَّتجه إليها سيرًا عبر الحقول لتجنُّب كل الشكوك.

لم تكن قد ابتعدت مائة ياردة عن المنزل، عندما تحرَّرتُ من قيودي، وانهمكت أنا ومارثا (بصفتنا محققتين) في العمل الجاد، في محاولة للعثور على الصندوق.

سرعان ما وجدنا مفاتيحها في إحدى سلال أدوات الحياكة ومغطَّاة بخفة بمنديل.

كان لا بد أن يعطيني هذا النمط من الإخفاء أمارةً.

ولكن هذا لم يحدث.

بحثنا عن هذا الصندوق لثلاث ساعات، من التاسعة مساءً وحتى منتصف الليل، ولكن محاولاتنا باءت بالفشل.

بحثنا في كل غرفة — وعرفنا من غياب الأتربة أن هذه الغُرف فُتِحت مؤخرًا — وكل ممر، وقبو، ورواق، وقاعة، لم نترك شيئًا.

ولكن لم نجد أي صندوق.

يؤسفني أننا بحثنا حتى في الأماكن التي لا يمكن أن يوضع فيها، مثل تحت الأسرَّة.

ولكننا وجدناه أخيرًا، حينئذٍ كانت ساعة البرج قد أعلنت الثانية عشرة إلا الربع تقريبًا.

كان في غرفة نومها؛ والأدهى من ذلك أنها جعلته طاولة التزيين الخاصة بها.

وليس لديَّ أدنى شك في أنني كنت سأفشل في ملاحظته لولا أن طريقة إخفائها له كانت معيبة.

من الواضح أنها أدركت قيمة ما يمكنني أن أسمِّيه باﻟ «الإخفاء الجريء»، وهو ما يعني أنه أسلوب إخفاء لا يتخيل معه الشخص العادي الذي يبحث عن شيء، وجوده أبدًا في المكان الذي هو فيه.

على سبيل المثال، أكثر الأماكن أمانًا لإخفاء النقود الورقية في غرفة الجلوس هو الجزء السفلي من سلة بطاقات مفكَّكة. لن يتخيل أحدٌ البحث عنها في مثل هذا المكان.

يجسِّد كاتب القصص الغامضة العظيم، إدجار آلان بو، في إحدى قصصه هذا النمط من الإخفاء، حيث يجعل صاحب خطاب يضعه في حامل بطاقات فوق رف الموقد، عندما علِم أن منزله سيخضع للتفتيش الدقيق، وأن كل شبر منه سيُفتَّش بحثًا عن هذا الخطاب.

من الواضح أن السيدة كوينيون كانت على دراية بهذا الأسلوب من الإخفاء.

في الواقع، أعتقد أنني ما كانت سأجد الصندوق لولا أنها بالغت في إخفائها المفضوح؛ فقد استخدمت قصاصةً ورديةً زاهية، ووضعت فوقها قطعة قماش بيضاء مكشكشة كي تُكمل مظهر منضدة الزينة، بعد أن وضعت الصندوق على أحد الجانبين.

ومن ثَم جذبت الطاولة انتباهي في كل مرة كنت أمرُّ فيها وأراها. وبينما كانت مارثا تمرُّ بيني وبين الصندوق أزاحت الغطاء بتنورتها، فظهرت زاويةٌ سوداء.

وفي اللحظة التالية اكتُشف الصندوق.

ليس لديَّ أدنى شك، كَوْنها امرأةً راجحة العقل، في أنها لم تستطع تحمُّل وجود الصندوق بعيدًا عن أنظارها وهي تنتظر فرصة التخلص منه.

لقد أصبح واضحًا الآن أن تفسيري للقضية، الذي مفاده أن بيتلي الشاب كان يقلِّد أحداث القصة، كان صحيحًا.

كان الصندوق كبيرًا بما يكفي ليسع رجلًا مُستلقيًا وساقاه مرفوعتان بعض الشيء، كما كانت توجد مساحة للتقلب داخل الصندوق. وأخيرًا، كان يوجد حوالَي عشرين ثقبًا، بحجم عملة الكراون، في جميع أنحاء الصندوق، وكانت كلها مُخفاة بالقماش الأسود الخشن الذي كان الصندوق مُغطًّى به.

علاوةً على ذلك، كان الصندوق قابلًا للإغلاق من الداخل بواسطة مزلاج؛ ومن ثَم كان يمكن فتحه من الداخل بنفس الوسيلة.

إضافةً إلى ذلك، إن كان ينقصنا دليلٌ آخر، كانت توجد وسادة في أسفل الصندوق (من الواضح أنها مخصَّصة كي يستقرَّ الرأس عليها)، ومن أحد الثقوب خرج الريش واستقرَّ أسفل الصندوق، الذي كان مبطَّنًا بالكتان المخطَّط بالأبيض والأسود المستخدَم في صنع الوسائد، وقد قُطِع هذا القماش عند الثقوب بحيث لا يسدُّها.

لم أكن الآن في حيرة من أمري لفهم سبب وجود الوبر على معطف الشاب التعس.

وأخيرًا، كان يوجد أكثر الأدلة إدانةً على الإطلاق.

فقد كان ثَمة قَطعٌ مُتعرج في القماش الأسود فوق أحد الثقوب.

قلت لمارثا: «استلقِ في الصندوق يا مارثا، وضعي رأسك عند هذا الطرف.»

«حسنًا، أيًّا كان …»

«لا، لا يا فتاة، افعلي كما أقول لكِ.»

وقد فعلت، وباستخدام عصا المظلة الموضوعة على منضدة الزينة، وجدت أنه بتمريرها عبر الثقب، وصلت نهايتها إلى الشرطية مارثا في نفس المنطقة التي جُرِح فيها بيتلي الشاب الجرح القاتل الذي أودى بحياته.

بالطبع كانت القضية واضحة الآن.

بعد أن ذهبت الشابة دينا إلى الفراش، لا بد أن الشكوك كانت تُساور مدبرة المنزل حول الصندوق، وأنها فحصته.

لقد عرف الشاب بلا أدنى شكٍّ الوقت الذي كانت تخلد فيه مدبرة المنزل إلى الفراش، وربما كان ينتظر أن تدقَّ ساعة البرج القديمة مُعلنةً الحادية عشرة مساءً قبل أن يُخاطر بالخروج، ليرتكب ماذا؟

بدا لي واضحًا، مع أخذ خطاب كبير الخدم بعين الاعتبار، أنه كان سيسرق صندوق الفضة رقم ثلاثة عشر، والذي استنتجتُ أنه كانت قد تُرِك بالمنزل، وهي حقيقة ربما كان من الطبيعي أن يكون الشاب على علم بها.

كانت الخطة بلا شك هي تأمين سرقته للفضة دون أن يعرف أي شخص، وأن يتسلَّل خارج المنزل بطريقةٍ ما يعرفها جيدًا منذ فترة طويلة، ثم يُقابل شركاءه، ويتشارك معهم الغنيمة، تاركًا الصندوق وراءه ليقصَّ حكاية السرقة وليُبرئ ساحة مدبرة المنزل.

أذهلني كم كان مخطَّطًا جيد التنفيذ، وكم كان بعيدًا كل البعد عن مؤامرات السرقة المعتادة.

ما الذي تسبَّب في فشل هذا المخطط؟

يمكنني بسهولةٍ أن أفهم أن امرأةً راجحة العقل مثل السيدة كوينيون كانت ستعتمد على نفسها بدلًا من اللجوء لأي مساعدة أخرى.

يمكنني أن أفهم أنها اكتشفت شيئًا؛ ربما كان تمتمةً خفيضة بالسباب من جانب الشاب، أو ربما سمعت صوت أنفاسه.

بعد ذلك، يمكنني أن أفترض أن تصرُّفها التالي، ما إن أدركت وجود خطر قريب منها، أنها استعدَّت لمواجهته.

بإمكاني تتبُّعها وهي تسير صامتةً وبرباطة جأش في المنزل، وتسأل نفسها عما يجب أن تفعله.

بإمكاني أن ألاحظ توصُّلها إلى استنتاجٍ مفاده أنه لا بد من وجود ثقوب في الصندوق يمكن للمُجرم أن يتنفَّس من خلالها، وأنها أدركت بسهولةٍ أنها لم تكن بحاجة إلى إقناع نفسها بأنها يحقُّ لها قتل شخص قد يكون موجودًا هناك ليقتلها.

ثم يمكنني تتبُّعها في مخيِّلتي وهي تبحث عن السلاح، وتتحسس كل مكان في الصندوق بحثًا عن ثقب.

تجد الثقب.

وتحدِّد الموضع الذي ستدفع السلاح من خلاله.

وبحركةٍ واحدة، ها هي جريمة القتل الخطأ قد ارتُكبت.

من المؤكَّد أن الشاب التعيس كان لديه الوقت لفتح الصندوق، ولا شك في أنه في تلك اللحظة تراجعت المرأة القوية، التي كانت لا تزال ممسكةً بمقبض السهم، أو السلك الحديدي — أو أيًّا ما تريدون أن تُطلِقوا عليه — ومن ثَم سحبت المقبض من الحديد المؤلم الجارح.

هل تعرَّف عليها الشاب؟ هل حاول فعل ذلك؟

من الهدوء الذي كان يكسو وجهه، كما وُصف في التحقيق، تخيَّلت أنه قد فعل، بعدما فتح الغطاء بالطبع، وأنه سقط للوراء، ومات في غضون لحظات قليلة.

ثم لا بد أن ما تبع ذلك هو اكتشافها المروع، وتلاه عزمها المروع بنفس القدر على إخفاء خطأ سيدها، والذي ربما كان ابن أختها.

وعلى إثر ذلك سحبت جثة الشاب إلى الخارج في الصباح البارد، بينما كانت غيوم الفجر تملأ السماء، والطيور تستيقظ مُحدِثةً ضجيجًا.

لا شك في أنه لو كان محققٌ ذكي قد كُلِّف بالمسألة في الحال، ما كانت السيدة كوينيون ستفلت من اكتشاف أمرها.

فحتى ذلك الحين، كانت قد تجنَّبت اكتشافها.

ويمكنني بسهولةٍ أن أفهم أن امرأةً حادَّة العقل مثلها لن تشعر بأي تأنيب ضمير، وبالقليل من الحزن لما فعلته. لن تشعر بتأنيب الضمير لأن الفعل كان حادثًا، وبالقليل من الحزن؛ لأنه لا بد أنها شعرت بأنها قد أنقذت الشاب من حياةٍ بائسة؛ فالابن الذي، وهو في العشرين من عمره، يسرق أباه، مهما كان سيئًا، يندر أن يكون رجلًا أمينًا عندما يصل لعامه الأربعين، هذا إذا عاش حتى هذا العمر.

ولكن على الرغم من أنني قد توصَّلت إلى هذا الاكتشاف، لم أستطع فعل أي شيء حتى حينئذٍ ضد مدبرة المنزل، التي كان من واجبي بالطبع أن أُلقي القبض عليها، إذا تمكَّنت من إقناع نفسي بأنها ارتكبت جريمة قتل خطأ. لن أخضع لأي شعور بالرغبة في حجب المسألة عن الأسرة؛ وهو الدافع غير المباشر الذي كان يحرِّك السيدة كوينيون؛ لأنه، كَوْنها حادَّة العقل، بدا لي أنها ما كانت ستتردَّد في الاعتراف بارتكاب الفعل الذي ارتكبته، لو كان السارق — كما يمكن أن أصف الشاب — مجرمًا عاديًّا وغير معروف لها.

لا، لم يكن للصندوق أي صلة تربطه بموت الشاب؛ وهذا لأنه لم تظهر عليه أي علامات دامغة على ارتباطه بتلك الفاجعة.

حتى حينئذٍ، كيف كان يمكن الربط بينه وبين جريمة القتل (بخلاف أدلتي الظرفية التي لم يكن يعرفها أي أحد سواي)؟

كان الدليل الوحيد هو الدليل الصغير الذي قدَّمته الفتاة، التي ربما تُقسِم أو لا على أن الصندوق قد أُحضرَ إلى المنزل في اليوم السابق، وأمام كلام مدبرة المنزل التي قالت إنه أُخذ مرةً أخرى، وهو ظرفٌ مشبوه بالتأكيد، ولكن بدون أدلة داعمة، كان دليلًا ذا قيمة ضئيلة أو معدومة في الواقع.

أما القطع الخشن في ثقب التهوية، فلم يكن ذا قيمة تُذكَر في غياب وجود أي بقع دماء.

لا بد أن يكون لديَّ دليل إثبات، ومن الأفضل أن يكون هذا الدليل هو اكتشاف مقبض السلاح الذي تسبَّب في الوفاة، أو سلاح مُشابه.

كان هذا هو عملي حينئذٍ بعدما عثرت على الصندوق.

«هل يوجد في المنزل أي مخزن أسلحة يا مارثا؟»

«لا، ولكن يوجد الكثير من الأسلحة في المكتبة.»

لم نكن قد بحثنا في المكتبة عن الصندوق؛ لأنني كنت قد أخذت بتأكيد مارثا عدم وجود صناديق هناك.

عندما وصلنا إلى المكتبة، قلت على الفور: «يا له من مكانٍ رطب!»

وعندما قلت ذلك، لاحظت وجود نوافذ على جانبَي الغرفة، وأن نهاية الغرفة كانت دائريةً.

قالت مارثا: «قد تكون كذلك؛ لأنه يوجد ماء في كل مكان حولها؛ نافورة أو بركة، بداخلها سمكة ذهبية.» ثم تابعت مارثا، التي كانت حدة ذكائها تفوق تعليمها: «إن المكتبة تبرز خارج المنزل.»

بين كل زوج من أرفف الكتب، كان مثبَّتًا حامل أسلحة أنيق وخلَّاب ويأسر العين.

كانت توجد أسلحةٌ حديثة، ودروعٌ قديمة، وأسلحةٌ أجنبية من أنواعٍ عدة، لكنني لم أرَ سهامًا، وعلى الرغم من أن الشمعدان، الذي كان لا يزال يحمل بعض الشموع الصفراء القديمة، كان يُنير المكان أثناء انهماكي في البحث المحموم.

لم أعثر على أي سهم.

لكن ملاكي الحارس، إذا كان يوجد مثل هذه المخلوقات الطيبة، لازمني في تلك الليلة، وبمحض صدفة غريبة، ولكنها لا تُداني في روعتها صدفة ذلك الحادث الذي أنقذت فيه قطعةٌ من الحديد المسروق المرأة من أن تُصيبها رصاصةٌ قاتلة، كشفتُ النقاب عن مصدر السلاح الذي استخدمته كوينيون.

كنا نبحث بين حوامل الأسلحة لبضع دقائق، عندما صِحت فجأةً قائلةً:

«صه! ما الذي تفعلينه؟»

إذ كانت زميلتي أوقعت طبلةً كبيرة من فوق معلاقها، والتي كنت قد لاحظت أنها كانت ذات شكل مميز في نهاية مجموعة من الأعلام والصناج والحراب.

قالت: «أنا آسفة جدًّا.» بينما كنت أهرع لالتقاط الطبلة، التي كان صدى صوتها لا يزال يتردَّد في المكان، بالحذر الذي يُلازم المحققين حتى وإن كان عديم النفع، وعندئذٍ …

رأيت طرف سلاح، نسخة طِبق الأصل من السلاح الذي استُخدم لقتل بيتلي الشاب، مخترقًا الطبلة ومعلقًا فيها من أسلاكه الشائكة.

لو كان شبح قد ظهر أمامي، لو كان ثَمة شيء من هذا القبيل، لما أُصبتَ بمثل هذا الذهول.

مزَّقتُ الطبلة على الفور، فظهر سهمٌ حديدي بمقبضٍ خشبي يبلغ طوله حوالَي ثماني عشرة بوصة، وكان هذا المقبض مغطًّى بقِطعٍ مبهرجة من الخيوط الفضية اللامعة والورق الملوَّن.

[يمكنني أن أقول هنا ما اكتشفته في النهاية — وعلى الرغم من الخطر الذي كنا نُواجهه، فقد احتفظت بغنيمتي وخرجت بها من المعركة سالمةً — وهو أن هذا الحديد الشائك كان واحدًا من الأدوات التي يستخدمها مصارعو الثيران في مصارعة الثيران الإسبانية لإثارة أعصاب الثور. تتسبَّب الأشواك في التصاق السهام باللحم والجلد. أما الآن فيمكن بسهولة فهم سبب تزيين المقبض. لا شك في أن السهم الذي استخدمته كوينيون والسهم الذي عثرت أنا عليه كانا زوجًا من التُّحف الغريبة من ضمن أسلحة أخرى. استخدمت مدبرة المنزل السلاح الآخر لأنه كان يُناسب غرضها على نحوٍ أفضل، أما الآخر (الذي وجدته) فقد كان بلا شكٍّ يستخدمه أحد مصارعي الثيران الهواة في وقتٍ ما مضى، وربما استخدمه الشاب البائس المتوفى نفسه، واستخدم الطبلة كثورٍ وهمي، فبقي السهم بداخلها حتى ظهر مرةً أخرى دليلًا ضد مدبرة المنزل المذنبة والبريئة في الوقت نفسه.]

ما إن أمسكت بغنيمتي حتى قالت مارثا: «ما رائحة الاحتراق هذه!»

صرخت قائلةً: «يا إلهي! لقد أضرمنا النار في المنزل!»

كان المنزل يحترق، ولكننا لم نكن من فعل ذلك.

ركضنا نحو الباب.

ولكننا كنا حبيستين!

لم أعرف أبدًا ما الذي جعل السيدة كوينيون تعود مرةً أخرى؛ لأنني لم أرَها أو أسمع عنها أي شيء مرةً أخرى مطلقًا. أظن أن حركة القطار نشطت تفكيرها (كما يحدث معي)، فساورتها الشكوك؛ مما دفعها للنزول في المحطة التي تبعد عن ترام ببضعة أميال، واستقلَّت عربةً عائدة إلى منزل آل بيتلي.

ومع ذلك، فكل هذا محض تخمين.

ولكن إن لم تكن هي، فمن الذي حبسنا؟ لا يمكن أن نكون نحن من فعلنا ذلك.

كنا حبيستين، ولقد نسبت هذا الفعل لها، على الرغم من أنني لم أعرف أبدًا كيف دخلت المنزل.

كان المنزل يحترق، وكنا محاطتين بالمياه.

هذه الحكاية هي قصة «السلاح المجهول»؛ لذلك لا يمكنني منطقيًّا أن أخوض هنا في تقديم شرح كامل لكيفية هروبنا. يكفي حفظًا لكرامتنا كمحققتين أن أقول إننا لم نفقد رباطة جأشنا ولا قدرتنا على التفكير، وأننا، بمساعدة طاولات المكتبة والكراسي والكتب الكبيرة وما إلى ذلك، ثبتنا أحد طرفَي سُلَّم المكتبة على أحد جانبَي البركة الضيقة، بينما وصل الطرف الآخر إلى المياه الضحلة.

بعدما كشفت الستار عن تفاصيل قصة «السلاح المجهول» هنا تنتهي قصتي، ولكن قد يتخيَّل القارئ أن عملي منقوص إذا لم أُضِف بضع كلمات أخرى.

ليس لديَّ أدنى شك في أن كوينيون عادت، وأن عقلها الحاد توصَّل في غضون لحظات قليلة إلى استنتاجٍ مفاده أن الطريقة الوحيدة لإنقاذ سمعة سيدها هي بحرق الصندوق عن طريق إضرام النار في المنزل.

علِمت أن عائلة آل بيتلي كانت عائلةً قديمة، تتبع مفاهيم إسبانية تقريبًا عن شرف العائلة.

لفد أتمَّت عملها على أكمل وجه.

أعترف أنها انتصرت عليَّ. وليس هذا فحسب، كان يمكن علاوةً على ذلك أن تحرقني وتحوِّلني إلى رماد، وأُقسِم إنني أعتقد أنها ما كانت ستحزن لو أنها حقَّقت تلك الغاية.

من ناحيتي، لم أُواصل العمل في هذه المسألة أكثر من ذلك.

في التحقيق، ظهرتُ بصفتي السيدة التي كانت تعتني بالمنزل بينما ذهبت السيدة كوينيون للاهتمام بإرثها. ولا يُساورني شك في أن اختفاءها كان مرتبطًا ارتباطًا تامًّا بإعلاني الذي نشرته في جريدة «التايمز».

لست بحاجة إلى قول إنني لو كنت قد وجدت السيدة كوينيون، كنت سأبذل قصارى جهدي لجعلها ترتعد خوفًا.

لم يعُد لديَّ سوى حقيقةٍ واحدة أخرى أريد أن أسردها، وهي حقيقةٌ مهمة، ألا وهي:

أمر المالك بيتلي بفحص الأنقاض بعناية، واستُخرجت من الأنقاض ألفا أوقية من الذهب والفضة، كانت قد ذابت بالطبع حتى صارت عديمة الشكل.

من هذه الحقيقة، يتضح أن المفتاح رقم ثلاثة عشر، الذي عُثر عليه مع الصبي المسكين، التعيس، السيئ التربية، المُهمَل، كان مفتاح الكنز الذي انتُشل بعد ذلك من تحت الأنقاض، وربما تُساوي قيمة الذهب والفضة أربعة آلاف جنيه استرليني.

لقد سرق الشاب المفتاح من كبير الخدم من دون شك، وانخرط في مؤامرة مع شركائه، وأسفرت كل التفاصيل مجتمعةً عن موته وإحراق منزل بيتلي على بكرة أبيه، وهو أحد أقدم وأجمل الأماكن — ولا بد من الاعتراف بأنه أكثرها رطوبة وكآبة أيضًا — في مقاطعات وسط إنجلترا.

وفي الواقع يمكنني أن أضيف أنني اكتشفت هوية «الرجل النبيل الطويل ذي الشارب الأحمر والوجه المرتعش»، كما اكتشفت هوية الرجل القصير القامة الذي بلا شارب على الإطلاق، وأخيرًا رأيت الشابة التي تُدعى فريدريكا (والتي كانت جميلة جدًّا)، ولا أشك في أن الشاب التعس قد فعل ما فعله من أجلها.

أما أنا، فلم أواصل العمل في القضية أكثر من ذلك.

لم تكن لديَّ رغبة في ذلك، وحتى لو كانت لديَّ رغبة في المواصلة، أشك في أنني كنت سأتوصَّل إلى أي أدلة إضافية إلا ما كان سيكفي لجعلي مثارًا للسخرية.

لقد تركت القضية على ما هي عليه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤