صياد … بلا سمك

واقتربوا من الرجل وقال «تختخ» هامسًا: لا تتحدَّثوا بصوت مرتفع … فهذا الرجل يعرفنا، وإذا سمع أصواتنا والتفت إلينا سيظن أننا نُراقبه.

محب: ولكن «الدهل» لا يعرفنا.

نوسة: إنه ليس «الدهل» يا «محب»، إنه الشاويش «فرقع»!

تختخ: تمامًا … لقد نسينا أن الشاويش لا بد أن يكون مشتركًا في هذا اللغز … فجزء هام منه يقع في دائرة اختصاصه.

عاطف: إنه يُراقب «الدهل» إذن!

تختخ: مؤكَّد … فواضح من وضْع سنارته في ماء الشاطئ القليل جدًّا أنه لا يصطاد سمكًا … ولكن يُحاول اصطياد «الدهل» شخصيًّا. إنه يتعاون بالتأكيد مع النقيب «مجدي».

لوزة: ولن نَلقى منه أية معونة.

تختخ: إننا لا نحتاج لمعونة أحد في هذه القضية، سوف نعتمد على جهودنا وحدنا.

محب: إن القارب «مظلوم» هو أحد القاربَين المربوطَين قريبًا من الشاويش «فرقع».

تختخ: إذن هيَّا نعود … فأمامنا عمل كثير.

وفي الطريق شرح «تختخ» للأصدقاء خطته، وتتلخَّص في أن يقوم هو و«لوزة» بالتنكُّر في ثياب المشرَّدين، وأن يجلس بقية الأصدقاء في «الكازينو» الذي تعوَّدوا الجلوس فيه، فإذا حدث تطوُّر أسرعت «لوزة» إليهم بالأنباء.

وكان موعد الغداء قد حان، فأسرع «تختخ» إلى منزله بعد أن طلب من «لوزة» أن تحضر إليه بعد الغداء. وانصرفت «لوزة» سعيدةً مع شقيقها «عاطف»، و«محب» مع «نوسة».

تناول «تختخ» غداءه على عجل، ثم صعد إلى غرفة العمليات حيث توجد أدوات التنكُّر وبقية المعدات التي يحتاج إليها «المغامرون الخمسة» في مغامراتهم … مسدَّسات صوت … سنانير للصيد … نظارات مكبِّرة … قطع زجاج كالجواهر … وسلالم من الحبال، وغيرها.

كانت غرفة العمليات تقع على السطح، ولا يدخلها سوى «تختخ»، وهو الذي يقوم بترتيبها وتنظيفها … صعد «تختخ» إليها وطلب من الشغَّالة أن تُرسل إليه «لوزة» عندما تحضر، وخلع «تختخ» ثيابه الخارجية بعد أن اختار ملابس الصيادين … القميص المخطَّط، والسروال الواسع، والقبعة الخوص … ووقف أمام المرآة الكبيرة يضبط تنكُّره، وسمع دقًّا على الباب، ثم دخلت لوزة، ولم تكَد تراه حتى صاحت بإعجاب: يا لك من صياد مدهش!

وأخذ «تختخ» يتبختر أمامها في الغرفة معجبًا بتنكُّره، ثم أمسك اللفة التي كانت «لوزة» قد أحضرت فيها فستانها، وأحضر مقصًّا وأخذ يقص قطعًا منه هنا وهناك، ثم أحضر بعض الأصباغ وسكبها على أماكن متفرِّقة من الفستان … وأخذ يعمل في صمت و«لوزة» تُراقبه بإعجاب، حتى أصبح الفستان الأنيق ثوبًا ممزَّقًا مهلهلًا قديمًا، ثم قال: والآن أيتها المغامرة الصغيرة … هذا هو ثوب المغامرة، وسأترككِ دقائق وأعود لأرى شكلكِ الجديد.

وخرج «تختخ»، وسرعان ما خلعت «لوزة» فستانها وارتدت الثوب الممزَّق، ثم نكشت شعرها … وعندما عاد «تختخ» بعد قليل أخذ ينظر إليها بإمعان، ثم قال: لا زلتِ في حاجةٍ إلى مزيدٍ من العمل.

وامتدَّت يداه إلى مجموعة من أصباغ الوجه، وأخذ يُلطِّخ وجه «لوزة» وذراعَيها، وساقَيها، ويُضيف هنا ويمسح هناك، ومضت ربع ساعة، ثم قال: انظري إلى نفسك في المرآة الآن … والتفتت «لوزة» إلى المرآة وصاحت بدهشة: إنني … لست أنا!

قال «تختخ» مبتسمًا: أنتِ الآن «وردة» بنت الصياد «عبد السميع».

ردَّدت «لوزة»: «وردة عبد السميع» … هايل!

وأخرج «تختخ» سنارتَين إحداهما طويلة والأخرى قصيرة، سلَّمها ﻟ «لوزة»، ثم قال: هيا يا «وردة».

ونزلا من طريق سلم «الفيلا» الخلفي … واتخذا طريقهما إلى الكورنيش … وبعد فترة وصلا إلى حيث كان يجلس الشاويش «فرقع» فلم يجداه مكانه، ولكن القارب «مظلوم» كان ما زال واقفًا يتأرجح بخفة على سطح الماء.

فكَّر «تختخ» لحظات، ثم قال: سنركب هذا القارب.

تلفَّتت «لوزة» حولها، ثم قالت: «مظلوم»؟!

تختخ: نعم «مظلوم».

وشمَّر ساقَيه، وكذلك فعلت «لوزة»، ولكن «تختخ» قال ضاحكًا: لقد نسينا أهم شيءٍ في عدة الصيد … الطُّعم … تعالَي.

واختار «تختخ» مكانًا من الشاطئ تحت شجرة، ثم أخذ يحفر الطين في أماكن متفرِّقة حتى عثر على الديدان التي تُستخدم كطعم، ووضع ما جمعه منها في علبة صغيرة. وعادا يخوضان المياه حتى وصلا إلى القارب «مظلوم» وصعدا إليه.

وضع «تختخ» دودةً في طرف سنارته، ودودةً أخرى في طرف سنارة «لوزة»، ثم أدليا بسنارتَيهما في الماء، وقالت «لوزة»: أنا لا أعرف كيف أصطاد.

تختخ: إننا لم نحضر لنصطاد … لقد جئنا للمراقبة … ولكن لا بأس إذا واتانا الحظ من الحصول على بعض السمك … خذي بالك … إنكِ ترين في وسط الخيط كرةً صغيرةً من الخشب … هذه الكرة تظل طافيةً على الماء … فإذا ما أتت سمكة لأكل الطعم — أي الدودة — فستحسين في يدك برعشةٍ خفيفة، وستجدين الكرة الخشبية تغوص في الماء … اتركيها نصف دقيقة حتى تُتيحي للسمكة فرصة أكل الطعم، ثم اجذبي السنارة برفق وبسرعة إلى فوق، وستجدين السمكة معلَّقةً في طرف السنارة.

لوزة: إنها مسألة سهلة جدًّا.

تختخ: على العكس … إنها لا تأتي إلا بالمران حتى تتعوَّد يدك إمساك السنارة بطريقة صحيحة … وتكتسبين الحساسية الخاصة، وتُدركين ما إذا كانت السمكة قد تعلَّقت بالسنارة لجذبها في الوقت المناسب، ومعرفة نوع «الغمز» الذي تُحدثه السمكة.

لوزة: «الغمز»؟

تختخ: نعم … إنها حركة أكل السمكة للدودة … وهي تُشبه النقر الخفيف، أو كأنك تدقين بأصبعك على ظهر يدك … إن كل نوع من السمك له أسلوب خاص في الأكل لا يعرفه إلا الصيادون المحترفون.

لوزة: يا لك من عبقري يا «تختخ»!

تختخ: إنها القراءة والمران … وعلى كل حالٍ فعليكِ أن تعرفي أن السمك الصغير ينقر أو يغمز بسرعة وبخفة، أمَّا السمك الكبير فينقر بقوة وببطء.

ومضى الوقت والسنارتان في الماء … وفجأةً قالت «لوزة»: هناك «غمز»!

نظر «تختخ» بسرعة إلى الكرة الخشبية الطافية على وجه الماء … ووجدها تغوص ثم تظهر … فانتظر لحظات، ثم قال: ارفعي السنارة!

ورفعت «لوزة» سنارتها … وكم كانت فرحتها عندما وجدت سمكةً من نوع البُلطي الصغير معلَّقةً في طرف السنارة، تتلوَّى وتلمع في الشمس.

أخذت «لوزة» تصيح: سمكة! سمكة!

ونظر إليها «تختخ» محذِّرًا قال: لا تنسَي أنك صيادة … والصياد الحقيقي لا يُبدي كل هذا الانفعال من أجل سمكة.

وجذبت «لوزة» السنارة إليها، فقال «تختخ»: سأُخلِّص لكِ السمكة من السنارة فهذا يحتاج إلى خبرة، وإلا جرحتْك السنارة أو شوك السمكة.

كانا منهمكَين في تخليص السمكة عندما سمعا صوتًا خلفهما يقول: ماذا تفعلان هنا؟

كان صوت الشاویش «فرقع» فالتفت إليه «تختخ» ورمقه بطرف عينه، كان في ثياب التنكُّر.

فقال «تختخ» بصوت خشن: ما لك وما لنا أنت؟

ردَّ الشاويش «فرقع» سؤاله بصوت كالرعد: قلت لكما ماذا تفعلان هنا؟!

عاد «تختخ» يقول في هدوء: ومن أنت حتى تسأل هذا السؤال؟

كان الشاويش قد نسي أنه متنكِّر … وسرعان ما ذكَّره سؤال «تختخ» بهذه الحقيقة فعاد يقول: إنني أعرف صاحب هذا القارب، وسوف يغضب جدًّا إذا رآكما هنا.

قال «تختخ» وهو يجذب سمكةً أخرى: لا أظن أنه سيغضب … إننا لا نفعل شيئًا أكثر من الوقوف على القارب لصيد السمك … ولا أظن أن صاحبه سيخسر شيئًا.

الشاويش: إنني أيضًا صياد.

تختخ: ذلك واضح من ثيابك يا عم.

سُرَّ الشاويش كثيرًا لأن تنكُّره متقن إلى هذا الحد، وقال برفق: أرى أنكما تصطادان بشكل طيب.

ردَّ «تختخ» بأسلوب الصيادين: إنها أرزاق يا عم.

الشاويش: إنني أصطاد في هذا المكان كل يوم دون أن أحصل على سمكة واحدة.

تختخ: لا بد أنك تضع السنارة في المكان الضحل من النهر، حيث السمك الصغير جدًّا، وهو سمك عفريت يسرق الطعم ولا يعلق بالسنارة.

الشاويش: إنك صياد ماهر برغم صغر سنك.

لم يردَّ «تختخ» وانهمك هو و«لوزة» في الصيد … كان حظهما طيبًا فعلًا … حتى إن بعض المارة وقفوا يتفرَّجون عليهما من بعيد … وقال أحد الواقفين: هل تبيعان هذا السمك؟

ردَّ «تختخ»: ليس الآن يا عم … قرب المساء عندما نجمع كميةً كافية.

مال «تختخ» على «لوزة» قائلًا في همس: هذه الزفة ليست في صالحنا … ولا أدري ماذا يدور بذهن الشاويش.

لوزة: هل نُغادر المكان؟

تختخ: لا.

لوزة: هل تتوقَّع ظهور «الدهل» الآن؟

تختخ: لا … سيأتي بعد أن تنكسر حِدة الشمس، هذا إذا كان يحضر يوميًّا.

وصمت قليلًا، ثم قال: لا تخرجي سمكًا لبعض الوقت حتى ينصرف هؤلاء الناس.

وقضى «تختخ» و«لوزة» بعض الوقت دون أن يصطادا شيئًا، فتفرَّق الواقفون كما توقَّع «تختخ»، ولكن الشاويش ظلَّ في مكانه يرمقهما في ارتياب، ثم قال فجأة: ألم أرَكما من قبل؟! دقَّ قلب الصديقَين سريعًا، وأخذ «تختخ» يُفكِّر في ردٍّ معقول … وعاد الشاويش يقول وقد ازداد ارتيابه: ألم أرَكما من قبل؟

ردَّ «تختخ» بصوت خشن حاسم: … ماذا تُريد منا يا عم، لا بد أنكَ رأيتَنا ما دمتَ تصطاد هنا منذ فترة طويلة.

ثم أضاف: وإن كنا نحن لم نرَك من قبلُ تصطاد.

ارتبك الشاويش أمام هذا الرد وقال متلعثمًا: إني لا أصطاد في هذا المكان عادة، ولكني أحضرتُ قاربي منذ أيام قليلة في هذا المكان. وأشار الشاويش إلى القارب الآخر المربوط بجوار قارب «الدهل» فقال «تختخ»: هل هذا قاربك؟

الشاويش: نعم.

تختخ: لماذا لا تركب إذن وتدخل إلى منتصف النيل قرب الجزر؟ هناك سمك أكبر.

زاد ارتباك الشاويش وقال: إني في انتظار حضور صاحب القارب الآخر.

تختخ: لماذا؟

أحسَّ الشاويش أن رأسه سينفجر فصاح بضيق: هل تستجوبني أيها الولد؟

ردَّ «تختخ»: لا يا عم … ولكنك بدأت بالأسئلة لا نحن.

صمت الشاويش، ولكن قلبه كان يُحدِّثه أن هذا الولد … وهذه البنت ليسا غريبَين عنه … إنه رآهما من قبل … ولكن أين؟

كان الشاويش يُدلي سنارته في المياه الخفيفة الضحلة قرب الشاطئ، ولم يكن يصطاد سمكةً واحدة … على حين كان «تختخ» و«لوزة» مستمرَّين في الصيد بشكل مدهش … ولم يُحس الثلاثة بسيارة وقفت على الكورنيش، ورجل نزل منها ووقف يرقب الثلاثة باهتمام وعلى شفتَيه ابتسامة عريضة.

وأحسَّت «لوزة» بسمكة تجذب سنارتها بشدة، وصاحت ﺑ «تختخ»: يبدو لي يا … يا …

كادت أن تقول يا «تختخ» لولا أن تذكَّرت في آخر لحظة أنهما الآن ليسا «تختخ» ولا «لوزة»، ولكن «وردة» قالت أول اسم خطر على بالها: يا «طباظة» ساعدني! وألقى «تختخ» بسنارته جانبًا، وأمسك بسنارة «لوزة» وجذبها إلى فوق بكل قوته، وخرجت السنارة من المياه، وفي طرفها تعلَّقت سمكة من نوع «البياض» … وسمعا صوتًا يأتي من الخلف قائلًا في سعادة: عظيم … هائل جدًّا!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤