مقدمة
نحن الآن في شهر مايو لعام ١٩٦٤. يقف اثنان من الفيزيائيِّين الأمريكيِّين إلى جوار جهازٍ علمي بحجم شاحنة. يعلو الجهاز — الذي يتخذ شكلَ بوقٍ أذنيٍّ عملاقٍ — منحدر تلٍّ منخفضًا فوق بلدة صغيرة تُدعى هولمدل في نيو جيرسي. كلا الرجلين في منتصف الثلاثينيات من عمرهما. آرنو بينزيس — الذي وُلِد في أسرة يهودية بافارية فرَّت إلى حي ذا برونكس في عام ١٩٣٩ — يتميَّز بطول قامته، ويلبَس نظارةً، وشعره منحسر عن جبهته. وروبرت وودرو ويلسون من هيوستن، تكساس يتميَّز بطول القامة أيضًا، ولحيتُه داكنة اللون، وأصلع. التقى الثنائي في مؤتمرٍ قبل عامين فقط. وقد انسجما معًا ببراعة رغم أن بينزيس كثيرُ الكلام جدًّا، وويلسون خجول ومتردِّد. وقد انضمَّا إلى مختبرات بيل الشهيرة عالميًّا ليعملا على مشروعٍ لرسم النجوم باستخدام الموجات الدقيقة (موجات الميكروويف). كلاهما يحدِّق إلى السماء. وكلاهما مشدوه.
اكتُشِفت الموجات الدقيقة — أو الإشعاع بأطوالٍ موجية بين الملِّيمتر والمتر — قبل قرن تقريبًا وأصبحت موضوعًا مثيرًا حين حاول علماءُ الحرب العالمية الثانية العسكريون تسخيرَ هذه الموجات من أجل أجهزة الرادار، وحاولوا صناعةَ أسلحة شعاعية قادرةٍ على إسقاط صواريخ العدو. وبعد الحرب، أبدت شركات الاتصالات اهتمامَها بتلك الموجات بعد أن تمكَّن الفيزيائي روبرت إتش ديكي — الذي كان يعمل في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا الذائع الصيت عالميًّا — من تصميمِ جهاز استقبال فعَّال قادر على كشف الموجات الدقيقة. وفي ظل إتاحة كلٍّ من جهاز الإرسال وجهاز الكشف، كانت وسيلةٌ جديدة للاتصال اللاسلكي قد أصبحت تلوح في الأفق.
كان أول تخمينهما أن الصوت هو تداخل من نوعٍ ما من مصدرٍ محلي للموجات الدقيقة. فأخذا يتفقدان الأمرَ واستبعدا مدينة نيويورك، والتجارب النووية، والمنشأة العسكرية القريبة منهما والاضطرابات الجوية. وبعد أن زحفا إلى داخل هوائيِّهما، اكتشفا زوجي حمَام مقيمين فيه، وظنَّا أن رَوثهما هو ما يسبِّب ذلك. فوضعا الأشراك وأزالا روثهما، لكن حين ظلَّت الحمامتان تعودان، ركن العلماءُ إلى إطلاق النار عليهما. لكن حتى بعد قتلهما، ظلَّ البوق يصدر هسهسةً على نحوٍ منتظِم، أينما وجَّها جهازهما في سماء الليل المظلمة.
تقع جامعة برينستون على بُعد ساعة واحدة تقريبًا بالسيارة من هولمدل. وبعد الحرب، انتقل روبرت ديكي إلى هناك ليلقي المحاضرات ويقودَ مجموعةً بحثية تركِّز على فيزياء الجزيئات، وأشعة الليزر وعلم الكون. وقد تخصَّص مختبره في تطوير أجهزةٍ حسَّاسة لاختبار التنبؤات الكونية لنظرية أينشتاين العامة عن النسبية. حينها كان عِلم الكون يمثِّل ميدانَ تنافُس لمجموعتين من المنظِّرين كانتا تتباريان من أجلِ تفسير اكتشاف إدوين هابل المذهل، والذي كان قد جرى قبل عدة عقود، ومفادُه أن الكون يتمدَّد. فضَّل أحد هذين المعسكرين نظريةَ الحالة المستقرة، التي تقول بأن الكون لطالما كان يتمدَّد، وميزانه في ذلك الخلق المستمر لمادةٍ جديدة في فضاءاته. أما معسكر المنظِّرين المنافِس — وهو عبارة عن مجموعةٍ كانت تشمل ديكي — فأخذ نظريةَ التمدُّد بمعناها الظاهري وسار بها عكسَ الزمنِ ليفترض أن الكون قبل ما يقرُب من أربعة عشر مليار عام لا بد أنه قد انبثق إلى الوجود نتيجةَ انفجار عنيف بدأ من نقطةٍ متناهية الصِّغر.

كمَنَت المشكلة في أنه لم يكن من السهل التمييزُ بين النظريتين المتنافستين؛ حيث قدَّمتا تنبؤاتٍ متشابهة للغاية. ومع ذلك، فقد أدرك ديكي أن الكون الذي انفجر ينبغي له أن يكون قد خلَّف مدفعًا كونيًّا من نوعٍ ما يبعث الدخان في شكل سحابة متماثلة من إشعاع موجات دقيقة منخفض الطاقة. ورأى أن نوعيةَ أجهزة كشف الرادار التي طوَّرها في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا يمكن أن تُعدَّل لكشف سحابة الطاقة الكونية. إلا أن إشعاع الموجات الدقيقة سيكون خافتًا للغاية، وأضعفَ بكثير من أي إشارة رادار أو إشارة لاسلكية. وسيتطلَّب كشفُ هذا الإشعاع جيلًا جديدًا من أجهزة كشف الموجات الدقيقة العالية الحساسية. فعزَم ديكي ومجموعتُه في جامعة برينستون على صناعةِ واحدٍ منها.
وعلى مدى الشهور والسنين، عقدَ أعضاء المجموعة مناقشاتٍ بحثيةً تصفُ ما يحرزونه من تقدُّم مطَّرد. وقد حضر زميل لكلٍّ من بينزيس وويلسون أحدَ هذه الاجتماعات ونقلَ لهما أخبارًا عن جهود فريق جامعة برينستون. فهل يمكن أن تكون الهسهسة المتكرِّرة الناجمة عن الموجات الدقيقة في هوائي البوق هي الإشارة التي كان يبحث عنها ديكي؟ قرَّر بينزيس أن يتحدَّث هاتفيًّا إلى روبرت ديكي. وحدث ذلك حين كان ديكي يُجري «اجتماع غداء غير رسمي» في مكتبه بجامعة برينستون. يتذكَّر زملاءُ ديكي أنه رفع سماعة الهاتف وأخذ يستمع بإنصات، وكان بين الحين والآخر يكرِّر عباراتٍ من قبيل «هوائي البوق» أو «ضوضاء زائدة» ويومئ لذلك. وفي النهاية، وبعد أن وضع سماعة الهاتف، التفت إلى مجموعته وقال: «في الواقع أيها الرجال، لقد سبقَنا آخرون». وأدرك ديكي أن بينزيس وويلسون كانا قد اكتشفا الانفجارَ العظيم.
في اليوم التالي، انطلق ديكي وفريقُه إلى مختبرات بيل ليتفقَّدوا هوائي البوق ويمعِنوا النظر في البيانات المسجَّلة. وعادوا وهم مقتنعون بأن بينزيس وويلسون اكتشفا بالفعل بقايا الموجات الدقيقة التي نجمَت عن الانفجار العظيم. وكان أكثر ما أذهل كلا الفريقين هو سلاسة إشعاع الخلفية الكونية، كما سُمِّيت لاحقًا. وبقدْر ما أمكنهم معرفته، فإن تلك الموجات كانت على مقدارِ الكثافة نفسِه في أي مكان كانوا يبحثون فيه في السماء. وهذا الاكتشاف أدَّى إلى أن يحوز بينزيس وويلسون جائزةَ نوبل في عام ١٩٧٨. وبعد ما يقرُب من عقدٍ من الزمن، أطلقت وكالة ناسا القمر الصناعي «مستكشف الخلفية الكونية» ليقدِّم قياساتٍ أكثرَ دقة واكتشفت وجود تموُّجات خافتة في إشعاع الخلفية الكونية، مع وجود تفاوت في كثافةِ الإشعاع بأقلَّ من جزء واحد في كل مائة ألف جزء. وهذا أقل بكثير من التفاوت الذي قد تراه في بياضِ أنصعِ ورقة بيضاء رأيتها من قبل في حياتك. وبعد هذا بعقدٍ من الزمن؛ أي في عام ١٩٩٨، أطلقت وكالة الفضاء الأوروبية جهاز كشْف الموجات الدقيقة الخاص بها والذي يُدعى مرصد بلانك الفضائي، وأكدت وجودَ كلٍّ من التموُّجات الخافتة والتماثل الاستثنائي لإشعاع الخلفية الكونية.

«يتذكَّر» الكون بدايته البسيطة حتى إن أساساته تظل بسيطة؛ وذلك بعد مرور أربعة عشر مليار عام على الانفجار العظيم. يسعى هذا الكتاب لاستكشاف تلك الأساسات — أي، اللبنات البسيطة لكوننا — من خلال أداةٍ تُعرف باسم «شفرة أوكام»، التي سُمِّيت تيمنًا براهبٍ فرنسيسكاني يُدعى ويليام الأوكامي، الذي عاش قبل بينزيس وويلسون بسبعة قرون.
بدأ اهتمامي بأمر البساطة هذا أثناء اجتماعٍ بحثيٍّ خاص بعلم الأحياء عُقِد في مكان عملي بجامعة سوري في المملكة المتحدة، في غضون الوقت الذي أطلقت فيه وكالة الفضاء الأوروبية مرصدها بلانك لقياس إشعاع الخلفية الكونية. هناك استمعت إلى حديثٍ ذي عنوان مثير يقول «ليس لشفرة أوكام مكانٌ في علم الأحياء» قدَّمه صديقي وزميلي هانس ويسترهوف. وكان صُلب حجَّة هانس هو أن الحياة في غاية التعقيد، أو كما وصفها هانس «معقَّدة بشكل غير قابل للاختزال» بحيث لا يمكن لشفرة أوكام أن تكون ذات أدنى فائدة. في ذلك الوقت؛ أي قبل ما يزيد عن عَقدين من الزمن، لم أكن أعرف شيئًا عن أوكام، وبالكاد كنت أعرف بعضَ المعلومات عن شفرته؛ لكنني أتذكَّر أنني كنت أقود سيارتي مارًّا بلافتة على الطريق تشير إلى قرية أوكام وأنا في طريقي للعمل كل يوم. وكانت المصادفة كافية لإثارة اهتمامي وإقناعي بأن أفتِّش في شبكة الإنترنت ذلك المساء لأرى إن كان باستطاعتي إيجاد أي معلومات قد تنقذ سمعة شفرتنا المحلِّية الملهمة.
واليوم، يُعرف المصطلح في شكله «لا ينبغي الإكثار من الكِيانات لما يتجاوز الضروري». وتشير كلمة «الكِيانات» هنا إلى أجزاء الفرضيات والتفسيرات أو النماذج الخاصة بأي نظامٍ بعينه. وهكذا، فإن اكتشفْتَ على نحوٍ غير متوقَّع موجاتٍ دقيقة في هوائي البوق الخاص بك، فابحث عن كيانات مألوفة لتفسير هذه الظاهرة، كمنشآت رادار أو حمَام، قبل أن تتصوَّر كيانات جديدة، مثل نظرية الانفجار العظيم. وعلى قدْر علمِنا، لم يعبِّر ويليام أبدًا عن تفضيله للتقتير بالشكل نفسه الذي ذكرناه بالأعلى، لكنه عبَّر عن الميل نفسه في جملٍ من قبيل «لا ينبغي الإكثار من شيء دون أن تقتضي الحاجة ذلك» أو «من العبث استخدام عدد أكبر إن أمكن استخدام عدد أقل».
وفي المساء التالي للِّقاء البحثي الذي عقده هانس، بدأتُ في جمْع خيوط قصة ويليام، وكلما جمعت المزيد منها، أصبحت القصة مذهلة أكثر. فحين بدأت أفكار ويليام تتسرب إلى خارج جامعة أكسفورد — بما في ذلك تقويضه لكل «الأدلة» الراسخة عن وجود الإله — اتُّهم بتدريس الهرطقة واستُدعي إلى مدينة أفينيون ليُحاكم أمام البابا. لكن هناك، تورَّط ويليام في صراعٍ مميت أكثرَ بين البابا ورهبان الفرنسيسكان؛ صراعٍ أثار ويليام ليتهم البابا بالهرطقة وأدَّى به إلى الفِرار من المدينة وفي إثره مجموعة من جنود البابوية تطارده.
ولم ينتهِ عمل شفرة أوكام. فبينما تتحسَّس الفيزياء طريقها تجاه أبسطِ النظريات الممكنة، فإن علماء الأحياء يكافحون من أجل استنباط نظرياتٍ بسيطة من دَفْق البيانات المتسارع الذي ينصبُّ من علم الجينوم والتقنيات المشابهة الأخرى. ويظلُّ كذلك اليوم محلَّ خلاف وجدل بقدرِ ما كان في عصر الأوكامي. فعلماء الإحصاء يتجادلون دومًا بشأن قيمته وأهميته. ومؤخرًا، نشر مجموعةٌ من العلماء الفرنسيين ورقةً بحثية يدفعون فيها بأن النماذج البسيطة — والتي تدعو إليها الشفرة — تمنطق جائحة كوفيد-١٩ التي تجتاح بلدَهم على نحوٍ أفضل من النماذج الضخمة والمعقَّدة التي يستخدمها معظم علماء الأوبئة. وفي طليعة العلوم، تستمر البساطة في تعريفنا بأعمق الرؤى وأكثرها غموضًا وإبهامًا وفي بعض الأحيان إثارة للاضطراب.
ولربما كان أكثر ما يثير الدهشة أنه من الواضح على نحوٍ متزايد أن قيمة شفرة أوكام ليست مقتصرة على العلوم. فقد أكَّد ويليام شكسبير أن «الإيجاز روح الحكمة»، وقد أخذت الحداثةُ ذلك المبدأ في صميمها. فمن الموسيقى التقليلية التي قدَّمها جون كيج إلى خطوط التصميم المعماري البسيطة للمعماري لو كوربوزييه، أو النثر المقتصد لصامويل بيكيت أو خطوط التصميم السلِسة في أجهزة الآي باد، نجد أن الثقافة الحديثة غارقة في البساطة. ونجد صدى شفرة أوكام في نصيحةِ المعماري فان دير روه أن «الأقل هو الأكثر»؛ وتوجيهات عالِم الكمبيوتر بيارن ستروستروب بأن «نبسِّط المهام البسيطة»؛ وملاحظة الكاتب والطيَّار أنطوان دو سان إكزوبيري التي تقول بأننا «يبدو أننا نصل إلى الكمال ليس حين لا يبقى شيء نضيفه، بل حين لا يبقى شيء نُقصِيه». وفي مجال الهندسة يشتهر هذا المبدأ تحت مسمَّى «دعْه بسيطًا، يا أحمق»، وهو مبدأ في التصميم تبنَّته البحرية الأمريكية في ستينيات القرن العشرين، إلا أنه الآن يُعدُّ مسلَّمًا به عالميًّا، باعتباره أساسيًّا في الهندسة الصوتية. إن العالَم الحديث يرتكز على شفرة أوكام.
عِلاوة على ذلك، وربما كان هذا أكثرَ أهمية، فإن هذا الكتاب لا يُعَد تأريخًا للعلم بقدرِ ما يُعَد سردًا واستكشافًا لأكبر الأفكار — في داخل مجال العلم وخارجه — والتي استُلهِمت من شفرة أوكام. إذ يبدأ الكتاب في عالَمٍ كان العلم فيه في الأساس فرعًا من فروع علم اللاهوت. قد يبدو هذا غريبًا لنا اليوم، لكن وخلال معظم فترات التاريخ الإنساني، كان هذا المنظور هو السائد. لقد ساعد ويليام الأوكامي وشفرته في تحرير العلم من قيوده اللاهوتية، وفي اعتقادي أن هذا العمل الفذ كان ضروريًّا لمسار التاريخ الإنساني اللاحق. لكن حتى اليوم، يظل العلم سجينَ سياقه الثقافي، ولا يتجلى هذا أكثر إلا حين ننظر في أصوله ومسار تطوُّره. ومن ثَم، فإن هذا الكتاب يستكشف أيضًا العالَم الأوسع الذي تعمل فيه شفرةُ أوكام.
أخيرًا، هناك علمٌ واحد فقط، إلا أن له الكثيرَ من الفروع والجذور المنتشرة التي امتدت إلى بلاد الرافدين القديمة — حيث تتبَّع الفلكيون الأوائل حركاتِ النجوم — وإلى الهند القديمة حيث ابتكروا النظامَ الذي نطلِق عليه الآن الأرقام العربية. وامتدَّت تلك الجذورُ أيضًا إلى الصين القديمة حيث نشأ الكثيرُ من التقنيات كالطباعة بالقوالب الخشبية، وإلى شواطئ إيجة؛ حيث استخدم اليونانيون القدماء الرياضيات لأول مرة لفهْم العالَم وإضفاء معنًى عليه، وكذلك إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حيث حافظ العلماء المسلمون على العلوم اليونانية وأمدُّوا نطاقَها إلى مجالات جديدة كعلوم البصريات والكيمياء. لقد أسهم الملايين من الأشخاص في مئات الأماكن ولمراتٍ لا تُحصى في نظام التفكير البارز هذا الذي نطلق عليه اليوم العلم الحديث. لكن من المؤسف أن معظم العلماء الذين استَخدمتُ أعمالهم في البرهنة على الدور الذي لعِبته شفرة أوكام هم من رجال الغرب البيض الأثرياء. ليس هناك شكٌّ في أن الناس من كل الأجناس والأعراق قد أسهموا في العلم الحديث، لكن الافتقار إلى الفرص والتحيُّزات والعوائق الاجتماعية تركت إسهاماتهم تلك غير موثَّقة بصورةٍ كبيرة. وقد حاولت أن أدرأ هذا الصدع في الفصول الأخيرة من هذا الكتاب لأبرهن على قناعتي بأن العلم كان، وسيظل، أكثرَ المساعي التعاونية للجنس البشري.
وتبدأ رحلتنا برحلة بحرية.