الفصل السادس

فترة الكساد الفكري

نحن الآن في عام ١٥٠٤ في مدينة فلورنسا حيث كان الفنان التوسكاني ليوناردو دي سير بيرو دا فينتشي — والمعروف اليوم باسم ليوناردو دا فينتشي (١٤٥٢–١٥١٩) — يحزِم كتبَه. مرَّ الآن ١٥٧ عامًا منذ أن اكتسح الطاعون العظيم أرجاء أوروبا متسبِّبًا في قتل الكثير من سكانها. كان «الموت الأسود» بالغَ الشدة بوجه خاص في فلورنسا؛ إذ أباد ثلاثة أرباع سكانها بين عامي ١٣٤٧ و١٣٤٨. لكن بحلول القرن السادس عشر الميلادي، صارت حالات تفشي الوباء أقلَّ حدة ووتيرة.1 المدينة الآن تتعافى بل تزدهر باعتبارها واحدةً من أسرع المدن نموًّا في أوروبا.

وُلِد ليوناردو خارجَ إطار الزواج لكاتب العدل بيرو دا فينتشي وخادمته كاتارينا. كانا يعيشان في سفوح تلال بلدية مونتالبانو خارج مدينة فينتشي. وفي منتصف ستينيات القرن الخامس عشر، انتقلت أسرتُه إلى فلورنسا حيث تتلمذ ليوناردو الصغير في استوديو النحَّات والصائغ والرسام أندريا دل فيروكيو. لم يمرَّ وقتٌ طويل حتى أسَرت مواهب ليوناردو البارزة انتباهَ الرعاة الأثرياء والمؤثِّرين الذين كلَّفوه بمشاريعَ مثل لوحة «تمجيد المجوس للطفل يسوع» غير المنتهية في دير سان دوناتو في سكوبيتو بفلورنسا، والتي توجد الآن في معرض أوفيزي. انتقل ليوناردو إلى ميلانو عام ١٤٨٢ حيث رسم لوحة «عذراء الصخور» لأخوية «الحَبَل بلا دنس» ولوحته الاستثنائية التي بعنوان «العشاء الأخير» لدير سانتا ماريا ديل جراتسييه في ميلانو.

استمرت المشاريع التي كُلِّف بها ليوناردو في العقود التي تلت ذلك، ولم تقتصر على الأعمال الفنية فحسب، بل اشتملت أيضًا على مشاريعَ معمارية وهندسية. ففي عام ١٤٩٩، ابتكر هيكلًا من الحواجز المتحركة ليحمي مدينة البندقية من الفيضان؛ وبعد ذلك بثلاث سنوات، عمل مع نيكولو مكيافيلي على تصميم نظامٍ لتحويل مجرى نهر أرنو. كان هذا المشروع كارثةً مروِّعة نتج عنها خسارة ثمانين شخصًا أرواحَهم. فكلَّفت الحكومة المحلية لفلورنسا ليوناردو بالعمل مع مايكل أنجلو غيرَ عابئة بما حدث ليرسما لوحةً لمبنى بلديتها أو ما يُعرف بقصر فيكيو. لكن في وقتٍ لاحق من ذلك العام، تُوفي والد ليوناردو وخطَّط هو للسفر لمدينة فينتشي. وقبل رحيله، حزم كلَّ كتبه ومخطوطاته وأعدَّ قائمتين. كان عنوان الأولى «سجل بالكتب التي سأتركها في الخزانة المغلقة»، وحوت القائمة الثانية الكتبَ التي ظلَّت في «خزانة الدير»، والتي يُعتقد أنها تشير إلى دير سانتا ماريا نوفيلا.2 وحُفِظت هاتان القائمتان مع الكتب التي كانت تصِفها كلٌّ منهما.

يشتهر ليوناردو بالطبع بلوحاته الفنية، والتي تُعَد من بين أعظم روائع الفن الغربي، لكنه كان أيضًا رجلَ نهضة حقيقيًّا؛ إذ قدَّم آلافًا من صفحات الملحوظات التي اشتملت على رسومات طبيعانية رائعة للتكوينات الصخرية، والبلورات، والطيور والحفريات والحيوانات والنباتات والتشريح البشري، وآلات حقيقية وأخرى متصوَّرة. حفِظ ليوناردو هذه الملحوظات بعنايةٍ، وبعد وفاته عام ١٥١٩، جُمعت معًا في دفاترَ متعددة، تُعرف اليوم باسم «مخطوطات ليوناردو». وقد ضاع العديد منها منذ ذلك الحين، لكن نجا الكثير، وهي الآن إما في مجموعاتٍ خاصة أو في متاحف.

على مدى السنوات، حظيت «مخطوطات ليوناردو» بوجهٍ عام بالإعجاب لبراعتها، لكن مؤرِّخي العلم بدءوا يبدون اهتمامًا بها في القرن التاسع عشر. كانت صعوبة فكِّ شفرة الملحوظات مضاعفةً؛ حيث كتبها ليوناردو باللاتينية وبكتابة معكوسة مختزلة متصلة يكاد فكُّ شفرتها يكون متعذِّرًا. كانت إحدى الوثائق — وهي المخطوطة أ — محفوظةً في مكتبة أمبروزيانا في ميلانو حتى عام ١٧٩٦؛ حيث اختلسها نابليون أثناء غزوه إيطاليا، وأُحضِرت إلى مكتبة معهد فرنسا في باريس حيث ظلَّت إلى يومنا هذا. هناك، في بواكير القرن العشرين، كان الفيزيائي ومؤرِّخ العلم الفرنسي بيير دويم (١٨٦١–١٩١٦) يحاول جاهدًا استكشافَ نصِّ ليوناردو الصعب حين أذهله اشتماله على قوانين رياضية مألوفة متعلقة بالحركة والأوزان الساقطة، هذا إلى جانب أفكارٍ تتعلَّق بحفظ الطاقة.3 اشتملت وثيقةٌ أخرى على رسمةٍ لجناح طائر بحاشية تقول: «يد الجناح هي ما يسبِّب القوةَ الدافعة، ثم يضع مرفقَه نفسه مع الحافة إلى الأمام حتى لا يعيق الحركةَ التي تسبِّبها القوة الدافعة».4 وما زاد اندهاشه أكثرَ هو الفكرة السائدة في أوائل القرن العشرين، التي مفادُها أن العلم اختفى عمليًّا أثناء فترة «العصور المظلمة» بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية، ولم يبرز من جديد حتى ما يُعرف باسم «عصر التنوير» في القرن السابع عشر. وقد كُتِبت ملحوظات ليوناردو في القرن الخامس عشر: فمن أين أتى فهْم ليوناردو للمبادئ العلمية المعقَّدة؟
fig8
شكل ٦-١: انتشار أفكار ويليام الأوكامي عبْر أوروبا.
خمَّن دويم أن الإجابة قد تكون في محتويات خزانة المكتبة، لكن تلك المحتويات والكتب التي كانت معها اختفت مع الأسف منذ زمن طويل. لكن قوائم المكتبة كانت قد نجَت. وكانت إحداها في مدريد.5 تمكَّن دويم من الوصول إلى نسخةٍ من تلك القوائم حيث وجد فيها قائمةً بعناوينَ كتبٍ عن مواضيعَ علمية تتنوَّع بين الطب والتاريخ الطبيعي والرياضيات والهندسة والجغرافيا والفلك والفلسفة. كان كثيرٌ من تلك الكتب أعمالًا شهيرة لفلاسفة يونانيِّين قدماء مثل أرسطو وبطليموس وإقليدس، لكن اشتملت تلك القائمة أيضًا على أعمالٍ أقل شهرة لعلماء من العصور الوسطى مثل كتاب «عن السماوات والعالم» لألبرت العظيم. حدَّد دويم مكانَ ما أمكنه من النُّسَخ الباقية من تلك الكتب، وبها تمكَّن من اكتشاف المزيد من الإشارات إلى المفاهيم العلمية الواردة في ملحوظات ليوناردو مثل مفهوم القوة الدافعة. وكان الكثير من النصوص الأصلية يمثِّل شروحاتٍ لأعمال سابقة للعالِمَين الباريسيَّين الأوكاميَّين جان بوريدان ونيكول أوريسم. تتبَّع مزيدٌ من العمل البحثي على يد دويم ولاحقًا على يد إيرنست مودي (١٩٠٣–١٩٧٥) أثرَ العلماء الإنجليز على ليوناردو، فوجد أنه تأثَّر بمجموعة من العلماء الإنجليز في العصور الوسطى الذين يُعرفون ببساطة باسم «الحَسَبة»، وأيضًا إلى حركةٍ تُعرف باسم «المذهب الجديد» التي كان ويليام الأوكامي ملهِمَها.6 وتمامًا مثلما حدث من إعادة اكتشافٍ للكتب اليونانية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديَّين، اكتشف دويم وزملاؤه حِقبة كانت منسية تمامًا من تاريخ العلم، فخلَص إلى الآتي: «في أعمال ليوناردو الميكانيكية، ليست هناك فكرة أساسية لا تتأتَّى من علماء هندسة العصور الوسطى».7 لذا من الواضح أن الطاعون الذي أباد ممارسي «المذهب الجديد» لم يتمكَّن من القضاء على أفكارهم.

ليس هناك من سببٍ يدعو إلى الاعتقاد بأن ليوناردو كان يتمتَّع بإمكانية وصول خاصة لأفكار وفلسفة «المذهب الجديد» في القرن الخامس عشر؛ لذا من المرجَّح أن آلافًا من العلماء الآخرين كانوا على علمٍ بشفرة أوكام وبالعلم الذي استُلهِم منها. لكن تظل الطريقة التي نُقِل بها التقدُّم الذي أحرزه أتباع «المذهب الجديد» عبْر القرون قبل اختراع الطباعة لغزًا. لكنَّ بحوثًا لاحقة كشفت عن طريقين رئيسيَّين، كل طريق منهما يصاحب واحدة من الثورتين الثقافيتين الكبريين اللتين حدثتا في العصور الوسطى المتأخرة.

الطريق الجنوبي نحو عصر النهضة

قبل اثنين وسبعين عامًا من مولد ليوناردو، في ليلة في وقتٍ ما من عام ١٣٨٠ تقريبًا، كان أحد أعظم موسيقيِّي فلورنسا وملحنيها وهو فرانشيسكو لانديني (حوالي ١٣٢٥–١٣٩٧) يرى حُلمًا في المنام. في ذلك الحلم، زاره راهب إنجليزي شهير. كان لانديني هو أشهر الموسيقيِّين وأكثرهم إبداعًا في فلورنسا، بل في إيطاليا بأسرِها. وكان لانديني سيتَّبع والده في أن يصبح رسامًا — إذ كان ابن الرسام جاكوبو دل كازنتينو (حوالي ١٣١٠–١٣٤٩) الذي يُعَد أحدَ أتباع مدرسة جوتو — لو لم يُصب بالعمى نتيجةَ إصابته بالجدري وهو طفل. حوَّل الشاب اليافع مواهبَه الإبداعية إلى الموسيقى والشعر وصناعة الآلات الموسيقية. وكان صوته في الغناء أسطوريًّا. في كتابه «جنة ألبرتي»، قال الكاتب وعالِم الرياضة والفيلسوف الإنسانوي جيوفاني دا براتو عن عزف لانديني إنه «لم يسمع أحدٌ من قبلُ مثلَ تلك الإيقاعات الجميلة، وإن قلوب الناس كادت تنبثق من صدورهم من النشوة». برع لانديني في استخدام مجموعة كبيرة من الآلات الموسيقية، من بينها الريبيك التي تعود للعصور الوسطى والناي والأورجانيتو وهو الأرغن المحمول باليد. كما استخدم مهارته أيضًا في صناعة الآلات الموسيقية بما فيها أراغن لكلٍّ من كنيسة سانتيسيما أنونزياتا وكاتدرائية فلورنسا. بل إنه حتى ابتكر آلاتِه الخاصة به، بما في ذلك شكل من أشكال العود يُدعى سيرينا سيريناروم.

كان أكثر ما يشتهر به لانديني هو كونه ملحنًا لفن المادريجال. كانت معظم ألحانه في هذا الشأن تشتمل على صوتين، وتجمع بين التأثيرات الفرنسية والإيطالية لتنتج أسلوبًا جديدًا يحظى بإقبالٍ كبير في لقاءات نخبة فلورنسا الثقافية. في مثل تلك اللقاءات، يلتقي الأثرياء أو الموهوبون أو الفاتنون أو البارعون أو ذوو السلطة ليُلقُوا الشعر أو يتناقشوا حول آخر الأعمال الفنية أو يستمعوا إلى الموسيقى التي يلحِّنها لانديني في معظم الأحيان ويعزِفها ويغني بعضَها. ومتى دعا مواطنو فلورنسا ذلك الموسيقي والملحِّن العظيم، كانوا يتطلعون أيضًا إلى بعض الفواصل الفلسفية بين المقاطع الشعرية. كانت الفلسفة هي حبَّه الكبير الثاني، خاصة اسمانيةَ ويليام الأوكامي الثورية، الذي تسرَّبت أفكاره إلى إيطاليا عبْر طرقِ التجارة والحجِّ والدبلوماسية. بل إن لانديني ضمَّن فلسفةَ الأوكامي حتى في شعره الغنائي. ففي أغنيته «تأمل الأشياء العظيمة» كتب يقول: «عناصر العقيدة المسيحية … ينبغي أن تُقبل كما هي. لا يمكن إثباتها بالعقل؛ وكذلك لا يمكن أن نجعلها أساسَ المعرفة. فالعلم واللاهوت مختلِفان على نحوٍ أساسي ولا ينبغي الخلط بينهما». وفي مقطع شعري آخر، غنَّى يقول: «من الجيد أن تتأمَّل أعمال الرب العظيمة، لكن من غير الضروري تفسيرها».١
كان القرن الرابع عشر الميلادي (تريسنتو) وهو القرن الذي سبق القرن الذي حدثت فيه ذروة عصر النهضة الإيطالية (كواتروسينتو) — قرنَ اضطرابات فكرية في إيطاليا؛ حيث ابتعدت ثقافتها تدريجيًّا عن العالَم القديم الخاص بالعصور الوسطى واتجهت نحو مستقبلٍ مجهول. في خطابٍ كتبه لانديني بلغة لاتينية شعرية لصديق له في أفينيون حوالي عام ١٣٨٠، يصِف الملحن كيف أن شبح ويليام الأوكامي أتى يزوره في حلمٍ ليشكو من «الكلاب المتوحشة» التي هاجمت الفلسفةَ العقلانية لمن يُسمَّون ﺑ «الهمج الشماليِّين» وكيف أن أولئك «يكرهون علماء المنطق كما يكرهون الموت».8 كانت «الكلاب المتوحشة» في واقع الأمر هم بعضَ المفكِّرين المشهورين في عصر النهضة الإيطالية الذين أداروا ظهورَهم بالفعل للفلاسفة المدرسيِّين. وعلى الرغم من كونه عضوًا في تلك الحركة، فإن لانديني هبَّ للدفاع عن الأوكامي. وفي نهاية ذمٍّ طويل في حق «رجل جاهل» كان يحرِّض «الجماهير الجاهلة» ضد فلاسفة الماضي العظام، تنبَّه شبح الأوكامي لقدوم النهار بفعل أصوات الباعة الجائلين ثم «اختفى الشبح الجليل في العدم».

هذه القصة الرائعة التي لم يُكشف عنها إلا في عام ١٩٨٣ تُظهر كيف أن فلسفةَ ويليام الأوكامي في عام ١٣٨٠ كانت قد تسرَّبت خارج أكسفورد وأفينيون وباريس وميونخ لتنفذ سريعًا إلى القلب النابض للحياة الثقافية الإيطالية في القرن الرابع عشر. وليس من الواضح كيف أو لماذا أصبح لانديني على درايةٍ بويليام الأوكامي لكن هناك عددًا من الطرق المحتملة. لقد عاش الشاعر التوسكاني بيترارك في أفينيون، بينما كان ويليام الأوكامي يجابه البابا في المدينة، وسافر لاحقًا إلى فلورنسا، وعلى الأرجح أنه كان معروفًا لدى لانديني. كما سافر لانديني كثيرًا أيضًا على الرغم مما به من عمًى، وربما أنه وقع على تعاليم الأوكامي من خلال كتابٍ مؤثِّر عن المنطق الاسماني بعنوان «منطق مفيد للغاية» كتبه ألبرت الساكسوني، وهو أحد تلاميذ بوريدان الأوكاميِّين، الكتاب الذي نُسخ ووُزِّع على نطاقٍ واسع بين مراكز التعليم في أوروبا، بما فيها براغ وباريس وأكسفورد وفيينا وبولونيا وبادوفا والبندقية.

وكما اكتشفنا بالفعل، فقد قدَّم الناسخون المدرسيون مسارًا سريعًا بشكلٍ مدهش لنقل المخطوطات عبْر أوروبا. إلا أن المخطوطات كانت باهظةَ الثَّمن للغاية؛ الأمر الذي يجعل منها وسيلةً من وسائل الترف التي يكون الوصول إليها مقصورًا على رجال الدين أو النخبة المثقفة الثرية. تغيَّر كلُّ هذا في العام ١٤٤٥، أي بعد مائة عام تقريبًا من موت الأوكامي وستين عامًا بعد الحُلم الذي راود لانديني، حين اخترع يوهانس جوتنبيرج الطباعةَ الحديثة. كان أول ما صدر من تلك الطباعة هو إنجيل جوتنبيرج الشهير، الذي طُبِع في مدينة ماينتس عام ١٤٥٥. وفي العقود التي تلت ذلك، نشأت مؤسساتُ الطباعة عبر أرجاء أوروبا. قبل الطباعة الحديثة، كان مجموع الكتب الموجودة في أوروبا بأسرِها يصل إلى ٣٠ ألف كتاب فقط؛ أما بحلول العام ١٥٠٠، فكان هناك أكثر من ٩ ملايين كتاب مُتداول. وبينما زادت أعداد الكتب، أصبحت أرخصَ وأسهل في الوصول للأثرياء من التجار والدارسين والحرفيِّين. فارتفعت مستويات التعليم بصورة كبيرة، مما زاد الطلب على الكتب الجديدة، وعندما أصبحت سوق طباعة الكتاب المقدَّس متشبعة، سعت مؤسسات الطباعة لإيجاد مخطوطات الرق التي يمكن نسخُ متنِها إلى نسخة مطبوعة.

وما صدر من الطباعة بعد ذلك كان نُسخًا مطبوعة من الأعمال اللاهوتية لأوغسطينوس أو الأكويني وآخرين، وكذلك أعمال الفلاسفة القدماء، ومنهم أرسطو وجالينوس وبطليموس وإقليدس. وقد احتوت إحدى خزائن ليوناردو على نسخةٍ من كتاب إقليدس «العناصر» المطبوع في البندقية في دار طباعة إيرهاردوس راتدولت في عام ١٤٨٢. وفي عام ١٤٧١، نشأت أولى دُور الطباعة المتخصصة في النصوص العلمية في نورنبيرج على يد ريجيومونتانوس (١٤٣٦–١٤٧٦) وهو شخصية محورية في حركة النهضة الألمانية. إذ طُبع كتاب عن علم الفلك الخاص ببطليموس بعنوان «نظريات جديدة عن الكواكب»، والمبني على محاضراتٍ ألقاها معلِّمه جيورج فون بيورباخ. كما كانت البندقية أيضًا مركزَ طباعة ذا أهمية، واشتملت مكتبة ليوناردو على نسخةٍ من كتاب ساكروبوسكو بعنوان «كرة العالم» الذي طُبِع في المدينة عام ١٤٩٩.

وبعد أن نفِدت نصوص الفلسفة القديمة واللاهوت سريعًا، حوَّلت دُور الطباعة اهتمامها إلى الأعمال الحديثة عن العلم والفلسفة، والتي تنتمي إلى «المذهب الجديد». فطُبِعت معظم أعمال ويليام الأوكامي الفلسفية واللاهوتية الكبرى في نحو ذلك الوقت. إذ حُرِّرَت شروحاته النهائية للكتاب الأول من عمل لومبارد «كتب الأحكام الأربعة» للمرة الأولى في ستراسبورج عام ١٤٨٣، ثم أُعيد تحريرها بعد ذلك وطباعتها في مدينة ليون عام ١٤٩٥ مع شروحاته الأولية عن الكتب من الثاني وحتى الرابع من عمل لومبارد السابقِ ذكرُه. أما عمله «مسائل جدلية»، وهو سجلُ مناظراته، فقد طُبِع مع كتابه «سر المذبح» في ستراسبورج عام ١٤٩١، في حين طُبِع كتابه «خلاصة المنطق» في باريس عام ١٤٨٨.9 وكذلك طُبع العديد من أعماله الأكثر تأثيرًا، ومن بينها كتابه «خلاصة المنطق» في بولونيا بين أعوام ١٤٩٦ و١٥٢٣ على يد بينيديتو فايلي.10 وأُعيدت طباعةُ عدة أعمال له في القرون التالية خمس مرات أو ستًّا؛ لذا من الواضح أنها كانت مطلوبةً بكثرة، وقد شقَّت تلك النُّسخ طريقَها عبْر أرجاء أوروبا بأسرِها. كما أُتيحت كذلك نُسخٌ مطبوعة من أعمال بوريدان وأوريسم وسواينشيد وهايتسبيري في كل المدن الرئيسية في أوروبا.11 وعلى الأرجح أن نسخةً من كتاب «عن السماوات والعالم» الذي يعود إلى ألبرت الساكسوني، وهو التلميذ الأوكامي لبوريدان، والتي طُبعت في مدينة بافيا عام ١٤٨٢ كانت إحدى تلك النُّسخ المحفوظة في خزانة ليوناردو. فكتاب ألبرتو كان يُعَد هو المصدرَ المرجَّح لمعرفة ليوناردو بالقوانين الرياضية التي تتعلَّق بالحركة والقوة الدافعة.12 لقد كانت فلسفة ويليام الأوكامي وأتباعه بعيدةً كلَّ البعد عن كونها منسية؛ إذ كانت منتشرة في القرون التي تلت تفشي الطاعون، إذ لم تُثِر نقاشاتٍ حيةً في قاعات فلورنسا الموسيقية فحسب، بل كان أيضًا لها تأثير عميق على الثورات الثقافية التي أنهت حِقبة «العصور الوسطى» ودشَّنت العالم الحديث.

إله الاسمانية الغامض

تمامًا كما خلق الرب كلَّ المخلوقات بمحض مشيئته، فإن بإمكانه أن يفعل بهم ما يشاء بمحض مشيئته. ومِن ثَمَّ، إن أحبَّ أحدٌ ربَّه وأدَّى كلَّ ما يرضى به من أعمال، فلا يزال بإمكان الرب أن يمحقه من دون أن يكون مسيئًا له. وبالمثل، بإمكان الرب بعد كل هذه الأعمال أن يمنع عنه الحياةَ الأبدية ويخلِّده في عقابٍ أبدي من دون أن يكون مسيئًا له. ذلك أن الرب لا يَدِين لأحد.

ويليام الأوكامي، من شروحاته لعمل لومبارد «كتب الأحكام الأربعة»، ١٣٢٤13
مع أنني قرأت هذه الفقرة التي كتبَها ويليام الأوكامي قبل سبعة قرون عدةَ مرات، إلا أنها لا تزال تصدمني. قد لا يكون الربُّ مات بعدُ،14 لكنَّ عقِبَه الاسماني مطلَق السلطة والذي لا سبيل إلى معرفته، لا يترك إلا مساحة قليلة جدًّا للبشر. هذا الأمر مزعجٌ في عصرنا هذا، لكن لا بد أنه لقي صداه في أوروبا التي كان الناس فيها لا يزالون يترنَّحون بعد لقائهم مع عدو لدود اعتقدوا أن الرب أرسله عليهم: وهو بكتيريا الطاعون. في كتابه الصادر عام ٢٠٠٨ بعنوان «الأصول اللاهوتية للحداثة» يدفع الفيلسوف والمؤرِّخ الأمريكي مايكل ألين جيليسبي بأن فلسفة ويليام الأوكامي مثَّلت الشرارةَ التي أضاءت عصر النهضة وحركة الإصلاح كلتيهما. وطبقًا لجيليسبي، كان تعرُّف أوروبا على فلسفة الأوكامي هو ما «قلب العالم رأسًا على عقب».

رجل عصر النهضة

آه، أناس جدد، متغطرِسون بما يفوق الحد، عاقِّين أمًّا عظيمة جدًّا كهذه!

بيترارك، الأغنية ٥٣، المقطع ٦

عصر النهضة، بثلة التغييرات السياسية والثقافية والاجتماعية والفنية الخاصة به، والتي حدثت على مدى عدة قرون، كان له من الأسباب والمظاهر الكثير. يشتمل هذا على موت نصف القوة العاملة الأوروبية جرَّاء الطاعون؛ الأمر الذي دفع بدوره العبيدَ إلى الهروب من أسيادهم من أجل البحث عن عملٍ مدفوع الأجر. ومن دون مصدر وافر من الفلاحين العاملين المذعنين، انهار النظامُ الإقطاعي عمومًا. وقوَّض الطاعون أيضًا الثقةَ في الكنيسة الكاثوليكية؛ حيث علِم الناجون منه أن ملايين الصلوات والاعترافات والقدَّاسات لم تستطِع إيقاف تلك الفاجعة. فانتشرت روحٌ جديدة من التشكك عبْر أرجاء القارة. كان أحد أكثر المتشككين المؤثِّرين هو الشاعر والعالم فرانتشيسكو بيتراركا (١٣٠٤–١٣٧٤) الشهير باسم بيترارك، الذي يُعَد في الغالب أبا فلسفةِ عصر النهضة الإيطالية، الإنسانوية.

وُلِد بيترارك في إقليم توسكانا، لكنه أمضى معظمَ بواكير حياته في أفينيون، فتداخل وجوده مع إقامة ويليام الأوكامي القسرية في تلك المدينة. ومثل الأوكامي، هاجم بيترارك البابوية باعتبارها مؤسَّسةً فاسدة ومنافقة. ورغم أنه تلقَّى تعليمه وفقَ التقليد المدرسي، فقد كرِه بيترارك عندما كبِر منطقَ أرسطو العتيق، مفضِّلًا عوضًا عن ذلك نثرَ روما القديمة الراقي، وخاصة نثرَ الدبلوماسي والمحامي والخطيب والكاتب شيشرون (١٠٦–٤٣ قبل الميلاد) الذي كان أوَّل مَن استخدم المصطلح اللاتيني humanitas ليشيرَ إلى التعلُّم والتفكير اللذين يركِّزان على الإنسانية وليس الآلهة. سافر بيترارك كثيرًا في أرجاء أوروبا، وأمضى سنواتٍ عدة في فلورنسا، حيث ربما كان أحد «الكلاب المتوحِّشة» في حُلم لانديني. ورغم أنه لا يأتي على ذكرِ ويليام الأوكامي في كتاباته أبدًا، فمن المؤكَّد أنه عرفَ بوجود ذلك العالِم الإنجليزي الذي أحدث ضجَّة كبيرة في مدينته الأم.
لا تزال جذور الفلسفة الإنسانوية لدى بيترارك محلَّ جدال شديد، لكن الكثير من الباحثين دفعوا بأن تلك الجذور تكمُن في اطلاعه على ما يُطلِق عليه جيليسبي «إله الاسمانية الغامض».15 إذ رفض بيترارك — مثل الاسمانيِّين — الواقعيةَ الفلسفية ووجود الكليَّات. كما شدَّد على أسبقية قدرة الإله المطْلقة، وعلى عدم القدرة على معرفة الإرادة الإلهية. وفي مقاله «عن جهله وجهل آخرين كُثُر» أكَّد بيترارك أنه «من المستحيل في هذه الحياة أن نعرف الرب معرفةً كاملة»، وعلى أن «الطبيعة لم تخلُق شيئًا من دون صراع وكراهية».16 وخلَص بيترارك إلى حتميةِ أن يضع الإنسان ثقتَه في إبداعه إن كانت قدرتنا لا تسعُ معرفة خطة الرب للبشرية. وشدَّد كذلك على أنه «لا شيء جدير بالإعجاب سوى الروح؛ فلا شيء يُعَد عظيمًا مقارنةً بعظمتها».17 وأصرَّ بيترارك على حتمية أن تصيغ البشرية طبيعتَها بنفسها، وذلك في ظل عدم وجود كلية «الإنسانية» الواقعية لتستعين بها. وكان ردُّه على الإله الاسماني هو ابتكار إنسانية فردية بشكل جذري، وحثَّ إخوانه البشرَ على أن يهجروا السعي الذي لا طائل منه نحو التحقُّق الخارجي واستعادة إنسانيتهم والبحث عنها من خلال الاستبطان. ففي رأي بيترارك، يمكن للبحث في الذات والتخيل الإبداعي أن يحقِّقا حتى منزلةً إلهية من نوعٍ ما. وقد طرح يتساءل: «ما الذي يمكن أن يهدِف إليه الإنسان ويفكر فيه — ولا أقول يأمُله — أكثر من أن يكون إلهًا؟»18
يرى مؤرِّخ الفنون الأمريكي والباحث في مجال عصر النهضة تشارلز ترينكوس (١٩١١–١٩٩٩) تأثيرَ ويليام الأوكامي أيضًا في شعر بيترارك.19 إذ يحاجِج ترينكوس بأن بيترارك استغلَّ تحرير الاسمانيِّين للكلمات من قيود الواقعية الأفلاطونية ليفتح عالَمًا جديدًا تمامًا من المجازات الشعرية المرنة. ويتعرَّض الناقد الأدبي الأمريكي هولي والاس باوتشر20 لهذا المبحث ليدفعَ بأنه في حين أن الكُتَّاب الأوائل في فترة العصور الوسطى أمثال دانتي، قد أدركوا أن للكلمات «علاقة بسيطة وواضحة بالحقيقة و[أنها] صورة للنظام الإلهي»، فإن اسمانية الأوكامي حطَّمت تلك العلاقة الجامدة. لذا، يمكن للكلمات أن تعني أيًّا ما يختار لها الشاعر من معانٍ، أو حتى، من منظورِ ما بعد حداثي، ما يضفي عليها كل قارئ منفرد من معنًى.21 وهكذا، في عمل جيوفاني بوكاتشو بعنوان «الديكاميرون» الذي كتبه بعد ٣٠ عامًا فقط من موت دانتي، كانت الكلمات قد تخلَّصت بالفعل من معانيها الرمزية أو الإلهية لتقدِّم شعرًا طبيعانيًّا أكثرَ يناسب وصفَ الناس العاديِّين وهم ينخرطون في الأنشطة البشرية العادية، كالطهو أو تناول الطعام أو تحدُّث بعضهم إلى بعض، أو تناول الشراب أو ممارسة شهواتهم أو ممارسة الفسوق وخداع بعضهم بعضًا. لذا بعد أن أضحت الكلمات غيرَ مثقلة بقيود مراسيها الواقعية، أصبحت في النهاية حرةً لتقدِّم المجازات التي تسمح بفهمنا المشترك للشعر:
… انظري، يا حبيبتي، أية خيوط حاسدة
تزركش السُّحب المتقطِّعة في الشرق الأبعد:
لقد ذابت شموع الليل، والنهار السعيد
يقف على أطراف أصابعه فوق قمم تلك الجبال المكلَّلة بالضباب.
شكسبير، «روميو وجولييت»، الفصل الثالث، المشهد الخامس
لم يكن فرانشيسكو لانديني هو الفنانَ الوحيد الذي تأثَّر باسمانية ويليام الأوكامي. ففي كتابه بعنوان «تاريخ الفن كتاريخ الأفكار»،22 دفع المؤرِّخ الفنيُّ الفيينيُّ ماكس دفوراك (١٨٧٤–١٩٢١) بأن اسمانية ويليام الأوكامي ساعدت في استثارة التحوُّل في التركيز من المنظور الواقعي الفلسفي الإلهي الذي تتسم به أساليبُ الرسم البيزنطية والأوروبية العصرأوسطية وكذلك الإسلامية٢ نحو المذهب الطبيعاني الذي يميِّز الحداثة. إذ حلَّ الأفراد محلَّ الأنماط الأولية، ويمكن لأرنبٍ في رسمةٍ ما أن يمثِّل في النهاية مجردَ أرنب.
بالطبع لم يتغيَّر الفن بين ليلةٍ وضحاها، وشأنُه في ذلك شأنُ كلِّ شيء آخر. إذ استمر وجود الرمزية والقصص الرمزية والأنماط الأولية في الفنون الأوروبية طيلةَ عدة قرون، عادة إلى جانب التمثيلات الطبيعانية. لكن نزعَت تلك المرحلة الأخيرة من الرمزية إلى أن تكون أقربَ إلى طبيعة شفرة سرية بين الفنان والمشاهِد المطَّلِع، وليس كمحاولة لتمثيل رسالة الإله. يحاجِج أرنولد هاوزر (١٨٩٢–١٩٧٨)23 في كتابه بعنوان «التاريخ الاجتماعي للفن» المنشور في عام ١٩٥١ بأن «الواقعية هي التعبير عن ديناميكية ثابتة ومحافظة … [في حين أن] المذهب الاسماني الذي يدَّعي أن كلَّ شيء بعينه له نصيب من الوجود يتوافق مع نظامٍ حياتي يتمتع فيه حتى أولئك الذين يقفون على أدنى درجات السلَّم بفرصةٍ في الصعود». وقال هاوزر إن المذهب الاسماني حثَّ على تبنِّي أسلوب فني أكثرَ ديمقراطية وطبيعانية، مُنح فيه البشر العاديون قدْرَ الانتباه نفسه الذي مُنح للملوك والقديسين. يُمكن رؤية هذا التحوُّل في لوحة ليوناردو دا فينتشي الشهيرة بعنوان «العشاء الأخير» (التي ظهرت حوالي عام ١٤٩٥) حيث يحتل كلُّ تلميذ من تلامذة المسيح المساحةَ نفسها التي يحتلها المسيح على رقعة الرسم، وكان هذا شيئًا نادرَ الحدوث في اللوحات السابقة لذلك. ويظهر هذا التحوُّل بصورةٍ أكبر حتى بعد مائة عام لاحقة في لوحة كارافادجو التي بعنوان «العشاء في عمواس» (التي رسمها حوالي عام ١٦٠٠)؛ حيث نجد صاحبَ الحانة المجهول هو على الأرجح الشخصية الأبرز في المشهد.

هرمس والمذهب الإنسانوي

في حين كان المذهب الاسماني لويليام الأوكامي مصدرَ إلهام لرواد المذهب الإنسانوي، فقد أدار ظهره، مع تطوُّر حركة النهضة، بشكل متزايد للفلاسفة المدرسيِّين وأرسطو. أدَّى دَور العامل الحافز في هذا مارسيليو فيتشينو، وهو العالِم والقس ومستشار كوزيمو دي ميديشي دوق توسكانا الأكبر، والذي عاش من ١٤٣٣ حتى ١٤٩٩. بحلول ذلك الوقت، كان التواصل مع البيزنطيِّين قد أعاد المعرفةَ باليونانيِّين القدماء إلى أوروبا الغربية، وترجم فيتشينو عدة أعمال لأفلاطون من اليونانية إلى اللاتينية مباشرة. أصبح فيتشينو مفتونًا بفلسفة أفلاطون وبصورة خاصة كتاباته الكثيرة عن طبيعة الروح، التي رأى أنها وسيلةٌ لمكافحةٍ ما في رأيه أنه نزعة خَطِرة بين الاسمانيِّين نحو فصل الفلسفة عن الدين. وفي وقتٍ ما بين عامي ١٤٦٩ و١٤٧٤، جمع فيتشينو شرحًا وملخَّصًا لأفكار أفلاطون تحت عنوان «اللاهوت الأفلاطوني» بعنوان فرعي مثير هو «عن خلود الأرواح». وشدَّد فيتشينو على أن أفلاطون هو الفيلسوف الراعي للديانة المسيحية وليس أرسطو.

كانت ترجمات فيتشينو وشروحاته تحظى بشعبية كبيرة؛ إذ مثَّل أسلوب أفلاطون الشاعري النيِّر في الكتابة، الذي كان يعجُّ بالقصص الرمزية والسرديَّات والمحاورات، تحرُّرًا محتفًى به من منطق أرسطو العتيق. وما أسر انتباه أتباع المذهب الإنسانوي بصفة خاصة هو تركيز أفلاطون على اكتشاف الذات. وانسجم التحوُّل من المنهج التجريبي الأرسطي إلى الاستبطان الأفلاطوني مع المذهب الإنسانوي السائد، وأطلق شرارةَ إحياء الفلسفة المعنية بالتصوف والسحر التي تُعرف باسم الأفلاطونية المحدَثة، والتي ازدهرت في سنوات احتضار الإمبراطورية الرومانية. وحين سمِع كوزيمو دي ميديشي أن بعض النصوص اليونانية الأفلاطونية المحدَثة التي أُعيد اكتشافها قد وصلت حديثًا إلى فلورنسا، أمرَ فيتشينو بأن ينصرف عن ترجمة المزيد من أعمال أفلاطون ويصبَّ تركيزه بدلًا من ذلك على ترجمة كتابات قديمة لشخصيةٍ أسطورية تُعرف باسم هرمس طريس مِجَسْطيس، والذي يُقال عنه إنه كان «كاهنًا ونبيًّا ومشرِّعًا عظيمًا» من قدماء المصريين.

في مقدِّمته لما يُعرف غالبًا باسم «متون هرمس» الذي طُبع عام ١٤٧١، يروي فيتشينو كيف أن «في الوقت الذي وُلِد فيه موسى، كان هو وقت ازدهار المنجِّم أطلس، وهو أخو الفيلسوف الطبيعاني بروميثيوس وجَدُّ عطارد العظيم، الذي كان حفيده هو هرمس طريس مِجَسْطيس … يقولون إنه قتل العملاق آرجوس وحكم المصريِّين وقدَّم لهم الحروف والقوانين». زعم فيتشينو أن النصوص المترجمة حديثًا بما فيها من مزيج الفلسفة والتصوُّف الفيثاغورسي والخيمياء والسحر والأساطير والفلك كانت تمثِّل نافذةً على تقليد صوفي أقدمَ منها ألهم فيثاغورس وأفلاطون والكتابَ المقدَّس اليهودي.

وقد حظيت الهرمسية، رغم مزاعمها الغريبة التي كانت لتُرفَض باعتبارها هراءً قبل ذلك بمائة عام، بشعبية كبيرة بين أتباع المذهب الإنسانوي الذين أبدَوا اهتمامًا بقدراتِ المخيِّلة البشرية الطليقة. إذ بدا أنها تمثِّل القطعة الناقصة في الأحجية الإنسانوية والتي تتمحور حول كيفية تحويل الإنسان إلى إلهٍ مبدع من نوعٍ ما. وكانت الإجابة هي السحر. زعم جيوفاني بيكو ديلا ميراندولا (١٤٦٣–١٤٩٤)، النبيل الإيطالي والصديق المقرَّب للورينزو دي ميديشي وصاحب كتاب «خطبة عن كرامة الإنسان» الذي يُصنَّف كبيانٍ لحركة النهضة، أن الملائكة كانت تساعد الناس على الطيران، وأن إتقانه القَبَالة العبرية٣ منحته القدرةَ على التحدُّث بكلماتٍ ذات قوة سحرية.24 وكان الفلاسفة الهرمسيون بالفعل يزعمون أن الكونَ بأكمله شبكةٌ من القوى السحرية، ومِن ثَمَّ يمكن قراءة الإجابة عن أي سؤال في النجوم. كان التنجيم قد عاد كموضوع سائد بعد أن كان محظورًا أثناء الحِقبة المدرسية، فكان الحكَّام يعيِّنون منجِّميهم الخاصين بهم، كمثل جون دي (١٥٢٧–١٦٠٨)، الفيلسوف الباطني والساحر الشهير ومستشار ملكة إنجلترا إليزابيث الأولى.

شهدت الخيمياء انتعاشةً أيضًا، خاصة باعتبارها مجالًا لوصفات تحضير المستحضرات السحرية التي يمكنها شفاء جميع الأسقام. زعم السويسري الألماني فيليبس أوريولوس ثيوفراستوس بومباستوس فون هونهايم المعروف باسم باراسيلسوس (١٤٩٣–١٥٤١) أن الأمراض هي نتيجة وجودِ عدم تناغم مع الكون، والذي يمكن تسويته من خلال مستحضرات سحرية تركيبتها مكتوبة في النجوم. وشدَّد فيتشينو على أن «الفضائل الباطنية للأشياء … لا تأتي من طبيعةٍ أوليَّة بل من طبيعة سامية». لذا وفي تناقضٍ صارخ مع المسعى الاسماني نحو البساطة، ابتكر أتباعُ المذهب الإنسانوي في حِقبة النهضة فيضًا من كيانات سحرية وصوفية وباطنية تخطَّت حدودَ الضرورة بكثير.

لكن وعلى الرغم من تعاليم المذهب الإنسانوي الصوفية، فقد احتفظ ذلك المذهب على الأقل باهتمامٍ نحو العالم وبكيفية التأثير فيه. أما في شمال أوروبا، فقد كان للمذهب الاسماني الأوكامي تأثيرٌ فكري غاية في الاختلاف.

الطريق الشمالي نحو حركة الإصلاح

كان العالِم الهولندي الأوكامي مارسيليوس الإنجني (١٣٤٠–١٣٩٦) شخصيةً محوريةً في نقل «المذهب الجديد» إلى جامعات شمال أوروبا. درس مارسيليوس مع جان بوريدان ونيكول أوريسم في باريس، ودرَّس فيها بين عامي ١٣٦٢ و١٣٧٨. ومن باريس، ارتحل إلى مدينة هايدلبرج في ألمانيا، وساعد في تأسيس جامعتها عام ١٣٨٦ بمنهج دراسي اسماني قوي. وكان غزير الإنتاج فقدَّم شروحاتٍ على كتب أرسطو «الطبيعة» و«ما بعد الطبيعة» و«عن الروح» و«عن الكون والفساد»، بالإضافة إلى عدة نصوص عن المنطق، من بينها «أسئلة عديدة عن المنطق القديم والجديد»، وكان يقصد بالمنطق الجديد مذهبَ الاسمانية. نُسِخت هذه النصوص ووزِّعت على نطاق واسع على جامعات ومكتبات في مدن براغ وكاركوف وهايدلبرج وإرفورت وبازل وفرايبورج، مما ساعد في نشر «المذهب الجديد» عبْر جامعات شمال أوروبا. وقد أدخل جابرييل بيل (١٤٢٠–١٤٩٦) وهو أحدُ أكثر تلاميذ مارسيليوس تأثيرًا، نسختَه الخاصة من الفلسفة الأوكامية إلى أحدِ أعرق المؤسسات الأكاديمية الألمانية وأكثرها تأثيرًا وهي جامعة إرفورت، بحيث أصبح الاسمانيون يهيمنون على كل الجامعات الألمانية عدا واحدة، وذلك بنهاية القرن الخامس عشر.25

في عام ١٥٠١، أي بعد ثلاثين عامًا من نشر فيتشينو كتابَه «متون هرمس» في فلورنسا، قبِلت جامعة إرفورت دارسًا يافعًا للفلسفة والقانون يُدعى مارتن لوثر. كان لوثر قد وُلِد في عام ١٤٨٣ في مدينة أيسليبن بساكسونيا، والتي كانت في تلك الفترة منطقةً تقع تحت حكم الإمبراطورية الرومانية المقدَّسة. كان والده فلاحًا، لكن أحواله المادية ازدهرت بالشكل الكافي بعد أن امتهن التعدين بما يسمح لأن يرسل ابنه إلى المدرسة ثم إلى جامعة إرفورت. توفِّي بيل قبل أن يصل لوثر إلى إرفورت بخمس سنوات؛ لذا كان تلميذا بيل، يوهانس ناهان وبارثولوماوس أرنولدي فون أوزيجن، هما مَن طرحا كتابات ويليام الأوكامي على لوثر.

تأثَّر لوثر في سنواته التكوينية الأولى في الجامعة بالأوكامي على نحوٍ كبير، والذي أشار إليه فيما بعدُ بأنه «أستاذه العزيز» مشدِّدًا على أن «الأوكام وحدَه هو مَن فهِم المنطق».26 قبِل لوثر في سنوات شبابه رفض المذهب الاسماني للكليَّات وآمن بإلهه الكليِّ السلطة، الذي لا سبيل لمعرفته بشكل مخيف. وكتب لاحقًا أنه عاش في رعبٍ من إله غاضب تفوق معرفته قدرات البشر، حتى إلى حد أنه يكره حمل الخبز المقدَّس في القدَّاس.

وفي يوليو لعام ١٥٠٥، ترك لوثر جامعةَ إرفورت ليلتحق بالدير الأوغسطينوسي الخاص بها، فمكث فيه عدة سنوات قبل أن يوافق على وظيفةٍ لتدريس اللاهوت في جامعة فيتنبرج. بحلول ذلك الوقت، كان المذهب الإنسانوي قد توسَّع شمالًا من إيطاليا، فوصل إلى فرنسا وألمانيا وإنجلترا والبلدان المنخفضة، حيث كان الفيلسوف إيرازموس (١٤٦٦–١٥٣٦)، وهو الركن الفكري الآخر لحركة الإصلاح، هو أكثرَ معتنقيها الجدد تأثيرًا. تربَّى إيرازموس يتيمًا على يد أوصياء له؛ فقد كان ابنًا غيرَ شرعي لقسٍّ وابنة طبيب، وقد أرسله الأوصياء عليه إلى مدرسةٍ تديرها أخوية الحياة المشتركة، وهي جماعة دينية تأسَّست في القرن الرابع عشر على مبادئ الفقر الرسولي. دخل إيرازموس ديرًا أوغسطينوسيًّا وهو في عمر الخامسة والعشرين ورُسِّم كاهنًا؛ لكنه كبِر ليصبح كارهًا لحياة الرهبانية، فسافر إلى باريس ليدرس من أجل الحصول على درجة الماجستير في اللاهوت. وهناك شكَّل إيرازموس نسخته الخاصة من المذهب الإنسانوي، فكانت أقلَّ نزعة نحو التمحور حول الذات والنخبوية، وأكثرَ روحانيةً من نظيرها الإيطالي. كما وضع إيرازموس أيضًا قدرًا من الثقة في النصوص المقدَّسة أكبر من القدْر الذي وضعه الاسمانيون الإيطاليون فيها، مؤكِّدًا إنسانيةَ المسيح كمقابل لإله المذهب الاسماني الذي لا سبيل إلى معرفته. رغم ذلك وعلى غرار أتباع المذهب الإنسانوي الجنوبيين، اعتقد إيرازموس أن الإنسان يصل للرب فقط من خلال المعرفة الذاتية. وكان لوثر يبغض هذه الفكرة.

على غرار القديس أوغسطينوس، رأى لوثر أن الإنسان لا يكاد يستحق المعرفة؛ لأن الإنسانية تُعَد في معظمها كومةً من الانحراف. وفي صدًى كبير للفلسفة الاسمانية لويليام الأوكامي، زعم لوثر أن «الحالة الطبيعية للعالَم هي حالة من الفوضى والاضطراب»؛ لأن «الرب في طبيعته هائل العظمة ومبهَم ولا محدود … إنه لا يحتمل، فهو إله خفي؛ إذ يقول عن نفسه في الكتاب المقدَّس: «الإنسان لا يراني ويعيش».»27 ورفض لوثر فِرار الإنسانويِّين الجنوبيِّين إلى الإبداع ليهربوا من الإله الإنسانوي المخيف. كما نبذ أيضًا إنسانوية إيرازموس التي تتسم بأنها أكثر لينًا، وخاصة زعمه أن بإمكاننا الوصول إلى الرب من خلال المعرفة الذاتية والعقل. أكَّد لوثر بدلًا من ذلك أن قدرةَ الرب المطْلقة لا تتوافق والإرادة الإنسانية الحرة. فطبقًا لما يرى لوثر، حدَّد الرب مصير كل إنسان، سواء أكان إلى النار أم إلى الفردوس، وذلك قبل أن يُولد حتى. فالمتَّقون الورِعون لم يكونوا كذلك؛ لأنهم اختاروا أن يتَّبعوا سبيلَ الرب؛ بل إنهم اتَّبعوا سبيلَه لأن الرب بحكمته المجهولة جعلهم على هذه الشاكلة. يرى لوثر أن الإيمان ليس خيارًا نتخذه، وإنما علامة على فضل الرب.

العلم والثورة الثقافية

بكثير من الطرق، لم يكن هناك من خياراتٍ متاحة أمام أيِّ مؤمن يواجه الإلهَ المطلق القدرة، الذي لا سبيل إلى معرفته لويليام الأوكامي، أتباعه الاسمانيين كذلك، سوى الخيارات السيئة. وأول تلك الخيارات أن يتبنَّى منهجَ دسِّ رأسه في الرمال، وذلك من خلال الاستمرار فيما كان عليه من قبلُ بغض النظر عن المنطق ووضع ثقته ليس في المنطق، بل في سلطة الكنيسة. على نحوٍ قد لا يكون مستغرَبًا، كان هذا النهج هو الذي اتبعته الكنيسة الكاثوليكية في النهاية، والتي رفضت مغازلتها للمذهب الاسماني، وعادت إلى الواقعية الفلسفية وإله توما الأكويني المحسِن الخيِّر. وما زالت الكنيسة على هذا الموقف حتى يومنا هذا.

أما الخياران الثاني والثالث فيقبَل كلاهما بطلاقةِ القدرة الإلهية، لكنهما أزاحا إلهَ الاسمانيِّين الغامض إلى الهامش. ومن سلبيات هذه المقاربة أنها تركت البشريةَ في كونٍ ربما يكون عبثيًّا غير ذي معنًى. كان ردُّ الإنسانويِّين — وهو الخِيار الثاني المتاح الذي تبنَّاه بيترارك والإنسانويون الإيطاليون، وإيرازموس على نطاقٍ أضيق — هو ملءَ الفجوة الخاصة بالمعنى بالإنسان، رافعين إياه إلى مكانة شبه إله. أما الخيار الثالث والذي تبنَّاه لوثر فكان اللجوءَ إلى النصوص المقدَّسة باعتبارها الحَكَم على الحقيقة ومصدرَ المغزى في العالم.

كانت هذه كلها خياراتٍ بائسة. كلُّ خيار منها كان خداعًا من نوعٍ ما يقبَل في البداية الإله الاسماني، لكنه يرفضه فيما بعدُ بطريقةٍ أو بأخرى. بعدئذٍ، لم يكن من المرجَّح من جانبِ أتباعِ حركة النهضة ولا الإصلاح أن يُبقوا ويليام الأوكامي قريبًا من قلوبهم. فمن وجهة نظرهم، كان ويليام الأوكامي أشبهَ بصديق الطفولة الذي يخبرك أن بابا نويل غير موجود. لا يمكنك أن تتجاهل المعلومة الجديدة، لكن في أعماق أعماقك، أنت تعلم أن العالم فقد شيئًا من جاذبيته وسحره. ولذا، لم تَعُد تريدَ قضاء المزيد من الوقت مع ذلك الصديق ذي التفكير المنطقي على نحوٍ قاسٍ الذي كشف لك الحقيقة.

مع ذلك، أعتقد أن أكبرَ تأثير لأفكار ويليام الأوكامي لم يكن على الفلسفة أو اللاهوت، بل على العلوم التي نشأت من حالة الاضطراب الفكري تلك. فبطرقٍ شتَّى، كانت القاعدة الفلسفية المتناثرة للَّوثريين، بتبنيهم الأكثر حماسةً لمبادئ «المذهب الجديد» بما في ذلك فصله اللاهوت عن العلم، كانت أقربَ إلى المنهج التجريبي في العلوم الحديثة. على سبيل المثال، كان معلِّم لوثر في إيرفورت، باراثولوماوس أرنولدي،28 قد علَّمه أن العلم ينبغي أن يتم اختباره من خلال التجربة والمنطق؛ في حين أن المعرفة اللاهوتية لا يمكن أن تتكشَّف إلا من خلال النصوص المقدَّسة. كما تبنَّى اللوثريون أيضًا منهجًا متشككًا صحيًّا تجاه ما تنتجه المخيِّلة البشرية، بما في ذلك التأملات الصوفية والباطنية لدى الإنسانويين الجنوبيِّين. لكن وفي حين لم يكن الإنسانويون الشماليون مهتمين بصورة كبيرة بالعلوم، مفضِّلين أن يبحثوا عن الحقيقة في النصوص المقدسة وليس في العالم، فإن عدم اهتمامهم هذا خلَّف تربة ثقافية يمكن لبذور العلم أن تنبت فيها.

لذا قد يكون من المثير للسخرية أن إنسانوية حركة النهضة هي مَن قدَّمت أعظم علماء ذلك العصر وهو ليوناردو دا فينتشي؛ ذلك الإيطالي العلَّامة، وذلك كما تكشَّف في «مخطوطاته» الاستثنائية. فتوليفته الفريدة من الفن والتكنولوجيا والعلم كان من الممكن أن تمثِّل نقطةَ الانطلاق لثورة علمية في القرن السادس عشر، خاصة أنه كان يتمتَّع بدرجة صحيَّة من التشكك تجاه العلوم الزائفة في عصره، مثل التنجيم والخيمياء. على الرغم من ذلك، لم ينشر ليوناردو قط أفكارَه، وعلى حدِّ علمنا، لم يقرأ أحدٌ سواه «مخطوطاته» في حياته. وبعد وفاته، أبدى القيِّمون على مخطوطات ليوناردو إعجابَهم بها لما تحتوي عليه من فنٍّ وليس من علم. كان الإنسانويون الجنوبيون في معظم الأحيان يتبنون الفكرَ الباطني، حيث كان ينقصهم ما يتمتَّع به ليوناردو من براعة فكرية وافتتان بالعالم الطبيعي، كما كانوا غير عابئين بشفرة أوكام.

وحيث كان اللوثريون ينصرفون عن العلم بشكل كبير، وكان الإنسانويون يمارسون تعاويذهم، لربما تعرَّض العلم مرة أخرى للركود. لكنَّ تعاونًا مستبعَدًا بين الراهب الإنسانوي في كاتدرائية كاركوف الكاثوليكية وعالِمًا تلقى تعليمه في فيتنبرج اللوثرية كان سببًا في إيجاد حلٍّ بسيط للخروج من هذه المعضلة.

هوامش

  • (١)

    لا تزال تسجيلات موسيقى لانديني متاحة إلى يومنا هذا.

  • (٢)

    هذا التناقض بين المنظور الإلهي لفن المنمنمات الفارسية والمنظور الفردية للفنون الغربية في عصر النهضة مصوَّر بشكل لافت في رواية أورهان باموق الرائعة التي بعنوان «اسمي أحمر».

  • (٣)

    تفسير صوفي يهودي قديم للكتاب المقدَّس يهدف إلى الوصول إلى اتحاد من نوع ما مع الرب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤