المطاردة

مرَّت بقية أيام الأسبوع هادئةً لم تحدُث فيها سرقات. وفي يوم الخميس، وبعد الظهر من ذلك اليوم، اجتمعَت المدرسة كلها لتُشاهد مباراة كرة القدم. كان اللعب عنيفًا، واشترك نلسون وعليٌّ في اللعب كلٌّ منهما في فريق. كلاهما كان سريعًا وقويًّا في قذف الكرة. وكادت المباراة تتحوَّل إلى مبارَزة بين هذَين اللاعبَين الماهرَين؛ ففي أحد المواقف أخذ عليٌّ الكرة وجرى بها قريبًا من مرمى خصمه، حتى أوشك على إصابة هدف، لولا أن نلسون اندفع من الجانب الآخر اندفاع القذيفة، والتفَّ حتى صار أمام علي، وقذف الكرة بقوة، مما جعلها تنطلق مندفعةً خارج الملعب، ولتستقر بين الشُّجيرات الكثيفة بعيدًا عن أماكن المتفرجين، فعَلَا الهُتاف والتصفيق لهذه الحركة البارعة، وأسرع اثنان من اللاعبين إلى الحرجة لاستعادة الكرة. ويبدو أنهما لم يتمكَّنا من العثور عليها. قَلِق عليٌّ، فأرسل اثنَين آخرَين للبحث عنها. واندفع بعض الغلمان من المتفرِّجين ليشتركوا في البحث عن الكرة المفقودة.

كان الناظر واقفًا بجوار عليٍّ وشاهد ما حدث، فقال: «يؤسفني يا علي، أنْ ليس لدينا كرةٌ أخرى تصلُح للعب. وسنُضطَر جميعًا إلى الانتظار حتى يعثروا على الكرة التي قذفها نلسون وسط الأحراج.»

ما هي إلا دقائقُ معدوداتٌ حتى كانت المدرسة كلها وسط الشجيرات والأحراج في الجانب البعيد من الملعب، تبحث عن الكرة.

وبينما الجمع يتحرَّك هنا وهناك كالنحل داخل الخلية، إذا بصوت سيارة تتحرَّك في الجانب البعيد من بناء المدرسة، فقال الأستاذ جون: «ما هذا؟ يُدهشني أن أسمع صوتَ سيارة بجانب المدرسة في مثل هذا الوقت! تُرى، لمن هذه السيارة؟! وإن صوتها لَيعلو على هذا الضجيج!»

فأجاب الناظر وهو يُرهِف السمع: «لستُ أدري، انتظِر قليلًا حتى ألقيَ نظرة … ما هذا؟ إنها سيارة المدرسة. إني أعرفها من صوت محرِّكها. تُرى، إلى أي البقاع هي ذاهبة؟ وإن السائق في إجازة! فمن ذلك الذي يقودها؟ سأذهب وأرى حقيقة الأمر.»

جرى الناظر والأستاذ جون نحو مصدر الصوت، وقد سَمِعه بعض الصبيان وهم لا يزالون يبحثون عن الكرة. وبينما الأستاذان يجريان سَمِعا صوت المحرِّك يزيد سرعة، ثم بدأَت السيارة تبتعد، فأسرع الرجلان في جريهما، وكان الأستاذ جون في المقدمة، فوصل إلى الحظيرة في الوقت الذي اختفت فيه سيارة المدرسة عن الأنظار وسط الطريق.

فقال الناظر: «مهما يكن … تعال معي، سنُطارِدها في سيارتي.» واندفع الناظر ليُحضِر سيارته، وكانت واقفةً أمام باب مكتبه.

وبينما كان الأستاذ جون ينتظر مجيء سيارة الناظر، أقبل مارك ومحمد من ملعب الكرة، فقال مارك: «ماذا حدث، يا سيدي؟ رأيتك أنت والناظر تجريان الآن. هل أصيب أحدٌ من التلاميذ؟»

لم يكن هناك متَّسَع من الوقت ليشرح الأستاذ الموقف له؛ فقد حضر الناظر بالسيارة، ووقف أمامهم.

صاح الناظر يقول للأستاذ جون: «أسرِع بركوب السيارة.» ثم لمَح مارك ومحمدًا، فقال: «وأنتما كذلك!»

ركب الأستاذ جون بجانب الناظر، وقفَز محمد ومارك بسرعة في المقعد الخلفي، وانطلقَت السيارة كالسهم تنهَب الأرض خلف سيارة المدرسة، وأقفل مارك باب السيارة فرأى مبنى المدرسة والأشجار تمُر كالبَرق بينما السيارة تُسرِع فوق الطريق المفروش بالحَصْباء. ونظَر إلى عدَّاد السرعة، ففغَر فاه وشخَص بعينَيه، وقال: «ربَّاه! إنها تنطلق بسرعةٍ جنونية!»

وفي تلك الآونة كانت السيارة تدور حول مُنحنًى بالطريق، فارتمى مارك فوق محمد، وكانت الصدمة جِدَّ قوية، فصرخ محمد يقول: «انتبِه يا مارك، ودَعْك من عدَّاد السرعة. لقد ارتمَيتَ فوقي كالفيل فخُيِّل إليَّ أن جدارًا قد سقط فوقي.»

أما الأستاذ جون فصاح يقول: «ها هي!» وأشار إلى جسمٍ صغير تكاد تُخفيه سَحابةٌ من الغبار في آخر الطريق.

لم يكن ردُّ الناظر غير الضغط بشدة على ضاغط البنزين، فعَلَا صوت محرِّك السيارة وارتفعَت ضَجَّتُه. وأخذَت السيارة تتأرجح وسط الطريق، وتترنَّح بين هذا الجانب وذاك. وذهِل مارك وهو يتطلَّع إلى مؤشر العدَّاد، الذي كان يتحرَّك بسرعة، وكان يردِّد دون وعي: «ستون … خمسة وستون … سبعون … ما هذا، يا إلهي؟ إننا نكاد نطير! لا بد أن الأمر جِدُّ خطير!»

وصل مؤشِّر العدَّاد إلى السبعين، ثم ظل يتذبذب يمينًا ويسارًا، والسيارة تندفع كالسهم تُسابِق الريح، فقال الأستاذ جون وهو ينظر أمامه بإمعان: «سنَلحَق به؛ إذ إننا نسير بسرعةٍ تفوق سرعته.»

فأجاب الناظر: «نعم، سنَلحَق به؛ لأن سيارة المدرسة أبطأ من سيارتي بكثير.»

في تلك الآونة اختفت سيارة المدرسة في منعطفٍ آخر وقد دارت حوله في سرعةٍ جنونية كأنها ثعبانٌ يتلوَّى خلف فريسةٍ سريعة الجري. لقد أحَسَّ سائقها أن سيارةً أخرى تُطارِده، ورآها في المرآة التي على جانب السيارة، وربما عرف أنها سيارة الناظر، فعوَّل على أن يروغَ منها بأي ثمَن وإلا افتُضِح أمرُه.

وفي المقعد الخلفي لسيارة الناظر، كان محمد ومارك يميلان إلى الأمام في ذهول، وهما متشبثان برباطٍ مثبَّت في ظهر المقعد الأمامي والريح تندفع بعُنف فتلفع وجهَيهما لفعًا. وعندما دارت السيارة حول المُنحنَى مالت بشدة، وارتفعَت عجلتان عن الأرض، فأحَسُّوا وكأن السيارة ترتفع في الهواء … وعلى بُعدٍ قليل لمَحُوا سيارة المدرسة أمامهم، تُثير سَحابةً من الغُبار. وما هي إلا طرفة عين حتى أصبحوا خلفها مباشرة.

وفجأةً توقَّف صوت سيارة المدرسة، فاتجه الناظر بسيارته إلى اليمين ليتحاشى الاصطدام المحقَّق بعَربة المدرسة؛ إذ كان قريبًا جدًّا منها لا يفصلُه عنها إلا بضعةُ أمتار. وفي اللحظة التي فرُّوا فيها أمامها، لمَح الأستاذ جون سائقها يقفز وينطلق ليَختفيَ في الأحراج الكثيفة وسط الشجيرات المتشابكة الأغصان التي يتعذَّر السير بينها.

أوقَف الناظر سيارته بسرعة، ثم رجَع بها إلى الخلف حتى صار بمحاذاة عربة المدرسة، فصاح الأستاذ جون يقول: «لقد فَرَّ السائق! إنه في داخل الأحراج هناك!»

وصاح الأستاذ بون قائلًا: «ماذا تقول؟ فَرَّ السائق! وراءه، أيها الصبيَّان!»

ما كاد الناظر ينطق بهذه العبارة، حتى كان محمد ومارك خارج السيارة، وانطلقا يُطارِدان السائق داخل الأحراج على سفح التل، يتبعُهما عن كثَبٍ أستاذاهما. كانت المطاردة حامية، وكان التل شديد الانحدار، وظلت الشجيرات ذات الأشواك تمزِّق ملابسهم وتخز أجسامهم فتُدميها، ولكنهم لم يُحِسُّوا بشيءٍ من كل ذلك، وظلوا منطلقين، يشُق الطريقَ أمامهم مارك، على الرغم من قميصه الذي مزَّقَته الأشواك. وبينما هو يجري بأقصى سرعته إذ سمع شخصًا يسقط خلفه ويلعَن، فنظر وراءه فإذا الناظر قد وقع على الأرض. بيد أنه نهَض في الحال، وأخذ يتبعُه. وهكذا ظل الأربعة يتعثَّرون ويسقطون ثم يتابعون الجري حتى خرجوا من الأحراج إلى الحقل الفسيح عند سفح التل. وعندئذٍ لم يرَوا أحدًا يتحرك أمامهم في ذلك الخلاء الشاسع، فشَرَعوا يُرهِفون أسماعَهم على صوت تحرُّكه يصل إلى آذانهم، ولكن … لم تكن هناك أصوات. لقد اختفَى تمامًا كأنما انشقَّت الأرض وابتلعَتْه، فنظر الأستاذ بون إلى الأستاذ جون، وقال: «هكذا صار أمرنا! أخشى أن يكون قد أفلَت منا. لا فائدة من مطاردته الآن. هل استطعتَ أن ترى وجهه؟»

– «كلا، يا سيدي! ومع كلٍّ فقد رأيتُه قصير القامة، أسمَر البشرة.»

– «على أية حال هذه معلوماتٌ نافعة. هيا إلى السيارة.»

ركب الناظر سيارتَه، واتجه بها إلى المدرسة ليُحضِر زوجته، تاركًا المدرِّس والتلميذَين ليحرُسُوا عربة المدرسة، فلما عاد قادت زوجتُه سيارتَهما بينما قاد هو سيارة المدرسة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤