٢٤

يشترك هو والولد في عيد الميلاد؛ لأنهما وصلا على السفينة نفسها في اليوم نفسه وحدِّد تاريخ ميلادهما في تاريخ وصولهما المشترك، دخولهما المشترك إلى حياةٍ جديدة. وحُكم بأن الولد عمره خمس سنوات لأنه بدا أن عمره خمس سنوات، بالضبط كما حُكم بأنه في الخامسة والأربعين (كما تقول بطاقته) لأن هذا هو العمر الذي بدا عليه في ذلك اليوم (اغتاظ؛ كان يشعر بأنه أصغر. والآن يشعر بأنه أكبر. يشعر بأنه في الستين؛ ويشعر في بعض الأيام بأنه في السبعين).

وحيث إن الولد ليس له أصدقاء، ولا حتى صديق حصان، لا معنى لإعداد حفلة عيد ميلاد له. ومع ذلك، يتفق هو وإيناس على ضرورة الاحتفال بذلك اليوم بالشكل المناسب. وهكذا تُعِد إيناس كعكة وتبرِّدها وتَغرِس فيها ست شمعات، ويشتريان سرًّا هدايا له، تشتري له سويتر (الشتاء على الأبواب)، ويشتري له مِعْدادًا١ (إنه قَلِق من مُقاومة الولَد لعلم الأرقام).

تلقي رسالةً بظلالها على الاحتفال بعيد الميلاد، رسالة بالبريد، تذكِّره أن ديفيد في عيد ميلاده السادس ينبغي أن يسجِّل في مدرسةٍ عامة، وتقع مسئولية التسجيل على أبيه (أبوَيه) أو وَلِيِّ أمره (وَليَّي أمره).

حتى الآن كانت إيناس تشجِّع الولد على الاعتقاد بأنه أذكى من أن يحتاج إلى التعليم في مدرسة، وأن الدرس الضئيل الذي قد يحتاج إليه يمكن أن يتلقَّاه في البيت. لكن عناده مع دون كيخوته، زعمه بأنه قادر على القراءة والكتابة والعَد وهو لا يستطيع بوضوح، زرَع الشك حتى في عقلها. تعترف الآن بأنه ربما يكون من الأفضل له أن يخضع لتوجيه معلِّم مدرِّب. وهكذا يشتريان له هديةً ثالثةً مشتركة، حقيبةً جلديةً حمراءَ مختومًا على ركنٍ منها الحرف الأول من اسمه «د» بالذهب، تحتوي على قلمَي رصاص، وبرَّاية وممحاة. يُهدِيانها له مع المِعداد والسويتر، في يوم عيد ميلاده. يقولان له إن الحقيبة، هديَّته المدهِشة، تُرافِق الخبر السعيد المدهش بأنه عن قريب، ربما في الأسبوع القادم، سيذهب إلى مدرسة.

يستقبل الولد الخبر ببرود. يقول: «لا أريد أن أذهب مع فيدل. يُطمئِنانه: لا بد أن يكون فيدل؛ لأنه أكبر منه، في فصلٍ مختلف. يقول: «وأريد أن آخذ دون كيخوته معي.»

يحاول إثناء الولد عن أخذ الكتاب إلى المدرسة. يقول إنه ملك مكتبة البلوكات الشرقية؛ إذا ضاع لا يعرف كيفية استبداله. بالإضافة إلى ذلك، المدرسة ملتزمة بأن تكون لها مكتبتُها الخاصة بنُسختها الخاصة من الكِتاب. لكن الولد لا يقبل شيئًا من هذا.

يأتي يوم الإثنين مبكرًا إلى الشقة ليصطحب إيناس والولَد إلى المحطة حيث يستقل الباص الذي يأخذه في أول أيام المدرسة. يرتدي الولد السويتر الجديد، ويحمل الحقيبة الجلدية الحمراء التي عليها الحرف الأول من اسمه «د»، ويُمسِك بنسحة دون كيخوته البلوكات الشرقية تحت ذراعه. فيدل بالفعل في محطة الباص، مع نصف دستة من الأطفال الآخرين من البلوكات. بتباهٍ لا يحيِّيه ديفيد.

لأنهما يريدان أن يبدو الذهاب إلى المدرسة جزءًا من حياةٍ عادية، يتفقان على ألا يضغطا على الولد بحكاياتٍ عن الفصل؛ ويبقى من جانبه صامتًا بشكلٍ غيرِ معتاد. يجرؤ على السؤال في اليوم الخامس: «هل سارت الأمور بشكل جيد في المدرسة؟» — يرُد الولد: «أوه-هوه.» — «هل صار لك أصدقاء في المدرسة؟» لا ينوي الولَد الرد.

هكذا يستمر الحال لثلاثة أسابيع، أربعة أسابيع. ثم تصل رسالة بالبريد، عليها عنوانُ المدرسة في الركن العلوي الأيسر. عنوانها «اتصال استثنائي»، تدعو والد (والدَي) التلميذ المقصود للاتصال بسكرتيرة المدرسة في أقرب فرصة له/لها/لهما لتحديد موعد للتشاوُر مع معلِّمِ الفصلِ المعنيِّ لتناول مسائلَ معيَّنة أثيرَت تتعلق بابنه/ابنته/ها/هم.

تتصل إيناس بالمدرسة تليفونيًّا. تقول: «أنا فاضية طول اليوم. حدِّدي الوقت الذي أكون فيه عندك.» تقترح السكرتيرة الساعة الحادية عشرة من صباح اليوم التالي، في فترة راحة السنيور ليون. وتضيف: «سيكون من الأفضل إذا حضَر والد الولَد أيضًا.» ترُد إيناس: «ابني ليس له أب. سأطلب من عمِّه أن يأتي معي. عمُّه مهتَم به.»

يتبيِّن أن السنيور ليون، مدرس الصف الأول، شابٌّ طويل ونحيل بلحيةٍ سوداء وعينٍ واحدة فقط. العين الميِّتة، مصنوعة من الزجاج، لا تتحرك في محجرها؛ يتساءل سيمون ما إن كان الأطفال يجدون ذلك مزعجًا.

يقول السنيور ليون: «ليس لديَّ إلا وقتٌ قصير، وبالتالي سأتحدث مباشرة. أجد أن ديفيد ولدٌ ذكي، ذكيٌّ جدًّا. له عقلٌ بارع؛ يستوعب الأفكار الجديدة على الفور. لكنه يجد صعوبةً في التأقلم مع واقع الفصل. يتوقَّع أن يفعل ما يشاء طول الوقت. ربما لأنه أكبر قليلًا من متوسِّط الأعمار في الفصل. أو ربما اعتاد في البيت أن يتصرَّف كما يشاء بسهولةٍ شديدة. على أية حال، هذا ليس تطوُّرًا إيجابيًّا.

يتوقَّف السنيور ليون، يضع أصابعَ يدٍ أمام أصابعِ الأخرى، طرفٌ لطرف، وينتظر ردَّهما.

تقول إيناس: «ينبغي أن يكون الطفل حرًّا. ينبغي أن يستطيع الطفل الاستمتاع بطفولته. كانت لديَّ شكوكٌ بشأن إرسال ديفيد إلى المدرسة في هذه السن الصغيرة.»

يقول السنيور ليون: «في السادسة ليس صغيرًا على الذهاب إلى المدرسة. على العكس.»

– «على أية حال إنه طفل، ومعتاد على حريته.»

يقول السنيور ليون: «الطفل لا يتخلى عن حريته بالحضور إلى المدرسة. لا يتخلى عن حريته بالجلوس ساكنًا. لا يتخلى عن حريته بالاستماع إلى ما يقوله المدرِّس. الحرية لا تتعارض مع الانضباط والعمل الجاد.»

– «ألا يجلس ديفيد ساكنًا؟ ألا يستمع إلى ما تقوله؟»

– «إنه متوتِّر، ويجعل الأطفال الآخرين متوتِّرين أيضًا. يترك مقعده ويتجوَّل. ويترك الفصل بدون إذن. ولا، لا ينتبه لما أقوله.»

– «غريبة. في البيت لا يتجول. إذا كان يتجوَّل في المدرسة، فلابد أن هناك سببًا لذلك.»

تحدِّق عينُه الوحيدة في إيناس.

– «وبالنسبة للتوتُّر، كان على هذا النحو دائمًا. لا يحصل على كفايته من النوم.»

يقول السنيور ليون: «سوف يشفيه اتباع نظامٍ غذائيٍّ خفيف. لا توابل. لا منبِّهات. آتي الآن إلى التفاصيل. في القراءة، بشكلٍ محزن لا يُحرِز ديفيد أيَّ تقدُّم، لا يُحرِز إطلاقًا. الأطفال الآخرون غير الموهوبين بشكلٍ طبيعي يقرءون أفضل منه. أفضل بكثير. هناك شيءٌ بشأن عملية القراءة يبدو أنه عاجزٌ عن فهمه. والأمر نفسه بالنسبة للأرقام.»

يتدخَّل سيمون: «لكنه يُحب الكتب. لا بد أنك رأيتَ ذلك. يحمل دون كيخوته معه أينما يذهب.»

يرد السنيور ليون: «إنه يتشبَّث بالكتاب لأن فيه صورًا. والقراءة من كُتب فيها صور، عمومًا، ليست ممارسةً جيدة. الصور تشتِّت العقل بعيدًا عن الكلمات. ودون كيخوته، مهما قد يُقال عنه، ليس كتابًا للقُراء المبتدئين. يتحدث ديفيد الإسبانية بشكل ليس سيئًا، لكنه لا يستطيع القراءة. لا يستطيع حتى نُطق حروف الأبجدية. لم أواجه قط مثل هذه الحالة الشديدة. أود أن أقترح أن عليكما الاتصال بأخصائي، بمعالج. لديَّ شعور — وزملائي الذين شاورتُهُم يشاركونَني الشعور نفسه — بوجود خلل.»

– «خلَل؟»

– «خلَل معيَّن يرتبط بالأنشطة الرمزية. في التعامل مع الكلمات والأرقام. لا يستطيع أن يقرأ. لا يستطيع أن يكتب. لا يستطيع أن يعُد.»

– «في البيت يقرأ ويكتب. ويقضي ساعاتٍ في ذلك يوميًّا. إنه مستغرقٌ في القراءة والكتابة. ويستطيع العَد إلى ألف، مليون.»

يبتسم السنيور ليون للمرة الأولى. «يستطيع أن يسرد كل أنواع الأرقام، أجل، لكن ليس بالترتيب الصحيح. وبالنسبة للعلامات التي يصنعها بقلمه الرصاص، قد تسمِّينها كتابة، قد يسمِّيها كتابة، لكنها ليست كتابة كما يُفهَم عمومًا. لا يمكن أن أحكم إن كان لها معنًى خاص. ربما لها. ربما تدل على موهبةٍ فنية. وهو سببٌ ثانٍ وأكثر إيجابيةً لعرضه على أخصائي. ديفيد ولدٌ مثير. من المؤسف أن نَفقِده. قد يستطيع الأخصائي أن يُخبرنا بما إن كان هناك عاملٌ مشترك ينتُج عنه الخلَل من ناحية وعلى التدخل من الناحية الأخرى.»

يرن الجرس. يأخذ السنيور ليون دفترًا من جيبه، يكتب فيه بسرعة، ويقطع الصفحة. «هذا اسم أخصائيةٍ أقترحُها، ورقم تليفونها. تزور المدرسة مرةً في الأسبوع، وبالتالي يمكن أن ترَيْها هنا. اتصلي تليفونيًّا وحدِّدي موعدًا. وفي أثناء ذلك، يواصل ديفيد وأنا جهودنا. شكرًا لحضوركما لرؤيتي. أنا متأكد من أن النتيجة ستكون طيبة.»

يبحث عن إيلينا، ويُخبرها بالمقابلة. يسأل: «هل تعرفين السنيور ليون عمومًا؟ هل كان مُدرِّس فيدل؟ أجد صعوبة في تصديق شكاواه. بأن ديفيد عاصٍ، على سبيل المثال. قد يكون عنيدًا أحيانًا، لكنه ليس عاصيًا، ليس في خبرتي به.»

لا ترُد إيلينا، لكنها تنادي فيدل من الغرفة. «فيدل، حبيبي، حدِّثنا عن السنيور ليون. يبدو أنه هو وديفيد غير منسجمَين، وسيمون قَلِق.»

يقول فيدل: «السنيور ليون على ما يُرام. إنه صارم.»

– «هل هو صارم مع الأطفال الذي يتحدَّثون بدون إذن؟»

– «أعتقد ذلك.»

– «لماذا هو وديفيد غير منسجمَين في اعتقادك؟»

– «لا أعرف. ديفيد يقول أشياءَ مجنونة. ربما السنيور ليون لا يُحبها.»

– «أشياء مجنونة؟ أي أشياءَ مجنونة؟»

– «لا أعرف … إنه يقول أشياءَ مجنونة في الملعب. يعتقد الجميع أنه مجنون، حتى الأولاد الكبار.»

– «لكن أي نوع من الأشياء المجنونة؟»

– «يستطيع أن يجعل الناس يختفون. يستطيع أن يختفي. يقول إن هناك براكينَ في كل مكانٍ لا نستطيع رؤيتها، يراها وحده.»

– «براكين؟»

– «ليست براكينَ كبيرة، براكين صغيرة. لا يمكن لأحدٍ رؤيتها.»

– «ربما يرعب الأطفال الآخرين بقصصه؟»

– «لا أعرف. يقول إنه سيكون ساحرًا.»

– «كان يقول ذلك منذ زمن طويل. أخبَرني أنك وهو ستقيمان سيركًا ذات يوم. يقوم بحيلٍ سحرية وتكون أنت بهلوانًا.»

يتبادل فيدل وأمه النظرات.

تقول إيلينا: «فيدل سيكون موسيقارًا، لا ساحرًا، أو بهلوانًا. فيدل، هل أخبرتَ ديفيد أنك ستكون بهلوانًا؟»

يقول فيدل «لا»، وينقلب بشكلٍ غير مريح.

تتم المقابلة مع الأخصائية النفسية في مبنى المدرسة. تبدأ في غرفةٍ جيدةٍ الإضاءة معقَّمة إلى حدٍّ ما؛ حيث تعقد السنيورة أوتكسوا استشاراتها. تقول وهي تبتسم وتمُد يدها: «صباح الخير. أنتما والدا ديفيد. قابلتُ ابنكما. تحدَّثنا هو وأنا طويلًا، عدَّة مرات. يا له من فتًى مثيرٍ للاهتمام!»

يقاطع: «قبل أن نبدأ مهمتنا، اسمحي لي أن أوضِّح من أنا. رغم أنني أعرف ديفيد من وقتٍ طويل، وكنتُ ذات يوم وصيًّا عليه، لستُ والده. ومع ذلك …»

ترفع السنيورة أوتكسوا يدها. «أعرف. أخبرني ديفيد. يقول ديفيد إنه لم يقابل قطُّ أباه الحقيقي. ويقول أيضًا» — وهنا تلتفت إلى إيناس — «إنكِ لستِ أمَّه الحقيقية. لنُناقش هذه القناعات الخاصة به قبل أي شيءٍ آخر؛ لأنه رغم أن العوامل العضوية قد تكون مؤثِّرة، عُسر القراءة — على سبيل المثال — إحساسي أن السلوك غير المستقر لديفيد في الفصل — بالنسبة للطفل — ينتُج من وضعٍ أُسريٍّ غامض؛ من الشك في حقيقته، من أين يأتي.»

يتبادل هو وإيناس النظرات. يقول: «تستخدمين كلمة حقيقي. تقولين إننا لسنا أمه الحقيقية وأباه الحقيقي. ماذا تقصدين بالضبط بحقيقي؟ من المؤكَّد أنه يُوجَد شيءٌ يفوق البيولوجي.»

تزمُّ السنيورة أوتسكوا شفتَيها، وتهزُّ رأسها. «لتسمحا لي بألا نصبح نظريين جدًّا. لنركِّز على خبرة ديفيد وفهم ديفيد للحقيقي. أعتقد أن الحقيقي هو ما يفتقده ديفيد في حياته. وخبرة افتقاد الحقيقة تشمل خبرة افتقاد الأبوَين الحقيقيَّين. ليس لديفيد ملاذٌ في حياته. ومن هنا يأتي انعزالُه وتراجعُه إلى عالمٍ خيالي يشعُر أنه يسيطر عليه أكثر.»

تقول إيناس: «لكنَّ له ملاذًا. أنا ملاذه. أنا أحبُّه. أحبُّه أكثر من الدنيا. وهو يعرف ذلك.»

تومئ السنيورة أوتكسوا. «يعرف في الحقيقة. أخبَرني كم تُحبينه — كم تُحبانه. يُسعِده ودُّكما تُجاهه؛ ويشعُر بأعظم ودِّ بدوره، تجاهكما. ومع ذلك، ما زال هناك شيءٌ مفتقَد، شيء لا يمكن أن يقدِّمه الودُّ أو الحب؛ لأنه رغم أن البيئة العاطفية الإيجابية مهمةٌ إلى حدٍّ كبير، فإنها لا يمكن أن تكون كافية. إنها مختلفة، الافتقاد إلى وجودٍ أبويٍّ حقيقي، هو ما أدعو إلى مناقشته معكم اليوم. تسألان لماذا؟ لأنني أشعُر، كما أقول، أن صعوبات التعلُّم عند ديفيد نابعة من العالَم الذي تلاشى فيه أبواه، عالَم لا يعرف كيف وصل إليه.»

يعترض: «ديفيد وصل بسفينة، مثل غيره. من السفينة إلى المعسكر، ومن المعسكر إلى نوفيلا. لا أحد منا يعرف أكثر من ذلك عن أصولنا. تخلَّصنا جميعًا من الذاكرة، تقريبًا. وبالتالي ماذا يميِّز حالة ديفيد؟ وما علاقة هذا كله بالقراءة والكتابة، بمشاكل ديفيد في الفصل؟ ذكَرتِ عُسر القراءة. هل ديفيد يُعاني من عُسر القراءة؟»

– «ذكرتُ عسر القراءة بوصفه احتمالًا. لم أُجرِ اختباراتٍ عليه. لكنه إذا كان موجودًا حقًّا، فهو في ظني مجرَّد عاملٍ مساهم. لا، وبالنسبة لسؤالك الرئيسي، يمكن أن أقول إن ما يميِّز ديفيد هو شعوره بأنه مميَّز، وحتى شاذ. بالطبع إنه ليس شاذًّا. وبالنسبة لكونه مميزًا، لنترك السؤال جانبًا الآن. وبدلًا من ذلك، لنبذل، نحن — الثلاثة — جهدًا لرؤية العالم من خلال عينَيه، بدون أن نفرض عليه طريقة رؤيتنا للعالَم. يريد ديفيد أن يعرف مَن هو حقًّا، لكنه حين يسأل يتلقى إجاباتٍ مراوغةً من قبيل «ماذا تعني بالحقيقي؟» أو «ليس لنا، لأيٍّ منا، تاريخ، لقد تخلَّصنا منه.» هل يمكن أن تلُومَه إذا شعر بأنه محبَط ومتمرِّد، ثم تراجع إلى عالَمٍ خاص حيث يكون حرًّا في اختلاق إجاباته الخاصة؟»

– «هل تقولين لنا إن الصفحات غير المقروءة التي يكتبها للسنيور ليون قصصٌ عن المكان الذي يأتي منه؟»

– «نعم ولا. إنها قصصٌ لنفسه، وليست لنا. وهذا ما يجعلُه يكتبها بخطٍّ خاص.»

– «كيف تعرفين إذا كنتِ لا تستطيعين قراءتَها؟ هل فسَّرها لك؟»

– «سنيور، لتقوى علاقة ديفيد معي من المهم ليعتمد عليَّ في عدم الكشف عما يدور بيننا. حتى الطفل له الحق في أن تكون له أسرارُه الصغيرة. لكن من الأحاديث التي دارت بين ديفيد وبيني، أجل، أعتقد أنه يرى أنه يكتب قصصًا عن نفسه وعن أصله الحقيقي. ونتيجة الاهتمام بكما، بكلَيكما، يُخفيها، خشية أن تنزعجا.»

– «وما أصله الحقيقي؟ من أين، طبقًا له، يأتي حقًّا؟»

– «لا يحق لي أن أقول. لكن هناك مسألة تتعلق برسالةٍ معيَّنة. يتحدث عن رسالة تحتوي على اسمَي والديه. يقول إنك، يا سنيور، تعرف الرسالة. هل هذا صحيح؟»

– «رسالة ممن؟»

– «يقول إنه كانت معه رسالة حين وصل على السفينة.»

– «آه، تلك الرسالة! لا، أنتِ مخطئة، فُقدَت الرسالة قبل أن نصل إلى الشاطئ. فُقدَت في أثناء الرحلة. لم أرَها قَط. ولأنه فقد الرسالة تحمَّلتُ مسئوليةَ مساعدتِه في العثور على أمه. وإلا بقي في بلستار، في طيِّ النسيان.»

تكتب السنيورة أوتكسوا ملاحظةً قوية لنفسها في دفترها.

تقول وهي تضع القلم: «نأتي الآن إلى المشكلة العملية بشأن سلوك ديفيد في الفصل. عصيانه. فشله في إحراز تقدُّم. عواقب عدم التقدُّم، والعصيان، بالنسبة للسنيور ليون والأطفال الآخرين في الفصل.»

– «عصيان؟» ينتظر إيناس لتُضيف صوتها، لكنها لا تُضيف، تترك له الكلام. «في البيت، يا سنيورة، ديفيد مؤدب دائمًا ويتصرف بشكل جيد. أجد صعوبة في تصديق هذه التقارير من السنيور ليون. ماذا يعني بالضبط بالعصيان؟»

– «يعني التحدِّيَ المستمر لسلطاته بوصفه مُدَرِّسًا. يعني رفضَ قبولِ التوجيه. وهو ما يذهب بي إلى النقطة الرئيسية. أودُّ أن أقترح سحب ديفيد من الفصل المنتظم، حاليًّا على الأقل، وإلحاقه بدلًا من ذلك في برنامج للدراسة مُعَد لاحتياجاته الخاصة؛ حيث يمكن أن يتقدَّم بسرعته الخاصة، واضعين في الاعتبار وضعَه العائليَّ الصعب. حتى يكون مستعدًّا للانضمام مرةً أخرى إلى فصله. وأنا واثقة من أنه سوف يكون قادرًا على القيام بذلك؛ حيث إنه طفلٌ ذكيٌّ بعقلٍ حادٍّ.»

– «وهذا البرنامج للدراسة …؟»

– «البرنامج الذي في ذهني يتم في مركز التعليم الخاص في بونتو أريناس، ليس بعيدًا عن نوفيلا، على الساحل، في موقعٍ جذَّاب جدًّا.»

– «كم يبعُد؟»

– «خمسين كيلومترًا تقريبًا.»

– «خمسين كيلومترًا! إنه سفرٌ طويلٌ بالنسبة لطفلٍ صغيرٍ يقوم به يوميًّا، ذهابًا وعودة. هل يُوجَد باص؟»

– «لا. سوف يقيم ديفيد في مركز التعليم، ويقضي عطلة نهاية الأسبوع كل أسبوعَين في البيت، إذا اختار ذلك. في خبرتنا من الأفضل أن يكون الطفل مقيمًا. يسمح له هذا ببُعدٍ معيَّن عن الوضع المنزلي الذي قد يكون مساهمًا في المشكلة.»

يتبادل هو وإيناس النظرات. يقول: «وماذا إذا رفضنا؟ وماذا إذا فضَّلنا أن يبقى في فصل السنيور ليون؟»

تتدخل إيناس الآن ويرتفع صوتها: «ماذا إذا فضَّلنا أن نُخرجَه من هذه المدرسة التي لا يتعلم فيها شيئًا؟ حيث إنه صغير جدًّا على أن يكون فيها على أية حال. هذا هو السبب الحقيقي في أنه يجد صعوبة. إنه صغيرٌ جدًّا.»

– «لم يعُد السنيور ليون على استعداد لأن يكون ديفيد في فصله، وبعد إجراء استفساراتي يمكن أن أعرف السبب. وبالنسبه لعمره، ديفيد في العمر العادي للذهاب إلى مدرسة. سنيور، سنيورة، أنا أقدِّم نصيحتي ومصالحُ ديفيد في ذهني. إنه لا يُحرِز أي تقدُّم في المدرسة. إن تأثيره تخريبي. إخراجه من المدرسة والعودة به إلى بيئة البيت التي يجدُها غيرَ مستقرة لا يمكن أن يكون الحل؛ وبالتالي لا بد أن نأخذ خطوةً بديلةً أكثر جرأة. ولهذا أُوصي ببونتو أريناس.»

– «وإذا رفضنا؟»

– «سنيور، أتمنى ألا أعبِّر عنها بهذه المصطلَحات. ما أقوله هو الصحيح، بونتو أريناس الاختيار الأفصل أمامنا. إذا وددتِ سنيورة إيناس زيارة بونتو أريناس مُقدَّمًا، يمكن أن أرتِّب ذلك، وبالتالي يمكن أن ترَيا بنفسَيكما أنه معهد من الطراز الأول.»

– «لكن إذا زرنا هذا المعهد ورفَضنا، ماذا بعدُ؟»

– «ماذا بعدُ؟» تَفرِد السنيورة أوتكسوا يدَيها في إشارة إلى اليأس. «قلتَ لي في بداية هذه الاستشارة إنكَ لستَ والد الطفل. ولا يُوجَد شيءٌ في أوراقه عن أصله، أصله الحقيقي. أود أن أقول … أود أن أقول إن صلاحياتِكَ لإملاء أين ينبغي أن يتلقَّى تعليمه ضعيفةٌ جدًّا.»

– «وهكذا سوف تُبعدين طفلنا عنا.»

– «من فضلك لا تنظر إلى الأمر بهذه الطريقة. نحن لا نُبعِد الطفل عنكما. سوف ترَيَانه بانتظام كل أسبوعَين. ويبقى بيتُكُما بيته. وعمليًّا تبقَيان والدَيه، إلا إذا قرَّر أنه يودُّ الانفصالَ عنكما. وهو لا يُشير إلى ذلك بأية وسيلة. على العكس، إنه مُغرَمٌ بكما جدًّا، بكلَيكما — مغرَمٌ بكما ومرتبطٌ بكما.

أكرر، بونتو أريناس في رأيي الحل الأفضل للمشكلة التي نُواجِهُها، وحلٌّ سخيٌّ أيضًا. فكِّرا فيه. خذا وقتَكُما. زورا بونتو أريناس، إن أحببتُما. ثم، مع السنيور ليون، يمكن أن نُناقِش التفاصيل.»

– «وفي أثناء ذلك؟»

– «في أثناء ذلك أقترح أن يذهب ديفيد إلى البيت معكما. لن يفيده أن يكون في فصل السنيور ليون، وبالتأكيد لن يستفيد زملاؤه.»

١  إطار مستطيل به صفوف من الأسلاك أو الأخاديد، يُوضَع فيه خرز، ويستخدم للعَد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤