كلمة واحدة

كان «تختخ» يستمع وهو يُرتِّب الحوادث بشكلٍ دقيق في ذهنه؛ فأمامه فرصة ذهبية قد لا تتكرَّر لحلِّ لغز الحقيبة … ومضى «الدهل» يقول: وأحسستُ بفُوَّهة المسدس تلتصق برقبتي، وبصوتٍ آمر يقول: انطلق فورًا! وكانت السيارة دائرة، فدست على البنزين وانطلقتُ بالسيارة، وطلب مني الشخص نفسه أن أتجه إلى طريق الإسكندرية الصحراوي، وعندما وصلتُ إلى هناك، نزل أحدهما وأبدل الأرقام الدبلوماسية للسيارة بأرقام أخرى، ثم طلب مني العودة إلى طريق الفيوم، ومرةً أخرى توقَّفنا، ثم نزل الرجل وأبدل أرقام السيارة للمرة الثانية.

تختخ: وهل تمَّ ذلك بسرعة؟

الدهل: بسرعة جدًّا. في ثوانٍ قليلة؛ فقد كان معهما أدوات كاملة للعملية، وإلا ما استطاعا فكَّ المسامير وتركيب الأرقام بهذه السرعة.

تختخ: ثم ماذا؟

الدهل: ثم طلبا مني الاتجاه إلى كورنيش «المعادي». وذهبنا إلى هناك، وغادرنا «المعادي» وأصبحنا في الطريق إلى حلوان، حيث طلبا مني الوقوف للمرة الثالثة، وتوقَّعتُ أنهما سيستبدلان أرقام السيارة للمرة الثالثة، ولكنهما في هذه المرة لم يفعلا ذلك.

وتحسَّس «الدهل» رأسه، ثم قال: ولكنهما لم يستبدلا الأرقام هذه المرة، بل أحسستُ فجأةً وأنا أجلس أمام عجلة القيادة بضربةٍ قاسية تنزل على رأسي. ولم أدرِ بعد ذلك إلا والماء البارد يغمرني، وأنني أنزل إلى قرار سحيق، وأخذتُ أُجاهد حتى وجدتُ نفسي أعوم في اتجاه الشاطئ، وأصوات كثيرة تصيح، وضجة، ثم قبض عليَّ رجال الشرطة.

تختخ: ولكن في التحقيق قلتَ إنكم ذهبتُم إلى طريق الإسكندرية الزراعي.

الدهل: كما قلتُ لكَ إن الضربة التي أصابتني، وحادث السيارة أثَّرا على ذاكرتي؛ فارتكبت بعض الأخطاء في حديثي، بل تضاربت أقوالي.

تختخ: والنقود التي وجدوها في جيبك، والشفرة السرية للحقيبة.

الدهل: أُقسم لك إنني لا أعرف كيف دخلت هذه النقود جيبي … ولا هذه الشفرة التي يقولون عنها.

تختخ: ألم يتحدَّثا مطلقًا وأنتَ تركب معهما؟

الدهل: کانا يتحدَّثان بالإنجليزية.

تختخ: كيف عرفت؟

الدهل: إني أشتغل في موقف السفارة منذ سنوات طويلة، وقد تعلَّمت بعض الكلمات.

وابتسم «الدهل» وهو يقول: أعرف money بمعنى نقود … أعرف Tip بمعنى بقشيش. أعرف Food بمعنى طعام. أعرف gold بمعنى ذهب. أعرف Car بمعنى سيارة. أعرف Come on بمعنى تعالَ … وكلمات أخرى.

تختخ: ألم تفهم من حديثهما بعض الكلام؟

الدهل: لا … ولكني سمعتُ كلمة gold تتكرَّر بضع مرات.

تختخ: ذهب.

الدهل: نعم … إن الحقيبة محشوة بالذهب، لا بالنقود. وهذا ما استنتجته من حديث الرجلَين.

سرح «تختخ» لحظات، ثم قال: وأنتَ تبيع من هذا الذهب الآن؟

الدهل: ذهب، أبيع، أبدًا. إني لم أرَ الحقيبة حتى الآن.

ذُهل «تختخ» وهو يسمع هذا الكلام وقال: ألم تقل لي منذ دقائق إن الثروة هبطت عليكَ من الحقيبة؟

الدهل: لقد فهمتني غلطًا؛ فلستُ أقصد أنها ممَّا كان في الحقيبة، ولكن بسبب الحقيبة؛ فعندما دخلتُ السجن وجدتُ أشخاصًا لا أعرفهم يُرسلون لي نقودًا وطعامًا كل أسبوع … وعندما خرجتُ من السجن وجدتهم قد استأجروا لي شقةً في «الزمالك»، وأعطوني سيارة … وملئوا جيبي بالنقود!

تختخ: لماذا؟

الدهل: لأنهم يتصوَّرون أنني أعرف مكان الحقيبة … لأنني الرجل الوحيد الباقي من الثلاثة الذين كانوا في السيارة.

تختخ: وهكذا ظنَّ رجال الشرطة أنكَ استخرجتَ الحقيبة من مخبئها … وبدأتَ تُنفق ممَّا فيها.

الدهل: فعلًا.

تختخ: ولماذا لم تقُل لرجال الشرطة هذه الحقيقة؟

الدهل: لأنهم لم يسألوني. إنهم يراقبونني فقط، وفي الوقت نفسه قد وعدت هؤلاء الأشخاص ألَّا أُخبر أحدًا بصلتهم بي.

وسكت «الدهل» لحظات، ثم قال: لقد عوقبتُ من أجل جريمة لم أرتكبها، ومن حقي الآن أن أُعوِّض الظلم الذي وقع عليَّ.

تختخ: ولكنكَ قلتَ إنكَ لا تعرف مكان الحقيبة. ألم تقل لهؤلاء الرجال هذه الحقيقة؟

الدهل: قلت لهم، ولكن لا أحد يُصدِّقني. وهم أحرار في أن يُنفقوا نقودهم بالطريقة التي تحلو لهم.

ساد الصمت الغرفة بعد هذا الحديث … وأحسَّ «تختخ» بالأسف … إن كل ما فعله لم يُؤدِّ إلى شيء؛ فلا هو عرف مكان الحقيبة، ولا هو يستطيع إثبات براءة «الدهل» فلن يُصدِّقه أحد.

ووقف «تختخ» قائلًا: لقد تأخَّر الوقت، وأشكرك كثيرًا على ثقتك بي … ولكن ما هي خطتك القادمة؟

ابتسم «الدهل» قائلًا: لست أدري … فأنا أتجوَّل بالسيارة في الأماكن التي مررتُ بها ليلة الحادثة لعلَّني أتذكَّر شيئًا نسيتُه يدلني على مكانها. و«ماكس» يدفع لي. ورجال السفارة الأخرى يدفعون لي، وكلٌّ منهم يرجو أن أدله على مكان الحقيبة …

قال «تختخ»: تقول «ماكس»؟

الدهل: نعم … «ماكس» صاحب الحقيبة … إنه مهتم بالحقيبة أكثر من أي شخص آخر …

قال «تختخ»: حقيبة ذهب … إن الحقائب الدبلوماسية لا تُستخدم لنقل الذهب. إنها عملية تهريب يقوم بها «ماكس» عن طريق «الحقيبة الدبلوماسية»، ولكنه كي يُخفي الحقيقة قال إنها نقود عملة أجنبية خاصة بالسفارة.

وأخذ «تختخ» يدور في الغرفة الصغيرة وأفكاره تدور معه … إن جريمة السرقة مدبَّرة بمهارة … إطفاء النور في الشارع الجانبي … إعداد الأرقام المزيفة … التمويه على من يُتابع السيارة بتغيير الأرقام، والذهاب إلى أكثر من مكان. ولكن من الذي يمكنه أن يعلم أهمية ما في السيارة، ويعلم أنها ستكون في الشارع الجانبي؟

ضرب «تختخ» رأسه بيده وقال ﻟ «الدهل»: هل طلب منك «ماکس» أن تضع السيارة في الشارع الجانبي، أو فعلتَ أنتَ ذلك من تلقاء نفسك؟

الدهل: هو الذي طلب مني هذا … بل طلب أن أوقف السيارة عند طرف الشارع.

قال «تختخ»: اسمع. إن «ماکس» هو الذي دبَّر هذه العملية كلها.

الدهل: كيف ذلك؟! لقد قلتَ الآن إنه يقوم بتهريب الذهب إلى الخارج، فكيف يسرق نفسه؟! … وكيف يعرض أمره للافتضاح لو نجح رجال الشرطة في العثور على الحقيبة؟

ابتسم «تختخ» لأول مرة وقال ﻟ «الدهل»: معك حق. لقد بدأتُ أنا أيضًا «أُلخبط»، مثلما «لخبطت» أنت، ولكنني أُحس بشيء ما. لا بد أن هناك كلماتٍ أخرى سمعتَها وأنتَ في السيارة، حاول أن تتذكَّر.

قال «الدهل» وهو يدلك جبهته: نعم هناك كلمات أخرى … ولكنني لا أذكرها بالضبط.

قال «تختخ»: حاول أن تتذكَّر …

الدهل: ربما سمعتُ كلمة Coat.

تختخ: تعني معطف … ولكن هذا لا يدل على شيء في الموضوع …

الدهل: ربما ليست Coat … ربما goat … أو Boat.
تختخ: نعم هذا يعني شيئًا أكثر … Boat بمعنى قارب!
تختخ: ألم تسمع كلمة Island.

الدهل: نعم … نعم … سمعتها … ماذا تعني هذه؟

أمسك «تختخ» بذراع «الدهل» وصاح: هل أنت متأكِّد من سماعها؟!

الدهل: نعم … كانوا يقولون هذه الكلمة مع كلمة gold.

قفز «تختخ» قائلًا: الآن كل شيء واضح … لقد عرفتُ كلَّ شيء … عرفتُ مكان الحقيبة …

الدهل: كيف؟

تختخ: أين كنتم بالضبط عندما توقَّفتم بالسيارة قبل أن يضربك الرجل على رأسك؟

قال «الدهل»: كنا على الكورنيش في محاذاة «جزيرة الذهب».

«تختخ» صائحًا: هكذا … «جزيرة الذهب» … إنهما لم يكونا يتحدَّثان عن حقيبة الذهب، بل عن جزيرة الذهب … إن الحقيبة هناك … هيا بنا فورًا …

الدهل: إلى أين؟

تختخ: إلى «جزيرة الذهب» …

الدهل: في هذا الظلام؟

تختخ: وهل تظن أننا نذهب في وضح النهار؟! … سنذهب الآن … وسأُحدِّث أصدقائي تليفونيًّا ليُعدوا لنا ما نحتاج إليه للبحث … هيا!

ونزلا مسرعَين، وقال «تختخ»: سنسير في الحواري حتى لا يرانا أحد …

الدهل: ألن نأخذ السيارة؟

تختخ: لا طبعًا … سنركب تاكسيا، هل معك نقود تكفي؟

الدهل: طبعًا … معي كثير من النقود.

وعند أول تليفون وقف «تختخ» وطلب «عاطف»، الذي ردَّ فورًا فقال «تختخ»: آسف لإزعاجك.

عاطف: لقد أخذتُ التليفون معي إلى غرفتي، و«محب» معي أيضًا.

تختخ: عظيم جدًّا … أُريدكما أن تذهبا فورًا إلى الكورنيش. خذا القارب وقِفا عند الكورنيش في محاذاة «جزيرة الذهب» … خُذا معكما فأسَين من حديقتكم، وبطاريات للإضاءة.

عاطف: متى تصل؟

تختخ: سأصل بعد نصف ساعة تقريبًا، فلا تتأخَّرا.

وقفز «تختخ» و«الدهل» في تاکسي وطلبا منه الاتجاه فورًا إلى «المعادي» … وطارت السيارة بهما … كانت الفكرة التي هبطت على «تختخ» كأنها هبطت من السماء، ولكن الشيء الذي كان يُقلقه هو مكان الحقيبة … ﻓ «جزيرة الذهب» كبيرة … وليس من السهل البحث فيها وبخاصةٍ في هذا الظلام … وبعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على دفنها … ولم يكن أمام «تختخ» إلا أن يعتمد على حظه … وعلى إلهامه …

ووصلا إلى الكورنيش … ثم إلى محاذاة «جزيرة الذهب» … ووجدا «محب» و«عاطف» في انتظارهما … فقفز الأربعة إلى القارب … وسرعان ما كان ينطلق بهم في الظلام إلى الجزيرة.

قال «تختخ»: أُريد أن نتجه في خطٍّ مستقيم … إنني أُريد من كل واحد منكم أن يتخيَّل نفسه ومعه حقيبة يُريد أن يُخفيها سريعًا … في أقرب مكان.

محب: لا بد أن تكون هناك علامة بارزة … حتى يمكن العودة إليها ومعرفة مكان الحقيبة … مثلًا … جذع شجرة قديم … صخرة.

تختخ: إنك رائع يا محب … هذا تصوُّر يدل على ذکائك.

وكأنما هبط الوحي على «الدهل» فأخذ يُتمتم: إنني أتذكَّر الآن كلمات إنجليزيةً أخرى، نعم أتذكَّر.

تختخ: Tree بمعنى شجرة؟

الدهل: نعم!

وزادت حرارة التجديف … واقتربوا من «جزيرة الذهب» … ثم ارتطم القارب بالشاطئ … وصعدوا إلى الجزيرة. كانت ليلةً مظلمة، فأضاء «محب» و«عاطف» بطاريتَيهما … وعلى الضوأَين الرفيعَين أخذا ينظران هنا وهناك … وفجأةً أشار «الدهل» إلى جذع شجرة على بُعد بضعة أمتار، وأسرعوا إليه … وبدأ «تختخ» و«محب» يحفران بالفأس … ومضت فترة، ولكن شيئًا لم يظهر.

قال «عاطف»: استمرَّا أنتما في الحفر … وسأبحث عن …

ولكنه لم يُتم جملته فقد صاح «محب»: انتظر!

وبهدوء أخذ يُزيل الطين برفق … ثم انحنى على الحفرة، ومدَّ يده، وأخرج حقيبةً صغيرةً بنية اللون …

صاح «تختخ»: كانت حساباتنا مضبوطة!

وقال «الدهل»: لعلهم يُصدِّقون الآن أنني لم أرَ هذه الحقيبة في حياتي … وفي تلك اللحظة ارتفع صوت في الظلام يقول: اترك هذه الحقيبة … إننا نُحيط بكم من كل جانب … ومسدساتنا جاهزة للإطلاق … ارفعوا الأيدي!

وارتفعت أيدي الأصدقاء. وأحسَّ «تختخ» بقلبه يعتصر … لقد تصوَّر أنه كسب المعركة … ولكنه خسرها في ثانية واحدة … لقد نسي أن الشاطئ لا بد أن يكون مراقبًا …

وتقدَّم شخص في الظلام وانتزع الحقيبة من يد «محب» … وتحرَّك ثلاثة أشباح في الظلام … ثم حدثت المفاجأة الثانية … فقد انطلق طَلْق ناري … وارتفع صوت يقول: لا يتحرَّك أحد! … إن قوات الشرطة تُحاصر المكان … ثم سُلِّطت أضواء بطاريات قوية على وجه الأشباح الثلاثة … وعلى الضوء شاهد الأصدقاء النقيب «مجدي» يتقدَّم ومعه شرطيان يحملان مدفعَين رشاشَين … وظهر الشاويش «فرقع» أيضًا …

قال «تختخ»: يا حضرة النقيب … أنا «توفيق»!

ردَّ النقيب «مجدي»: أعرف ذلك … وأنتهز الفرصة وأعتذر لكَ عن عدم ثقتي فيك … لقد حقَّقتَ ما لم يستطِع أحد تحقيقه … وسأمر عليكم صباحًا لأُخطركم بنتيجة التحقيق …

تختخ: ونحن في انتظارك …

في صباح اليوم التالي كان الأصدقاء الخمسة ومعهم «الدهل» يجلسون في حديقة منزل «عاطف» عندما ظهر النقيب «مجدي» ومعه الشاويش «فرقع» … وسلَّم عليهم «مجدي» بحرارة قائلًا: يُشرِّفني أن أنقل إليكم شكر الجهات المسئولة … وقد حصلنا على اعترافات من الثلاثة الذين قبضنا عليهم …

قال «تختخ»: هل تسمح لي ببعض الاستنتاجات قبل أن نعرف الافتراضات … أولًا: ليس بالحقيبة نقود ولا ذهب …

مجدي: هذا صحيح.

تختخ: إن بها أوراقًا … غاية في الأهمية بالنسبة للسفارة.

مجدي: وهذا صحيح أيضًا …

تختخ: وجريمة السرقة تمَّت بالاتفاق مع «ماكس».

ابتسم «مجدي» وقال: إنكَ أكثر من رائع.

تختخ: فقد اتفق «ماکس» على أن يبيع أسرار بلاده إلى جواسيس آخرين، واتفق معهم على أن تبدو الحكاية كأن الحقيبة سُرقت بواسطة «الدهل» … وكان في النية قتله بعد وضع النقود في جيبه والشفرة.

هزَّ «مجدي» رأسه في إعجاب قائلًا: صحيح تمامًا …

تختخ: ولكن الأقدار تدخَّلت لإنقاذ هذا الرجل الطيب … فغرقت السيارة ومات اللصان ونجا هو …

مجدي: تمامًا …

تختخ: وبدأ … «ماكس» والجواسيس يدفعون له ليدلهم على مكان الحقيبة.

وهنا تدخَّلت «لوزة» قائلة: ولكن لماذا يدفع «ماكس» والجواسيس؟ … ألم يكونوا يعرفون أين تُدفن الحقيبة؟

قال «مجدي»: لا … لقد اتفق اللصان على خيانة «ماكس» وأخذ الأسرار لهما فقط؛ ليبيعاها بعد ذلك لحسابهما … هل أدركتَ هذه الحقيقة يا «توفيق»؟

تختخ: طبعًا.

مجدي: إنكم أولاد ممتازون … ولكن لماذا لم تتصلوا بي عندما عرفتم هذه الحقائق؟ الحقيقة أنني لم أكن متأكِّدًا من صحة استنتاجاتي حتى آخر لحظة.

تختخ: ما يُهمنا الآن هو إظهار براءة «فتحي الدهشان» أو «الدهل».

مجدي: هذا ما سيتم حالًا … وشكرًا لكم …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤