الفصل الثاني

فيزياء الرب

شهدت فترةُ التاريخ الأوروبي الغربي التي كانت تُعرف باسم «العصور المظلمة»١ انخفاضَ عدد سكان المنطقة من نحو تسعة ملايين نسمة عام ٥٠٠ ميلاديًّا إلى نحو خمسة ملايين نسمة، بعد حوالي أربعمائة سنة لاحقًا. وهبطت مستويات التعلُّم بصورةٍ كبيرة وتوقَّفت تقريبًا أعمال التشييد المعماري الضخمة. وشهدت تلك الفترة أيضًا هجراتٍ هائلة حيث تلاطمت أمواجُ الغزاة المتلاحقة لتملأ الفراغَ الذي خلَّفه انهيارُ الإمبراطورية الرومانية، وسعى اللاجئون إلى الهروب من الفوضى الناتجة عن ذلك.
إلا أن شيئًا من العلم استمر في أوروبا، غالبًا على حدود الإمبراطورية السابقة، على سبيل المثال، نورثمبريا وأيرلندا في الجزر البريطانية. ولاحقًا، سافر العلماءُ من هذه المناطق — مثل ألكوين من يورك (٧٣٥–٨٠٤ ميلاديًّا) وجون سكوتوس (٨١٥–٨٧٧ ميلاديًّا) — عبْر أوروبا ليسهموا في النهضة الكارلينجية في القرنين الثامن والتاسع والتي أدَّت في نهاية المَطاف إلى ما يُعرف اليوم باسم العصور الوسطى المبكِّرة أو العصور الوسطى الأولى.1
قدَّمت النهضة الكارلينجية ابتكاراتٍ تقنيةً مثل المحراث الثقيل، والرِّكاب وطاحونة الهواء. لكن، وبالرغم من أن هذه الابتكارات أدَّت إلى شيء من التقدُّم، فإنها كانت في ظل خلفيةٍ من الركود أو التغيير التدريجي فحسب. هذا، وليس لدينا بياناتٌ إنتاجية موثوق فيها لفترة العصور الوسطى المبكرة بكاملها، لكنَّ هناك نمطًا يمكن ملاحظته، على سبيل المثال، في الإنتاجيةِ الزراعية لإنجلترا من عام ١٢٠٠ إلى عام ١٥٠٠2 والذي يُظهِر نموًّا غايةً في الضحالة على مدى ثلاثمائة عام. وكان هذا النوع من الركود الافتراضي — ما قد نطلق عليه اليوم النمو الخطي — معتادًا في الحضارات السابقة، مثل الحضارات القديمة لبابل أو اليونان أو روما، والهند وأمريكا الوسطى والصين ما قبل الحِقبة الصناعية. وفي واقع الأمر، يبدو أن نمط النمو الخطي هذا والذي تتخلَّله طفراتُ تقدُّم عرضية كان سِمةً مميَّزة لكل التاريخ البشري تقريبًا، باستثناء مئات السنين الماضية، والتي أظهرت نمطًا من النمو الأسِّي أو المتسارع حتى وقتٍ قريب جدًّا. هذا وسنعود إلى مسألةِ كيف ولماذا تحوَّل التقدُّم البشري من النمو الخطي إلى النمو الأسي في فصولٍ لاحقة؛ لكن وكما قد تتوقَّع، أعتقد أن شفرة أوكام لعبت دورًا محوريًّا في ذلك.

بعد سقوط روما وتأسيس الإمبراطورية البيزنطية الشرقية التي تركَّزت في القسطنطينية، احتفظ غربُ أوروبا مع ذلك باللغة اللاتينية الرومانية كلغة مشتركة. وقد سمح هذا على سبيل المثال بأن يُتَبنَّى القانون الروماني عبْر معظم أجزاء الغرب. لكن العلوم والفلسفة كانت دائمًا تقريبًا ما تُكتب باللغة اليونانية، فنتج عن ذلك أن الغرب فقد معظمَ تلك العلوم. وفي حين نعِمت الإمبراطورية البيزنطية التي تتحدَّث اليونانية بالوصول المستمر للكتب اليونانية القديمة، وذلك لأسبابٍ تظلُّ مبهمة، بدا أن البيزنطيِّين لم يهتموا كثيرًا بالعلوم اليونانية.

لكن تُرجِمت حَفنة من الكتب اليونانية إلى اللغة اللاتينية قبل سقوط روما. وقد ظهر أحدُ أشهر الكتب على يد الأرستقراطي الروماني المسيحي بوئثيوس (حوالي ٤٧٥–٥٢٥ ميلاديًّا). كان الكتاب بعنوان «عزاء الفلسفة»، وقد كتبه بوئثيوس وهو في زنزانةِ سِجنه أثناء انتظاره إعدامًا مريعًا جزاء اتهامه بالخيانة. ويقدِّم الكتاب حوارَ مؤلفه الخيالي مع الفلسفة حول أهمية الفلسفة، خاصة فلسفة أفلاطون. وأصبح الكتاب ذا شعبية كبيرة في العصور الوسطى وقرأتْه تقريبًا كلُّ الأقلية المتعلِّمة. ولا يزال تحت الطبع إلى يومنا هذا.

انتقلت أيضًا إلى الغربِ الترجمات اللاتينية لأجزاءٍ من حوارات أفلاطون، بما في ذلك جزءٌ كبيرٌ من عمله «محاورة طيماوس» والذي أثَّر تأثيرًا عميقًا على التطوُّر الفكري لأوغسطينوس من هيبون (الذي أصبح قديسًا فيما بعدُ وعُرِف باسم القديس أوغسطينوس). في كتابه «مدينة الله» الذي أصبح مؤثِّرًا بصورة استثنائية في العصور الوسطى، يصف أوغسطينوس كيف أن الله «وضع في طريقي … بعضَ كتب الأفلاطونيِّين التي تُرجمت من اليونانية إلى اللاتينية». وكان تأثير ذلك غامرًا حتى إنه يقول لنا: «دخلتُ في أعماقي ومِن ثَم انطلقتُ على طريق الاهتداء».

وعلى الرغم من شعبيته، قدَّم كتاب «مدينة الله» نظرةً قاتمة للإنسانية. لقد كتبه أوغسطينوس بعد نهبِ روما على يد القوط الغربيِّين في عام ٤١٠ ميلاديًّا؛ لذا على الأرجح صبغت قائمةُ الأعمال الوحشية الطويلة التي ارتُكبت من القتل والاغتصاب والنهب طوال ثلاثة أيام نظرتَه عن الإنسانية باعتبارها «كومة فساد». من المحتمل أن الفوضى أيضًا ألهمت أوغسطينوس لتبني الواقعية الفلسفية كوسيلةٍ للتوفيق بين الوحشية ونظرته للإله المسيحي المُحسِن. وقد اختار عالَم المُثل الخاص بأفلاطون ليقول إن أوجهَ النقائص الدنيوية هي انعكاسٌ شاحبٌ ومشوَّه لعالَم السماء الخفي المثالي.

وفي كتابه «اعترافات»، طرح أوغسطينوس تساؤلاتٍ سنصنِّفها اليوم على أنها علمية، مثل طبيعة الزمن؛ إلا أن هذه التساؤلات دائمًا ما كانت تتأطَّر بسياق لاهوتي، مثل كيف لإلهٍ ثابت لا يتغيَّر أن يفعل أيَّ شيء داخل الزمن.3 كما كان أوغسطينوس يرى أن النزعة الإنسانية تميل للشرود فيما يتجاوز اللاهوت، محذِّرًا بالآتي:
هناك شكلٌ آخرُ من النزعات … رغبة وفضول تافهين معينين، ليس مقصدهما استمتاع الجسد، بل مقصدهما إجراء تجارب بمساعدة الجسد تحت ستار التعلُّم والمعرفة … من المؤكَّد أن المسارح لم تَعُد تجذبني، ولا أهتم بمعرفة مسارات النجوم … ماذا يعنيني إن كانت السماء على شكل دائرة والأرض تغلِّفها وتكون معلَّقة في منتصف الكون، أو ما إن كانت السماء فوق الأرض كالقرص تغطِّيها من أحد جوانبها؟4

كانت نتيجة ازدراء أوغسطينوس لهذا الشكل من النزعات هي أن علومًا — كالاقتصاد — أصابها الجمود في العصور الوسطى المبكرة في أوروبا.

الأرض تُصبح كروية مجدَّدًا

لحسن الحظ لم يمتدَّ تأثير القديس أوغسطينوس إلى الشرق الأوسط، وقد طُرد معظم المسيحيِّين المتعصبين الذين حاربوا الديانةَ الرومانية القديمة على يد العرب الفاتحين في القرن السابع الميلادي. وكان حكَّام المنطقة المسلمين أكثرَ تسامحًا بكثيرٍ تجاه التعاليم القديمة من أولئك الذين كانوا في الغرب، وبرزت عبر العالم الإسلامي مراكزُ فكرية مثل بيت الحكمة في بغداد، الذي تأسَّس على يد الخليفة المنصور في القرن الثامن. وحظيت أجزاءُ المخطوطات اليونانية التي أُنقِذت من المكتبات القديمة مثل مكتبة الإسكندرية بتقديرٍ كبير. وتُرجِمت الأعمال التي أُنقذت لأفلاطون وأرسطو وفيثاغورس وإقليدس وجالينوس وبطليموس بحماسةٍ كبيرة إلى العربية وشرَحها العلماء المسلمون ممن يقرءُون اليونانية أمثال الكندي (الذي وُلد حوالي عام ٨٠١) في بغداد، والذي كتب شروحاتٍ مؤثِّرة على المنطق الأرسطي. واشتهرت عالمةُ الفلك من القرن العاشر الميلادي مريم الأسطرلابي — التي وُلِدت فيما يُعرف الآن باسم حلب بشمالي سوريا — باختراعها للأسطرلابات. ولم يدرس العلماءُ ممن يتحدثون العربية العلومَ اليونانية فحسب، بل مدَّ نطاقَها الكثيرُ منهم مثل ابن الهيثم الذي وُلِد في البصرة (٩٦٥–١٠٤٠ ميلاديًّا)، والذي يصِفُ عملُه المكوَّن من سبعة مجلدات عن علم البصريات بعنوان «كتاب المناظر» تجاربَه الرائدة عن الانعكاس، والتي برهنت على سبيل المثال على أن الضوء يتحرَّك دائمًا في خطوطٍ مستقيمة. كما كان هو أول مَن أدرك أن الرؤية تتطلب أن يدخل الضوء إلى العين. وتنعكس الهيمنة الإسلامية على الرياضيات عبْر العصور الوسطى المبكِّرة في الكلمات الإنجليزية ذات الجذور العربية مثل الجبر واللوغاريتمات، فيما تشهد كلماتٌ مثل الخيمياء والكحول والقلويات على الابتكار الإسلامي في الكيمياء. ولم تكن الاختراعاتُ التقنية العربية مثل طواحين الهواء والتقطير والأقلام والأزرار على سبيل المثال معروفةً في العالَم القديم.5

هذا، وقد ظلَّ الغرب في حالة ركود فكري حتى ارتقى جربير من أورياك — وهو عالِم كلاسيكي وهندسي وفلكي وفيلسوف — سُلَّم البابوية، وأصبح البابا سلفستر الثاني في عام ٩٩٩ ميلاديًّا. وقد ارتحل جربير كثيرًا قبل أن يصبح البابا، من ذلك السفرُ إلى إسبانيا؛ حيث اطلع على مخطوطاتٍ عربية ويونانية. كما شجَّع على إعادة استكشاف العلوم العربية واليونانية وتقديرها، وكذلك استخدام الأرقام الهندية العربية. حتى إنه امتلك ذات الحلقات، وهي نموذج للسماء مصنوعٌ من حلقاتٍ معدنية متحدة المركز ترتكز على نموذج دائري وليس مسطَّحًا للأرض. وخلافًا للأسطورة، لم يكن أحدٌ من المتعلِّمين من العصور الوسطى يظن أن الأرض مسطَّحة.

وقد تحوَّل تقطُّر العلمِ هذا من العالم القديم إلى فيضانٍ بعد أن سقطت ممالك البرابرة في إيبيريا وصقلية أثناء حروب الاسترداد المسيحي في أواخر القرن الثاني عشر والقرن الثالث عشر الميلاديَّين. إذ وجد الفرسان الصليبيون الذين اقتحموا بواباتِ المكتبات الإسلامية الكبرى في طليطلة وقرطبة وبَلَرْم أكثرَ الكنوز إثارةً للدهشة على الإطلاق: ألا وهو ماضيهم المطوي بالنسيان. حينها أدركت أوروبا الجائعة فكريًّا أن الفلسفة والعلوم الرومانية واليونانية التي هي عالَم من الأفكار ظنُّوا أنها فُقِدت إلى الأبد قد حُفِظت وجرى التوسُّع فيها في كتب أعدائهم. كان ذلك أحدَ أكثرِ أشكال التغيُّر المفاجئ إثارةً للسخرية على مرِّ التاريخ. فقد عمل العلماء المسلمون — مثل الكندي والموسوعي الفارسي ابن سينا (الذي وُلد سنة ٩٨٠ بهمدان في إيران) والمعروف عند الغرب بأفيسينا، أو ابن رشد (الذي وُلد سنة ١١٢٦ في قرطبة بإسبانيا والمعروف عند الغرب باسم أفيروس) — طيلةَ قرون على ترجمة الأعمال اليونانية التي خطَّتها أعظم عقول أوروبا القديمة إلى العربية. وقد التهم العلماء الأوروبيون الذين يقرءُون العربية تلك الأعمال وترجموها إلى اللاتينية.

أشعلت هذه الترجمات للفلسفة والعلوم جذوةَ النشاط الفكري لتبدأ فترةٌ غير مسبوقة من التعلُّم في الغرب، والتي تُعرف في بعض الأحيان باسم نهضة القرن الثاني عشر. وقد فتحت المدارس الكهنوتية الكاتدرائية التي أُنشِئت عبر أوروبا أثناء العصر الكارلينجي أبوابَ فصولها أمام النصوص اليونانية والعربية. وحين سمِع الملك لويس التاسع ملكُ فرنسا أن أحدَ سلاطين المسلمين أسَّس مكتبةً بها مجموعةٌ متنوِّعة وضخمة من الكتب، قرَّر أن يفعل المِثل في المدرسة الباريسية التي أسَّسها روبرت دي سوربون حوالي عام ١١٥٠. وقد أصبحت السوربون — كما عُرفت فيما بعدُ — نواةَ جامعة باريس؛ حيث وصفَها العالِم والشاعر جان جيرسون بأنها «فردوس العالم، التي بها شجرة معرفة الخير والشر».

بحلول تلك الآونة، كان الفيلسوف المعادُ اكتشافُه، والذي كان له أكبرُ الأثر على العصور الوسطى المتأخرة هو أرسطو. وحين وصلت الترجمات اللاتينية للمصادر العربية إلى الغرب، انكبَّ العلماء — أو المدرسيون كما أصبح معروفًا عن العلماء الأرسطيِّين — على أعمال أرسطو والشروحات العربية لها، وكأنهم أعادوا اكتشافَ كنزٍ ثمين — وهو ما كان صحيحًا بالطبع. ترجَم روبرت جروستيست (١١٧٥–١٢٥٣) — الذي أصبح أسقفَ لينكن — الكثيرَ من أعمال أرسطو أثناء دراسته في جامعة أكسفورد، وفي الفترة بين ١٢٢٠ و١٢٣٥ كتب مجموعةً من الأطروحات العلمية عن الفلسفة والفلك والبصريات والاستدلال الرياضي. وترجم زميلُه العالِم في أكسفورد، الفرنسيسكاني روجر بيكون (١٢١٩–١٢٩٢)، أطروحاتِ أرسطو عن «علم المنظور» و«حول المعرفة التجريبية»، ممَّا ساعد في إعادة إحياء الاهتمام بالتجريب. وفي باريس، كتب مترجِمٌ آخرُ وهو ألبرت العظيم (١٢٠٠–١٢٨٠) كتابَه «شروحات حول كتاب أرسطو «الطبيعة»» بالإضافة إلى كتابه «أطروحة حول المعادن» الذي دمج فيه نظريةَ أرسطو عن السببية بملاحظاته، بل بتجاربه، مما أدَّى على نحوٍ أساسي إلى تأسيس علم المعادن الحديث. وفيه، شدَّد على أن «الهدف من الفلسفة الطبيعية ليس القبول بآراء الآخرين، بل تحرِّي الأسباب العاملة في الطبيعة».

ولم يجلِب المدرسيون الأوروبيون المعرفةَ اليونانية والعربية إلى الغرب فحسب، بل طبَّقوها أيضًا على مجالاتٍ جديدة للدراسة. على سبيل المثال، يصِف روبرت جروستيست في كتابه «عن الألوان» الذي نُشر حوالي عام ١٢٢٥ حيزًا لونيًّا هندسيًّا ثلاثيَّ الأبعاد بطريقةٍ لا تختلف كثيرًا عن الطريقة التي نصِفُ بها الألوان التي نراها اليوم. كما كان هو أول مَن يشير إلى أن قوس قزح هو نتيجة انكسار الضوء.6 وفي كتابه «العمل العظيم» الذي كتبه حوالي عام ١٢٦٦، نقل روجر بيكون الكثيرَ من أفكار أرسطو عن العلوم الطبيعية والقواعد النحوية والفلسفة والمنطق والرياضيات والفيزياء والبصريات، إلا أنه أضاف دراسةً للعدسات التي قد تكون هي ما ألهمت اختراعَ النظارات.
وفي حين كانت عمليةُ إعادة إحياء العلوم في أوروبا تمثِّل انطلاقةً كبرى وتشتمل على بعض الأفكار الجديدة حقًّا كما أوردنا بعاليه، فإن الكثير من أوجهِ التقدُّم الذي أحرزته تسبَّبت فحسب في وضعِ العلماء الأوروبيِّين في موضعٍ يواكب العالَم القديم والتقدُّم الذي أحرزه أهل الشرق. فجانب كبيرٌ من عمل روبرت جروستيست عن البصريات مبنيٌّ على أفكار الكندي عن البصريات؛ في حين أن أطروحة بيكون التي تتكوَّن من ٨٤٠ صفحة التي بعنوان «العمل العظيم» مأخوذةٌ في غالبها من «كتاب المناظر» لابن الهيثم. بل حتى مصطلحات مثل «التجربة» في أعمال بيكون تُعدُّ مضلِّلة للأذن الحديثة، حيث لم يعنِ المصطلح في العصور الوسطى إلا الملاحظة من الخبرة، كملاحظة ألوان قوس قزح، أو غليان الماء أو جاذبية المغناطيس. وقدَّم بيكون أيضًا أول استعراض للبارود واستخداماته في الألعاب النارية في الغرب، إلا أنه نشأ على الأرجح في العالم الإسلامي. مع ذلك، يُعَد أهمُّ تمييزٍ بين المعرفة في العصور الوسطى التي درسها جروستيست وبيكون، والعلوم الحديثة هو أن كليهما كان يعتبر أنه يبحث فرعًا من فروع اللاهوت. على سبيل المثال، كان جروستيست يؤمن أن كلَّ الضوء هو انبثاق من الرب7 وشدَّد هو وبيكون على أن علم اللاهوت هو أساس كل العلوم.8

وعلى الرغم من تبعيتها إلى علم اللاهوت، فإن جلب الأفكار «الوثنية» إلى المسيحية لم يكن مرحَّبًا به من جميع اللاهوتيين بشكل موحَّد. إذ كان معظم التقليديِّين يخشون أن تودي قراءةُ أعمال أرسطو بصغارِ العلماء إلى الهرطقة. وقد وصل الأمر ذروته في السابع من مارس لعام ١٢٧٧، حين أصدر ستيفن توبييه أسقفُ باريس سلسلةً من أوامر الحظر تمنع تدريس ٢١٩ أطروحة فلسفية ولاهوتية، معظمها لأرسطو. وكانت معظم هذه الأوامر موجَّهة للاهوتيِّين الذين تجرَّءوا على وضعِ منطق أرسطو فوق القدرة الإلهية المطلقة؛ إذ كانوا يتجادلون على سبيل المثال بشأن قدرة الرب على خلقِ الفراغ باعتبار أن أرسطو كان قد أصرَّ على أن الفراغ هو أمرٌ مستحيل منطقيًّا. وقد طُبِّقت أوامر الحظر عام ١٢٧٧ بصرامةٍ في باريس فحسب، إلا أن تأثيرها أدَّى إلى سيادة أسلوب ناقد أكثرَ تجاه أرسطو في معظم جامعات أوروبا الرائدة.

نحن نعلم اليوم أن هذه الانتكاسةَ كانت مؤقَّتة فقط. فبعد فترةٍ من التراجع، استمر التقدُّم، ونُسيَت أوامر الحظر وهيمن أرسطو مجددًا على مناهج الدراسة في الجامعات الغربية. لكن هذه النتيجة السعيدة لم تكن مضمونة. فقبل ذلك بمائتي عام، تسبَّب ردُّ فعلٍ عنيف مناهض للهلنستية والعقلانية في العالم الإسلامي روَّجت له مدرسة الأشاعرة السنيَّة الإسلامية في إطفاء جذوة «العصر الذهبي» للعلوم الإسلامية. تبعًا لذلك، قصَر العلماء العرب دراساتِهم على «الحقيقة الحرفية» للقرآن.9 بالكثير تَدين العلومُ الأوروبية في العصور الوسطى أنها لم تُوأَد بالمِثل في مهدها إلى تأثيرِ توما الأكويني (١٢٢٥–١٢٧٤ ميلاديًّا)، أعظم اللاهوتيِّين في تلك الفترة، والذي وصل إلى باريس قبل ثلاثين عامًا من تطبيق أوامر الحظر.

الثور الأبكم

وُلِد الأكويني عام ١٢٢٥ لأسرةٍ إيطالية ثرية في روكاسيكا بوسط إيطاليا، وكان الابن التاسع لثيودورا كاراتشيولا، كونتيسة تيانو. تلقَّى توما تعليمَه الأساسي في مدرسة عامة في نابولي حيث اطلع للمرة الأولى على أفكار أرسطو والشارحين له من العرب، خاصة ابن رشد والفيلسوف اليهودي الشرقي موسى بن ميمون (الذي وُلد في عام ١١٣٨ في قرطبة بإسبانيا) والشهير في الغرب باسم ميمونيديس.

كانت أسرة توما تتوقَّع منه أن يصبح أبًا بنديكتيًّا، وهو منصب مربِح يمكن أن يربح للأسرة أراضي جديدة. لكن كانت لتوما أفكارٌ أخرى. إذ أراد بدلًا من ذلك أن يلتحِق برهبان الدومنيكان الذين كانوا — كرهبان الفرنسيسكان الذين انتمى إليهم الأوكامي — رهبنة دينية زاهدة معروفة بتوقيرها للعلوم الجديدة. بالنسبة إلى أسرته كان هذا في القرون الوسطى بمنزلة الالتحاق بطائفةٍ دينية غير مرغوب فيها؛ إذ كان ينظر لهؤلاء الزهادِ على أنهم أكثر احترامًا بالكاد من المتسوِّلين المتجولين. ولكي يمنعوا توما من الاضطلاع بهذا العمل الوضيع، لجأت أسرتُه إلى حبسه في القلعة التي تملِكها العائلة. بل إن إخوته احتالوا حتى ليدخلوا له عاهرة من أجل أن يغروه بالابتعاد عن تلك الحياة المتديِّنة. ويُقال إن توما رفضها وطاردها بعصًا مشتعلة. وقد ساعدته أخته في نهاية المطاف على الهرب بأن أنزلته في دلوٍ من برج القلعة إلى أيادي رفاقٍ له من الدومنيكان. هرب الأكويني من إيطاليا وارتحل إلى مركز العلم في أوروبا في العصور الوسطى، وهي جامعة باريس، فوصلها حوالي عام ١٢٤٥.

بحلول ذلك الوقت، كان ألبرت العظيم، وهو أكثر المترجمين لأعمال أرسطو إنتاجًا وتأثيرًا في الغرب، يدرِّس بباريس منذ خمس سنوات. وقد لفت الراهب المبتدئ انتباهَ عالم اللاهوت المرموق باعتباره تلميذًا جديدًا خجولًا منطويًا على نفسه ودائمًا ما يتنابزه زملاؤه بلقب «الثور الأبكم»، وذلك لضخامة بنيته الجسدية وصلعه المبكِّر. إلا أن ألبرت انتبه إلى فطنة الدارس اليافع وتنبَّأ بأن «خُوار هذا الثور سيُسمع في أرجاء العالم أجمع». وقد كان محقًّا في ذلك.

وحين انتقل ألبرت إلى كولونيا ليدرِّس في مدرستها العامة، تبِعه الأكويني ببضع سنوات قليلة، ثم عاد إلى باريس ليدرس من أجل الحصول على شهادة الماجستير في علم اللاهوت ويكتب شروحاته عن «كتب الأحكام الأربعة».10 كان هذا الكتاب قد كُتِب في القرن السابق بقلم العالِم الفرنسي بيتر لومبارد في شكل مجموعة من المقالات التي تتناول مشاكلَ شائكة كان اللاهوتيون مستمرين في التساؤل بشأنها، مثل «ما هي الإرادة الحرة؟» بالإضافة إلى أسئلةٍ تدمج بين اللاهوت والعلوم، مثل «بأي الأساليب يمكن للماء أن يكون فوق السماء، وما نوعيته؟». تعكس مثل هذه الأسئلة وجهًا رئيسيًّا من أوجه النظر إلى العالم في العصور الوسطى، والذي هو جليٌّ أيضًا في قصيدة دانتي العظيمة، والذي يتمثَّل في الاعتقاد بوجود عالمٍ واحد يشتمل على عناصرَ طبيعية وأخرى فائقة للطبيعة. وبعد عرض السؤال، يشتمل كل فصل على مجموعةٍ من الردود التي كتبها آباء الكنيسة. كان من المطلوب من كل تلامذة اللاهوت في العصور الوسطى أن يكتبوا شروحًا مطوَّلة على كتاب «كتب الأحكام الأربعة»؛ الأمر الذي هو أشبه بعمل أطروحة دكتوراه حديثة.

في عام ١٢٥٩، عاد الأكويني إلى إيطاليا وفي وقتٍ ما بين عامي ١٢٦٥ و١٢٧٤ (أي مباشرة قبل استنكار باريس لأفكار أرسطو) كتب أهم أعماله وهو «الخلاصة اللاهوتية»، الذي أصبح في غاية التأثير حتى إنه نجح تقريبًا في إضفاء روح القداسة على أرسطو في المسيحية الغربية. وبالفعل، في قصيدة «الكوميديا الإلهية»، يلتقي دانتي وبياتريتشي ببيتر لومبارد، وألبرت العظيم وتوما الأكويني في دائرة الشمس؛ لكن أرسطو وحدَه كان هو المعروف ﺑ «سيد العارفين».

وكان مبتغى الأكويني هو وضع نموذج عقلاني عن الكون مبني على علوم أرسطو، لكنه في الوقت نفسه يضم الرب والملائكة والقديسين والشياطين. لكن ولكي يجعل الربَّ المسيحي متسقًا مع العلوم الأرسطية، كان على الأكويني أن يثبت أولًا وجودَه. ولكي يقوم بهذا العمل الفذ، درس الأكويني تحليلَ ذلك الفيلسوف العظيم عن الحركة والتغيير. كان أرسطو قد كتب يقول: «كل شيء يتحرَّك إنما هو يتحرَّك بفعل شيء». لكن، وعلى عكس نزعتنا الحديثة نحو البحث عن أسبابٍ فردية تفسِّر الأحداث، كأن تكون الشرارة هي سبب النار، قدَّم أرسطو أحداثًا لها أربعة أسباب أو علل مختلِفة للتغيير: وهي المادية والصورية والفاعلة والنهائية. لذا وعلى سبيل المثال، قد يكون الطوب هو السبب المادي لوجود المنزل، في حين أن شكله أو مخطَّطه هو السبب الصوري، أما مَن بناه فهو السبب الفاعل، وسببه النهائي «الغاية» هو أنه مكان لسكنى البشر.

لا تزال الأسباب الثلاثة الأولى مفهومة، رغم أننا قد نجادل بشأنِ ما إن كانت في حاجة لأن يتم تمييزها من الأساس؛ لكن السبب الرابع لدى أرسطو — وهو المنتهى — يختلف كثيرًا عن أي شيء في العلوم الحديثة لأنه يعكس الترتيب الزمني المعتاد بين الوسيلة والنتيجة. ففي حين أن الطوب والمخطَّط والبنَّاء تسبق وجود المنزل، فإن السبب الرابع عند أرسطو يكمُن في المستقبل. لكن بالنسبة إلى أرسطو والأكويني، ظلَّ المنتهى سببًا قويًّا لوجود المنزل بقدر الطوب المستخدَم في بنائه. يقدِّم هذا شيئًا من التفسير لما يبنيه البشر مثل المنازل، لكن أرسطو كان يعتقد أن كل شيء موجود لغاية. وهكذا، تسقط الأحجار إلى الأرض؛ لأن المنتهى بالنسبة إلى الحجر أن يكون بأقربِ ما يمكن لمركز الأرض؛ في حين أن منتهى وجود القمر هو أن يدور حول الأرض في دوائرَ مثالية. وبتمديد هذا إلى عالَم الأحياء، فإن منتهى وجود الكائنات الدنيا كالخنازير هو أن تخدم الكائناتِ العليا مثل البشر، وذلك بالتغذِّي عليها. بل إن الفيلسوف الروماني فيرو ذهب حتى إلى ما هو أبعد من ذلك، فأكَّد أن الغاية من الحياة بالنسبة إلى الخنزير هو أن يُبقي على لحمه طازجًا.

لكن أين يتوقَّف كل ذلك؟ ففي نهاية المطاف، مثل هذا التسلسل الهرمي من الغايات يمكن أن يؤدِّي إلى تراجع ونكوص لا نهائيَّين: فالغاية من نبات اللفت هو خنزير جائع، والغاية من الخنزير هي إنسان جائع، وما إلى ذلك. تجنَّب أرسطو هذه المشكلة بأن وضع سقفًا لتسلسلاته الهرمية من الأسباب بالمحرِّك الرئيسي أو الأولي، أو الرب، الذي هو الغاية الأولى والأخيرة من كل شيء. بالنسبة إلى الأكويني، كان هذا هو ما حسم الصفقةَ التي ضربها بين علم اللاهوت وفلسفة أرسطو. وعلى الرغم من أن المحرِّك الرئيسي لدى أرسطو كان كيانًا مجردًا أقربَ إلى شيء منه إلى شخص، وعلى العكس تمامًا من الإله المسيحي المجسَّد، فإن الأكويني دمجه بحماس في علم اللاهوت (حيث كان الإله مذكَّرًا دائمًا في اعتبار اللاهوتيِّين في العصور الوسطى) بحيث أصبح الإله المذكور في الكتاب المقدَّس هو السببَين الفاعل والنهائي لكل شيء وكل شخص في عالم العصور الوسطى.

ساعد إدخالُ الأكويني الأسبابَ الأربعة لأرسطو إلى الفلسفة المسيحية في وضعه أربعةَ «أدلة» علمية من أصل خمسة على وجود الرب. وكانت ثلاثة من أصل أدلته أو «أساليبه الخمسة» تشدِّد على أن الرب المسيحي لا بد أنه كان السبب الأول المادي والصوري والفاعل لكل الأشياء والأحداث في العالم. وطبَّق المنطقَ نفسَه على دليله الرابع، قائلًا بأن: «هناك كيانًا ذكيًّا موجودًا تتوجَّه من خلاله كلُّ الأشياء إلى غايتها؛ وهذا الكيان هو ما نطلق نحن عليه الرب». لذا كان الرب هو السببَ النهائي، الغاية، لكل شيء حدث من قبلُ أو سيحدث. أما دليل الأكويني الخامس والذي يُعرف عادةً باسم «حجة التدرُّج» فكان شكلًا مغايرًا من الحجة الأنطولوجية٢ الشهيرة التي طرحها الفيلسوف الفرنسي أنسلم من كانتربري (١٠٣٣-١١٠٩) قبل ذلك بقرن. إذ دفع الأكويني بأن أيَّ ترتيب صاعد من الأشياء الموجودة لا بد أن يعلوه الكيان الأعظم، والذي لا يمكن أن يكون سوى الرب.

زعم الأكويني بعد أن قدَّم خمسة براهين على وجود الرب أنه نجح في دمج الرب المسيحي في نموذجه عن الكون المبني على علوم أرسطو. كما زعم أنه أثبت أن اللاهوت عِلمٌ، بل هو «أبو العلوم». لكن هناك المزيد. إذا حاول الأكويني بعد ذلك أن يبرهن على أن بإمكان معرفته اللاهوتية تفسيرَ حتى المعجزات.

مذاق الرب

من شأنِ آخرِ ما قدَّمه الأكويني من تحايلٍ فلسفي أن يجرَّ على ويليام الأوكامي اتهامَه بالهرطقة لاحقًا بعد جيل، وبعد مرور قرن أو نحو ذلك أن يشعل شرارةَ الانشقاق الكبير في المسيحية الغربية. إذ تعلَّق الأمر بمعجزة القربان المقدَّس — أو مناولة القربان المقدَّس — والتي تحتل من القدَّاس المسيحي مكانةَ الجوهر اللاهوتي. ففيها يدعو القسُّ الربَّ من أجل أن يحوِّل — حرفيًّا — الخبز والنبيذ إلى جسد المسيح ودمه. صنَّف معظم اللاهوتيين هذه المعجزةَ الخاصة بالاستحالة — كما يُطلق عليها — في صنف الأحداث نفسه كمعجزة تحويل المسيح الماءَ إلى نبيذ أو شق موسى مياهَ البحر الأحمر. فهي تشتمل على تدخُّل إلهي، ومِن ثَم فلم يكن يُتوقَّع منها أن تتوافق مع القوانين العادية التي تنطبِق على الحياة اليومية. إلا أن الأكويني كان مقتنعًا أن بإمكانه دمْجَ المعجزات حتى في نموذجه العلمي عن العالم. ومن أجل أن يفعل ذلك، استعان بهديةٍ أخرى من العالم القديم، ألا وهي الواقعية الفلسفية.

كان القديس أوغسطينوس قد أدخل بالفعل نظريةَ المُثُل الأفلاطونية إلى الكنيسة في العصور الوسطى المبكِّرة حيث أصبحت أفكارًا في عقل الإله. لكن بحلول القرن الثالث عشر، حلَّت محلها الكليَّات الأرسطية. وكانت تلك الكليَّات شبيهةً بالمُثل الأفلاطونية، غير أنها موجودة في العالم المادي، بحيث تملأ كل شيء بنوعٍ ما من جوهرٍ ما كان عليه. فكل شيء مستدير يتشارك جوهر الاستدارة المثالي؛ وكل النبلاء يتشاركون حصَّتهم من النبالة؛ وكل الآباء يتقاسمون جوهر — أو كلية — الأبوَّة.

من وجهة نظر علمية، كانت الكليَّات الأرسطية تمثِّل تطويرًا ضئيلًا لنظرية المُثل الأفلاطونية حيث كان يُنظر لتلك الكليَّات على أنها موجودة في العالم الحقيقي وليست في عالمٍ ما خفي. إلا أن هذه الفكرة خلقت مشكلة والتي تتمثل في السؤال: كيف نكتسب المعرفة بها؟ تم تخصيص مجموعاتٍ كبيرة من المخطوطات الأكاديمية للإجابة عن هذا السؤال من دون أن تأتي أيٌّ منها أبدًا بنتيجة. وكانت هناك مشكلة إضافية تكمُن في أن هناك الكثير من تلك الكليَّات: على الأقل واحدة لكل اسم أو فعل في لغتنا. وفي عمله «الفئات أو المقولات»، حاول أرسطو أن يرسي على ذلك شيئًا من النظام عن طريق وضع كل واحدة من الكليَّات في واحدةٍ من عشر فئات. وتشتمل تلك على الجوهر والكم والكيف والمكان والصلة والوضع وغير ذلك.

ما عناه أرسطو بالضبط بتصنيفه هذا للكليات لا يزال موضعَ جدال حتى يومنا هذا، لكن يمكن لنا أن نساوي أولها وهو الجوهر بالمفهوم الحديث لكلمة المادة. فهو يمثِّل «الجوهر» الثابت لشيءٍ ما، أي تكوينه من عناصر التراب أو الهواء أو النار أو الماء. أما الفئات الكلية الأخرى والتي تُعرف في الغالب باسم «العوارض» فهي تتصل بجوهر الشيء فتمدُّه بما يتميز به من شكل وملمس ومذاق وهيئة ورائحة. على سبيل المثال، تحتوي الأشياء المستديرة جميعها على صفة الاستدارة الكلية، وإن كانت تلك الأشياءُ مزدوجة بطبيعتها — كما هي الحال في الكرز — فإنها تشتمل أيضًا على صفة الثنائية الكلية بالإضافة إلى صفة الحلاوة الكلية، وهي كلها ترتبط بجوهر الكرز أو مادته. هذه هي الطريقة التي يصبح الكرز بها كرزًا. وفي حين أن جوهر الشيء يُعَد ثابتًا، فإن عوارضه كلونه أو هيئته في حالة تغيُّر وتحوُّل مستمر، على سبيل المثال، كأن تنمو ثمرة الكرز فتتحول من الأحمر اللامع إلى الأحمر القاتم بينما تنضج.

وكانت الكليَّات تقع من الفلسفة والعلوم في العصور الوسطى محلَّ الجوهر؛ لأنها تُعَد أساسَ منطقهما، وهو القياس المنطقي الأرسطي. عادة ما يتم توضيحُ البناء الأساسي لهذا المنطق بالإشارة إلى معلم أفلاطون الشهير: سقراط بشر، وكل البشر فانون، إذن سقراط فانٍ. تأسَّس هذا المنطق على مبدأ أن كل الأشياء يمكن تصنيفها طبقًا لصفاتها الكليَّة، مثل صفة «البشرية» الكلية. بمجرد أن نقبَل بهذا المبدأ، وبما أنك تعرف الصفات العرَضية للصفات الكلية مثل الفناء هنا، إذن بإمكانك التوصُّل إلى عباراتٍ علمية حاسمة، وستكون صحيحة حتمًا.

يعمل المنطق القياسي بشكلٍ جيد بالنسبة إلى المثال أعلاه، لكن إذا ما أجرينا تعديلًا بسيطًا — سقراط بشر وكل البشر لهم لحًى (كما ربما كانوا يفعلون في اليونان القديمة)، إذن سقراط له لحية — حينها يصبح هذا المبدأ أقلَّ وضوحًا كطريقة جيدة للتفكير في العالم. وكما سنكتشف، كان تقويض ويليام الأوكامي للمنطق القياسي أحدَ العوامل الملهِمة التي أدَّت إلى شفرته. لكن بالنسبة إلى الأكويني، كانت الكليَّات أكثر من مجرد أداةٍ للمنطق. إذ اعتقد أن حقيقتها المطْلقة تكمُن في عقل الرب، وأن دراستها توفِّر رؤًى بشأن خطته. فلم تكن تلك الكليَّات شيئًا أقل من طيفٍ من أطياف السماء في العالم، والذي يملأ كلَّ الأشياء الدنيوية بالوجود المباشر للإله.

أدرك الأكويني أن معجزة القربان المقدَّس تمثِّل مشكلةً شائكة بالنسبة إلى نظرية الكليَّات لأن جوهر الخبز — الأساس الثابت الذي لا يتغيَّر (طبقًا لأرسطو) — يُعتقد أنه تحوَّل إلى جوهرٍ آخرَ مختلِف تمامَ الاختلاف وهو اللحم. وهذا هو السبب في تسمية المعجزة بالاستحالة. وهكذا بعد وقوع المعجزة، كان يُعتقَد أن الخبز — في حين أنه لا يزال يشبه الخبزَ في شكله — يتكوَّن من جوهر جسد المسيح (ولا زال الكاثوليك يعتقدون ذلك). وكان السؤال الذي أزعج المدرسيِّين هو: ما هي عوارض الخبز — مذاقه الذي هو مذاق الخبز أو مظهره المتفتت — التي ترتبط بجسد المسيح؟

في كتابه «الخلاصة اللاهوتية» استنبط الأكويني حلًّا عبقريًّا. إذ ادعى الأكويني أن عوارض الخبز — كمذاقه وقوامه ولونه وما إلى ذلك — أثناء وقوع المعجزة كانت مرتبطةً ليس بجوهره المعتاد بل بكَمِّه، وهو ما ظل على حاله بفعل المعجزة. إذ كان هناك خبز واحد قبل وقوع المعجزة ومسيح واحد بعدها. سمح هذا لمذاق الخبز أن يظلَّ ويبقى حتى بعد أن اختفى جوهره وتلاشى. ومِن ثَمَّ كانت معجزة الاستحالة كما ادعى الأكويني تتوافق تمامًا وعلم أرسطو: الذي هو درةٌ في تاج «أبو العلوم».

كان هذا هو التأثير الهائل لتوما الأكويني الذي جرى تقديسه٣ بعد وفاته بخمسين عامًا فقط، حتى إن هذا التفسير الغريب أصبح هو العقيدة المعيارية في الكنيسة المسيحية والذي يظل على هذا النحو في يومنا هذا عند الكنيسة الكاثوليكية.٤ وكما علَّقت العالمة المختصة بأمور العصور الوسطى إديث سيلا في سخرية جافة، فإن الأكويني اعتبر «أنه لم يكن يقدِّم عنصرًا فلسفيًّا غريبًا إلى عقيدةٍ مقدَّسة، بل كان يستخدم سببًا مطهَّرًا وجمعه بالتجلِّي ليصنع عِلمًا واحدًا مقدَّسا — فحين خُلِط ماء الفلسفة بنبيذ التجلِّي تحوَّل الماء نبيذًا».11 ومن أجل هذا الجزء النهائي الخاص بمعرفته الأرسطية، حوَّل اللاهوت إلى علمٍ من العلوم.
قبل ذلك بقرابة قرنين، كان سقراط قد أصرَّ على أنه أكثر حكمة من رجل آخر، والسبب كما يقول هو: «أنا لا أتوهَّم أنني أعرف ما لا أعرف».12 كانت تلك هي المشكلة الأساسية للمعرفة المدرسية.٥ إذ ظن المدرسيون أنهم يعرفون كل شيء، لكنهم في الواقع كانوا لا يعرفون شيئًا. فمعرفتهم التي تعجُّ بالكيانات كان بإمكانها أن تفسِّر كل شيء، لكن من دون مبدأ التقتير لم تكن تتنبأ بأي شيء.

ولم يكتمل كتاب «الخلاصة اللاهوتية» للأكويني أبدًا. ففي ديسمبر لعام ١٢٧٣، تراءت لذلك اللاهوتي العظيم رؤيةٌ بينما كان يلقي قدَّاسًا؛ الأمر الذي خلَّفه غيرَ قادر على الكتابة أو الإملاء حتى بحيث كان «يبدو أن كل ما كتبت شيءٌ ضئيل القيمة»، وذلك بالمقارنة إلى ما راوده من رؤية. لاحقًا بعد جيل، وصل عالِم إلى أكسفورد بشفرة يشقُّ بها عُباب هذا الوهم.

هوامش

  • (١)

    بالكاد يستخدم علماءُ هذا العصر هذا المصطلح، والذين يشدِّدون على أن تلك القرون لم تكن بنفس قدْر الظُّلمة التي اشتهرت بها. لكن في ظنِّي أن ثمَّة تبريرًا لاستخدامه في السنوات الفوضوية التي تلت سقوط روما مباشرة في الغرب، ولو لمجرَّد أن خسارتها للعلم جعل تلك الحِقبة «مظلمة» من وجهة نظرنا.

  • (٢)

    الأنطولوجيا هو فرع الفلسفة الذي يختص بالتعاطي مع أسئلةٍ حول ما هو موجود وما هو غير موجود. وهو على عكس علم المعرفة الذي يختص بما يمكن أن نعرفه.

  • (٣)

    أصبح قديسًا بمقتضى العقيدة الكاثوليكية.

  • (٤)
  • (٥)

    لربما كان أقربُ نظير حديث هو «اللاهوت التجريبي» الذي تصوَّره فيليب بولمان في ثلاثيته «مواده المظلمة».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤