سمك وأصدقاء

لم يكن صوت الشاويش «فرقع» … كان صوت الرجل الأنيق الذي نزل من السيارة. والتفت «تختخ» و«لوزة» إليه، كان «الدهل».

كان متغيِّرًا إلى حدٍّ ما عن الصورة التي أعطاها المفتش «سامي» للمغامرين … كان أكثر سمنة … حليق اللحية والشارب، أشيب الشعر قليلًا … وعلى وجهه ابتسامة لا تُفارقه.

عاد «الدهل» يقول: إنكما صيادان بارعان.

ردَّ «تختخ»: لو كان عندنا قارب لاصطدنا أكثر … فالسمك الكبير لا يعيش قرب البر … ولكن في وسط النهر.

قال «الدهل» والابتسامة على شفتَيه: مسألة بسيطة … استخدما قاربي.

تختخ: وهل لك قارب يا عم؟

ضحك «الدهل» قائلًا: إنه القارب نفسه الذي تقفان عليه.

تختخ: «مظلوم»؟

الدهل: نعم «مظلوم»!

تختخ: شكرًا لك يا عم … إنني وأختي «وردة» نَعول أبانا المُقعد، وأُمُّنا تبيع الفجل، ولنا إخوة صغار.

الدهل: إذن استخدما قاربي في أي وقت … ولى شرط واحد.

تختخ: أمرك يا عم.

الدهل: أن أذهب معكما للصيد … وأن تعطياني بعض السمك الذي تصطادانه.

تختخ: موافق يا عم … إنك رجل كريم …

كان الشاويش يسمع هذا الحوار وهو يكاد يختنق غيظًا؛ فقد كان يُريد أن يعقد صداقةً مع «الدهل»، ولكن هذَين العفريتَين الصغيرَين سبقاه … وقرَّر أن يتدخَّل في الحديث فقال: وأنا على استعداد لمشاركتكم.

نظر إليه «الدهل» في تأمُّل، ثم قال: إني أترك هذه المسألة لصديقي الصغير؛ فهو حرٌّ أن يُشارك أو لا يُشارك.

قال «تختخ»: لا داعي لهذه الشركة … فصيد بالسنانير لا يستحق المشاركة، ولو كان الصيد بالشباك لوافقنا على الشركة.

ضحك «الدهل» وقال: إنك بارع يا بني … وعندما كنتُ صغيرًا مثلك لم يكن لي مثل هذا الذكاء.

واحمرَّ وجه الشاويش، وأخذ ينظر إلى الصديقَين نظرات يتطاير منها الشرر، ولكن «تختخ» تجاهله … وكان «الدهل» قد صعد إلى الكورنيش، وعاد ومعه سنارة فاخرة للصيد، ولدهشة «تختخ» و«لوزة» جلس «الدهل» على صخرة قريبة … ثم خلع حذاءه، وجوربه، وشمَّر سرواله، ثم غاص في المياه وهو يحمل الحذاء في يده، وركب الزورق قائلًا: هيا نُجرِّب حظنا في وسط النهر.

وفكَّ «تختخ» رباط القارب، وجلس «الدهل» في وسطه، وأخذ يُجذِّف مبتعدًا، وأفاق الشاويش من الذهول الذي سيطر عليه لتطوُّر الأحداث بهذه السرعة، وقفز هو الآخر إلى الماء … وأسرع بقاربه خلفهم … وعشرات الأفكار تقفز إلى رأسه.

قال «الدهل»، موجِّهًا حديثه إلى «تختخ»: إلى أين نتجه؟

كان «تختخ» يتوقَّع هذا السؤال فقال: إلى حيث تُريد … إنها مسألة حظ؛ فقد نختار مكانًا ثم لا نجد فيه سمكًا … وقد نذهب إلى مكان دون اختيار، ونصطاد كثيرًا.

قال «الدهل»: سنذهب إلى قرب هذه الجزيرة الصغيرة التي على اليمين.

وأخذ يُجدِّف في اتجاه جزيرة صغيرة في وسط النهر … قرب جزيرة «الذهب» الكبيرة التي تمتد من مصر القديمة إلى قرب «المعادي».

وكان الشاويش «فرقع» يُجدِّف جاهدًا أن يلحق بهم. لم يكن يُجيد التجديف، فكان المجدافان يضربان يده فيُؤلمانه … ولكنه استمرَّ يُجدف … فهذا هو «الدهل» والمطلوب معرفة كل حركة من حركاته حتى يُقدِّم بذلك تقريرًا إلى الضابط «مجدي». وتوقَّف القارب أخيرًا عند الجزيرة الصغيرة، وقفز «تختخ» إلى الجزيرة، وغرس قطعة خشب ربط بها القارب، ثم عاد … وبدأ الثلاثة يُلقون بسنانيرهم في المياه … وبعد لحظات لحق بهم الشاویش وقد سال عرقه … وربط هو الآخر قاربه قريبًا منهم … وألقى بسنارته في الماء …

قال «الدهل» مبتسمًا: لا أدري لماذا يُصر هذا الرجل على أن يتبعنا بهذا الشكل؟

تختخ: إنه لا يبدو صيادًا بالمعنى الصحيح؛ فقد كان يصطاد في المياه الضحلة التي لا يمكن أن يوجد فيها سمك!

بدت على وجه «الدهل» بعض علامات الضيق وقال: إذا لم يكن صيادًا فماذا يكون؟

تختخ: لا أدري يا عم.

صمت «الدهل» وأخذ ينظر إلى الشاويش في تأمُّل، ثم قال: إن وجهه ليس غريبًا عني، ولكني لا أذكر متى رأيته … ربما … ربما …

ثم صمت «الدهل» ومضى يُحرِّك سنارته ذات اليمين وذات الشمال فقال «تختخ»: إن حركة السنارة تدل على أنك صياد بارع.

الدهل: نعم؛ فقد بدأت حياتي مساعدًا لصياد في بلدنا الصغير قرب «بلطيم» …

تختخ: «بلطيم»؟ لقد ذهبت إلى هناك.

الدهل: بعد أن تُوفِّي والدي ووالدتي وأنا صغير … عِشت مع أحد أقاربي وهو صياد هناك، وذات يوم تغيَّر مجرى حياتي … حضر رجل إلى المصيف، فاشتغلت عنده … وعندما انتهى المصيف أخذني معه إلى «القاهرة» …

كان «تختخ» يستمع باهتمام … فقد يقول الرجل قصةً كاملة، ويصل إلى الحادث الهام ويعرف منه أسرار «الحقيبة الدبلوماسية» … ولكن آمال «تختخ» تبخَّرت؛ فعندما لاحظ الشاویش «فرقع» أن «الدهل» يتحدَّث فكَّ قاربه واقترب منهم ليستمع هو الآخر؛ فتوقَّف «الدهل» عن الحديث … وأخذ ينظر إليه في ارتياب …

أحسَّ «تختخ» بالسخط على الشاويش ولكنه لم يدفع «الدهل» إلى الاستمرار في حديثه … كان يُريد أن يكتسب ثقته كاملة … وألَّا يدعه يستريب فيه، وبخاصةٍ بعد هذه البداية الممتازة لعلاقتهما … ومضى الوقت دون أن تغمز سمكة واحدة، وقال «الدهل» مبتسمًا: يبدو أنني أفسدت حظَّكما.

ردَّ «تختخ»: لا بد أن ننتظر فترةً أطول. إن صيد السمك رياضة الصبر … كانت «لوزة» منهمكةً طول الوقت في الصيد، صامتة لا تتكلَّم، فمدَّ «الدهل» يده إلى رأسها وربت على شعرها قائلًا: اسمك «وردة»؟

وقلَّدت «لوزة» أسلوب «تختخ» في الحديث قائلة: نعم يا عم.

ابتسم «الدهل» قائلًا: إن شكلكِ جميل جدًّا يا «وردة»، وسوف أُعطيك بقشيشًا كبيرًا إذا اصطدتِ سمكةً أخرى من سمك «البياض» … فإنني أُحب هذا النوع من السمك جدًّا.

قالت «لوزة»: الله يرزقنا يا عم.

كانت «لوزة» تُؤدِّي دورها في مهارة أسعدت «تختخ» … ومضى الوقت وفجأةً قالت «لوزة»: لقد بدأ السمك يأتي، إن السنارة تغمز.

ثم رفعت سنارتها فجأة، ولمعت في نهايتها سمكة من نوع الصير الأبيض اللامع، وقفز «الدهل» مثل طفل سعيد وأخذ يمد يده محاولًا الإمساك بالسنارة حتى أمسكها، وأخذ يتأمَّل السمكة في إعجاب وهو يقول ﻟ «لوزة»: إنها ليست من «البياض»، ولكني سأُعطيك البقشيش.

واصطاد «الدهل» سمكةً أخرى … فرح بها جدًّا … وأخذ الثلاثة يتبارون في الصيد و«الدهل» سعيد للغاية، والشاويش «فرقع» يكاد ينفجر من الغيظ؛ فهو لم يصطَد سمكةً واحدة.

وأخذت الشمس تغرب، فقال «الدهل»: سأعود الآن … هل تبقيان؟

ردَّ «تختخ»: لا … لا بد أن نعود نحن أيضًا.

الدهل: إذن سيكون موعدنا غدًا في الساعة نفسها، في المكان نفسه إن شاء الله، وإذا شئتما الاتصال بي، فعنواني ٥ شارع «ابن زنكي» ﺑ «الزمالك».

وعادوا إلى الشاطئ، وجمع «تختخ» السمك الذي اصطادوه كله، ثم قدَّمه إلى «الدهل» قائلًا: هذا كل ما اصطدناه من السمك يا عم … سنُقسِّمه … أنت النصف مقابل استخدام القارب، ونحن النصف.

قال «الدهل» ضاحكًا: إنكَ ولد أمين … إنني سآخذ ثلاث سمكات فقط لعشائي، وسأدفع لكما كل واحد جنيهًا.

صاح «تختخ» مندهشًا: ياه! … إنه مبلغ ضخم …

الرجل: من أجل هذه الفتاة الصغيرة «وردة»؛ فإنني معجب بها جدًّا، وكنت أتمنَّى أن تكون لي بنت مثلها … وإذا شئتما زيارتي فعنواني ٥ شارع «ابن زنكي» ﺑ «الزمالك» …

وودَّعهما «الدهل»، ثم ركب سيارته الفاخرة وانطلق عائدًا، وكان الشاويش يرقبه بعينَي الصقر … وقال «تختخ» ﻟ «لوزة»: هيا نعود سريعًا إلى البيت.

لوزة: لماذا؟

تختخ: إن الشاويش في الأغلب يشك فينا، وسوف يأتي إلينا بعد أن يُغيِّر ثيابه. وأخذا طريقهما إلى البيت، ونظر «تختخ» بطرف عينه خلفه، وكما توقَّع كان الشاويش يتبعهما في ملابس الصياد … وتأكَّد أنه يشك فيهما، فقال ﻟ «لوزة»: سوف نتجه إلى «عزبة فهمي» في آخر «المعادي» … إن الشاويش يتبعنا ويجب أن نُضلِّله حتى لا يُفسد خطتنا … وعندما نصل إلى العزبة سيكون الظلام قد حل، ومن الممكن في هذه الحالة الاختفاء عن عينَي الشاويش.

وسار «تختخ» و«لوزة»، وبين فينة وأخرى كان «تختخ» يرمق الشاويش بطرف عينه فيجده في أثرهما … لقد كان الشاويش مُصرًّا على مراقبتهما حتى النهاية.

كانت «عزبة فهمي» في نهاية «المعادي» … وتُطل على الصحراء الواسعة … وعندها وصل «تختخ» و«لوزة» إلى هناك كان الظلام قد هبط تمامًا … فقال «تختخ»: سندور حول العزبة بسرعة، ثم نمضي في الرمال ونختفي خلف أول صخرة تُقابلنا. ونفَّذا الخطة، وشاهدا الشاويش وهو يمضي في أثرهما وينظر إلى الصخرة، فأخذا يدوران حولها حتى لا يراهما … وعندما تجاوز الشاويش الصخرة مسرعًا وهو يُحاول اللحاق بهما بعد أن غابا عن بصره … أسرع الصديقان في العودة إلى الطريق المعتاد، وقالت «لوزة»: إني في غاية التعب.

ردَّ «تختخ»: وأنا أيضًا … وعلى كل حال سنكتفي اليوم بما فعلنا ولنلتقِ غدًا.

لوزة: والسمك؟

تختخ: سأضعه في الثلاجة، ونتغدَّى به نحن والأصدقاء.

وعادا إلى منزل «تختخ»، ومرَّا من السلم إلى غرفة العمليات، وغيَّرت «لوزة» ثيابها، ثم أسرعت إلى منزلها.

دخل «تختخ» الحمَّام، فاغتسل جيدًا، ثم جلس يتعشَّى وهو سعيد بما حقَّقه من تقدُّم في التعرُّف إلى «الدهل»، وبعد أن انتهى من العشاء … اتصل تليفونيًّا ﺑ «محب» و«نوسة» ليُخطرهما بكل ما حدث … وطبعًا كانت «لوزة» قد روت ﻟ «عاطف» ما مرَّ بها هي و«تختخ» من أحداث.

ولم يكَد «تختخ» يضع سمَّاعة التليفون، حتى سمع جرس الباب يدق. كان قريبًا من الباب فأسرع يفتحه، وكما توقَّع بالضبط كان الشاويش «فرقع» يقف بثيابه الرسمية أمامه.

قال «تختخ»: تفضَّل يا حضرة الشاويش.

الشاويش: لقد جئت لأنني …

ثم توقَّف لحظات وعاد يقول: لأنني … هناك شكوى قدَّمها مواطن ضد كلبك «زنجر».

كان «تختخ» يُدرك أن الشاويش لا يقول الحقيقة … وقد جاء ليتأكَّد من وجود «تختخ» في المنزل … وهل هو الولد الصياد الذي تعرَّف إلى «الدهل»؟

ولمَّا كان «تختخ» سعيدًا بما حقَّقه ذلك اليوم من تقدُّم في التعرُّف إلى «الدهل»، فقد قرَّر أن يُعابث الشاويش قليلًا فقال: ربما كانت الشكوى صحيحةً يا شاويش … وأُحب أن أذهب معكَ لمقابلة هذا المواطن والاعتذار إليه …

زاد ارتباك الشاويش وقال: إن الرجل لن يقبل اعتذارك.

هزَّ «تختخ» رأسه آسفًا وقال: وماذا تُريد مني إذن أن أفعل يا حضرة الشاويش؟

قال الشاويش: أُريد أن أعرف أكنتَ ساعتها مع الكلب أم لا؟

تختخ: متى؟

الشاويش: اليوم قرب المغرب.

وفكَّر «تختخ» قليلًا، ثم قال: لقد كنتُ في السينما يا شاويش حفلة الساعة الثانية فيلم «العبيط والكلب»!

احمرَّ وجه الشاويش وصاح: وهل هناك فيلم بهذا الاسم؟!

ردَّ «تختخ» بهدوء: اقرأ الجرائد يا شاويش.

الشاويش: إنك تعبث بي … وتُضايقني.

رفع «تختخ» أصبعه في وجه الشاويش محذِّرًا: إنك تتهمني بالكذب يا شاويش وهذه مسألة خطيرة.

زعق الشاويش: أين بقية تذكرة السينما؟

تختخ: لقد ألقيتُ بها طبعًا … فلستُ من هواة جمع التذاكر.

أدرك الشاويش أنه وضع نفسه موضع السخرية.

وقبل أن يُغلق «تختخ» الباب خلف الشاويش قال له: سأحضر غدًا للاطلاع على الشكوى المقدَّمة ضد «زنجر» يا شاويش … فإذا لم تكن موجودة …

وأغلق الباب، ثم انفجر ضاحكًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤