الفصل الرابع

ما مدى بساطة الحقوق؟

ويليام الأوكامي عملاقٌ في تاريخ الفكر. كما أنه أحدُ أبرز الشخصيات في التطوُّر المبكِّر لنظرية الحقوق الطبيعية.

سيجفريد فان دوفل، ٢٠١٠1

لم يكن ويليام هو الراهب الفرنسيسكاني المارقَ الوحيدَ الذي يقيم في مدينة أفينيون في عشرينيات القرن الرابع عشر. فممثل الرهبنة في البلاط البابوي، بوناجراتيا من برجامو، كان مسجونًا في سِجن البابا. وكان كاهنها العام، ميكيله من تشيزينا، قد وصل حديثًا أيضًا إلى المدينة ووُضع تحت الإقامة الجبرية كما حدث مع ويليام. وفي غضون شهور، عُزل الثلاثة كنَسيًّا وأُجبروا على الفِرار. والمسألة التي جرَّت إليهما كلَّ هذا العناء الشديد هي جدال شرس بشأنِ ما إن كان المسيح يملك كيس نقود.

وكما هو الحال على ما يبدو بالنسبة إلى كل الجدالات التافهة التي وقعت في العصور الوسطى، كانت المسألة الحقيقية أعمقَ بكثير من أي شك بشأن امتلاك المسيح مالًا. إذ كانت معنيةً بالعلاقة بين الكنيسة التي يمثِّلها المسيح، والدولة التي يمثِّلها كيسُ نقوده. ويمكن أن نتتبَّع أصول الجدال إلى المسيحيِّين الأوائل. إذ أخذ الكثيرون بإصرار المسيح على «أن ولوج الجملِ سَمَّ الخِياط أسهلُ من ولوجِ غنيٍّ ملكوتِ الرب» وكذلك نصيحته «بِع كلَّ ما لك وأعطِ الفقراء» بمعناهما الحرفيَّين. فتبنَّوا أسلوبَ حياة الفقر الرسولي التي تضاهي حياة المسيح ورسله بأن هجروا المال والأملاك ليعيشوا وعَّاظًا متجولين، معتمدين فقط على الاستجداء أو الإحسان من الغير من أجل الحصول على المأوى وحدِّ الكفاف.

وقد سلكت الكنيسةُ الرومانية مسارًا غايةً في الاختلاف. فبعد أن قبِل الإمبراطور قسطنطين بالمسيحية ديانةً رسمية للإمبراطورية، أصبحت الكنيسة المسيحية مرتبطةً بالدولة الرومانية على نحوٍ وثيق. ضعفُت هذه العلاقة بين الكنيسة والدولة بسقوط روما، وأُعيد تأسيسها عام ٨٠٠ ميلاديًّا حين توَّج البابا ليو الثالث الإمبراطور شارلمان إمبراطورًا رومانيًّا مقدَّسًا يوم عيد الميلاد في روما. ومن بعد ذلك، أتى ملوكُ وأباطرة غرب أوروبا إلى روما ليتوَّجوا على يد البابا، مما زاد من خضوع ممالك وإمبراطوريات غرب أوروبا وكذلك نظامهما الإقطاعي، لسلطة الكنيسة الكاثوليكية.

مسكين ومتدين ومهرطق

في القرن السابق لمحاكمة ويليام، انبثق العديد من الجماعات المسيحية المارقة التي هاجم أعضاؤها بذخَ الكنيسة، رافضين الارتباطَ بالدولة ومعتنقين مبدأَ الفقر الرسولي. من بين هؤلاء كان الهيوملياتيون في إيطاليا، والوالدنسيون في ألمانيا، والكاثار في منطقة لانجدوك بفرنسا.

وقد أُعلِن أن معظمَ هؤلاء مهرطقون واضطُهدوا بقسوة،2 لكن الكنيسة الكاثوليكية احتضنت إحدى جماعات الفقر الرسولي، وإن كان ذلك على مضضٍ إلى حدٍّ ما. وُلِد جيوفاني دي بيرناندون — والمعروف باسم فرنسيس — في أسرة ثرية في بيروجا حوالي عام ١١٨١. وبعد أن تمتَّع بملهيات الشباب الثري المعتادة، تخلَّى فرنسيس عن ميراثه وممتلكاته ليعيش حياةَ واعظ مستجدٍ متجوِّل. وذهب هو وأتباعه إلى ارتداء رداء رمادي من الصوف الخشِن الذي له حبل معقود، مما أكسبهم صفةَ «الرهبان الرماديِّين». جاب فرنسيس ورهبانه الريفَ يحضُّون أيَّ أحد يستمع لهم على أن يتبنَّى حياة الزهد والتوبة والحب الأخوي. وسرعان ما نمَت له مجموعةٌ كبيرة إلى حدٍّ ما من الأتباع الأوفياء، ما دفع فرنسيس لأن يلتمس من البابا أن يعترف بجماعته رهبنةً مستجديةً متجولة جديدة. وقد وافق البابا وأصبح أتباع فرنسيس يمثِّلون رهبنةَ الإخوة الأصاغر، والشهيرة باسم الفرنسيسكانيين. وبحلول وقت ميلاد ويليام الأوكامي، كانت الرهبنة قد تحوَّلت من مجموعة صغيرة عددها بين ١١ تابعًا وحوالي ٢٠ ألف تابع.
لكن في رأي بعض المسيحيِّين لم يكن الفرنسيسكانيون جذريِّين بما يكفي. فالمتصوُّف الإيطالي جيرارد سيجاريلي الذي أسَّس جماعةً أخرى من هذه الجماعات كان قد مُنع من دخول تلك الرهبنة في عام ١٢٦٠، فحمل كلَّ أمواله وممتلكاته ردًّا على ذلك إلى الميدان الرئيسي في بارما ليوزِّع كلَّ أمواله وقبعاته وكراسيه وزجاجات نبيذه على الفقراء. وأطلق لحيته وارتدى رداءً أبيضَ وأصبح الراهب الأبيض الذي يسير حافي القدمين من مدينة إلى أخرى. وسرعان ما أصبح يقود مجموعةَ تابعين كبيرة من المسيحيِّين الذين يشاطرونه الفكرَ والذين عُرفوا باسم الرسوليين وحثُّوا كلَّ مَن سمِع لهم على «توبوا من فوركم!».١

في عموم الأمر كان للكنيسة سلوكٌ متساهلٌ تجاه النُّساك الغريبي الأطوار. لكن بالإضافة إلى التخلي عن ثروته، هاجم جيرارد ثروةَ الكنيسة. وأصرَّ أيضًا على أن الكنيسة لا تملك امتياز الوصول إلى الفردوس، وهكذا فإن صكوك الغفران (التي تعني في الأساس إجازةً من الجحيم في مقابل التبرُّع للكنيسة)، وكذلك ضرائب الكنيسة والمعروفة باسم العشور، كانت ابتزازًا من جانب الكهنوتيِّين. وكما هو متوقَّع، أعلن البابا أن هذه الآراء بدعٌ وهرطقات وفي عام ١٣٠٠، أي قبل وصول ويليام إلى أفينيون بأربعة وعشرين عامًا، أُحرِق عدة رسوليِّين، من بينهم سيجاريلي، على الوتد في بارما.

إلا أن موت سيجاريلي لم يزِد الأمرَ إلا سوءًا على الكنيسة؛ حيث تولَّى قيادةَ الجماعة تابعٌ أكثر عنفًا يُدعى فرا دولتشينو.3 وبمساعدة شريكته مارجريت من ترينت التي كان دولتشينو قد أنقذها من أحد الأديرة، جنَّد دولتشينو مجموعةً كبيرة من التابعين في شمال إيطاليا. وكما عُرفوا فيما بعدُ باسم الدولسينيانس، كان هؤلاء حتى أكثرَ تطرفًا من الرسوليِّين. إذ لم يرفضوا سلطةَ الكنيسة فحسب، بل رفضوا أيضًا أن يقبلوا بسلطةِ الدولة وأصرُّوا على أن أشياءَ مثل الممتلكات والزواج والقوانين والرق هي كلها أوهام مبتدَعة للسيطرة على الناس الذين ينبغي أن يكونوا أحرارًا. وعلى عكس الفرنسيسكانيِّين، رحَّب هؤلاء بالرجال والنساء بينهم على حدٍّ سواء، وعاشوا في مجتمعات تعاونية كالهيبيِّين لكن بنسخة العصور الوسطى.

اليوم يبدو كلُّ هذا غيرَ ضارٍّ، لكن برفضهم قبولَ المفاهيم الراسخة للملكية والسيادة الإقطاعية والسلطة، كان الدولسينيانس ينصِّبون أنفسهم بوضوحٍ ضد الدولة الإقطاعية وكذلك الكنيسة. في عام ١٣٠٥، شن البابا كليمنت الخامس حملةً عنيفةً ضد هذه الجماعة. ووعد بصكوك الغفران إلى الجنود المحليِّين؛ الأمر الذي حضَّهم على مهاجمة المتمردِين، فدمَّروا مستوطناتهم وطاردوهم عبْر شمالي إيطاليا.

وردًّا منهم على ذلك، أصبح الدولسينيانس أكثرَ عنفًا، فأخذوا يغِيرون على القرى والأديرة ليسرقوا الطعام والأموال والملابس. وفي مارس من عام ١٣٠٦ أنشئوا معسكرًا حصينًا على قمةِ جبل يُعرف باسم جبل زبيلو أو الجبل الأصلع بإقليم بييمونتي. وقد صدُّوا أولَ هجوم عليهم بنجاح؛ لذا ركَن الأسقف إلى محاصرةِ الجبل ليحمل المجموعةَ المحاصَرة على الاستسلام بسبب الجوع. ونجحت تلك الاستراتيجية؛ حيث أُجبِر الدولسينيانس الضِّعاف الذين يتضورون جوعًا في النهاية على الخروج من معقلِهم الجبلي، مما جعلهم أهدافًا سهلةً للمهاجمين الذين يبتغون الفوزَ بصكوك الغفران. وفي غضون ذلك، أسرَ الجنودُ فرا دولتشينو ومارجريت من ترينت.

كانت محاكمتهما في مدينةِ فيرتشيلي بإقليم بييمونتي سريعة. وقد سُحر العديدُ من النبلاء والسادة بما تتمتَّع به مارجريت من جمالٍ حتى إنهم عرضوا عليها الزواجَ منها إن تراجعت عن معتقداتها. رفضت هي ذلك فحُكِم عليها بأن تُحرق على الوتد، وأُجبر فرا دولتشينو على مشاهدتها وهي تُحرق قبل أن يُعذَّب ثم يُحرق على الوتد هو نفسه.

كيس النقود المقدَّس

رغم أن رهبنةَ الفرنسيسكان كانت قد أُسِّست على مبدأ الفقر الرسولي، فإنه وبحلول الوقت الذي استُعرِض فيه جثتا فرا دولتشينو ومارجريت من ترينت في شوارع فيرتشيلي كان معظمهم قد هجرَ أسلوبَ حياة التجوُّل وكانوا يعيشون في أديرة كبيرة جيدة التجهيز بها مطابخُ ومكتبات ومهاجع ومزارع وأحواض سمك. رأى كثيرون على نحوٍ مفهوم أن هذا هجرٌ للمبادئ التي تأسَّست عليها الرهبنة. وتم تقديم حلٍّ لذلك في عام ١٢٧٩ على يد البابا نيكولاس الثالث الذي أصدر مرسومًا بابويًّا يُعرف باسم «خرْج الزارع» الذي قبِل فيه بملكية الأديرة الفرنسيسكانية وكلِّ ما تقدِّمه بالنيابة عن البابوية.4
كان معظم الرهبان الفرنسيسكان سعداءَ بقبول كرم البابا نيكولاس. لكن أصرَّ فصيلٌ عنيف أكثر يُعرف باسم الفراتيشيلي — الذي تسلَّل إليه الدولسينيانس الهاربون — على أن المرسوم البابوي مجردُ هُراء، وأن أسلوب حياة الرهبنة يمثِّل خيانةً لمبدأ الفقر الرسولي. تُعرف هذه المجموعة اليوم باعتبارهم المتطرفين الموجودين على هامش رواية الجريمة التي تدور أحداثها في العصور الوسطى والتي عنوانها «اسم الوردة» لأومبيرتو إيكو. ويلعب الجدال بشأن الفقر الرسولي دورًا محوريًّا في حبكة الرواية، وشخصيتها الرئيسية — ويليام من باسكرفيل (الذي لعِب دورها في الفيلم الممثل شين كونري) — كانت مبنية على شخصية ويليام الأوكامي.5 وقد عُزل أعضاء جماعة الفراتيشيلي كنسيًّا على غِرار رهبان الدولسينيانس، مما أجبر الكثيرين منهم على الهرب إلى صقلية، التي كانت تحت حكم الإمبراطور الروماني المقدَّس فريدريك الثالث في تلك الآونة. كانت تلك هي شبكةَ الولاءات المعقَّدة في أوروبا أثناء العصور الوسطى المتأخِّرة حتى إن فريدريك كان يرسل المسيحيِّين المتهمِين بالهرطقة إلى تونس؛ حيث تمتَّعوا بحماية حكامها المسلمين.

لكن لم يتم التخلُّص من جماعة الفراتيشيلي كليًّا. ففي عام ١٣٢١، وحين كان ويليام يلقي محاضراتٍ في أكسفورد، أُلقي القبض على مجموعة كبيرة منها في ناربون وبيزييه جنوبي فرنسا بتهمةِ الوعظ بشأن تعارُض الثروة مع القداسة. بحلول ذلك الوقت كان خليفة البابا كليمنت — وهو جون الثاني والعشرون — قد أصبح بابا بالفعل، وكان أقلَّ تعاطفًا بكثير تجاه الرهبان الفرنسيسكان. فأمر ميكيله من تشيزينا الكاهنَ العامَّ المنتخَبَ حديثًا لرهبنة الفرنسيسكان أن يستجوب اثنين وستين شخصًا من رهبان الفراتيشيلي، فيسأل كلًّا منهم عن رأيه فيما إن كان المسيح يملِك كيسَ نقود أم لا.

حين أُجبِروا على الإجابة عن سؤال البابا جون الثاني والعشرين الملغوم، تراجع معظم هؤلاء الرهبان الفرنسيسكان المتمردين وسلَّموا بأن المسيح كان يملِك كيسَ نقود. وقد أُرسِلوا إلى مسقطِ رأسهم ليتبرءُوا على الملأ من آرائهم. وسُلِّم الخمسة والعشرون الذين لم يسلِّموا بذلك إلى المحقِّق الذي أقنع واحدًا وعشرين آخرين منهم بالارتداد عن آرائهم — ولكننا لا نعرف كيف حدث ذلك. أما رهبان الفراتيشيلي الأربعة المتبقون فأُحرقوا على الوتد، وعلى الأرجح أن ميكيله من تشيزينا شاهدهم أثناء ذلك.

لكن لم تكن هذه هي نهاية الأمور. ففي الثاني عشر من نوفمبر لعام ١٣٢٣، صعَّب البابا جون الثاني والعشرون على رهبان الفرنسيسكان أكثرَ بأن أصدرَ مرسومًا بابويًّا أعلن فيه أن العقيدةَ القائلة بأن المسيح ورسله لم يملكوا شيئًا هي عقيدة «خاطئة ومبتدَعة». كما ألغى أيضًا مرسومَ البابا نيكولاس الثالث السابق الذكر الذي قبِل فيه بملكية الرهبنة للأديرة بالنيابة عن البابوية. وأصرَّ جون على أنه ينبغي للفرنسيسكان منذ الآن وصاعدًا أن يقبَلوا بالملكية البابوية للأديرة وإلا فسيُعتبرون لصوصًا ومتعدِّين.

الهروب من أفينيون

عارضت بشدة أخطاء هذا البابا المزعوم …

ويليام الأوكامي، ١٣٢٩6

في أواخر عام ١٣١٤، أي تقريبًا بحلول الوقت الذي وصل فيه ويليام إلى أفينيون، اجتمعت رهبنتُه المذعورة في مدينة بيروجا التي لم تكن تبعُد كثيرًا عن مدينة أسيزي الخاصة بالقديس فرنسيس في اجتماعٍ سري طارئ من أجل التفكيرِ في ردِّهم على هجوم البابا عليهم. وانتهى الاجتماع إلى كتابة خطاب يؤكِّد مبدأَ الفقر الرسولي. وكُلِّف محامي الرهبنة وهو بوناجراتيا من برجامو، بأخذِ الخطاب إلى مدينة أفينيون. وبعد أن وصل إلى المدينة البابوية وأوصل الخطاب انتقد البابا جون الثاني والعشرين علنًا. لا شكَّ أن ويليام الأوكامي شهد هذا الحدث. وقد ردَّ البابا بأنْ مارسَ سلطتَه وزجَّ بالمحامي في سِجن القصر. ثم استدعى ميكيله من تشيزينا إلى أفينيون.

استجدى الفرنسيسكان الإمبراطورَ الروماني المقدَّس،٢ لويس٣ البافاري، الذي كان على خلافٍ بالفعل مع البابا وسرَت إشاعاتٌ أنه على وشْك تتويج بابا خاصٍّ به في روما، بل ربما يكون هذا البابا هو ميكيله من تشيزينا. وبعد أن دفع ميكيله بأنه مريض، أتى في نهاية المطاف إلى أفينيون في ديسمبر من عام ١٣٢٧، حيث لامه البابا جون الثاني والعشرون علنًا، ووضعه قيدَ الإقامة الجبرية، في الدير نفسه على الأرجح الذي كان ويليام محتجَزًا فيه. تسبَّب هذا المزيج الغريب من الظروف، الذي تسبَّب فيه البابا جون الثاني والعشرون على نحوٍ غير مقصود، في وضْعِ أذكى رجلٍ في العالم المسيحي تحت عين الرجل الذي كان في أمسِّ الحاجة إلى خدماته.

لقد أقنعته نقاشاته مع ويليام بأن البابا لم يكن مخطئًا فحسب، وإنما أيضًا كان مهرطقًا. وبمساعدة أصدقاء لهم ذوي سلطة، دبَّر الرهبان الفرنسيسكان الثلاثة الخطةَ التي أوصلتهم إلى ميناء إيج-مورت؛ حيث هربوا من هناك في نهاية المطاف إلى حيث تركناهم في وقتٍ مبكِّر من هذا الكتاب. وبهروبهم، جعلوا موقفَهم أكثرَ خطورة عليهم. ولا شك أن «ذعرهم الشديد» حين كانوا على متن قادس جينتل قد نجم عن تذكُّر ميكيله من تشيزينا صراخَ زملائه الفرنسيسكان وهم يُحرَقون في ناربون وبيزييه.

بيزا، روما، ميونخ – الجولة الأوكامية

كان البابا جون الثاني والعشرون شهيرًا بأنه عنيد ولا يعترف بالهزيمة بسهولة. فعزل كنسيًّا كلَّ الهاربين وأرسل خطاباتٍ إلى ملكِ أرجون، وأسقف طليطلة، وملك مايوركا يطلب فيها منهم أن يُلقَى القبض على الرهبان الفرنسيسكانيِّين على الفور إن نزلوا بأراضيهم.7 ولربما زُرِع تركيزه على الجهات الغربية في عقل لورد أرابلي بفعل جينتل الماكر أثناء المفاوضات في إيج-مورت. وإذا كان الأمر على هذا النحو، فهي حيلة ذكية لأن الرهبان الفرنسيسكان نزلوا في ميناء بيزا في إيطاليا بعد رحلةٍ شاقة قطعوا خلالها نحو ٢٥٠ ميلًا بحريًّا شرقًا، واستمرت تقريبًا خمسة أيام.

تقع تلك المدينة في العصر الحديث تجاه الداخل من البحر باثني عشر ميلًا، لكن في زمن الأوكامي كانت ساحلية وتمثِّل ميناءً رئيسيًّا لتجارة شمال البحر المتوسط البحرية. ومن بيزا، ارتحلت المجموعةُ إلى روما حيث كان لويس البافاري قد نصَّب نفسه بالفعل الإمبراطور الروماني المقدَّس، كما عيَّن راهبًا فرنسيسكانيًّا مغمورًا يُدعى بيترو راينالوتشي في منصب البابا، وجعل اسمه نيكولاس الخامس. وكان ردُّ غريمه في أفينيون وهو جون الثاني والعشرون، بأن أعلن حملةً عسكرية ضد لويس، مصرِّحًا بأن تنصيبه باطل وملغًى وحثَّ كلَّ الكاثوليكيِّين المؤمنين بحقٍّ أن يقاوموه.

وبحلول سبتمبر لعام ١٣٢٨ أصبح الرومان المتقلِّبون سئمين تمامًا من «الألمان» وسخِر الجميع من لويس؛ حيث ارتحلت حاشيته من روما وعادت إلى بيزا، وفي صحبتِهم كلٌّ من الرهبان الفرنسيسكان المتمردين والبابا نيكولاس الخامس. وفي أبريل من العام التالي رحل الإمبراطور الروماني المقدَّس نحو مقعده في ميونخ، وقد أخذ معه الرهبان الفرنسيسكان لكنه لم يأخذ البابا نيكولاس. فسار البابا المهجورُ طوالَ الطريق حتى أفينيون صاغرًا من أجل أن يتنازل عن لقبه ويطلب الغفران.

قضى ويليام الأوكامي وميكيله من تشيزينا بقيةَ أيامهما في حماية لويس، فعاشا معظمَ الوقت في ديرٍ فرنسيسكاني في ميونخ. واستمر الأوكامي وزميلاه في كتابة مقالاتٍ يشجبون فيها البابا جون وخلفاءه من الباباوات. وباعتباره هاربًا ومعزولًا من الكنيسة ومتهمًّا بالهرطقة، تحوَّلت كتابات ويليام في تلك الحِقبة من الفلسفة والعلم إلى الصراع الذي أجبره على الهروب من أفينيون والبقاء منفيًّا لبقية حياته.

الحقوق البسيطة

بالرغم من أن حقوق الإنسان ليست بالموضوع الذي يُطرح للنقاش في الكتب التي تتحدَّث عن العلم في غالب الأحيان، فإنها في اعتقادي ضروريةٌ لتحقيق التقدُّم العلمي شأنُها شأنُ الطرقِ التجريبية أو الرياضيات. من الواضح أن العلم كان ممكنًا في اقتصادات العبيد أو الديكتاتوريات — كما في اليونان القديمة، أو في المجتمعات الإقطاعية في أواخر العصور الوسطى بأوروبا والشرق الأوسط — لكنه اعتمد على الثروة أو الرعاية ومِن ثَمَّ كان مقصورًا على قلةٍ محظية وعُرضة لأهواء الرعاة الأثرياء ومتطلبات الدولة أو الكنيسة. ولكي يكون العلم تحوليًّا، هو في حاجة لقاعدةٍ أوسعَ ونوعٍ من أنواع الديمقراطية العلمية التي تلعب فيها السلطة والثروة دورًا ضئيلًا أو منعدمًا في المنافسة بين الأفكار. ولا يمكن أن يحدُث هذا إلا في المجتمعات التي تقدِّم لكل الأفراد الحقوقَ الجوهرية نفسها، بما في ذلك بالطبع الحقُّ في أن تكون مخطئًا.

هذا يجعلنا نتساءل عن طبيعة الحقوق. ما هي هذه الحقوق؟ اتفق ويليام الأوكامي والبابا جون الثاني والعشرين على أن المِلكيَّة لها وجود لأنها تقدِّم حقًّا — وهي كلمة مقابلها في اللغة اللاتينية ius أو jus والتي حصلنا منها في اللغة الإنجليزية الحديثة على مقابل كلمة العدالة — في استخدام الموارد كالطعام أو المسكن. لكن أين وكيف يوجد هذا الحق؟ قبل جيل أو نحو ذلك، دعم عالِم اللاهوت والفيلسوف الأوغسطينوسي جايلز من روما (١٢٤٧–١٣١٦) رؤيةَ الكنيسة بناءً على الرواية المذكورة في سِفر التكوين عن إخراج الرب آدمَ وحواءَ من جنةِ عدن، التي منح بعدها آدم «التسلُّط على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم وعلى كل الأرض وعلى كل حيوان يدِب على الأرض». بعدها مرَّر آدم تلك السلطة — التي كانت عمليًّا على العالم بأكمله — إلى أفرادِ نسله المؤثِّرين الذين أصبحوا ملوكًا وأباطرة وأمراء يملِكون العالَم بأكمله ويحكمونه. واستمر واقع الحال على هذا النحو حتى ولادة المسيح الذي استعاد الملكيَّة والسلطة باعتباره إلهًا وبشريًّا. لكنه قبْل موته أورثَ كلَّ الحقوق والملكيَّات القديسَ بطرس، الذي مرَّرها إلى خلفِه من الباباوات. ثم قسَّم الباباوات اللاحقون السلطةَ التي أُعطوها من الربِّ على العواهل المسيحيِّين الذين مرَّروها إلى نبلائهم الذين شاركوها بدورِهم مع رعيَّتهم، ولكن ليس مع أقنانهم الذين لم يملِكوا شيئًا، ولم يكن لهم أيُّ حق. لذا، كان نظام العالم في العصورِ الوسطى — والذي هو بعيدٌ كل البعد عن كونه فارغًا — يجري في إطار كيس النقود الافتراضي الخاص بالمسيح.8 في عام ١٤٩٣، أي بعد الصراع بين ويليام والبابا جون الثاني والعشرين بأقلَّ من مائتي عام، قسَّم البابا ألكسندر السادس ملكيَّة العالم الجديد بين التاجين البرتغالي والإسباني، بناءً على مفهوم السلطة المعيَّنة إلهيًّا.

لكن كان للفرنسيسكان وجهةُ نظر مختلِفة تمامًا. إذ أصرُّوا على أن المسيح تخلَّى عن ملكيَّة كل شيء، حين بدأ خِدمتَه، وذلك ليعيش حياةَ فقر تام. لذا، إن كان يملك كيسَ نقود، فلا بد أنه كان فارغًا حين أعطاه القديس بطرس. وطبقًا لما يدفعون به، فإن الكنيسةَ لم تكن تملِك حتى حقَّ مطالبةٍ شرعي بملكيَّة الكنائس أو الأراضي الخاصة بها أو أي شيء من الثروات الأخرى التي توجَد في العالم بالتأكيد. لكن، إن كان حقُّ المطالبة لدى الكنيسة بالسلطة على كل شيء هو خداعًا واحتيالًا، إذن فإن نفس الحق لدى الأباطرة والأمراء الذين عيَّنهم الباباوات هو خداعٌ واحتيال أيضًا. كانت مخاطرُ هذا الصراع كبيرة حقًّا.

يبدأ البابا جون الثاني والعشرون هجومَه على الفرنسيسكان بتكرارِ ما أتى به جايلز والإصرار على أن «السلطة على الأشياء الدنيوية لم تكن تتأسَّس بقانون طبيعي بدائي، يُعرف بالقانون الشائع بين الحيوانات … ولا بقانون الأمم، ولا بقانون الملوك والأباطرة، لكن بالرب الذي كان ولا يزال سيدَ كل الأشياء».9 وفي هذا كان جون الثاني والعشرون يتَّبع الموقفَ الفلسفي الواقعي التقليدي، الذي كان ينظر إلى القانون الطبيعي باعتباره وجهًا من أوجهِ المنطق الإلهي الذي يرى أن خطةَ الرب سبب نهائي للعالم. كان يُرى أن أي حق — مثله مثل كلية الأبوَّة — هو شيء يوجد مستقلًّا عن الأشخاص الذين يطالبون به. وبهذا المعنى، فإن الحق هنا هو ما يُطلق عليه اليوم الحق الموضوعي.
في عمله «عمل تسعين يومًا» كرَّر ويليام الأوكامي نظريةَ الفرنسيسكان عن فقر المسيح التام. لكن لو كان كيس نقود المسيح خاويًا بالفعل، فمن أين تأتي الملكيَّة أو السلطة؟ تبدأ حجَّة الأوكامي — كحجَّة جون — باللاهوت. إذ دفع بأن الرب حين أخرج آدم وحوَّاء من جنة عدن أمدَّهما وذريتهما بحقٍّ طبيعي في الاستفادة من الموارد المتاحة على الأرض تمامًا كما أمدَّ الخِراف بحقِّ الرعي على العُشب. مع ذلك، لم يقدِّم هذا الحق البسيط مرةً أخرى الحقَّ في الملكية. كانت الحياة بسيطة. لم يكن أحد يملِك شيئًا بل كان الجميع بدلًا من ذلك في «حالة طبيعية»،10 بحقوق أساسية تتعلَّق بحياتهم وقُوتهم ومأواهم.

لكن، وبعد التمتُّع بحالة الوجود الطبيعية المثالية خارج الجنة، وجد الصالحون من سلالة آدم وحواء أنَّ عليهم أن يتعاملوا مع أفرادٍ جشعين يستهلكون أكثرَ من حصتهم العادلة. ولكي يتعاطوا مع مثل هذا، أُجبروا على التوافق على ما كان يُعَد حصةً عادلة من الموارد العامة المشتركة. ومن هنا أتى مفهوم الملكيَّة الخاصة، ما نطلق عليه اليوم الملكيَّة. والأمر الأكثر أهمية، أن هذه الملكية أو السلطة لم تأتِ من الرب. بل كانت مفهومًا بشريًّا بالكامل مصمَّمًا لتجنُّب القلاقل والشقاق. في رأي الأوكامي، الملكية حقٌّ شخصي، اتفاق من نوعٍ ما تواجد فقط في عقول الناس الذين اختاروا أن يقبلوا به. وليس لها واقعٌ موضوعي أكثر من فكرة الأبوة. بل كانت مجرَّد كلمة أو فكرة.

وقد تقوِّض أسلوبَ الحياة الجمعي بفعل الأشخاص الجشعين الذين سرقوا من جيرانهم. ولكي يحموا أنفسهم من هذه السرقة الشخصية (بما أن الملكية شخصية فكذلك هي السرقة)، اتُّفِق على مجموعةٍ من القوانين التي شرَّعت كيف يمكن حماية الملكية الخاصة، مع ذكر العقوبات المناسبة لأولئك الذين يخرقون القوانين. ولكي يتم إنفاذ تلك القوانين، اتفقت المجتمعات على انتخاب حاكم مناسب، لربما هو الأقوى أو الأكثر حكمة بينهم، ليحمي ملكياتهم بقوة السلاح لو لزِم الأمر. وفي المقابل، يتلقى منفِّذ القانون حصةً أكبر من الموارد العامة المشتركة.

أشار الأوكامي إلى أن هذا كان أصلَ السلطة الدنيوية أو المَلَكيَّة. وفي الأساس، كان الناس يعيرون حصةً إضافية من حقوقهم الطبيعية على الأرض أو العقارات لحكامِهم المختارين. وفي العصور اللاحقة، أقنع الحكامُ رعيَّتهم بأن هذه السلطة كانت حقًّا موضوعيًّا حقيقيًّا أعطاهم إياه الرب، وهو الحق الذي كان يقوم عليه نظام العالم في العصور الوسطى. إلا أن ويليام أصرَّ على أن الحقوق التي مُنِحت للحكام من قِبَل رعيتهم ما هي إلا دَين. ورأى أن مفاهيم مثل المَلكيَّة أو النبالة ما هي إلا كلمات. وإن أساء الحاكم فيمكن لرعيَّته أن يستعيدوا حقوقهم وينتزعوا منه حقهم. دفع ويليام بأن الحكام استقَوا سلطتهم من المحكومين وليس العكس؛ «من الرب عبر خلقه». وأصرَّ ويليام أيضًا على أنه «ينبغي ألا تُوكل السلطة إلى أي أحد من دون اتفاق من الجميع». كما أشار ويليام إلى أن الوثنيِّين والكفار من سلالة آدم وحواء مثل المسيحيِّين. ومِن ثَم فإنهم يرِثون الحقوق الطبيعية نفسها مثلهم مثل المسيحيِّين، وهم مثلهم لهم الحق في وضع قوانينهم وانتخاب حكامهم الشرعيِّين.11
وبالعودة إلى معضلة الفرنسيسكان، أكَّد ويليام أن الناس لا يزالون يملِكون حقَّهم الإلهي في استخدام الموارد متى ما كانوا في حاجة لذلك، وذلك بالرغم من التخلِّي عن مفهوم المِلكية الذي صنعه الإنسان. وشدَّد على أن هذه الحقوق الطبيعية لا يمكن أن يلغيها بابا أو إمبراطور، ولو طوعًا؛ إذ «لا يمكن لأحد أن يلغي … الحقوق والحريات التي منحها الرب ومنحتها الطبيعة للمؤمنين»، و«لا يمكن لأحد أن ينكر حقَّ الاستفادة الطبيعي».12 ورغم أن الكثير من المحامين والفلاسفة أسهموا في مفهوم الحقوق الشخصية، فإن المؤرِّخ الفرنسي للقانون في القرن العشرين ميشيل فيلي لم يكن لديه أدنى شك عمَّن كان مسئولًا عنه. إذ كتب أن «لحظة كوبرنيكوس» في تاريخ القانون كانت مرتبطة ﺑ «الفلسفة الكاملة التي أعلن عنها الأوكامي … التي هي أساس الحقوق الشخصية».13
نُسِخ كتاب ويليام «عمل تسعين يومًا» على نطاقٍ واسع، وبعد مائتي عام، أثَّر في الكثير من شخصيات حركة الإصلاح الأساسية. كان الملك الإنجليزي هنري الثامن يملك نسخته الخاصة من الكتاب في مكتبة قصر وستمنستر وكان يرجع إليها، بل يكتب تعليقاتٍ على صفحاتها ليساعد في تقوية حجَّته من أجل تطليق كاثرين من أرجون. وأثناء الحرب الأهلية الإنجليزية شقَّت النسخة طريقها نحو منزل لانهايدروك في كورنوول حيث تمكث إلى يومنا هذا وتملِكها مؤسسة التراث القومي. وواصلت فكرة الأوكامي الاسمانية عن الحقوق الشخصية التأثير على شخصيات رئيسية في حِقبة التنوير السياسي مثل هوجو جروشيوس الإنسانوي والشاعر والكاتب المسرحي والمحامي الهولندي،14 وعبْرهم على توماس هوبز وجورج بيركلي، ومعتنقي الفلسفة المادية في القرن التاسع عشر الذين شدَّدوا كما فعل الأوكامي على أن الحق في الملكية أو في الحكم هو من ابتكار البشر. وكما أشار كارل ماركس: «كانت الاسمانية أحدَ العناصر الرئيسية في النظرية المادية الإنجليزية، وهي تُعَد في عموم الأمر أول تعبير عنها».15

هوامش

  • (١)

    دلت تلك العبارة التي أخذ يكرِّرها الأحدَب سلفاتور في رواية «اسم الوردة» التي كتبها أومبيرتو إيكو، على أنه عضو سابق من أعضاء جماعة الدولسينيانس.

  • (٢)

    خليفة شارلمان الذي توِّج إمبراطورًا في عام ٨١٤ على يد البابا. في أواخر العصور الوسطى، كان حامل هذا اللقب عاهلًا يُنتخب من جانب لجنةٍ من الأمراء الناخبين. وكانت الإمبراطورية تحكم في الغالب الشعوبَ التي تتحدَّث الألمانية، إلا أن قوَّتها تعاظمت بمرور السنوات لتشتمل على أراضٍ أخرى كإيطاليا.

  • (٣)

    يُدعى أيضًا لودفيج.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤