خاتمة

ظلَّ ويليام الأوكامي في كنَف الإمبراطور الروماني المقدَّس لويس في ميونخ وحولها مذ حلَّ عليها حوالي عام ١٣٢٩، وذلك حتى مات حين كان في الستين من عمره تقريبًا. أثناء تلك الفترة استمر الفرنسيسكان المنشقون في احتفاظهم بالخاتم الرسمي للرهبنة وببعض السيادة عليها في المنفى. كما استمروا أيضًا في كتابة أطروحات سياسية يدينون فيها البابا جون الثاني والعشرين ومَن تلاه من باباوات، بالإضافة إلى التعليق على نطاقٍ واسع من القضايا والمسائل السياسية، على وجه الخصوص حدودُ السلطة البابوية والمَلَكيَّة. وقد زارهم المتعاطفون معهم من العلماء في منفاهم، بما في ذك الكتبةُ الذين يتوقون لنسخ كتاباتهم. يعود تاريخ نسخة كونراد دي فيبث لكتاب ويليام الأوكامي «خلاصة المنطق» بما تتضمَّنه من صورة لويليام إلى تلك الحِقبة. تقبع تلك النسخة الآن في مكتبة كلية جنفيل وكيز بجامعة كامبريدج. وفي استعراض لتأثير الفرنسيسكان على الفنون الإنجليزية، فقد صُنِّفت على أنها «لا تحظى بأي قيمة».

وقد فشلت حركة التمرُّد التي حرَّض عليها ويليام الأوكامي وأتباعه من الفرنسيسكان باعتبارها قوةً سياسية معاصرة. وقدَّم البابا جون الثاني والعشرون خاتمًا رسميًّا جديدًا للرهبنة وعيَّن لها كاهنًا عامًّا جديدًا خاضعًا له والذي سعى لإخماد الانشقاق في الرهبنة. لكن وكما اكتشفنا، وعلى الرغم من الحظر والإدانات التي تعرَّضت لها أفكار ويليام، فقد ظلَّت تَهدر في العالَم العصرأوسطي، فنجت من الموت الأسود وعاودت الظهور — عادة من دون إسناد على ذلك — في حِقَب النهضة والإصلاح والتنوير.

لسوء الحظ، لا نعرف سوى القليل عن السنوات اللاحقة من حياة ويليام، رغم أننا نعرف أنه سافر في بعض الأحيان إلى المدن الأوروبية ليلقي المحاضرات، وكان في ذلك لا يزال ملاحَقًا من قِبل عملاء العديد من الباباوات. حتى إن أحد الباباوات هدَّد بحرق مدينة تورناي — التي هي اليوم في بلجيكا — عن بكرةِ أبيها فقط من أجل أن يلقي القبض على العالِم الهارب.1

في العام ١٣٤٢ حين مات ميكيله من تشيزينا، أصبح ويليام هو حاملَ خاتم الفرنسيسكان الرسمي، وظلَّ معه حتى وفاته يوم ١٠ من شهر أبريل لعام ١٣٤٧، وهو العام الذي اجتاح فيه وباء الطاعون أرجاءَ أوروبا. دُفِن ويليام — على الأرجح رفقةَ خاتم الرهبان الفرنسيسكان — في كنيسة سان فرانسيس في ميونخ. وقد وقف نقشٌ يميِّز قبره في ذلك الموقع حتى هُدِمت الكنيسة في العام ١٨٠٣ ودُمِّر شاهد القبر. وتقف دار أوبرا الآن محلَّ الكنيسة. وبالقرب منها نجد شارعَ أوكام المزدحم، وهو يحوي فندقًا يحمل اسم فندق أوكام، وكذا متجرًا لبيع الأطعمة الخفيفة وحانة للنبيذ في غاية البهجة تُدعى أوكام ديلي.

يقع المتجر عند زاوية شارعي أوكام وفيليتز. سِر بضع دقائق على طول شارع فيليتز وانعطف يسارًا إلى شارع ليوبولد وبعد عشر دقائق أو نحو ذلك ستجد نفسك تحت باب جامعة لودفيج ماكسيميليان في ميونخ؛ حيث درس ماكس بلانك الفيزياء فيما بين عامي ١٨٧٤ و١٨٧٧. ستذكُر أن تاريخ ميكانيكا الكم يبدأ في يوم ١٩ أكتوبر من العام ١٩٠٠ حين قدَّم بلانك معادلتَه التي بدَّدت إحدى غمامتَي اللورد كلفن. ومثل كل الإنجازات العلمية الكبيرة، كانت تلك المعادلة تتضمَّن تبسيطًا. فعند الترددات المنخفضة، يتنبأ قانون رايلي-جينس بصورة صحيحة بإشعاع الجسم الأسود، في حين كنا بحاجة لقانون فين لنتنبأ بالطيف عند الترددات العالية. لم يدحض بلانك أيًّا من القانونين لكنه برهن أن معادلته الثورية تصلح لكل نطاقات الترددات. وكما عبَّر عالِم الكيمياء والحاصل على جائزة نوبل رولد هوفمان، فإن بلانك تبِع «المنطق — منطق شفرة أوكام — في الفرضية الكمية».2

بالطبع لم يستشهد ماكس بلانك لا بويليام الأوكامي ولا بشفرته في ورقته العلمية الثورية. ذلك أنه لم يكن بحاجة إلى ذلك. فبحلول ذلك الوقت، كان جميع العلماء ينزعون نحو الحلول البسيطة باعتبار ذلك أمرًا مفروغًا منه، رغم حقيقة أن معظمهم كان سيتعرَّض لضغوط مضنية لتبرير ذلك. بالنسبة إلى أي عالِم من العصر الحديث، فإن اختيار نظرية معقَّدة في حين أن هناك أخرى أكثر بساطة ستفي بالغرض لهو أمرٌ ببساطة غير علمي. لكن وكما اكتشفنا، فإن هذا التفضيل الراسخ تجاه البساطة ضمن حدود العلم هو فكرة حديثة العهد نسبيًّا وتَدين بكل شيء لويليام الأوكامي الذي قضى على المعتقدات العصرأوسطية ليوفِّر مساحةً لعلمٍ أكثرَ دقة وبساطة. وبوجود شفرة أوكام في المتناول، أثبت هذا العلم قيمته، وذلك من خلال إضفاء معنًى على كونٍ مثيرٍ للحيرة وتوفير حيوات لنا هي أكثر سعادة وأطول أمدًا وأفضل صحة وأكثر إرضاءً من تلك التي عاشها غالبيةُ أجدادنا أو كابدوها.

كثيرًا ما أفكِّر في ويليام الأوكامي حين أذهب إلى الجري في الصباح الباكر في ويمبلدون كومن في جنوب غربي لندن، بالقرب من المكان الذي أقطن فيه. فالمسار الذي أسلكه في معظم الأحيان يقودني على طول نهر بيفرلي بروك عبْر محمية فيشبوندز وود، مرورًا بعدة بركٍ صغيرة كانت في سالف العصر هي بحيرات أسماك دير ميرتون برايوري والذي تأسَّس في العام ١١١٧ على يد الرهبان الأوغسطينوسيِّين. كان ذلك الدير لا يزال مزدهرًا في بواكير القرن الرابع عشر حين كان ويليام الأوكامي يعيش ويدرس في جرايفرايرز في لندن التي تبعُد عنه مسافة ثلاث ساعات سيرًا أو ساعة ركوبًا. وأتساءل إن كان ويليام في السنوات الخمس أو نحو ذلك التي عاشها في جرايفرايرز قد سافر بين الحين والآخر جنوبًا لزيارة الدير الشهير، وربما أنه شارك حتى في مناظرة عاصفة حول اللاهوت العلمي أو التداعيات الصارخة لطلاقة القدرة الإلهية. وإن كان الطقس جيدًا، لربما أنه تباطأ برهةً ليستمتع بجولة حول الحقول والجداول الصغيرة والبحيرات والغابات كاستراحة لاستعادة النشاط والتقاط الأنفاس من الشوارع الضيقة المزدحمة والروائح البغيضة لأزقةِ ذا شامبلز التي تحيط بديره.

وربما بين الحين والآخر — مثلي حين أذهب إلى الجري صباحًا — كان ينعطف منعطفًا خاطئًا في الغابة ويضل طريقه. بعد ثمانية قرون، وجدت نفسي في هذا الموقف بالتحديد (الصورة على اليمين). سيكون التقدُّم في المسير مستحيلًا من دون أي إشارة إلى الاتجاه الذي أنا بحاجة لأن أسلكَه لأخرج من بين هذه الشجيرات الصغيرة الكثيفة. لكن لو تقدَّم ويليام بضع خطوات — مثلي — إلى الأمام والتفت يمينًا، لاكتشف أنه بالفعل على مسارٍ خالٍ للخروج من الغابة (الصورة على اليسار). إن مجردَ تغيير في التوجُّه يمكن أن يكون كافيًا بما يسمح لنا أن نخرج من أدغال التعقيد وندلِف إلى عالَمٍ أكثرَ بساطة وعقلانية.

fig42
إن شفرة أوكام في كل مكان. فقد حفرت لنا مسارًا عبْر أدغال المفاهيم الخاطئة والعقائد الدينية والتعصب الأعمى والتحيُّز والأفكار الجامدة والمعتقدات الخاطئة والهراء المحض التي عرقلت تقدُّمنا في معظم الأوقات وأغلب الأماكن. ليس الأمر أن البساطة قد جرى تضمينها في العلم الحديث؛ بل إن البساطة هي العلم الحديث، ومن خلالها نصل إلى العالَم الحديث. من المؤكَّد أن المزيد من أوجه التبسيط تنتظر أن يكتشفها العلماء، خاصة أولئك الذين ينتمون إلى قاعدةٍ أكثرَ اتساعًا لا تهتم بمسألة الجنس أو العِرق أو التوجُّه الجنسي، وهي غير مثقلة بأوجه التحيز والعقائد الجامدة التي عرقلت تقدُّم القصة حتى وقتنا هذا. وثمَّة الكثير والكثير من العمل الذي بحاجة لأن يُنتهى منه حتى في قلب شفرة أوكام — الفيزياء — حيث لم يجِد أحدٌ بعدُ طريقةً لتوحيد أفضل نظرية لدينا عن تركيب الكون وهي النسبية العامة، مع أفضل نظرية لدينا عن تركيب الذرات، وهي ميكانيكا الكم. وكما عبَّر أحدُ أعظم علماء الفيزياء على مدى القرن العشرين وهو جون آرتشيبالد ويلر: «خلف كلِّ شيء توجد بالطبع فكرةٌ غاية في البساطة والجمال حتى إننا حين نقبض عليها — في غضون عَقد من الزمن أو قرن أو ألفية — سنقول لبعضنا، كيف أمكن أن يكون الأمر على غرار غير ذلك؟»3

إن الحياة بسيطة حقًّا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤