تطوُّرات سريعة

مرَّت لحظات حرجة والشاويش يتقدَّم عبر الحديقة الواسعة … كان واضحًا أنه متجه إلى الكوخ فهو يعرف أين يلتقي الأصدقاء … وكان من المؤكَّد أنه لو شاهد «تختخ» و«لوزة» في ثيابهما التنكُّرية مع بقية المغامرين فسيعرف الحقيقة، وتُصبح كارثةً من جميع النواحي.

لم يكن هناك سوى حل واحد … وكان أول من فكَّر فيه هي «نوسة» التي صاحت: أطلقوا «زنجر» لتعطيله … وأسرع أنتَ يا «عاطف» خلف الأشجار وأحضر بعض الثياب ﻟ «لوزة» و«تختخ».

وقال «تختخ» ﻟ «زنجر»: هيا يا «زنجر» … لا تعَض الشاويش … العب معه فقط.

أسرع الكلب الذكي منطلقًا كالقذيفة … في اتجاه الشاويش الذي لم يكد يراه حتى وقف مكانه مرتبكًا … وفي الوقت نفسه تسلَّل «عاطف» عبر الأشجار إلى المنزل، ودخل «تختخ» إلى دورة المياه الملحقة بالكوخ، فاغتسل … ودخلت بعده «لوزة» وفعلت مثله.

اختلط صياح الشاويش بزمجرة الكلب … ولكن الأصدقاء ظلُّوا في أماكنهم كأنهم لا يسمعون استغاثة الشاويش. وعاد «عاطف» فلبست «لوزة» فستانًا نظيفًا … وكانت المشكلة هي «تختخ» الذي أخذ يُحاول جاهدًا الدخول في ثياب «عاطف» الضيقة … كان الأمر صعبًا لا يُطاق، فقال «محب»: اسمع یا «تختخ»، تمدَّد على هذه الكنبة، وسنُغطِّيك بمفرش المائدة، وتظاهر بأنك مريض؛ وهكذا لن يكتشف الشاويش الحقيقة.

وأسرع «تختخ» يُنفِّذ ما قاله «محب» وقال: والآن اذهبي يا «لوزة» واستعيدي «زنجر» … إن الشاويش عندما يراكِ سيفقد نصف شكوكه.

وأسرعت «لوزة» تخرج من الكوخ، وكان الكلب يدور حول الشاويش الذي كان يصيح في طلب النجدة، وقالت «لوزة»: ماذا حدث؟ … تعالَ هنا يا «زنجر»؟

وأسرعت تجذب الكلب في حين أخذ الشاويش الذي كان في قمة غضبه يصيح: إنني لن أسكت بعد الآن عن هذا الكلب … إنه يُعطِّلني عن أداء واجبي.

قالت «لوزة» بهدوء: هل جئتَ تقبض على أحدٍ هنا يا شاويش؟

هدأ الشاويش فجأة، كأنما انسكب عليه ماء بارد وقال: أقبض … لا … إنني جئت …

لوزة: إن ثيابك مبلولة يا شاويش … وقد تُصاب ببرد.

الشاويش: دعكِ من ثيابي … أين بقية الأولاد؟

لوزة: تقصد المغامرين؟

الشاويش: الأولاد أو المغامرون … أين هم؟

لوزة: لماذا يا شاويش؟ هل هناك شكاوى أخرى؟

الشاويش: إنكِ تُضيِّعين وقتي … أين هم؟

لوزة: إنهم في الكوخ، فإن «تختخ» مريض …!

الشاويش: مريض! … لا يمكن!

لوزة: لماذا يا شاويش؟

الشاويش: لأنني … لأنني … المهم أُريد أن أراه …

وتقدَّم الشاويش من الكوخ، و«لوزة» تتبعه ومعها «زنجر»، وكان الأصدقاء قد أحضروا منديلًا مبلولًا بالماء ووضعوه على رأس «تختخ»، على حين ذهب «عاطف» وأحضر له بعض الأسبرين وكوبًا من الليمون.

ما إن دخل الشاويش حتى أخذ «تختخ» يتأوَّه … ووقف الشاويش متردِّدًا لحظات، ثم قال: هل … هل أنت مريض فعلًا؟

ردَّت «نوسة»: ماذا تعني يا حضرة الشاويش؟

أحسَّ الشاويش بالحرج فقال: أقصد لماذا لم يذهب إلى الطبيب؟

قالت «نوسة»: لقد رآه الطبيب منذ ساعة، ونصح بأن يرتاح ويأخذ أسبرين؛ فهي نزلة برد عادية.

الشاويش: منذ ساعة.

نوسة: نعم … لماذا؟

قال الشاويش بغضب: لأنني … لأنني … ولكن!

عاطف: اسمع يا حضرة الشاويش … هل ممنوع أن يمرض الإنسان؟ … هل هذا ضد القانون مثلًا؟ ما هي الحكاية بالضبط؟

انفجر الشاويش صائحًا: إنني الذي أُريد أن أعرف ما الحكاية بالضبط؟ … لقد حبسني شخص في «جزيرة الذهب» منذ ساعة … وتركني هناك … ولولا مرور قارب صيد لبقيت هناك طول الليل!

عاطف: وما دخلنا نحن في هذا؟ يبدو يا شاويش أنك ستُلصق بنا كل جريمة تحدث في «المعادي» … ولن يبقى أمامنا إلا أن نشكو إلى رؤسائك هذا الاضطهاد.

سكت الشاويش وأخذ يُحرِّك عينَيه في الغرفة … كان يُريد أن يبحث عن أي شيءٍ يُؤكِّد شكوكه في «تختخ»، ولكن لم يكن في الغرفة شيء … ولو فكَّر الشاويش قليلًا ودخل دورة المياه الملحقة بالكوخ لعرف كل شيء … ولكن الكلب الأسود لم يترك له فرصة التفكير … فقد كان يزمجر طول الوقت … وكانت «لوزة» على استعداد لإطلاقه لو أن الشاويش فكَّر في الحركة. وهكذا لم يجِد الشاويش أمامه إلا أن يستدير وينصرف وهو يُتمتم أنه سينتقم يومًا منهم جميعًا …

لم يكد الشاویش يخرج حتى قفز «تختخ» قائلًا: إنني أُريد زيارة «الدهل» فورًا.

محب: «الدهل»؟! وأين هو الآن؟

تختخ: لا أدري … ولكن سأُجرِّب الذهاب إلى منزله في «الزمالك».

محب: في ملابسك العادية؟

تختخ: لا … بملابسي التنكُّرية، وسأرتديها الآن، ثم أمر بمنزلي لاستكمال التنكُّر.

محب: وكيف تذهب وحدك، لا بد أن نذهب معك، نحن لا ندري ماذا يحدث؟

فكَّر «تختخ» لحظات، ثم قال: لا داعي لذلك الآن، كل ما هنالك أنني أُريد الحديث معه، فإذا حدث شيء فسوف أتصل بكم تليفونيًّا.

وانصرف «تختخ» مسرعًا، ومرَّ بمنزله فاستكمل تنكُّره، ثم اتخذ طريقه إلى «الزمالك»، ووصلها وقد هبط الظلام على المدينة، ولمعت الأنوار في الحي الأنيق، وأخذ «تختخ» يسأل عن الشارع حتى وصل إلى العمارة … وتقدَّم ليدخل، ولكن البوَّاب لم يُعجبه شكله في ثيابه البالية فصاح به: إلى أين أنت ذاهب؟!

ردَّ «تختخ»: شقة الأستاذ «فتحي الدهشان».

البوَّاب: إنه ليس موجودًا الآن، لماذا تسأل عنه؟

تختخ: إنه صديقي … أقصد أنه يعرفني.

البوَّاب: وما هو اسمك؟

تختخ: «طباظة».

كان «تختخ» يُحدِّث البوَّاب وعيناه تتجوَّلان في مدخل العمارة، ولاحظ على الفور أن غرفة البوَّاب مضاءة، وثمَّة حركة بداخلها، وأدرك «تختخ» أن هناك من يُراقب السائلين عن «الدهل»؛ الشرطة، أو أي أشخاص آخرين.

وخرج «تختخ»، وبينما هو ينزل السلَّم أحسَّ بأقدام خلفه، وأدرك أنه متبوع وأنه معرَّض للمتاعب. تمالك أعصابه وسار بهدوء متجهًا إلى النيل … وتظاهر وهو سائر بأنه يلتقط شيئًا من الأرض ونظر خلفه، وكان ثمَّة شخصان يتبعانه … ورجَّح من شكلهما أنهما من رجال الشرطة، ولكن المفاجأة الأكبر كانت في انتظاره بعد خطوات قليلة؛ كانت سيارة الشرطة وبداخلها النقيب «مجدي».

مرَّ «تختخ» بالسيارة وانحرف عند أقرب ناصية وأعاد النظر ناحيتها، كان أحد الرجلَين يتحدَّث إلى النقيب «مجدي» والآخر يتبعه … وكان بينه وبين من يتبعه نحو عشرة أمتار. وانتهز الفرصة وأطلق ساقَيه للريح جاريًا بأقصى ما يستطيع … ووجد نفسه قريبًا من الكورنيش فتجاوزه، وقفز السور، ووجد نفسه قرب كوبري «الزمالك» … وسار مسرعًا حتى مرَّ تحته، ثم صعد مرةً أخرى إلى الكورنيش، ووجد نفسه أمام فيلا «أم كُلثوم» … فانحرف في اتجاه شارع «٢٦ يوليو» مرةً أخرى … كانت هنالك سيارة «میکروباس» واقفة في الإشارة، وبالصدفة كان باب الصعود الخلفي مفتوحًا فقفز فيها، ودفع قرشَين، ثم جلس. وكان قلبه يدق بسرعة، وأخذ ينظر من الزجاج، وشاهد أحد الرجلَين يمر بجوار «الميكروباس» فأحنى رأسه حتى لا يراه، وانطلقت السيارة. ودخلت شارع «٢٦ يوليو»، ثم انحرفت داخل «الزمالك» في خط سيرها المعتاد داخل منطقة الجزيرة. وكم كانت دهشته عندما وجد نفسه مرةً أخرى عند سيارة الشرطة، وشاهد النقيب «مجدي» يتحدَّث في جهاز اللاسلكي!

أحنى رأسه مرةً أخرى عندما وقفت السيارة بأول محطة داخل «الزمالك»، ثم عاد إلى جِلسته العادية عندما سارت السيارة … كانت عشرات الخواطر تدور برأسه، وكان يُحس أن الأحداث تتطوَّر بسرعة … الشخصان اللذان حضرا إلى «الدهل» في «المعادي»، ثم الرقابة التي تفرضها الشرطة على منزله … وسيارة اللاسلكي … والنقيب «مجدي»، ولو كان المفتش «سامي» موجودًا لاستطاع الاتصال به ومعرفة ما يحدث … ولكن الآن ليس له إلا الاعتماد على نفسه وعلى الحظ!

كان «الميكروباس» يمضي داخل منطقة الجزيرة، ثم وصل أمام فندق «البرج»، ومرَّ بكوبري التحرير … ووصل إلى ميدان التحرير. وكان «تختخ» قد قرَّر العودة إلى «المعادي»، ولكن فجأةً تذكَّر المعلومات التي سمعها من المفتش عن الأماكن التي يتردَّد عليها «الدهل»؛ باب الشعرية، السيدة زينب، الحسين، فلماذا لا يُجرِّب حظه ويذهب إلى هذه الأماكن … لعله يعثر على «الدهل».

كان قريبا من السيدة زينب، فنزل من «الميكروباس» وركب الترام. وبعد قليل كان في ميدان السيدة المزدحم، وأخذ يسير أمام المقاهي المنتشرة في الميدان، ينظر أمامها باحثًا عن سيارة «الدهل»، ويبحث داخلها عن «الدهل» نفسه، ولكن بعد أن قضى نحو ساعة في البحث لم يعثر لا على السيارة ولا على «الدهل».

ولم ييأس «تختخ»، فقرَّر أن يزور منطقة الحسين؛ فالساعة لم تكن قد تجاوزت التاسعة ليلًا … وركب الترام، ونزل في العتبة، ثم سار على قدمَيه في شارع الأزهر. وفجأةً كافأته الأقدار على إصراره؛ فبينما هو يسير وقد اقترب من منطقة وسط الأزهر المزدحمة وجد سيارة «الدهل» تقف بجوار الرصيف. ولم يكن «الدهل» فيها، ولكن من المؤكَّد — كما قال «تختخ» في نفسه — أنه في مكان قريب. كان هناك مقهًى صغير قريب أسرع إليه «تختخ» وقد توقَّع أن يجد «الدهل» فيه، ولكن لم يكن هناك. وجلس «تختخ» يُراقب السيارة من على المقهى بعد أن طلب كوبًا من الشاي. وأخذ يُفكِّر فيما يجب أن يفعله، وكان ما يُهمه أن يعلمه أولًا: هل «الدهل» مراقَب أم لا؟ واستنتج أن وجود رجال الشرطة قرب بيت «الدهل» معناه أنهم فقدوا أثره هذا اليوم. ولعلهم الآن يبحثون عن سيارته في شوارع «القاهرة». ولكن هل «الدهل» مراقَب من أشخاص آخرين غير رجال الشرطة؟ فمثلًا هذان الشخصان اللذان رآهما الأصدقاء يتحدَّثان إلى «الدهل» عند كورنيش «المعادي»، ومن هما؟ وهل هما وحدهما أو يتبعان جهةً مُعيَّنة؟

أسئلة كثيرة … والوحيد الذي يمكنه الإجابة هو «الدهل». كان بجوار المقهى محل لبيع الحلويات والسجائر وبه تليفون، وقرَّر «تختخ» أن يتصل بالأصدقاء لعل شيئًا قد حدث … وقام إلى التليفون، ورمقه صاحب المحل بنظرة ارتياب وهو يُشاهد ثيابه البالية، ولكن «تختخ» لم يهتمَّ وأدار وجهه حتى لا يسمعه أحد، وردَّ «عاطف» وقال بلهفة: أين أنت؟

تختخ: هل حدث شيء؟

عاطف: نعم … من دقائق حضر الشاويش ومعه النقيب «مجدي»، وسألا عليك، وفهمنا من النقيب «مجدي» أن الشاويش كتب له تقريرًا عن مصاحبتك أنت و«لوزة» في ثياب الصيادين طبعًا ﻟ «الدهل»، ثم اتصل به وأخبره بما حدث عندما طاردكما في النيل … ويبدو أن الشاويش أصبح شبه متأكِّد من أن الولد الصياد هو أنت.

تختخ: وماذا قلتم لهما؟

عاطف: عندما سألا عنك قلتُ إنكَ مريض طبعًا، وإنكَ ذهبت إلى «القاهرة» للطبيب … ومن الواضح أنهما لم يُصدِّقا ما قلنا. وقد حاولا استدراج «لوزة» للاعتراف بالحقيقة، ولكن «لوزة» طبعًا أنكرت كل شيء …

تختخ: عظيم. هل هناك شيء آخر؟

عاطف: نعم … فهمنا من بعض الحديث الذي دار بين الشاويش والنقيب «مجدي» أن أشخاصًا مجهولين قد دخلوا شقة «الدهل» في «الزمالك» أمس ليلًا وفتشوها، وقد تبعهم رجال الشرطة ولكنهم استطاعوا الفرار.

تختخ: إن الأمور تتطوَّر بسرعة، والأمل كله أن أُقابل «الدهل» وأن يثق بي ويقول لي الحقيقة.

عاطف: وأين أنت الآن؟

تختخ: في شارع الأزهر. لقد عثرتُ على سيارة «الدهل» ولكنه ليس موجودًا بها و…

وقطع «تختخ» حديثه فقد شاهد «الدهل» يتجه إلى السيارة، فقال بسرعة: ابقَ قريبًا من التليفون! ثم وضع السمَّاعة وأسرع يجري دون أن يدفع ثمن المكالمة. وخرج وراءه صاحب المحل صائحًا، ولكن «تختخ» جرى بكل قوته؛ فقد كانت السيارة تتحرَّك، وفتح باب السيارة وألقى بنفسه داخلها … ونظر إليه «الدهل» نظرةً كلها دهشة فقال «تختخ»: أسرع!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤