الفصل الثاني

(طريق من طرق القوافل بين نجد ويثرب، على مقربة من حي بني عامر حيث تبدو مضارب هذا الحي على مدى البصر وعلى سفح جبل التوباد — قيس وزياد جلوس إلى جذع نخلة، يستشرفان شبحًا يسير نحوهما)

قيس :
زيادُ ما تلك؟ مَن الجُوَيْرِيَهْ؟ أتلك (بلهاءُ)؟
زياد :
أجل قيس هيَهْ

(تظهر بلهاء وعلى رأسها قصعة)

قيس :
بلهاءُ كيف الحيُّ؟
كيف أُمِّيَهْ؟
بلهاء (وهي تضع القصعة) :
تسأل عنكَ
كما سألتَ

(تبدو على قيس كراهة للطعام وعزوف عنه)

زياد :
بالله قيسُ
إلا أكلت

(يشتد ميل قيس عن الطعام)

بلهاء (هامسة لزياد) :
زيادُ ما ذاق
قيسٌ ولا همَّا
زياد :
طبخُ يدِ الأمِّ
يا قيسُ ذُقْ مِمَّا
الأمُّ يا قيسُ
لا تطبُخُ السُّمَّا

(ينزع عن القصعة غطاءها)

تعال تأمَّلْ قيسُ، تلك ذبيحةٌ
قيس :
عسى اليومَ نحرٌ
زياد :
أين نحنُ من الأَضْحى؟
قيس :
أرى صُنْعَ أمي يا زيادُ، فَدَيتُها
بروحي وإن حمَّلتُها الهمَّ والبَرْحا
ستخبرنا البلهاء
زياد :
بلهاءُ بيِّني
ولا تكتمي عنَّا الحديثَ ولا الشرحا
بلهاء :
لقد مرَّ عرَّافُ اليمامةِ بالحمى
فما راعنا إلا زيارتُهُ صُبحا
طوى الحيَّ حتى جاء عن قيسَ سائلًا
وأظهرَ ما شاءَ المَوَدَّةَ والنُّصحا
ولاحت له شاةٌ جَثومٌ بموضعٍ
تخَيَّلَها ظلًّا من الليل أو جُنحا
فقال اذبحوا هاتيك فالخير عندَها
فقام إليها يافعٌ يُحسِنُ الذَّبْحا
فقال انزعوا من جُثة الشاة قلبَها
فلم نَألُ قلب الشاة نزْعًا ولا طرْحا
فلما شويناها رَقَى بعزائمٍ
عليها وألقى في جوانبِها المِلْحا
وقال اطلبوا قيسًا فهذا دواؤه
كأني به لما تناولَه صَحَّا
زياد :
تعلَّلْ قيسُ بالشاة
عساها تذهبُ الحُبَّا
فما العَرَّافُ بالمجهو
ل لا علمًا ولا طبَّا
ولم تَعْلَمْ عليه البيد
تدجيلًا ولا كِذْبَا
طبيبٌ جرَّبَ اليابسَ
في الصحراءِ والرَّطْبا
فذقْ قيس ولا تَرتَبْ
بما قال وما نَبَّا
وتلك الأمُّ يا قيس
أطِعْها تطِع الرَّبَّا
قيس :
زياد اسمعْ وكن عوني
وخلِّ اللومَ والعَتبا
إذا لم يكن بُدٌّ
فإني آكُلُ القلبا
زياد :
قيسُ يبغي القلبَ يا بلهاءُ أين القلب أينا؟
بلهاء :
هو عندي ويسيرٌ
ما اشتهى قيسٌ علينا
هو في الشاة
زياد :
هلمَّي
أخرجي القلبَ إلينا
بلهاء :
القلبُ! أين القلبُ؟ أين يا ترى وضَعْتُهْ؟
يا ويحَ لي! نسيتُ أني بيدي نزعتُه!
قيس :
وشاةٍ بلا قلبٍ يداوونني بها
وكيف يُداوي القلبَ من لا له قلب!

(تسير بلهاء إلى الحي ويظهر صغار من ناحية الحي يلهون في طائفتين، وإذ تقع أبصارهم على قيس وزياد تتغنَّى كل طائفة بغناء)

الطائفة الأولى :
قيسُ عُصفورَ البوادي
وَهَزارَ الرَّبَوَاتْ
طِرتَ من وادٍ لِوادي
وغمرتَ الفلواتْ
إيهِ يا شاعرَ نجدٍ
ونجيَّ الظَّبَيَاتْ
أضمرِ الحبَّ وأبدِ
لِأَعَفِّ الفَتَياتْ
الطائفة الثانية :
قيسُ كشَّفتَ العذارى
وانتهكتَ الحُرُماتْ
ودَمَغْتَ الحيَّ عارًا
في السنينَ الغابراتْ
قد ذكرتَ الغَيْلَ دعوى
واصطنعتَ الخلوَاتْ
صَلِيَتْ ليلى ببلوى
منك دون الفَتَياتْ!

(يلتقط قيس بضع حصوات من الأرض ويهم أن يحصب بها الصغار، ثم يتردد فينثر الحصا من يديه بينما يظهر من جانب الطريق الآخر ابن عوف وكاتبه نصيب)

قيس (مناجيًا نفسه) :
قيسُ لا! سامحْ صغارًا
لا يُحِسُّون الخطيئَهْ
إنهم فيما أتوْه
بَبَّغاواتٌ بريئَهْ
لُقِّنُوها كلماتٍ
نزهاتٍ أو بذيئَهْ
زياد (وهو يصرف الصغار) :
إِذهبوا عودوا إلى آبائكم
واذكروا قيسًا بخير يا خُبُثْ
إِذهبوا أوْحُوا إلى أترابكم
وليُبَلِّغْ حَدَثًا منكم حَدَثْ
سيْطَرَ الحبُّ على دنياكمو
كلُّ شيء ما خلا الحبَّ عَبَثْ

(يجري الصغار أمام زياد مضطربين ثم يختفون عن الأنظار، بينما يستلقي قيس على الأرض في شبه إغماء)

ابن عوف (إلى نصيب وزياد يطارد الصغار) :
انظرْ نُصَيْبُ ضجةٌ وصبيةٌ
ورجلٌ يرمي الصغار بالحصا
نصيب :
أرى أميري نشَأً تعلقوا
بابن سبيلٍ مُتْعَبٍ واهي القُوى
ابن عوف :
بل امضِ سَلْ
نصيب (معترضًا زياد) :
مَنِ الفتى؟
زياد (لنفسه وقد رأى ابن عوف) :
ماذا أرى؟
هذا أميرُ الصَّدَقات ههُنا

(ثم يرد على نصيب)

قيسُ إمامُ العاشقين
ابن عوف :
أيُّهم
فهم كثير، كل قيس بهوى
زياد :
أجلْ ولكنَّ الذي تُبْصِرهُ
أرفعُهم ذكرًا وأعلاهم سنى
ابن عوف :
لعله قيسُ الذي نعرِفُه
لقد رَويْت شعرَه فيمن رَوى
فأين ظلُّه زياد؟
زياد :
أنا ذا
أنا الذي يتبعُه حيثُ مشى
ابن عوف :
أنت الذي تهدي لكلِّ قريةٍ
مُجاجةَ النحل ونفحةَ الرُّبا
ما بالُه يَطَا الترابَ حافيًا
ويقطعُ البيدَ مُمَزَّقَ الرِّدا
خُذ يا نُصَيْبُ بُردتي فغطِّه
لا يلحقنَّه من العُرِي أذى
زياد :
إِحفظ عليك البُرْدَ يا أميرُ لا
فقرَ إليه بابن سيد الحمى
إن لقيس من ثياب الوشْيِ ما
يفنى به العمر وما يُعيي البلى
ابن عوف (مناجيًا نفسه) :
يا ويحَ قلبي ما خلا من قسوةٍ
ما بالُه رَقَّ لقيسٍ ورثى

(يقبل على قيس)

قيسُ بُنيَّ
زياد :
هو في إغماءة
من وَجْده وما أظنُّه صحا

(يسمع صوت حاد من ناحية نجد، ويتعالى الصوت قليلًا قليلًا حتى يظهر الحادين ومن ورائه قافلة تسير إلى المدينة ثم يذوب الصوت قليلًا قليلًا حتى ينقطع)

أنشودة الحادي :
يا نجدُ خُذْ بالزمامْ
ورحِّبِ
سرْ في رِكاب الغمامْ
ليثربِ
هذا الحُسَيْنُ الإمامْ
ابنُ النبي
النورُ في البيد زادْ
حتى غَمَرْ
أُحْدُ الحيا في الوهادْ
أُحْدُ القمر
أُحْدُ جمَالَ البَواد
زينَ الحضرْ
ابنَ النبي
ابن عوف :
سمعتمو؟ يا لكِ من
رنة حادٍ مُطرِبِ
زياد :
يا ليت شعري ما الركا
ب مَنْ لواءُ الموْكِب
نصيب :
قد بيَّن الحادي فقل
أصمُّ أنت أم غبي؟
هذا منارُ العرب
هذا الحُسينُ ابنُ النبي
هذا الزكيُّ ابنُ الزَّكِيِّ
الطيِّبُ ابنُ الطيب
عارَضَنا الحسينُ في
طريقه ليثرب
هذا سنا جبينه
مِلء الوهاد والرُّبي
قد جلَّ حاديه جلا
لَ القارئِ المطَرِّب
ابن عوف (هامسًا إلى نصيب) :
نصيبُ صه لا تَسلكنْ
بنا مسالكَ التُّهَمْ
ولا تَظاهرْ بالهوى
لوارث البيت العَلَمْ
إحذرْ جواسيس ابن هندٍ
وعيونَ ابن الحَكَمْ
نحن رجالُ دُولةٍ
قوَّامٍة على الأمم
ليس بعينها عمًى
ولا بأُذْنِها صَمَمْ
تسمع في ظل القصور
همسَ رُعيان الغنم

(إلى زياد مشيرًا إلى قيس)

زياد انظرْ فما انفكَّ
صريعَ الوجد والذكرى
كما مَرَّ بنا الركب الحسينِيُّ به مَرَّا
فلم يشغَلْ له بالًا
ولم يوقظْ له فكرا
زياد :
رويدًا سيدي مهلًا
ولا تستغرِب الأمرا
لقد سقناه بالأمس
فحجَّ الكعبَةَ الغرَّا
فلما لمس الركنَ
ومسَّتْ يدُه السِّترا
وقلنا الآنَ من ليلى
ومن فتنتها يبرا
سمِعناه ينادي الله
من ساحته الكبرى
ابن عوف :
وماذا قال؟
زياد :
ما تابَ
من العِشق ولا استبرا
ولكن قال يا ربُّ
ملكتَ الخيرَ والشرَّا
فهاتِ الضُّرَّ إن كان
هوى ليلى هو الضرا
وإن كان هو السحرَ
فلا تُبطلْ لها سحرا
ويا ربِّ هَبِ السلوى
لغيري وهب الصبرا
وهب لي مَوْتَةَ المُضنَى
بها لا مِيتَةً أُخرَى

(يقبل على قيس ويميل عليه بحنان)

حنانيْك قيسُ إلامَ الذهول؟
أفِقْ ساعةً من غواشي الخَبَلْ
صليلُ البغال ورَجْع الحُداءِ
وضجَّةُ رَكْبٍ وراء الجبَلْ
وحادٍ يسوق رِكابَ الحسَيْنِ
يهزُّ الجبالَ إذا ما ارتجلْ
فلم يبقَ ماشٍ ولا راكبٌ
على نجدَ إلا دعا وابتهَلْ
فقمْ قيسُ واضرعْ مع الضارعين
وأنزِلْ بجَدِّ الحسيْنِ الأملْ

(يسمع صوت حادٍ آخر قادمًا إلى نجد من ناحية يثرب، على رأس قافلة أخرى وتمر هذه القافلة كما مرت الأولى)

أنشودة الحادي :
هلا هلا هيَّا، إطوي الفلا طيَّا، وقرِّبي الحيَّا، للنازح الصَّبِّ
جلاجلٌ في البيدْ، شجيَّة الترديدْ، كرنَّة الغِرِّيدْ، في الفنَنِ الرَّطْبِ
أناح أم غنَّى، أم للحمى حنَّا، جُلَيْجِلٌ رنَّا، في شُعَب القلبِ
هلا هلا سيري، وامضي بتيسير، طيري بنا طيري، للماء والعُشبِ
طيري اسبقي الليلا، وأدركي الغَيْلا، العهدَ من ليلى، ومَنزِلِ الحبِّ
بالله يا حادي، فتِّشْ بتوْبادِ، فالقلبُ في الوادي، والعقلُ في الشِّعبِ
يا قمرًا يبدو، مَطلعُه نجدُ، قد صنع الوجدُ، ما شاء بالركب

(يفيق قيس ثم يتلتف مصغيًا إلى الحداء)

قيس :
ليلى! منادٍ دعا ليلى فخفَّ له
نَشْوانُ في جنبات الصدر عِربيدُ
ليلى! انظروا البيدَ هل مادت بآهِلِهَا
وهل ترنَّمَ في المزمار داودُ
ليلى! نداءٌ بليلى رنَّ في أذني
سحرٌ لعمري له في السمع ترديدُ
ليلى! تَرَدَّدَ في سمْعي وفي خلدي
كما تَرَدَّدُ في الأيك الأغاريدُ
هل المنادون أهلوها وإخوتُها
أم المنادون عشاقٌ معاميدُ
إن يَشرَكونيَ في ليلى فلا رَجَعتْ
جبالُ نجدٍ لهم صوتًا ولا البيدُ
أغيرَ ليلاي نادوْا أم بها هتفوا
فداء ليلى اليالي الخُرَّدُ الغيدُ
إذا سمعت اسمَ ليلى ثُبت من خَبَلي
وثابَ ما صَرَعتْ مني العناقيدُ
كسا النداءَ اسمُها حسنًا وحبَّبَه
حتى كأن اسمَها البشرى أو العيد
ليلى! لَعَلِّيَ مجنونٌ يُخَيَّلُ لي؟
لا الحيُّ نادوْا على ليلى ولا نُودوا
ابن عوف :
لا تكتئبْ وتعالَ يا قيسُ استرحْ
مما تكابد في الهوى وتلاقي
قيس :
هل أنت آسٍ يا أميرُ جراحتي
أم أنت من سحر الصبابة راقِ؟
ابن عوف :
بل من رُواتكَ قيسُ من زمنٍ مضى
لم أخلُ قيسُ عليك من إشفاق
قيس :
قل للخليفة يابنَ عوفٍ في غدٍ
مَنْذَا أباح له دمَ العشاق؟
هدَرتْ حكومتُه دمي فتحرَّشتْ
بدمٍ على سيف الجفُون مُراق
ابن عوف :
أرَضِيتني عند الخليفةِ شافعًا؟
يا قيس
قيس (في أنفة) :
لا والواحد ِالخلاقِ
بل عند ليلى فامض فاشفعْ لي لدى
ليلى وناشِدْ قلبَها أشواقي
جِئْها فذكِّرْهَا العهودَ وحِفظَها
واذكرْ لها عهدي وصِفْ ميثاقي
لَيلى إذا هي أقبلتْ حَقَنَتْ دمي
كرمًا وفكَّتْ يا أميرُ وَثاقي
ابن عوف :
الآنَ قيسُ اذهبْ فبدِّلْ حلَّةً
وَتَرَدَّ غيرَ ثيابِكَ الأخلاق
فالصبحَ تدخلُ حيَّ ليلى قيسُ في
ركْبي وبين بطانَتي ورفاقي
قيس (إلى زياد) :
أسمعتَ ما قال الأميرُ؟ زيادُ، طِرْ
نحو الحمى بجَنَاحي المشتاق
إِذهبْ وسلْ أمي أعزَّ ملابسي
من كل شاميٍّ وكلِّ عراقي
واذكرْ لها فضلَ الأمير، ولم تزَلْ
نِعَم الأمير قلائدَ الأعناق

(يسير زياد نحو الحي بينما يتمسح قيس بابن عوف كالطفل)

شكرًا لصُنعِكَ يا أميرُ
ودُمتَ مَقصودَ الرحابْ
عجِّلْ أمير
ابن عوف (ضاحكًا) :
بل انتظرْ
أنسيتَ يا قيسُ الثيابْ؟
قيس :
مَنْ مُبلغٌ أمي الحزينةَ
أن عقلي اليومَ ثابْ؟
ومَن البشيرُ إليكِ يا ليلى
بقيسٍ في الركابْ؟
اليومَ أهلًا بالحيَاة
ومرحبًا بكَ يا شبابْ!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤