في مكان غريب

انطلقت السيارة تحمل «الدهل» و«تختخ»، وقال «الدهل»: «طباظة»، ما الذي جاء بك إلى هنا؟ وكيف عثرت عليَّ؟

تختخ: سأقول لكَ كلَّ شيءٍ بعد أن نجد مكانًا نختفي فيه.

الدهل: نختفي؟!

تختخ: نعم … إنك مراقب!

الدهل: وكيف عرفت؟

تختخ: قلتُ لكَ إنني سأُخبرك بكل شيء … ولكن المهم الآن أن نُفلت ممن يُراقبوننا.

الدهل: هل أنتَ متأكِّد؟

تختخ: نعم … وهم في الأغلب ليسوا من رجال الشرطة.

الدهل: وكيف عرفت؟

تختخ: لقد تحرَّكت سيارة خلفنا، وكان بها شخصان.

كانت السيارة تشق طريقها بصعوبة وسط الزحام متجهةً إلى «تلال زينهم»، وكان «تختخ» يرقب السيارة المرسيدس السوداء التي كانت تتبعهما جاهدةً ألَّا يُفلتا منها.

قال «تختخ»: أليس هناك مكان يمكن أن نذهب إليه، مكان لا يعرفه أحد؟ لم يردَّ «الدهل» لحظات، ثم قال: هل أستطيع أن أثق بك؟

تختخ: طبعًا … إنني أُحاول إنقاذك.

الدهل: هناك غرفة صغيرة في حي الحسين في منطقة «السكرية» أقضي فيها أغلب الوقت؛ فإنني أُحب الأماكن الشعبية جدًّا.

تختخ: هل قضيتَ بها ليلة أمس؟

الدهل: نعم.

تختخ: إذن فأنت لا تعلم أن شقتك في «الزمالك» تعرَّضت للتفتيش من بعض الرجال، وأن الشرطة طاردتهم ولم تستطِع الوصول إليهم.

الدهل: ليست هذه هي المرة الأولى التي يُفتِّشون فيها شقتي … إن معهم مفاتيح لها.

تختخ: مفاتيح!

الدهل: نعم … إنهم أصحاب الشقة الأصليون.

تختخ: شيء غريب!

الدهل: كل شيءٍ أصبح غريبًا في حياتي خلال السنوات الثلاث الأخيرة، حتى أنا لا أُصدِّق ما يحدث حولي.

تختخ: هل تتمكَّن من تضليل هؤلاء الذين يتبعوننا؟

الدهل: طبعًا … فإنني عِشتُ في هذه المنطقة أكثر سنوات عمري، وأحفظ كل شارع وكل حارة وكل زقاق ومنزل.

تختخ: وماذا تفعل؟

الدهل: سأدخل «تلال زينهم»، وسوف أتمكَّن هناك من تضليلهم.

ومضت السيارة حتى انتهى شارع الأزهر … وصعدا المرتفع المؤدِّي إلى «تلال زينهم»، ثم أطلق «الدهل» للسيارة العِنان … ماضيًا بسرعة فائقة داخل مجموعة من الحواري الضيقة والأزقة. وكانت المرسيدس السوداء تتبعهما بسرعة، ولكن بعد بضع لفَّات ضاع أثرها، وقال «تختخ»: عُد الآن سريعًا إلى «السكرية».

الدهل: سنلف عن طريق صلاح سالم … ثم نعود.

تختخ: سنترك السيارة في أول التلال هنا، ثم ننزل لنأخذ تاکسیًا.

وتمَّ ما أراده «تختخ»، وترك «الدهل» السيارة في مكان مظلم، ثم نزلا وركبا تاكسيًا إلى ميدان الحسين، ثم دخلا حارةً ضيقة، انتهت ببضع سلالم صعداها، ثم سارا فوق تل انتثرت عليه مجموعة من المنازل الصغيرة، ومرَّا بسلالم أخرى، ثم زقاق صغير، ثم مقهًى صغير جدًّا محاط بأشجار اللبلاب المتسلِّق، ثم انحرفا يسارًا. ووجد «تختخ» نفسه أمام مبنًى قديم صغير، دخلاه، وأخرج «الدهل» مفتاحًا من جيبه فتح باب أحد الأبواب ودخلا، وأغلق «الدهل» الباب خلفهما.

قال تختخ: إنها منطقة غريبة لم أرَها في حياتي!

الدهل: إن أكثر سُكَّانها من المهرِّبين واللصوص والهاربين من القانون، ويصعب على الشرطة الوصول إليهم في بعض الأحيان؛ فالحواري والأزقة التي مررنا بها مراقبة بأشخاص يُسمُّونهم «الناضورجية»، و«الناضورجي» عمله مراقبة وصول أي شخص غريب، وسرعان ما يصل خبره إلى كل المنطقة، فيختفي من يُريد الاختفاء عن أعين رجال الشرطة …

تختخ: ولماذا اخترتَ هذا المكان؟

الدهل: كان هذا هو الحلَّ الوحيد للهروب من مراقبة رجال الشرطة لي ومضايقاتهم؛ فإن لي ماضيًا معهم.

تختخ: إذن فأنتَ تعرف أنكَ مراقب؟

الدهل: طبعًا. لقد عرفتُ ذلك من بعض الملاحظات والأحاديث التي سمعتُها من بوابي العمارة.

كانت الغرفة مفروشةً بفرش بسيط وقديم، ولكنه نظيف، وجلس «الدهل» يبتسم … فقال «تختخ»: إنني أُريد أن أسألك أولًا: لماذا تبتسم أو تضحك باستمرار؟ ضحك «الدهل» وقال: وهل هذه مسألة تُهمُّك جدًّا؟

تختخ: نعم … فذلك شيء غريب بالنسبة لرجل يُطارده رجال الشرطة، وغير رجال الشرطة.

الدهل: إنكَ تعرف أشياء كثيرة!

تختخ: أكثر ممَّا تتصوَّر. والآن لماذا تبتسم؟

الدهل: أبتسم لأنني قلتُ الحقيقة فدخلت السجن، ثم يدفع لي بعض الناس ألوف الجنيهات كي أكذب.

تختخ: إن هذا لغز.

«الدهل» مبتسمًا: هذه هي الحقيقة، وتستطيع أن تُصدِّقها أو لا تُصدِّقها. إنني رجل بسيط عِشتُ حياتي كلها أُكافح من أجل القروش … ثم هبطتْ عليَّ الثروة دون عمل.

أدرك «تختخ» أن «الدهل» يقول الحقيقة … فقد كانت نبراته صادقة … وملامح وجهه وحركات يدَيه كلها تُؤكِّد أنه لا يكذب.

قال «تختخ»: إذن قد هبطت عليك الثروة؟

الدهل: نعم.

تختخ: من الحقيبة؟

الدهل: نعم من الحقيبة.

وخفق قلب «تختخ» خفقانًا شديدًا … لقد اعترف «الدهل»، وهو الآن قريب جدًّا من حلِّ اللغز ومن الحقيبة. وفجأةً قال «الدهل»: إنكَ تستدرجني في الحديث دون أن تقول لي من أنت؟ هل أنت من رجال الشرطة … أو من رجال السفارة؟

ذُهل «تختخ» عندما سمع كلمة السفارة وقال: سفارة! … أية سفارة؟

الدهل: إذن أنت تتبع الشرطة؟

صمت «تختخ» … إنه ليس من الشرطة، ولكنه يُساعدها. ولعل «الدهل» لو عرف الحقيقة سوف يصمت ولن يقول له المزيد، وعاد «الدهل» يقول: إذا كنتَ من الشرطة فإنني أستطيع ألَّا أدعك تخرج حيًّا من هذا المكان … وإن كنتُ غير ميَّال للعنف، ولكني مظلوم، ويكفيني ظلمًا حتى الآن.

ساد الصمت الغرفة، وقام «الدهل» إلى مائدة صغيرة موضوعة بجوار الحائط عليها بعض الأدوات، وأخذ يُعد الشاي. وكانت عينا «تختخ» تتجوَّلان في المكان بحثًا عن مكان الحقيبة. أين هي؟ هل هي في هذه الغرفة … أو يضعها عند أحد أصدقائه في هذا المكان المظلم العجيب الذي لا يستطيع اقتحامه حتى رجال الشرطة؟

ورأى بابًا صغيرًا في أحد أركان الغرفة. أدرك أنه باب دورة المياه. وقام واقفًا وقال: أستأذنك في دخول دورة المياه.

ردَّ «الدهل» وهو مشغول بإعداد الشاي: تفضل.

ودخل «تختخ» وأضاء النور، لم يكن هناك مكان يمكن أن تختفي فيه الحقيبة، ولم يكن هناك منفذ منها إلى الخارج.

عندما عاد «تختخ» إلى الغرفة كان «الدهل» قد انتهى من إعداد الشاي، ووضع كوب «تختخ» أمامه، وأخذ يرشف من كوبه في تلذُّذ واضح.

كان ذهن «تختخ» يعمل بسرعة … إن الحل الوحيد لهذا الموقف هو كسب ثقة «الدهل»، وأحسن طريقة لكسب هذه الثقة هي أن يقول له الحقيقة، حقيقة تنكُّره … وحقيقة «المغامرين الخمسة» ومدى صلتهم برجال الشرطة.

قال «تختخ» وهو يرشف كوب الشاي: إنك تُريد أن تعرف حقيقتي. سأقول لكَ كل شيء، وإنني أُصدِّقك وسأُصدِّقك في كل ما تقول، وأرجو أن تُصدِّقني في كل ما أقول.

ردَّ «الدهل» في هدوء: لقد أحببتكَ عندما رأيتكَ أنت وشقيقتك الصغيرة «وردة»، وأنا على استعدادٍ لمساعدتكما دائمًا فعندي أموال كثيرة.

قال «تختخ»: للأسف نحن قد خدعناك؛ فليست «وردة» أختي … ولستُ في حاجة إلى مساعدة.

نظر «الدهل» إلى «تختخ» مذهولًا، فمضى «تختخ» في حديثه … إن «وردة» اسمها الحقيقي «لوزة»، وأنا اسمي الأصلي «توفيق»، وهي صديقة لي ضمن مجموعة من الأصدقاء نُسمِّي أنفسنا «المغامرين الخمسة». ونحن نعمل من أجل تحقيق العدالة ورفع الظلم عن المظلومين، وقد اشتركنا في مغامرات كثيرة.

قال «الدهل» وهو لا يكاد يُصدِّق ما يسمع: وتقومون بهذا وحدكم؟!

تختخ: لا … ولكن بمساعدة مفتش المباحث الجنائية «سامي»، وهو رجل ذكي وممتاز وطيب، ولو كان موجودًا الآن لأخذتك إليه، ولكنت متأكِّدًا أنه سيستمع لكَ ويُصدِّقك.

وسكت «تختخ» لحظات، ثم مضى يقول: وعن طريق المفتش «سامي» عرفنا حكايتك لأول مرة، ولستُ أدري لماذا أحسست أن في هذه الحكاية أسرارًا لم تُعرف بعد.

ومضى «تختخ» يشرح ﻟ «الدهل» كل المعلومات التي عرفها عنه، وكيف تنكَّر هو و«لوزة» ليتعرَّف به. ومغامرته مع الشاویش «علي» حتى انتهت إلى مقابلته الأخيرة له في شارع الأزهر.

واختتم «تختخ» حديثه قائلًا: وأنت الآن حرٌّ في أن تُصدِّقني أو لا تُصدِّقني، فإذا صدَّقتني فسوف أمضي معك حتى كشف الحقيقة مهما كانت. وإذا لم تُصدِّقني فسوف أُغادرك الآن، وأعدك ألَّا أُخبر أحدًا بمكانك، ولا بما سمعتُه منكَ إلا عند عودة المفتش «سامي»؛ فإنني لا أُخفي عنه شيئًا.

انتهى «الدهل» من شرب كوب الشاي، ثم قام فغسله. وأخذ كوب شاي «تختخ» الذي انتهى منه وغسله أيضًا … كان واضحًا أنه يأخذ مهلةً للتفكير. ثم جلس وضمَّ ذراعَيه إلى صدره، ونظر إلى «تختخ» طويلًا، ثم قال: هل تعرف لماذا يُسمِّيني الناس «الدهل»؟

ردَّ «تختخ» في خجل: الحقيقة لا أعرف.

الدهل: لأني رجل بسيط جدًّا. أقول الحق، وأقول الحقيقة، وأبسط يدي إلى الناس.

تختخ: إن الناس لم يفهموك … ولكن لا تدَع هذا يُغيِّر من طبيعتك. إن الصفات التي تتحلَّى بها هي صفات الإنسان الطيب الكريم.

الدهل: إني أُصدِّقك، وسأقول لكَ قصتي كاملة، القصة التي رويتُها لكل الناس ولكن أحدًا لم يُصدِّقني.

تختخ: إني أُصدِّقك.

الدهل: أظنني قلتُ لكَ عن سبب حضوري إلى «القاهرة»، وكيف انتهي بي المطاف لأعمل مناديًا للسيارات عند السفارة؟

تختخ: نعم.

الدهل: أختصر حديثي إذن عن حكاية «الحقيبة الدبلوماسية». هذه الحقيبة التي دخلتُ بسببها السجن، وبسببها أيضًا أملك كل هذه النقود … وسكت «الدهل» لحظات، ثم مضى يقول: في إحدى الليالي منذ ثلاث سنوات تقريبًا أقامت السفارة حفلًا ساهرًا وكنتُ مشغولًا جدًّا بإرشاد السيارات إلى أماكنها، حتى ازدحم ما أمام السفارة بالسيارات، واضطُررت إلى إيقاف السيارات في الشوارع الجانبية. وحضر المستر «ماكس» يركب سيارته. وأنا أعرف مستر «ماكس» منذ فترة طويلة. وقد كان دائمًا كريمًا معي. وفي الشهور الأخيرة كان يُعطيني مفاتيح سيارته لأركنها له … فقد كان دائمًا مستعجلًا … وعلى سفر …

وانتبه «تختخ» تمامًا … ومضى «الدهل» يقول: حضر «ماکس» وترك سيارته أمام السفارة وأعطاني المفاتيح كالمعتاد، وطلب مني أن أضع السيارة في الشارع الجانبي … وأن أنتظر أمام السفارة ومعي المفاتيح لأدله على مكان السيارة. وركبتُ السيارة وذهبتُ بها بعيدًا، عند آخر الشارع الجانبي …

وهرش «الدهل» رأسه، ثم قال: إني أحكي لكَ تفاصيل لم أقلها لأحدٍ لسبب بسيط … فعندما ضربني اللص على رأسي بالمسدس، وبعد أن سقطَت السيارة في النيل وصارعتُ الأمواج حتى لا أموت غريقًا، كل ذلك أثَّر على ذاكرتي في تلك الفترة، حتى إنني ارتكبتُ كثيرًا من الأخطاء وأنا أروي معلوماتي للشرطة … نعم … كنتُ لا أعي تمامًا … أذكر أشياء وأنسى أشياء … ولعلَّ هذا كان سببًا في عدم اقتناع المحكمة ببراءتي …

وسكت «الدهل» ثواني قليلة، ثم عاد للحديث: عندما كنت أوقف السيارة، لاحظتُ أن النور انطفأ فجأةً في الشارع الجانبي … ثم أحسستُ بشخصَين يقتحمان السيارة …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤