الفصل الثالث عشر

الشرارة الحيوية

دراسة الروح ذاتُ أهمية قصوى. لكنَّ استقصاءها يبدو مهمًّا من أجل تقصِّي الحقيقة على وجه العموم، ودراسة الطبيعة على وجه الخصوص. ذلك أن الأرواح هي جوهر الحياة الحيوانية.

أرسطو، «عن الروح»

دَور العلم هو «استبدالُ بساطة خفيَّة بتعقيدٍ ظاهر».

جان بابتيست بيرين
بزغ ضوءُ النهار على سهول اللانوس العشبية في وسط فنزويلا بينما كانت تنطلق مجموعةٌ من السكان المحليِّين بأمريكا الجنوبية بصحبة اثنين من الرجال البيض الأوروبيِّين على ظهر الجياد من قرية راستو دي أباكسو بحثًا عن ثعابين البحر أو الأنقليس. نحن الآن في صباح يوم التاسع من شهر مارس لعام ١٨٠٠، وهو فجرُ قرن سيعجُّ بالاضطرابات الاجتماعية والثورات العلمية، لكن فنزويلا كانت تقبع في انعزالٍ وتخلُّف. على الأرجح أن المرشدين المحليِّين كانوا أعضاء في إحدى عشائر جوايبو العديدة التي كانت تقطن حينها سهولَ اللانوس الممتدة شرق المرتفعات الشمالية لسلسلة جبال الأنديز. وأسماء أولئك المحليِّين غيرُ مسجَّلة، لكنَّ اسمَي الرجلين الأبيضين هما إميه بونبلان (١٧٧٣–١٨٥٨) وألكسندر فون هومبولت (١٧٦٩–١٨٥٩). كان بونبلان عالِمَ نباتات فرنسيًّا يتمتَّع بالقوة ورِباطة الجأش، فيما كان هومبولت عالِمًا ومستكشِفًا بروسيًّا على قدرٍ من الوسامة والنحالة، ويهتم اهتمامًا كبيرًا بطبيعة الحياة والكهرباء. المأساة أن السكان الأصليِّين لسهول اللانوس كادوا يفنُون عن بكرةِ أبيهم. إلا أن أحد آخر المستكشفِين الغربيِّين الذين التقَوا بهم ووصفوهم قدَّم سردًا رائعًا عن تقاليدهم وخرافاتهم وأساطيرهم، وهو البارون هيرمان فون فالدي-فالديج.1
وردَ وصفٌ لهذه الرحلة الاستكشافية في كتاب هومبولت بعنوان «سرد شخصي»،2 وهو كتابٌ ألهم فيما بعدُ تشارلز داروين وألفريد راسل والاس. تقدَّم المرشدون الرجلين الأبيضين نحو مجرًى مائي كان يتقلَّص إلى بحيرة موحلة في الفصل الجاف «تحيط بها أشجار جميلة؛ منها أشجار الكلوسيا والأمريس والميموزا ذات الأزهار العطِرة». ولدى وصول المرشدين، شرحوا أن المياه العكِرة تعجُّ بثعابين البحر القوية والمعروفة باسم «مسبِّبة الرعشات» والتي يمكن لصدماتها الكهربائية المؤلمة أن تشل حركةَ إنسان بالغ أو حتى تقتله. وإلى جانب أن ثعابين البحر تلك شديدة الخطورة، فإن صيدها أيضًا في غاية الصعوبة؛ ذلك أنها تدفن نفسها في الوحل. لكن كان لدى السكان المحليِّين وسيلةٌ عبقرية لصيدها، وهي «الصيد بالجياد».

حيَّرت هذه العبارة المستكشفَين، لكنهما جمعا معداتهما وجهَّزاها لتشريح الصيد المرتقَب ودراسته، بينما انطلق مرشدوهما في الغابة المحيطة. ولم يكن يتحتَّم على الرجلين الانتظارُ طويلًا. فقبْل وقت الظهيرة، قطع هدير حوافر الجياد وهي تقترب طنينَ الغابة — إذ كانت الحوافر كثيرةً للغاية. ركض الفُرسان إلى الفسحة في الغابة وهم يقودون قطيعًا يتألف من حوالي ٣٠ جوادًا وبغلًا بريًّا. وبنخزات من حرابهم وضرباتٍ من عصيهم المصنوعة من الخيزران، قاد الرجال الجيادَ إلى البِركة التي اضطربت مياهها ذعرًا وخوفًا «بثعابين بحر ضاربة إلى الصفرة وأخرى زرقاء رمادية، تشبه ثعابين مائية كبيرة». هاجمت الثعابين المضطربة غزاة البحيرة، وذلك بأن دفعت نفسها نحو بطون الحيوانات صاعقةً إياها بالكهرباء مرة تلو الأخرى فاهتاجت الجياد في جنون: فكان ذلك «صراعًا بين حيوانات ذات طبيعة مختلِفة [ما] أمدَّنا بمشهد مذهل أخَّاذ».

في غضون خمس دقائق، غرِق اثنان من الجياد. وتمكَّنت عدة جياد من الخروج إلى الضِّفة وهي تتعثر في ارتعاش وإنهاك، لكن ظلَّت بقية القطيع تعاني هجمات متكررة من الثعابين. بدا الأمر لبرهة أن الجياد التي استُخدمت طُعمًا ستستسلم إلى حتفِها الموحل، لكن هجمات الثعابين هدأت تدريجيًّا؛ حيث بدا أن الأسماك أُنهِكت فانسحبت إلى حافة البحيرة. هنا بدأ الصيد الحقيقي حيث تمكَّن الرجال وهم مسلَّحون بحراب قصيرة مربوطة إلى حبال جافة من الإمساك بخمسة ثعابين بحر حيَّة. سُرَّ هومبولت وبونبلان بذلك. كانت الثعابين الصاعقة الخمسة تمثِّل كنزًا علميًّا ثمينًا سيساعد في حل لغز أكثرِ الجدالات العلمية إثارةً للجدل في القرن الثامن عشر: ألا وهو طبيعة الحياة.

fig22
شكل ١٣-١: صيد ثعابين البحر الصاعقة بالجياد.

بعد أن هجر قرونًا طويلة من التكهُّنات الغامضة، كان رينيه ديكارت قد أطلق الثورة الميكانيكية في القرن السابع عشر، وذلك عن طريق إصراره على أن كل المادة الموجودة في الكون — سواء كانت في صورتها الحية أو الجامدة — تتكوَّن من دوَّامات دوَّارة من جسيمات جامدة. لكن التفسيرات الميكانيكية للحياة لم تفلح في إقناع معظم العلماء. وقد قارن ديكارت الحياةَ بعمل الساعة إلا أن قلة من العلماء فقط هم مَن أخذوا على محمل الجِد فكرةَ أن الساعات وطيور الوقواق تعملان بالآليات نفسها. إذ إن الاختلافات في الحيوية والتعقيد بينهما — والتي كانت جليَّة بالفعل للعين المجرَّدة — أصبحت حتى أكثر وضوحًا من خلال الكشف المجهري لأوجه التعقيد الداخلية في الكائنات الحية. وظلَّ الرأي المهيمن خلال أوائل القرن التاسع عشر أن الحياة مدفوعة ﺑ «قوة حيوية» يمكن لها حتى أن تقذف بنفسها خارجَ أجساد الحيوانات — كثعابين البحر مثلًا — لتصعق حيواناتٍ أخرى، كالجياد. وتمتد جذور هذا الاعتقاد لآلاف الأميال وتضرب في الزمن عائدة لآلاف السنين.

ما الحياة؟

كما هو الحال في الملحوظة التي أبداها القاضي بوتر ستيوارت حين لم يتمكَّن من تعريف الإباحية حيث قال «أعرفها حين أراها»،3 فإن من السهل على نحوٍ مماثل إدراكَ وجود الحياة، لكن من الصعب وضعُ تعريف لها. غالبًا ما يقال إن التناسل هو ما يُعرِّف الحياة، إلا أن خلايا الأعصاب والدم وكذا (غالبية) الرهبان البوذيِّين أو القساوسة الكاثوليكيِّين لا يتناسلون، لكنهم ومع ذلك على قيد الحياة. ويُقال أيضًا إن عملية الأيض تمثِّل إحدى السمات المميِّزة للحياة، إلا أن من الصعب تمييزَ سيلِ التحولات الكيميائية التي تحوِّل الغذاء إلى فضلات من التفاعلات الكيميائية التي تسبِّب احتراقَ قطعة خشب، على سبيل المثال. وحتى مفهوم التطوُّر نفسه، المسئول عن التنوُّع المذهل في الحياة، فإنه غير ضروري حين يتعلَّق الأمر ببقائها، أو هو كذلك على الأقل على المدى القصير. لو استطعنا بطريقةٍ ما أن نعلِّق التطورَ مؤقتًا، لِنقُل مدة مليون سنة، فإن المحيط الحيوي بالكاد سيلحظ ذلك، وذلك باستثناء وقوع كارثة.

لكن لاحظ معظمُ القدامى أن الأشياء من حولهم تنتمي إلى صنفَين رئيسيِّين. الأول يشتمل على الصخور أو الخشب الطافي أو المجروف أو الرمال أو الحصى، وهي أشياءُ جامدة بمعنى أنها لا تتحرَّك إلا إذا ما سُحِبت أو دُفِعت. وقد وصف القدامى تلك الأشياءَ بأنها «ميتة». أما الصنف الثاني فاشتمل على السلطعون الذي يزحف على الصخور، أو السمك الذي يسبح في البحر أو الطيور التي تطير في السماء أو العشب الذي يشق طريقَه عبْر الكثبان الرملية. تلك الأشياء تتحرَّك بمعنى أنها قادرة على القيام بحركاتها بنفسها. وقد وُصِفت تلك الأشياء بأنها «حية».

بعد أن عدَّ الفلاسفة القدامى الحركةَ المدفوعة ذاتيًّا بأنها السِّمة المميِّزة للحياة، طرحوا السؤال التالي: ما الذي يسبِّب حركات الحياة التي تفتقر إلى محرِّك بيِّن؟ وكانت الإجابة التي اتفقوا عليها جميعًا تقريبًا هي أن الأشياء الحية التي تكون حركتها مدفوعة ذاتيًّا تتحرَّك بفعل «روح» من نوعٍ ما سحرية أو خارقة للطبيعة. بل إنهم صنَّفوا الأجرامَ السماوية حتى والتي تتحرَّك من دون محرِّك ظاهر لها على أنها كائنات حية تتحرَّك بفعل أرواح سماوية. بل حتى الرياح أو مجاري المياه أو العواصف أو الأمواج كانت تُعَد حيَّة بفعل عواملَ تمتلك أرواحًا كالأشباح أو العفاريت أو الجنيَّات أو الشياطين أو الآلهة. وكما علَّق المؤرِّخ الروماني من القرن الثالث دايوجينيز لايورشيس: «كان العالَم [القديم] حيًّا ويعجُّ بالآلهة».4

السِّحر والغموض والسمكة الصاعقة

كانت الفرضيةُ أو النموذج القائل بأن الحركةَ المدفوعة ذاتيًّا تساوي الحياةَ، تعملُ بشكل ممتاز. لكن كانت هناك حالات استثنائية. أحد تلك الأوجه هو حجر المغناطيس، الذي ظاهريًّا هو حجرٌ كأي حجر سواه، لكنه كان يمتلِك خاصية إحياء — بمعنى تحريك — المسامير والأشياء الحديدية الصغيرة الأخرى. نعرفه نحن اليوم بأنه شكلٌ من أشكال معدن المجنيتيت (أكسيد الحديد) الممغنط طبيعيًّا، لكن في العالَم القديم كان يُعتقد أنه شيء حي ويحوي روحًا سحرية يمكنها أن تمدَّ يدها لتدفع أو تسحب الأشياءَ البعيدة. وكما شدَّد الفيلسوف المعروف باسم طاليس (الذي وُلد حوالي عام ٦٢٤ قبل الميلاد فيما يسمى اليوم تركيا): «حجر المغناطيس يحوي حياة أو روحًا؛ ذلك أنه قادر على تحريك الحديد». بدت القِطع الشبه الشفافة ذاتُ اللون البني الضارب للصفرة والتي توجد أحيانًا منثورةً على شواطئ البحر المتوسط، مادةً سحريةً أخرى؛ حيث بإمكانها جذبُ ألياف القماش الناعم أو القش الجاف، خاصة بعد أن نفركها في القماش. أطلق اليونانيون القدماء على تلك المادة الجاذبة «الإلكتروم»، لكننا نعرفها اليوم باسم الكهرمان.

fig23
شكل ١٣-٢: سمكة رعَّاد.
عرف القدماء أيضًا حيواناتٍ بدا أنها تحوز السمةَ الغامضة التي تتمثل في التصرُّف عن بُعد. أحدها كان سمكة الرعَّاد في البحر المتوسط، التي تَستخدم لسعتَها كما يفعل سمك الرقيطة في ردعِ المفترِسات أو صيد الفرائس أو صعق الصيادين الجوعى. وعلى عكس سمك الرقيطة، فإن صعقة سمك الرعَّاد قادرة على المرور عبْر خيط الصيد أو شبكة الصيد أو الرمح لتصعق الصيَّاد من دون حتى أن تلمِسه. كان يُعتقد على نطاقٍ واسع أن هذا دليل على وجود روح غيرِ مادية قادرة على الوصول إلى ما يفوق حدودَ الجسم المادي. وكما شدَّد الشاعر الروماني أوبيان من كوريكوس، وذلك في حوالي عام ١٧٠ ميلاديًّا، فإن سمك الرعَّاد «يمارس قواه السحرية وسحره المسموم».5
كان يُستشهَد كذلك بالأشياء والمخلوقات السحرية على أنها دليل على اتساع نطاق عمل القوى السحرية في الطبيعة: أي، المبدأ الحيوي. إذ حاجج بلينيوس الأكبر (٢٣–٧٩ ميلاديًّا) قائلًا: «أليس كافيًا جدًّا أن نستشهد في حالة سمك الرعَّاد بكائن آخر من الكائنات البحرية، كدليل على قوى الطبيعة الجبَّارة؟».6 وبالمثل، سأل إسكندر الأفروديسي (حوالي عام ١٥٠ – حوالي عام ٢١٥ ميلاديًّا) الذي كان يدرِّس في أثينا قرب عام ٢٠٠ ما يلي:
لماذا يجذب حجرُ المغناطيس الحديدَ فحسب؟ لماذا لا تجذب المادة المسمَّاة ﺑ «الكهرمان» إليها إلَّا القش الجاف والهشيم، ما يجعلها تلتصق بعضها ببعض؟ … لا أحد يجهل الرعَّاد البحري. كيف يمكن له أن يخدِّر الجسمَ عبْر خيط الصيد؟ … يمكنني أن أعدَّ لك قائمة بالكثير من مثل هذه الأشياء التي لا نعرفها إلا من خلال التجربة ويقول الأطباء إنها «سمات لا يمكن تسميتها».7

لقد أصرَّ القدامى على أن الحياة كانت نوعًا من أنواع السحر الأخرى، ما أدَّى إلى سيادة الاعتقاد القائل بأن المرض والصحة يمكن أن يتأثرا بالسِّحر الطبيعي.

كان كلاوديوس جالينوس — الذي وُلِد في بيرجامون فيما هي اليوم تركيا (١٢٩–حوالي ٢١٦ ميلاديًّا) ويُعرف عادة باسم جالين — أشهر الأطباء في العالم الروماني. عمل جالين طيلةَ سنوات عديدة كجرَّاح لمدرسة المجالدين المحليَّة، وذلك دورٌ أمدَّه بمعرفة تفصيلية بتشريح الجسم البشري، قبل أن ينتقل إلى روما. وقد استلهم اهتمامَه بالطب من إحدى النظريات المبكِّرة لأبقراط (صاحب القسم الشهير) التي زعمت أن الصحة تعتمد على توازن دقيق بين الأخلاط الأربعة، وهي الدم والسوداء والصفراء والبلغم. وأضاف جالين زعمًا آخرَ بأن اقترح أن الأخلاط الأربعة تبقى في توازن بفعل أرواح حيوية، أو ما يُطلق عليه باللاتينية «الروح الحيوية» التي تعمُّ الكون بأسرِه. كما كان يُعتقد أن تلك الأرواح الحيوية — التي تضاهي التشي في الطب الصيني، أو الفايو في الطب الهندي — تمدُّ الكهرمان بقواه الخفيةِ التي يتمتع بها، أو سمك الرعَّاد باللسعة التي يشتهر بها. كانت تلك الأرواح هي المادةَ التي ترتكز عليها الروح الحيَّة.

اعتقد جالين أن الأمراض سببُها اختلال توازنٍ في الأخلاط، وأن استعادة توازنها ممكن من خلال الاستخدام المناسب لأشياءَ سحرية. لذا أوصى بتناول لحم سمك الرعَّاد لعلاج الصرع، فيما يجب أن تُعالج حالات الصداع الشديد بوضع سمكة رعَّاد حية على الرأس. وبالمثل، وصف بلينيوس تناولَ وجبةٍ من لحم السمكة نفسِها لعلاج حالات الولادة المتعسِّرة، لكن ذلك فقط حين «يتم اصطياد السمكة عندما يكون القمر في برج الميزان وتبقى السمكة في العراء مدة ثلاثة أيام». كما اقترح أيضًا أن «الشهوة [الجنسية] تُثبَّط … إذا ما وُضعت مرارةُ سمكة الرعَّاد على الأعضاء التناسلية في حين لا تزال السمكة على قيد الحياة».8
بالطبع قد تثبُتُ فاعلية الأفكار السيئة حتى في بعض الأحيان. فأنا أعتقد أن وصفةَ بلينيوس بوضع مرارة سمكة الرعَّاد الحية على الأعضاء التناسلية يمكن أن تثلِّم من شهوةِ حتى أعتى الشباب. ووضْعُ سمكة الرعَّاد الحية على الرأس كعلاج يمكن أيضًا في بعض الأحيان أن يكون فاعلًا؛ حيث ثبَت أن العلاج بالصدمات الكهربائية يسبِّب بعضَ الارتياح لدى مَن يعانون الصداعَ النصفي المزمن.9 لكن تناوُل لحم سمكة الرعَّاد لم يكن ليقدِّم فائدة للمرضى أكثرَ من تناولهم أيَّ وجبة مغذية أخرى.

كان نهج جالين في الطب مع ذلك سابقًا لعصره وزمنه، رغم وصفاته المريبة. كما كان أيضًا شديد الاهتمام بالتجريب على الحيوانات رغم أن ذلك قد يبدو إلى الإنسان المعاصر من قسوة القلب. ففي إحدى المرات التي قام فيها بتشريح خنزير حي، قطع بالخطأ العصبَ الحنجري الذي يصل الحنجرة بقاعدة المخ. ولاحظ أن صرخات الخنزير الحادة توقَّفت من فورها، رغم أن معاناته لم تتوقَّف. فخلَص جالين إلى أن «الروح الحيوانية» وهي القوة الحيوية التي يُعتقد أنها تحرِّك الأشياءَ الحيَّة تتدفق عبْر الأعصاب. وعلى قدرِ ما ينتهي إليه عِلمنا، كانت تلك هي المرة الأولى التي يتم فيها ربطُ الأعصاب بحركة الحيوانات.

الميزة العسكرية للسمكة السحرية

حين مات جالين حوالي عام ٢١٦ بعد الميلاد، فقدْنا على نحوٍ كبير نهجه العقلاني في الطب، إلا أن جرعاته السحرية وعلاجاته المريبة نُقِلت بصدق وأمانة في الكتب القديمة إلى العرب، ومنهم إلى العالَم الغربي. هناك، اختلطت تلك الأشياء بالمفاهيم السحرية المسيحية وغير المسيحية، فأنتجت مزيجًا غامضًا من العلاجات الطبية الغريبة.

أحد أغربها كان يقوم على سمكة سحرية أخرى، تُعرف باسم «اللشك». كان بلينيوس قد وصفها بأنها «سمكة صغيرة» يمكن لها أن تلصق نفسَها بسفينةٍ، وأن تشلَّ حركتها «من دون بذل جهد من جانبها، لا بالضغط على السفينة ولا بفعل أي شيء آخر سوى الالتصاق بها». وقد أُلقيَ باللوم على سمكة اللشك لإيقافها سفينة القيادة الخاصة بمارك أنطوني في معركة أكتيوم، ما جعلها هدفًا سهلًا لقوات أوكتافيوس. وبحلول الوقت الذي شقَّت فيه سمكة اللشك طريقَها إلى العالَم العصرأوسطي، كانت قد التحقت بسمكة الرعَّاد كعنصر فعَّال في الجرعات السحرية. إذ وصف ألبرت العظيم — الذي تذكُر أنه مَن علَّم توما الأكويني — «مُعطِّلة السفن» بأنها سمكة مطلوبة لدى السحرة الذين يستخدمونها في إعداد تعاويذ الحب. إلا أنه لم يرَ أحد قط سمكةَ اللشك؛ الأمر الذي لا يثير الدهشةَ لأنها غير موجودة.

fig24
شكل ١٣-٣: سمكة اللشك السحرية.

وقد استخدم الفلاسفة الإنسانويون في عصر النهضة بحماسةٍ الأشياءَ السحرية القديمة كالكهرمان وحجر المغناطيس والأسماك السحرية كعلاج طبي، وأيضًا كدليل على وجود قوًى خفية في الطبيعة. على سبيل المثال، المترجِم الفلورنسي مارسيليو فيتشينو الذي ترجم «متون هرمس»، كتب يقول: «سمكة الرعَّاد أيضًا تشلُّ اليدَ التي تلمِسها فجأة، حتى ولو على مسافة وعبْر عصًا»؛ بينما يسلِّط جوليوس سيزار سكاليجر (١٤٨٤–١٥٥٨) الضوءَ في البداية في كتابه «الكتاب الخامس عشر من التجارب العامة عن الغموض»، الذي نُشر عام ١٥٥٧ على ما تتمتَّع به سمكة الرعَّاد من قوة فيقول «تُخدِّر اليدَ خدرًا شديدًا» كدليل على وجود القوى الخفية الغامضة، ثم ينتقل بعد ذلك إلى انتقاد مَن «يظنون أن بإمكانهم تقليصَ كلِّ الأشياء إلى صفاتٍ ثابتة وواضحة …».

لذا فبالنسبة إلى المعادلة البسيطة والمنطقية تمامًا التي تقول إن القدرة الذاتية على الحركة تساوي الحياة، أضاف المتصوفون نطاقًا واسعًا ومتنوِّعًا من الأشياء والخواص السحرية. وكان التوجُّه العام مشابهًا كما شهدنا في مجالات أخرى من العلوم، كالفلك (أفلاك التدوير) أو الكيمياء (الفلوجيستون): إن لم يكن نموذجك مناسبًا للوقائع، فأضف المزيد من التعقيد. لكن كانت هناك مجموعة من المعارضين لهذا التوجُّه نحو الخيال. فقد كتب الفيلسوف الإنسانوي من عصر النهضة والمعاصر لويليام شكسبير ميشيل دي مونتين (١٥٣٣–١٥٩٢) يعرِب عن أسفه فقال:
كم هي متحررة وغامضة تلك الأداة التي هي العقل البشري. أرى عادة أن المرء حين تُعرض الحقائق عليه أنه مستعد لأن يشغل نفسه بالبحث في أسبابها أكثرَ من استعداده لأن يبحث في مدى صحتها … عادة ما يبدأ المرء بالتساؤل: «كيف يحدث هذا؟». وما ينبغي أن يقوله هو: «لكن هل يحدث هذا فعلًا؟». إن عقلنا لقادرٌ على استيفاء مئات من العوالم الأخرى وإيجاد مبادئها وبنيتها … إننا نعرف أسسَ وأسباب آلاف الأشياء التي لم تكن موجودة قط …10
و«آلاف الأشياء التي لم تكن موجودة قط» تلك كانت بالطبع كياناتٍ فائضة عن الحاجة. كان ميشيل دي مونتين أيضًا من الفلاسفة الاسمانيِّين وبطلًا من أبطال «المذهب الجديد»،11 الذين عرفوا قيمةَ شفرة أوكام في إيجاد نماذج أبسط.

صائدو الأشباح

قبل أربعة وخمسين عامًا من خروج ألكسندر فون هومبولت إلى الصيد في مراعي اللانوس، شكَّلت مجموعةٌ مكوَّنة من مائتي راهب من رهبان الكارثوس يرتدون أرديةً بيضاءَ في أحد أيام شهر أبريل لعام ١٧٤٦ سلسلةً يقارب طولها كيلومترين امتدَّت على نحوٍ متعرِّج على أرض ديرهم في باريس. وكان كل راهب منهم موصولًا بأخيه بسلك حديدي طوله خمسة وعشرون قدمًا. وفي نهاية السلسلة وقف الأب جان-أنطوان نوليه. وحين أصبح الكل مستعدًّا، أوصل الأب الراهب الأول بقارورة زجاجية، ثم قفز المائتا راهب جميعهم في وقتٍ واحد عند إنتاج الشرارة الكهربائية.

كان الأب نوليه يشغل منصب «كهربائي البلاط الملكي». قد يبدو هذا غريبًا بعض الشيء بالنسبة إلى أبٍ من أواسط القرن الثامن عشر، ولم يكن مطلوبًا من الأب بكل تأكيد أن يغيِّر مصابيحَ الإنارة البدائية أو أي أجهزة كهربية أخرى في قصور الملك، خاصةً أنها لم تكن قد جرى اختراعها بعدُ. عدا جهازٍ واحد، وهو قارورة لايدين. كانت تلك القارورة هي النجم الحقيقي لعرض الرهبان الباريسيِّين القافزين، حيث وفَّرت الصاعقةُ الكهربيةَ القادرةَ على الخروج من جسم القارورة — كمثل سمكة الرعَّاد. وقد سمَّى الأب نوليه القارورة باسمها ذلك بعد اختراعها بعدة عقود سابقة في مدينة لايدين بهولندا كقارورة لحفظ شيء من السحر.

تبدأ قصة قارورة الأب نوليه بالطبيب اللندني ويليام جيلبرت (١٥٤٤–١٦٠٣) الذي أشار إلى أنه في حين أن حجر المغناطيس كان قادرًا على جذب ونفر الحديد فقط، فإن قطعة كهرمان مفروكة باستطاعتها أن تجذب عدة مواد مختلفة كشظايا التبن أو الصوف أو الريش أو القش. كما اكتشف أيضًا أنه إن فركَ أشياءَ مثل الزجاج أو الأحجار الكريمة أو الإبونيت أو الصمغ أو شمع الأختام بالحرير أو الصوف، فإن بإمكانه «شحن» تلك المواد بحيث تحوز كالكهرمان القوةَ السحريةَ على تحريك الأشياء البعيدة. وأشار إلى أن تلك المواد المشحونة كهربيًّا ستطلق في بعض الأحيان بشرارة، وهو شيء لم يفعله حجر المغناطيس من قبل قط. وأطلق على هذه المواد المتنوعة اسم electricus (من الأصل اللاتيني لكلمة كهرمان electrum) التي تعني المواد «الشبيهة بالكهرمان»، وهي الكلمة التي أسفرت لاحقًا عن المصطلح electrical الذي يعني كهربي.

وأدَّى اكتشاف قابلية نقل القوة الخفية من الأجسام الكهربية إلى فكرةِ أن تلك القوة هي سائل من نوع ما؛ «سائل خفي» خارق للطبيعة. كما ألهم هذا أنصارَ الفكر الميكانيكي في القرن السابع عشر إنشاء أجهزة — تُعرف باسم آلات الاحتكاك — للحصول على ذلك السائل الخفي. أحد تلك الأجهزة كان كرة كبريتية دوارة قادرة على اكتسابِ ما يكفي من السائل الخفي لدى فركِها بالكهرمان أو القضبان الزجاجية لجذب الريش أو لإطلاق شرارة حين يُقرَّب منها قضيب زجاجي.

أدَّى ظهور شرارات لامعة من العدم إلى إلهاب افتتان بهذه «الكهرباء» الغامضة وشجَّع على هروبها من مختبرات السحرة إلى عالم الخدع السحرية وملاهي السيرك. وقد اكتشف ستيفن جراي (١٦٦٦–١٧٣٦) وهو صابغ حرير من كانتربري أن بإمكانه نقلَ «السائل» الكهربي عبْر خيوط من الحرير يصل طولها إلى عدة مئات من الأقدام. ألهمه هذا لتغيير مهنته ليصبح مؤدِّيًا كهربائيًّا يشتهر بخدعة «التلميذ المتطوع المتدلي» والتي يتدلَّى فيها صبي بخيوط رفيعة ثم «يُكهرَب» من قدميه بحيث يجذب الريش وشرائح النحاس إلى جسده. وكانت أبرز لقطات العرض حين تُعتَّم أضواء الغرفة ويقرَّب قضيب زجاجي بما يكفي لإطلاق شرارات تُحدِث فرقعةً من قدمي الصبي المتدليتين.

كان كل هذا لهوًا ويقدِّم تسلية رائعة، لكن السمات الميكانيكية القابلة للتنبؤ لهذا «السائل الكهربي» بدأت تتكشف تدريجيًّا من سُحب الغموض. على سبيل المثال، اكتشف جراي أن بإمكان الكهرباء الانتقال عبْر خيوط حريرية أو أسلاك معدنية، لكن ليس من خلال قضيب خشبي، ولا حتى تلك التي يُزعَم أنها عصيٌّ سحرية. وحوالي عام ١٧٤٥، اكتشف البروفيسور بيتر (بيتروس) فان موشنبروك (١٦٩٢–١٧٦١) من مدينة لايدين بهولندا أن بإمكانه الاستحواذ على «السائل الكهربي» وتخزينه من خلال نقله من قضيب زجاجي مفروك إلى قارورة زجاجية معزولة مملوءة بالماء. وذات يوم أمسك أحدُ أصدقائه من المحامين بالقارورة أثناء شحنها فسبَّب له ذلك صعقة بغيضة. وبعد ذلك ببضعة أيام حاول موشنبروك فعلَ الأمر نفسه، إلا أنه تلقَّى صعقةً مروِّعة حتى إنه كتب لاحقًا يقول: «أُصبت باضطراب كبير حتى إن جسدي اهتزَّ وكأن صاعقةَ برقٍ ضربتني. وقد تأثَّرت يدي وجسدي كله بهذا تأثرًا شديدًا بشكلٍ لا يمكنني التعبير عنه».

fig25
شكل ١٣-٤: قارورة لايدين.

اكتشف موشنبروك أن بإمكانه تحسين قدرة تخزين جهازه الصاعق، وذلك بتبطينه من الداخل والخارج برقاقات معدنية. أيضًا وعوضًا عن الماء، ملأ القارورةَ بطلقات من الرصاص موصولةٍ بقضيب نحاسي يخترق سِدَادتَها. كانت تلك هي الآلة الكهربية الشهيرة التي سمَّاها الأبُ نوليه باسم قارورة لايدين، واستخدمها في الشحن الكهربي لسلسلة الرهبان. وقد سمحت سهولةُ تصنيعها بالإضافة إلى اكتشاف القدرة على وصل عدة قوارير منها بعضها ببعض على نحو متسلسل بتصنيع «بطاريات» أقوى (سمِّيت بالبطاريات تيمنًا ببطارية الذخيرة)، قادرةٍ على صعق صفوف من الثيران ومصارعين ضخام وجنود وكذلك الرهبان بالطبع. وباستئناس هذا الجهاز وسهولة الحصول عليه، لم يمرَّ وقت طويل قبل أن يتذكَّر أحد الحضور في عرضٍ سحري شرارةً أقوى بكثير تولَّدت في الهواء/الطبيعة.

الإمساك بالبرق في قارورة

أثناء زيارة له إلى بوسطن عام ١٧٤٣، شهد طابع وناشر صحفٍ يُدعى بنجامين فرانكلين (١٧٠٦–١٧٩٠)، وكان يبلغ من العمر حينها سبعة وثلاثين عامًا، «الكهربائي» آدم سبنسر من إدنبرة وهو يقدِّم خدعةَ «إنتاج شرارات نار تنبعث من وجه ويدي صبيٍّ يتدلَّى أفقيًّا». ورغم أنه أصبح شهيرًا فيما بعدُ باعتباره أحدَ أعظم ساسة أمريكا، فإن خدعة الصبي الذي يلتمع شررًا ألهبت في فرانكلين افتتانًا لازمه طوال حياته بالكهرباء وعزمًا على اكتشاف أسرارها.

بعد عدة سنوات من التجريب في منزله، كتب فرانكلين عام ١٧٥٠ رسالةً إلى الجمعية الملكية في لندن، يقترح أن الأجسام الكهربائية إما أنها تحوز على فيضٍ من السائل الكهربي (حين تكون مشحونة إيجابيًّا) أو أنها مستنفدة منه (حين تكون مشحونة سلبيًّا) أو أنها محايدة. واقترح أن أي اختلال — تمامًا كما في خدعة الصبي المتدلي — سيؤدي إلى تدفُّق الكهرباء، وفي بعض الأحيان يحدث عن ذلك شرارة. أما اقتراحه الأكثر إثارة للذهول فكان أن صواعق البرق هي أيضًا شكلٌ من أشكال الكهرباء، وهي في أساسها شرارات عملاقة يسبِّبها اختلال كهربي بين السُّحب والأرض.

انطلق فرانكلين يثبت نظريتَه ذات ليلة عاصفة في أحد الحقول بفيلادلفيا في شهر يونيو لعام ١٧٥٢، حين أطلق هو وابنه طائرةً ورقية مربوطة بخيط به مفتاح، وكان الطرَف الثاني للخيط مربوطًا بأعلى قارورة لايدين. ثم سحب هو وابنه الخيطَ ليوجِّها الطائرةَ الورقية إلى سحابةٍ عاصفة آملين في جذب الكهرباء من صاعقة برق إلى داخل القارورة. وقد كانا في فشلهما في ذلك محظوظَين؛ ذلك أنهما لو نجحا لاحترقا إلى رمادٍ ولأصبح مسار تاريخ أمريكا مختلفًا كثيرًا على الأرجح. لكن وعلى الرغم من عدم قدرة فرانكلين على الإمساك بالبرق، فقد «لاحظ أن بعض الخيوط المفكوكة من الخيط المصنوع من القنب [الخاص بالطائرة الورقية] تقف منتصبة وتتفادى بعضها، كما لو كانت متدليةً من موصِّل مشترك». بدا أن الكهرباء من السَّحاب قد كهربت الطائرةَ الورقية وخيطَها بما يكفي لأن تتنافر أليافها المشحونة، تمامًا كما كان ليحدث لو أنها شُحنت بقارورة لايدين. كان فرانكلين قد برهن على أن البرق — الذي ساد اعتقادٌ عنه لفترة طويلة أنه قذيفة من عند الآلهة — كان مجرَّد شكل آخر من أشكال الكهرباء. وقد أطلق الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط على فرانكلين لقب «بروميثيوس الجديد»، ووصف الكيميائي الإنجليزي جوزيف بريستلي تجربةَ الطائرة الورقية بأنها «لربما أعظم التجارب التي أُجريت في مجال الفلسفة بأكمله منذ عصر السير إسحاق نيوتن»، مشدِّدًا على أن فرانكلين «هو أبو الكهرباء الحديثة».12

هل الحياة كهربية؟

قبل ذلك ببضع سنوات، تحديدًا في عام ١٧٤٦، كان روبرت تيرنر — وهو عالِم طبيعة إنجليزي منغمس في تقليد القوة الحيوية — قد نشر كتابًا بعنوان «علم الكهرباء: أو نقاش حول الكهرباء. بحث في طبيعتها وأسبابها وخصائصها وآثارها، اعتمادًا على مبادئ الأثير». قدَّم الكتاب سردًا غيرَ مترابط عن عدة نظريات غامضة لكنه خرج عن المألوف حين اقترح الكاتب أن صعقةَ سمكةِ الرعَّاد هي صعقة كهربائية. طبقًا لتيرنر، لم يقلِّص هذا من حجم السحر في الحياة؛ لأنه كان يعتقد أن الكهرباء شكلٌ من أشكال السحر، لكنه اقترح أيضًا أن بإمكاننا الإمساك بالسحر الحيواني في قارورة لايدين.

أجرى الكولونيل جون والش (١٧٢٦–١٧٩٥) — وهو عسكري وعالم ودبلوماسي إنجليزي مبعوث إلى الهند — دراساتٍ أكثرَ استفاضة عن «الكهرباء الحيوانية»، كما كانت تُعرف. بعد انتخابه عضوًا في الجمعية الملكية في عام ١٧٧٢، قُدِّم إلى بنجامين فرانكلين ووضع الرجلان خطةً كتبَ فرانكلين عنها أنها «محاولة لاكتشافِ ما إن كانت القوة التي تسبِّب الصعقة لدى لمس سمكة الرعَّاد … كهربية أم غير ذلك». في وقت لاحق من ذلك العام، سافر والش إلى مدينة لا روشيل في فرنسا وجنَّد صيادِين محليِّين ليحصل على عيِّنات من سمك الرعَّاد من البحر المتوسط. في البداية أقنع الصيادِين أن يتطوَّعوا ليُصعقوا بقارورة لايدين. وقد أورد الصيادون أن «التأثير كان مماثلًا تمامًا لصعقة سمكة الرعَّاد». وفي عرضٍ عامٍّ لتجاربه — ربما مع إشارة إلى الأب نوليه — برهن والش أن صعقةَ سمكة الرعَّاد يمكن أن تنتقل عبْر سلسلة من البشر، وذلك كما هو الحال مع الكهرباء المولَّدة من قارورة لايدين. وكتب إلى فرانكلين يقول بأنه «يبدو أن تأثير سمكة الرعَّاد كهربي تمامًا»، وأنه مثال على «الكهرباء الحيوانية».

أثبتت تجاربُ والش إلى حدٍّ بعيدٍ أن صعقةَ سمكة الرعَّاد شكل من أشكال الكهرباء، لكن أيمكن أن تلعب الكهرباء دورًا محوريًّا أكثرَ كونها القوة الحيوية التي تحرِّك كلَّ الأشياء الحية، كما اقترح روبرت تيرنر؟ في تمام الساعة الثامنة والنصف مساء يوم السادس والعشرين من شهر أبريل لعام ١٧٨٦، ذهب لويجي جلفاني (١٧٣٧–١٧٩٨) — وهو عالِم تشريح وطبيب من جامعة بولونيا — إلى حديقة قصر بلازو بوجي حاملًا معه مجموعةً من أرجل الضفادع المشرَّحة وحبالها الشوكية الموصولة إلى خطَّافات نحاسية. ثم علَّق الخطَّافات على السياج الحديدي المحيط بالحديقة وكما فعلَ بنجامين فرانكلين قبلَ أكثر من ثلاثين عامًا، انتظر جلفاني عاصفةً قادمة. حين أتت العاصفة، كان جلفاني مسرورًا أن شهد مشهدًا عجيبًا يتمثَّل في عودة أوصال الضفادع المقطوعة إلى الحياة كما يبدو؛ إذ كانت تنقبض وتنتفض على سياج حديقة شارع زامبوني.

كانت تجربة جلفاني بالطبع مصدرَ إلهام لرواية «فرانكنشتاين» القوطية الكلاسيكية للكاتبة ماري شيلي، إلا أن التجربة نفسها كانت مستلهمة من ملاحظة عارضة، قبل حوالي عَقد من الزمن عليها، حين كان جلفاني يُجري تشريحًا على أحد الضفادع، فيما كان مساعده يدوِّر إحدى الآلات بذراع يدوية؛ الأمر الذي أدَّى مصادفة إلى انبعاث شرارات كهربائية. وفيما كان المساعد يمد يدَه نحو سكين قريب من المكان الذي تشرَّح فيه الضفدعة، قفزت شرارة من النصل إلى العصب الوركي للضفدعة. ذُهِل جلفاني ومساعده لرؤية رِجل الضفدعة وهي تنتفض. فنكز جلفاني رِجل الضفدعة بمبضعه ليتحقَّق أنها كانت ميِّتة؛ لكن الضفدعة لم تتحرَّك. كان جالين قد اقترح أن الأعصاب هي القنوات التي تسير فيها الأرواح الحيوية. وكان جلفاني الآن يتساءل ما إن كانت تلك الأرواح الحيوية كهربية.

عالِم الكهرباء البروسي

وُلِد ألكسندر فون هومبولت في برلين عام ١٧٦٩ لأسرة بروسية ثرية. توفِّي والده حين كان في التاسعة من عمره، تاركًا ألكسندر وأخاه الأكبر، فيلهيلم، في كنَف أمهما الباردة والمستبدة عاطفيًّا، وكان اسمها ماريا إليزابيث.

افتُتِن ألكسندر وهو طفل بالطبيعة، فكان يجمع الحيوانات الصغيرة أو الصدف أو النباتات أو الحفريات أو الصخور ويدرُسها؛ حتى إنه أصبح معروفًا باسم «الصيدلاني الصغير». وحين تقدَّم في العمر، أصبح مهتمًّا بالسؤال العلمي المهم المتمثِّل فيما إن كانت قوة الحياة الحيوية روحانية أم ميكانيكية. كان حلمه دراسة العلوم الطبيعية، لكن طموح أمه له ولأخيه كان أكثر ابتذالًا: إذ كانت تتوقَّع منهما أن يضطلعا بمنصبَين مرموقَين في الخدمة المدنية البروسية. فأرسلت ألكسندر إلى هامبورج لدراسة التجارة التي كان ألكسندر يبغضها. في نهاية المطاف أقنع ألكسندر والدته بأن تسمح له بأن يتبع شغفَه في الجيولوجيا وأن يدرُس في أكاديمية فرايبرج ليزاول مهنةً أخرى تكاد تكون مرموقة وهي هندسة التعدين.

fig26
شكل ١٣-٥: صورة لألكسندر فون هومبولت.

حقَّق ألكسندر تقدُّمًا سريعًا في مهنته. إذ راح يطوف على المناجم على طول نهر الراين وألَّف كتابًا عن جيولوجيا تلك المناجم وكتابًا آخرَ عن أنواع العفن الغريبة والنباتات التي تشبه الإسفنج والتي اكتشفها كامنةً في شقوقها الرطبة المظلمة. تعاطف ألكسندر مع عمال المناجم فيما يتعلَّق بظروف حياتهم وعملهم، فاخترع لهم قناعًا ومصباحًا من شأنهما أن يحسِّنا من عنصر السلامة لديهم. كما ألَّف أيضًا كتابًا جيولوجيًّا لعمال المناجم وأسَّس مدرسةً لأطفالهم.

أثناء زيارة له إلى فيينا خريف عام ١٧٩٢، عرَف هومبولت بشأن تجارب جلفاني وأضحى مفتونًا بإمكانية أن تكون القوة الحيوية للحياة هي الكهرباء. كرَّر ألكسندر عملَ جلفاني على أرجل الضفادع وحبالها الشوكية، وأجرى تجاربَ باستخدام قارورة لايدين ليصعق الضفادع وكذا السحالي والحشرات ويشرِّحها. كما أحدث شقوقًا في ذراعه وحكَّها بالأحماض ونكزها بالأسلاك المعدنية والمكهربة. وفي أحد تجاربه الأكثر تهوُّرًا، وضع ألكسندر قطبًا كهربائيًّا من الزنك في فمه وآخر من الفضة في مستقيمه. وحين وصلهما بسلك، عانى ألمًا في أمعائه وأورد يقول: «بإدخال القطب الفضي عميقًا أكثرَ في المستقيم يظهر ضوء ساطع أمام كلا العينين».13

نجا هومبولت لحسن حظه من قسوة تجاربه على نفسه، وفي عام ١٧٩٤ زار أخاه فيلهيلم الذي كان يعيش مع زوجته كارولين في مدينة جينا، المدينة التي كانت حينها القلبَ الثقافي لدوقية ساكس-فايمار والقريبة من منزل عملاق الثقافة الألمانية يوهان فولفجانج فون جوته. كان فيلهيلم وكارولين من بين دائرة أصدقاء جوته، ومِن ثَمَّ قدَّما ألكسندر إلى الشاعر العظيم.

حينها لم يَعُد جوته الشابَّ الوسيم جدًّا الذي فاز بقلوب الكثيرات وحطَّمها في شبابه. كان جوته حينها سمينًا ومتجهِّم الوجه وفي منتصف العمر. لكن وصول الشاب البروسي بافتتانه المتفجِّر بكلِّ ما هو طبيعي ساعد في إعادة إحياء جذوة حماسة الشباب لدى جوته، وحماسته للعلوم الطبيعية على وجه الخصوص. كان الرجلان يمضيان ساعات طوالًا في مناقشة الأمور محل النزاع في عصرهما، بما في ذلك الصراع بين أنصار المذهبين الحيوي والميكانيكي حول طبيعة الحياة. وأجريا تجاربَ معًا، فشرَّحا الضفادع ولاحظا كيف تنتفض أرجلها حين ينكزانها بالأسلاك.14 حتى إنهما فحصا جثتَي زوجين كانت صاعقةُ برق قد ضربتهما. وكان لرومانسية جوته — والتي كانت في الأساس محاولةَ إحياء للمذهب الإنسانوي المسيحي، لكن بحلول حب الطبيعة محلَّ تملُّق الإنسانية — تأثيرٌ دائم على علوم هومبولت وفلسفته في الحياة.

في عام ١٧٩٠، سافر هومبولت إلى لندن والتقى هناك بجوزيف بانكس، عالِم النبات الذي خدم في رحلات الكابتن كوك الاستكشافية في جنوب المحيط الهادي. طبعت قصص بانكس الاستكشافية إضافةً إلى مجموعاته من النباتات والحيوانات في نفس هومبولت إصرارًا على أن يصبح مستكشفًا. إلا أن طموحات الأم المبتذلة بشأن ولدها ظلَّت تصدُّ طموحه الشخصي حتى عام ١٧٩٦، حين ماتت متأثرةً بإصابتها بالسرطان. لم يحضُر أيٌّ من الأخوين جنازة والدتهما. وفي غضون شهر، كان ألكسندر قد استقال من عمله مفتِّشَ تعدين وبدأ مسيرته المهنية الجديدة مستكشفًا وعالمَ طبيعة وجغرافيًّا وجيولوجيًّا.

وفي عام ١٧٩٩، حصل على إذن من التاج الإسباني ليستكشف «أمريكا الإسبانية». وفي يوم الخامس من شهر يونيو لعام ١٧٩٩، انطلق هو وعالِم النبات الفرنسي إميه بونبلان على متن السفينة «بيزارو» يقصدان أمريكا اللاتينية، فهبطا في مدينة كومانا بفنزويلا يوم السادس عشر من شهر يوليو للعام نفسه يحملان ترسانةً من الأدوات العلمية، منها عدةُ بارومترات. وأمضيا شهورًا عديدة في استكشاف المنطقة الساحلية قبل أن يتوجَّها صوبَ الداخل ليستكشفا ما إن كان نهر أورينوكو يلتحم بنهر الأمازون كما كان يُزعَم. وبعد أن أمضيا أسابيعَ مضنيةً في عبور الأراضي المسطَّحة والسهلية الحارقة الرتيبة لمنطقة اللانوس، وصلا إلى مدينة كالابوزو الصغيرة. هناك التقيا بصديقٍ لا يتوقَّعان لقاءه كان قد شيَّد «آلةً كهربية بصحون كبيرة وإلكتروفورات [وهي أجهزة تولِّد الكهرباء الساكنة] وبطاريات وإلكترومترات؛ كان هذا الجهاز يكاد يكون مكتملًا كمثل الأجهزة التي يمتلكها الروادُ من رجال العلم في أوروبا». أنشأ الجهاز السيد كارلوس ديل بوزو، وهو «رجل عبقري بارز» تمكَّن من تجميع الأدوات بعضها إلى بعض من خلال أوصافٍ قدَّم معظمها بنجامين فرانكلين في مذكِّراته. كان السيد ديل بوزو مسرورًا بشكل غير عادي للقائه بهومبولت وبونبلان، على وجه الخصوص لأنهما أحضرا معهما بعضَ أكثر الأدوات الكهربائية تعقيدًا على وجه الأرض. وبالفعل، لم يتمكَّن الرجل «من كتم سعادته لدى رؤيته للمرة الأولى أدواتٍ لم يصنعها هو بنفسه وبدا أنها نسخة من أدواته».

إلا أن غرض وصول الرجلين إلى مدينة كالابوزو لم يكن لقاءَ رجل مختص بالكهرباء — رغم ما انطوى عليه ذلك من بهجة — بل لاصطياد السمك الكهربائي. مكَّنت طريقةُ الصيد المحليَّة المعتمدة على الجياد التي ذكرناها في مطلع هذا الفصل المستكشفين الأوروبيين من اصطياد خمسة ثعابين بحر كهربائية — أو كما يُطلق عليها «جيمنوتي» — أحياء، لكن من دون اتقاء وقوع حادثة. إذ يصف هومبولت كيف أنه داس بالخطأ على ثعبان بحر حي تسبَّبت صعقته له «بألم وخدر … عنيفين جدًّا … حتى إن تأثير ذلك لازمني طوال اليوم في شكل ألم عنيف في ركبتيَّ وكل مفاصل جسدي تقريبًا».

أكَّد كلٌّ من هومبولت وبونبلان أن صعقة السمك الكهربي تمرُّ — كالكهرباء — عبْر المعدن، ولكن ليس عبْر شمع الأختام. ويمكن لها كذلك أن تمرَّ عبْر جسمي بونبلان وهومبولت حين يمسك أحدهما بيد بالآخر. الأمر الأكثر إثارةً للاهتمام أن هومبولت اكتشف أن السمك كان قادرًا على التحكُّم في صعقته وتوجيهها. على سبيل المثال، حين أمسك أحدهما برأس السمكة وأمسك الآخر بذيلها، كان أحدهما فقط هو من يتلقَّى الصعقةَ في الغالب، وكان بإمكان السمكة إرسال الصعقة من رأسها وذيلها كليهما. رسَّخت هذه التجارب لدى هومبولت قناعةً بأن الكهرباء الحيوانية في أساسها مماثلة «للتيار الكهربي للموصَّل المشحون بقارورة لايدين أو عمود فولتا»، غير أن بإمكان الحيوانات التحكُّم فيها.

أمضى هومبولت أربع سنوات أخرى يسافر في أنحاء أمريكا اللاتينية، وتكلَّلت أسفاره بتسلُّقه الأسطوري لجبل تشيمبوراسو١ المهيب في جبال الأنديز؛ حيث أجرى هو وبونبلان أول دراسة جغرافية حيوية منهجية في التاريخ، موثِّقَين فيها الحياةَ النباتية على الجبل بدءًا بغاباته الاستوائية المطيرة عند قاعدته إلى الأشنات التي تتشبَّث بقمَّته الصخرية. وكان يرسل تقاريرَ منتظمة نُشرت في المجلات الأوروبية، كما شحن بحرًا إلى برلين أو إلى جوزيف بانكس في لندن آلاف العيِّنات من النباتات والحيوانات، والتي كان كثير منها جديدًا على العلم، مما جعله أشهرَ علماء عصره بحلول وقت عودته إلى أوروبا.
ولم ينشر هومبولت ملاحظاتِه عن ثعابين البحر الكهربائية إلا عام ١٨٠٨، وحينها انتقل الجدال من السؤال عما إن كانت صعقات هذه السمكة كهربية إلى الدور العام الأكثر، إن وُجِد، الذي تلعبه الكهرباء الحيوانية. جدير بالذكر هنا أن نذكر تأسيس الجامعة المعروفة اليوم بجامعة هومبولت في برلين عام ١٨١١ على يد ألكسندر وأخيه فيلهيلم. وفي عام ١٨٣٦، عيَّنت الجامعة إيميل دو بوا-ريموند (١٨١٨–١٨٩٦) وهو طبيب وعالم فيسيولوجي شابٌّ بارع. صمَّم دو بوا-ريموند أداةً تُدعى الجلفانومتر وهي حسَّاسة بما يكفي لتكشف أضعف الإشارات الكهربائية التي تمرُّ عبْر الأعصاب. وفي عرض مسرحي عام من النوع الذي كان ليثير إعجابَ ستيفن جراي، برهن ريموند على أن بإمكانه جعْل إبرة الجلفانومتر الخاص به تقفز، وذلك بقبضه لذراعه فحسب.15 أخيرًا ثبَت أن «الأرواح الحيوانية» كما أطلق عليها جالين — وهي القوة الحيوية التي اعتُقد أنها تسير في الأعصاب لتوفِّر للحيوانات القدرةَ على الحركة — هي القوة نفسها التي وفَّرت الصعقة الكهربية في سمك الرعَّاد، وخصائص الجذب التي يتمتع بها الكهرمان وكذلك القوة المدمِّرة لصعقات البرق. كان قد ثبَت أن الروح الحيوية هي كيانٌ آخر يفوق الضرورة، على الأقل فيما يتعلَّق بكونها العامل المسئول عن الحركة عند الحيوانات.

كهرباء الجسم

إن كان هناك شيء له الحق في أن يكون هو الروح الحيوية للحياة فهو الكهرباء؛ لأن كل وجه من أوجه حياتنا تقريبًا يعتمد عليها بشكل أو بآخر. فإضافة إلى نقْل الإشارات العصبية وتحريك العضلات، تلعب الكهرباء دورًا محوريًّا في داخل كل خلية حية. حيث تمزج القوى الكهربية الجزيئات الحيوية في أشكالٍ معيَّنة لازمة لتكوين البروتينات أو الإنزيمات أو أغشية الخلايا أو الحمض النووي أو السكريات أو الدهون، كما تحرِّك كل الآليات الجزيئية العاملة في تكاثر الخلية أو الحركة أو عمليات الإصلاح أو البناء الضوئي أو عمليات الأيض أو الرؤية أو السمع أو التذوق أو الشم. وتسير الإشارات عبْر الأعصاب في شكل موجات من الجسيمات المشحونة كهربيًّا التي تتدفَّق إلى داخل خلايا الأعصاب وخارجها. والمحرِّكات التوربينية الكهربائية النانوية الموجودة في أغشية الأعضاء الداخلية الخلوية والتي تُسمى «الميتوكوندريا» تولِّد الطاقةَ اللازمة لتشغيل كل خلايا أجسادنا. كما تتواصل البكتيريا من خلال الإشارات الكهربية التي تمرُّ عبْر الأسلاك النانوية16 وتوجِّه الإشارات الكهروحيوية عملية نمو الأجنَّة.17

توفِّي هومبولت في عام ١٨٣٥، قبل عام واحد فقط من نجاح دو بوا-ريموند في قياس العلاقة بين الكهرباء والأعصاب وإثبات وجودها. وكان آخر أعمال هومبولت كتابًا ضخمًا يتكوَّن من خمسة مجلَّدات استغرقه العمل عليه سبعة وعشرين عامًا ويُسمى «الكون»، والذي يصل عدد صفحات فهرسه إلى الألف. كان الكتاب يمثِّل محاولةً شاملة مستفيضة وفي معظم الأحيان باهرة لجمع علوم الجغرافيا والأنثروبولوجيا والأحياء والجيولوجيا والفلك والكيمياء والفيزياء معًا. لم يكن أحدٌ من قبلُ قد حاول أن يقدِّم أطروحة تجميعية مشابهة عن المعرفة البشرية منذ أيام أرسطو. ويحثُّنا هومبولت في تلك الأطروحة أن «نسعى من أجل معرفة قوانين الوحدة ومبادئها التي تتخلل القوى الحيوية في الكون». لا تزال القوة الحيوية موجودة، لكن هومبولت في آخرِ أطروحاته الفكرية خلع عنها عباءةَ الصوفية التي كانت تلفُّها، وتطلَّع كتابه عوضًا عن ذلك نحو الوحدة/الانسجام الطبيعي الذي سنستكشفه فيما بعد.

وفي حين سلَّم الكثير من العلماء بأن «قوانين الوحدة ومبادئها التي تتخلَّل القوى الحيوية في الكون» قد تفسِّر بالفعل آليات الحياة، فإن أحدًا لا يملك أدنى فكرة عن كيف أن تنوُّعها وتعقيدها الكبيرين يمكن تفسيرهما من خلال تلك «القوانين والمبادئ» نفسها. فحتى أعتى المنادين بالمذهب الميكانيكي لم يكونوا قادرين على الإتيان بأي نوع من أنواع التفسيرات الميكانيكية عن أصل ولو حتى نوع واحد من الأنواع، فضلًا عن الآلاف المؤلَّفة من الأنواع التي كانت تُكتشف كل عام على يد علماء الطبيعة أمثال هومبولت. وكما كتب لاحقًا الشاعر الأمريكي جويس كيلمر (١٨٨٦–١٩١٨) ينتحب حيث قال:

يبدع القصائدَ مثلي من الحمقى
والرب وحدَه هو الذي يمكنه خلق الشجر.

كان تقويض هذا الزعم هو التحدي الكبير التالي الذي واجه العلمَ المبني على مبدأ البساطة.

هوامش

  • (١)

    هو بركان خامد في واقع الأمر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤