اللص الثري

قرَّر «المغامرون الخمسة» زيارة المفتش «سامي» في مكتبه، وكانوا قد دخلوا السينما في حفلة الساعة العاشرة، وبعد خروجهم وجدوا أنفسهم يتجهون مشيًا على الأقدام من شارع «طلعت حرب» إلى مكتب المفتش في باب الخلق.

واستقبلهم المفتش مُرحِّبًا، وحضرت أكواب الليمون المثلَّج … وجلس المفتش والأصدقاء يتحدَّثون ويضحكون … فقالت «لوزة»: أليس هناك لغزٌ ولو صغيرًا نتسلَّى به؟

قال المفتش: ليس هناك ألغاز في هذه الأيام … كل ما لدينا جرائم قاسية … أو حوادث نشل عادية … أو مشاجرات، أو اختلاسات، وكلها لا تدخل في اختصاص «المغامرين الخمسة»، أصحاب الذكاء والاستنتاجات.

ودخل في هذه اللحظة أحد ضبَّاط المباحث، وحيَّا المفتش باحترام، ثم وضع أمامه ملفًّا وقال: هذه نتيجة التحريات عن «فتحي الدهل».

عبثت أصابع المفتش لحظات بالملف، ثم قال: وهل هناك جديد؟

الضابط: لا جديد … إلا أنه لأول مرة ذهب إلى صحراء «المعادي» مساء أمس في سيارة، وقضى بعض الوقت يدور بها ثم عاد.

صاحت «لوزة»: صحراء «المعادي»! … إن هذا يدخل في اختصاصنا.

ابتسم المفتش، ثم قال موجِّهًا حديثه إلى الضابط: هؤلاء هم أصدقائي «المغامرون الخمسة» … «توفيق» و«محب» و«نوسة» و«عاطف» و«لوزة».

ثم التفت إلى الأصدقاء قائلًا: وهذا النقيب «مجدي» من قوة المباحث الجنائية، وقد انضمَّ إلينا منذ أسبوع.

وتبادل الأصدقاء والضابط التحية، وقال المفتش «سامي»: لقد اشتركوا معي في حلِّ كثيرٍ من الألغاز الغامضة، وأعتقد أنهم عندما يكبرون سيُصبحون من خيرة العاملين في ميدان البحث الجنائي.

هزَّ الضابط الشاب رأسه … وأحسَّ الأصدقاء أن هذه الهزة تعني أنه ليس مقتنعًا بهم … عاد المفتش «سامي» يقول: هل أنت مقتنع بأنك بهذه المراقبة سوف تصل إلى المبلغ المسروق؟

مجدي: بالتأكيد … إن الرجل خرج من السجن لا يملك شيئًا سوى بضعة جنيهات، ولم تمضِ ٢٤ ساعةً على خروجه حتى سكن شقةً فاخرةً في «الزمالك»، ولا يتحرَّك إلا وهو يركب سيارةً من أحدث طراز.

قال المفتش: سأقرأ الملف، وأرى التحريات التي قمتَ بها، وسوف أستدعيك بعد قليل. كرَّر الضابط «مجدي» التحية، ثم انصرف، فقال «تختخ»: إذا لم يكن عندك مانع، فإننا نودُّ سماع القضية التي يعمل فيها النقيب «مجدي».

قال المفتش مبتسمًا: إنها قصة طويلة تعود إلى ثلاث سنوات مضت، ففي ليلةٍ من الليالي أخطرَتنا إحدى السفارات أن سيارةً من سيارات السفارة قد سُرقت … وكان بها حقيبةٌ محشوَّةٌ بأوراق النقد الأجنبي والمصري قيمتها نحو ٣٦ ألفًا من الجنيهات، والأهم من النقود بعض أوراق السفارة البالغة السرية.

وأخذ المفتش يُقلِّب أوراق الملف، ثم مضى يقول: وقمنا فورًا بالإجراءات المعتادة … البحث عن السيارة … البحث عن المشتبه فيهم … عمل كمائن في مختلِف أنحاء «القاهرة» … وكان أول خيط أمسكناه هو اختفاء المنادي الذي يقف أمام السفارة لملاحظة السيارات، وهو الشخص نفسه الذي نُطارده الآن واسمه «فتحي الدهشان»، وشهرته «الدهل»، فشكله يوحي بالعبط والسذاجة.

وأمسك المفتش بصورةٍ في الملف وعرضها على الأصدقاء قائلًا: هذا هو «الدهل».

وتبادل الأصدقاء الصورة فيما بينهم، وقالت «نوسة»: إنه يبدو طيبًا فعلًا.

المفتش: كانت طيبته فيما يبدو قناعًا يُخفي خلفه حقيقته.

محب: وماذا حدث بعد ذلك؟

المفتش: علمنا في الليلة نفسها أن السيارة شوهدت في أماكن مختلفة؛ منها طريق الإسكندرية الزراعي، وطريق الإسكندرية الصحراوي، والفيوم الصحراوي، وكلها كانت مراقبة … وعلى الكورنيش بين «القاهرة» و«المعادي» شوهدت سيارة تُشبه السيارة المسروقة وفيها ثلاثة أفراد، فأسرعت خلفها سيارة النجدة، ثم حدث شيء رهيب.

وصمت المفتش لحظات والأصدقاء ينظرون إليه في اهتمام وقال: كانت السيارة تسير بسرعة خارقة، وفجأةً انفجرت إحدى عجلاتها؛ فدارت حول نفسها واجتازت الكورنيش واندفعت منه وسقطت في النيل!

وتنهَّد المفتش، ثم أكمل حديثه قائلًا: غاصت السيارة في قاع النهر … وكانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل … وضاع وقت طويل قبل أن يصل رجال الضفادع البشرية لانتشال السيارة ومن فيها، واتضح أنها السيارة المسروقة فعلًا بعد استبدال أرقامها.

عاطف: وهل قبضتم على اللصوص؟

المفتش: غرق لصَّان، وقبضنا على الثالث وهو «فتحي الدهل».

تختخ: والمبلغ المسروق؟

المفتش: لم نعثر على الحقيبة مطلقًا.

تختخ: شيء عجيب!

المفتش: فعلًا … وقد استجوبنا «الدهل» فقال إنه لا يعرف مصير الحقيبة وما فيها، وأنه لم يشترك في السرقة أصلًا.

محب: بمَ علَّل وجوده مع اللصَّين في السيارة؟

المفتش: قال إنهما اقتربا منه وهو يقود السيارة ليُبعدها عن الزحام، ثم فتحا الباب ودخلا، وتحت تهديد المسدس اضطُر لقيادتها. وإنهما كانا يبحثان عن مكانٍ يُخفيان فيه المبلغ، ثم يتخلَّصان من السيارة، ولكن وجوده معهما اضطرهما للبحث عن وسيلة للتخلُّص منه أولًا … فقد كانا يخشيان أن يدل عليهما لأنه شاهدهما؛ لهذا قرَّرا التخلُّص منه، فضربه أحدهما بالمسدس على رأسه، ولم يُفق بعد ذلك إلا عندما سقطت السيارة في النهر … ووجد نفسه يعوم في اتجاه الشاطئ حتى قُبض عليه … هذا مُلخَّص القصة، ولكن هناك تفاصيل أخرى كثيرة.

لوزة: إنها قصة مثيرة فعلًا.

محب: وهل بحثتم عن الحقيبة في قاع النهر؟

المفتش: نعم … بحثنا ثلاثة أيام متتالية ولم نعثر عليها، وبالطبع أدركنا أن اللصوص الثلاثة — ومنهم «الدهل» طبعًا — قد أخفَوا الحقيبة في مكان ما قبل أن يسقطوا في النهر … وأن «الدهل» يعرف مكان الحقيبة، ولكنه رفض الاعتراف، حتى إذا ما خرج من السجن استولى على المبلغ وحده، وعاش حياةً رغدة.

نوسة: وأنتم تُطاردونه الآن؟

المفتش: نحن لا نُطارده، إننا نُراقبه فقط، وقد ثبت لنا صحة ما توقَّعناه؛ فبعد خروجه من السجن مباشرة، استأجر شقةً في «الزمالك»، لا تتناسب مع ما أخذه من السجن من مكافأة لا تصل إلى عشرين جنيهًا هي قيمة عمله داخل السجن.

ساد الصمت غرفة المفتش الواسعة … ثم دقَّ جرس التليفون، وانهمك المفتش في الحديث، في حين أخذ الأصدقاء ينظر بعضهم إلى بعض، وقد بدا عليهم جميعًا التفكير في المعلومات التي سمعوها من المفتش عن «الدهل».

وبعد أن انتهى المفتش من حديثه التليفوني التفت إلى الأصدقاء قائلًا: ما رأيكم؟

ردَّ «محب» مبتسمًا: رأيي أنه لص شديد الدهاء؛ لأنه استطاع أن يحتفظ بالسر لنفسه ثلاث سنوات، ثم خرج ليستمتع بهذا المبلغ الضخم وحده.

زَمَّ «تختخ» شفتَيه وقال: لو كان داهيةً يا «محب» لما كشف نفسه بهذه الطريقة، فلم يكد يخرج من السجن حتى أخرج المبلغ من المكان الذي أخفاه فيه وبدأ يُنفق ببذخ. ولو كان داهيةً حقًّا لعرف أن الشرطة تُراقبه، ولقد كشف نفسه بما فعل.

قالت «نوسة» موجِّهةً حديثها إلى المفتش: ألم تسألوه عن مصدر المال الذي ينفق منه؟

المفتش: لقد فضَّلنا أن نتركه يتصرَّف كما يشاء حتى لا يعرف أننا نُراقبه؛ فإنه إذا أحسَّ بالمراقبة أو إذا استجوبناه؛ فقد يختفي عن أعيننا إلى الأبد … ورجل معه مثل هذا المبلغ الضخم يمكنه أن يفعل الكثير.

لوزة: ولماذا لا تقبضون عليه؟

قال المفتش مبتسمًا: بأية تهمة؟ لقد حُوکم بتهمة السرقة، وقضى مدة العقوبة، وليس هناك سبب الآن للقبض عليه.

لوزة: إذن ماذا نفعل نحن؟

ابتسم المفتش مرةً أخرى وقال: لن تفعلوا شيئًا طبعًا … إن المهمة خارج حدود اختصاصكم.

لوزة: إلا إذا حضر إلى «المعادي».

المفتش: إذا حضر إلى «المعادي» ففي إمكانكم مراقبته، ولعلكم تعرفون مكان النقود المختفية.

وانتهى الأصدقاء من شرب عصير الليمون المثلَّج، ثم استأذنوا المفتش في الانصراف، وبينما كان يُودِّعهم عند الباب قال «تختخ»: هل نستطيع الحصول على نسخة من صور «الدهل»؟

المفتش: ممكن طبعًا.

وعاد المفتش إلى مكتبه وخلفه «تختخ» الذي قال: أليس هناك أشياء غريبة في سلوك هذا الرجل؟

المفتش: كما قلتُ لكَ إنه يعيش في مستوًى مرتفع جدًّا، وليس هناك من تعليل لهذه الحقيقة إلا أنه يُنفق من النقود المسروقة … على كل حال إنني لم أقرأ الملف بعد، فإذا قرأته ووجدتُ شيئًا ملفتًا للنظر فيه فسوف أخبرك … ولكن لماذا هذا الاهتمام ﺑ «الدهل»؟ إن مراقبته مسألة صعبة عليكم، ورجالنا يعرفون كيف يُراقبونه جيدًا.

سكت «تختخ» لحظات، ثم قال: معذرة إذا قلت لكَ إن نظرة النقيب «مجدي» لنا لم تعجبني … فمن الواضح أنه استهتر بمجموعة «الأطفال الخمسة»، ولم يُصدِّق أن في إمكاننا أن نفعل أي شيء … وأود أن أُثبت له العكس.

قال المفتش ضاحكًا: لا تهتم بمثل هذه الأمور. إن «مجدي» منذ تخرَّج في كلية الشرطة وهو يعمل في الصعيد، ولعله لم يسمع عنكم.

قال «تختخ» في إصرار: سنجعله يسمع عنَّا قريبًا … إذا لم يكن في موضوع «الدهل» فسوف يكون في موضوع آخر.

وأسرع «تختخ» يلحق بالأصدقاء، وسرعان ما كانوا في طريقهم إلى محطة «باب اللوق»، حيث استقلوا القطار إلى «المعادي» … واتفقوا كالمعتاد أن يلتقوا في المساء في حديقة منزل «عاطف».

وعندما وصل «تختخ» إلى منزله، جلس في غرفته وأخرج صورة اللص الثرى … «فتحي الدهشان» الشهير ﺑ «الدهل»، وأخذ يتأمَّلها، ثم وضعها في دفتر مذكراته بعد أن كتب المعلومات التي سمعها من المفتش، ورفع سمَّاعة التليفون وطلب صديقه الصحفي «علاء الوكيل» رئيس قسم الحوادث في جريدة الجمهورية. وعندما ردَّ «علاء» تبادلا التحية، ثم قال «تختخ»: إنني أسألك ﺑ هل تتذكَّر قضية اللص «الدهل»؟

صمت «علاء» لحظات، ثم قال: الذي اشترك في سرقة سيارة السفارة؟

تختخ: بالضبط … هل لكَ ملاحظات على هذه القصة؟

علاء: الحقيقة أني لا أذكر التفاصيل … فكما تعرف نحن نكتب كل يوم عشرات الحوادث، ومن الصعب أن أتذكر القصة كاملة، وبخاصةٍ أن هذه القضية لم يكن فيها مفاجآت برغم ضخامة المبلغ المسروق.

تختخ: أليست مسألةً عجيبةً ألَّا يعثروا على الحقيبة وبها هذا المبلغ الضخم حتى الآن؟

علاء: على كل حالٍ تعالَ إلى الجريدة وسوف أُخرج لكَ ملف المعلومات والصور الخاصين بالقضية لتطلع عليهما.

تختخ: هل السادسة مساءً مناسبة لك؟

علاء: فلتكن السابعة.

تختخ: اتفقنا … وإلى اللقاء …

اعتذر «تختخ» عن موعد المساء مع الأصدقاء، ثم ذهب إلى الجريدة، وفي الدور الثالث حيث يقع قسم الحوادث، استقبله «علاء» مُرحِّبًا، وكان قد أعدَّ له ملف المعلومات وملف الصور الخاصين بالقضية … وزجاجة کوکاکولا مثلجة.

فتح «تختخ» الملف … كان حافلًا بقصاصات الصحف التي تناولت القضية، فأخذ يقرؤها ورقةً ورقة، وعندما انتهى من قراءة ملف المعلومات، أمسك بملف الصور وأخذ يتأمَّل صور اللصوص الثلاثة … والسيارة المهشَّمة … تأمَّلها طويلًا جدًّا وهزَّ رأسه، ثم قام واقفًا وشكر «علاء» الذي قال له ضاحكًا: أظن أن القضية واضحة وليس فيها ألغاز.

قال «تختخ» وهو ينظر بعيدًا: لا أدري … ولكن …

وصمت «تختخ» ولم يُكمل جملته، ثم غادر دار الجريدة في طريقه إلى «المعادي».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤