٥

في اليوم التالي، في أثناء راحة منتصف اليوم في العمل، يأخذ ألفارو جانبًا. يقول: «سامحني إذا طرحتُ مسألةً خاصة، لكنني قلقٌ بشدة بشأن صحة الصغير، وبالتحديد بشأن نظامه الغذائي، ويتكوَّن — كما يمكن أن ترى — من الخبز والخبز ومزيدٍ من الخبز.»

وفي الحقيقة يمكن أن يرَيا الولد، يجلس بين العمال في ظل السقيفة، يقضم بحزنٍ نصف رغيفه المبلَّل بالماء.

يواصل: «يبدو لي أن هذا الطفل الصغير يحتاج مزيدًا من التنوع، مزيدًا من التغذية. لا يمكن للمرء أن يعيش على الخبز وحده. ليس غذاءً متكاملًا. ألا تعرف من أين يمكن أن أشتري لحمًا، هل تعرف، بدون أن أقوم برحلةٍ إلى وسط المدينة؟»

يحكُّ ألفارو رأسه. لا يُوجَد حولنا، لا يُوجَد حول أحواض السفن. هناك أناسٌ يصطادون فئرانًا، سمعتُهم يتحدَّثون. ليس هناك نقصٌ في الفئران. لكنك تحتاج مصيدة، ولا أعرف تلقائيًّا أين يمكن أن تجد مصيدةً جيدةً للفئران. ربما يكون عليك أن تصنعَها بنفسك. يمكن أن تستخدم سلكًا، بآليَّة السقَّاطة.»

– «فئران؟»

– «أجل. ألم ترَها؟ حيثما تُوجَد سفن تُوجَد فئران.»

– «لكن مَن يأكل الفئران؟ هل تأكل فئرانًا؟»

– «لا، لا أفكِّر فيها. لكنك سألْتَ أين يمكن الحصول على لحم، وهذا كل ما يمكن أن أقترح.»

يحدِّق طويلًا في عينَي ألفارو. لا يمكن أن يرى أية علامة على المزاح. أو إن كانت مِزحة، فهي مِزحةٌ عميقةٌ جدًّا.

بعد العمل يتجه هو والولد إلى محل البرتقال المبهَم مباشرة. يصلان والمالك على وشك إغلاق المصاريع. البرتقال محل في الحقيقة، كما يتضح، ويبيع برتقالًا، كما يبيع فواكهَ أخرى وخضراوات. والمالك ينتظر بفارغ الصبر، يختار بقَدْر ما يمكن أن يحمل الاثنان؛ سلة صغيرة من البرتقال، نصف دستة من التفاح، وبعض الجزَر والخيار.

بعد أن يعودا إلى غرفتهما في المركز يقطِّع تفاحة شرائح للولد ويقشِّر برتقالة. والولد يأكلها يقطِّع جزرة وخيارة إلى دوائرَ رقيقةٍ ويضعها في طبق. يقول: «خذ!»

بارتياب ينخس الولد الخيار، يشمُّه. ويقول: «لا أحبه، له رائحة.»

– «هُراء. ليس للخيار رائحةٌ إطلاقًا. الجزء الأخضر مجرد قشرة. تذوَّقْه. إنه مفيدٌ لك. يجعلك تكبر.» يأكل هو نفسُه نصفَ الخيارة، وجزرةً كاملة وبرتقالة.

في صباح اليوم التالي يكرِّر الزيارة لمحل البرتقال ويشتري المزيد من الفاكهة — موزًا وكمَّثْرى ومشمشًا — ويعود بها إلى الغرفة. الآن لديهما مخزونٌ كبير.

يتأخر عن العمل، لكن ألفارو لا يعلِّق.

رغم الإضافات المحتفَى بها لنظامهما الغذائي، لم يبرحه الشعور بالإرهاق الجسدي. بدل أن يعزِّز قوَّته، يبدو أن العمل اليومي في الرفع والحمل يستنزفه. يبدأ الشعور بأنه يشبه الشبح تمامًا؛ يخشى أن يُغمَى عليه أمام الرِّفاق ويجلب لنفسه العار.

يسعى إلى ألفارو مرةً أخرى. ويقول: «أشعر بأنني لستُ في حالة جيدة. أشعر بأنني لستُ في حالةٍ جيدة منذ بعض الوقت. هل هناك طبيبٌ تُوصِي به؟»

– «هناك عيادة على رصيف سبعة تفتح بعد الظهر. اذهب إليها على الفور. وأخبرهم أنك تعمل هنا؛ ولن يكون عليك أن تدفع.»

يتبع اليافطات إلى رصيف سبعة؛ حيث تُوجَد هناك عيادةٌ صغيرة، تُسمَّى ببساطةٍ عيادة.١ الباب مفتوح، والمنضدة لا تحمل اسمًا. يضغط على الجرس، لكنه لا يعمل.

ينادي: «هالو! هل هنا أحد؟»

صمت.

يعبُر خلف المنضدة ويطرُق على الباب المغلق الذي يحمل لوحة جراحة.٢ ينادي: «هالو!»

يُفتَح الباب ويواجهه رجلٌ ضخم بوجهٍ متورد يرتدي معطفًا أبيضَ من معاطف المختبرات، على ياقته بقعةٌ واضحة تشبه الشيكولاتة. يتصبَّب الرجل عرقًا.

يقول: «مساء الخير. هل أنت الطبيب؟»

يقول الرجل: «ادخُل. اجلِس.» يشير إلى كرسي، يخلع نظَّارته، ويجفِّف العدستَين بعنايةٍ بمنديلٍ ورقي. «هل تعمل في أحواض السفن؟»

– «على رصيف اثنين.»

– «آه، رصيف اثنين. وماذا يمكن أن أفعل لك؟»

– «خلال آخر أسبوع أو اثنَين وأنا أشعر بأنني لستُ في حالةٍ جيدة. لا تُوجَد أعراضٌ محدَّدة باستثناء أنني أتعب بسهولة، وأشعر من حين إلى آخر بنوبات دُوار. أعتقد أنه ربما يكون بسبب نظامي الغذائي، نقص التغذية في نظامي الغذائي.»

– «متى تشعر بهذه النوبات من الدُّوار؟ في وقتٍ محدُّد من اليوم؟»

– «ليس في وقتٍ محدد. تأتي حين أكون مُجهَدًا. أعمل عامل شحن وتفريغ، كما أخبرتك. ليس عملًا اعتدتُ عليه. في خلال اليوم عليَّ عبور اللوح الخشبي مراتٍ عديدة. أحيانًا وأنا أنظر إلى الفراغ بين الرصيف وطرف السفينة، والأمواج تتلاطم على الرصيف، أشعر بالدُّوار. أشعُر بأنني سيُغمى عليَّ وأسقط وربما يرتطم رأسي وأغرق.»

– «لا يبدو ذلك لي سوء تغذية.»

– «ربما. لكن لو تغذَّيتَ بشكلٍ أفضل سأكون قادرًا بشكلٍ أفضل على مقاومة الدُّوار.»

– «هل انتابتك مثل هذه المخاوف من قبلُ، المخاوف من السقوط والغرق؟»

– «ليست مسألةً سيكولوجية، يا دكتور. أنا عامل. أقوم بعملٍ شاق. أحمل حمولاتٍ ثقيلةً ساعة بعد ساعة. قلبي يدقُّ بقوة. أنا باستمرار أبذل أقصى قوَّتي. من الطبيعي فقط، بالتأكيد، أن يصل جسمي أحيانًا إلى نقطة الفشل، إلى أن يخذلني.

– «من الطبيعي بالطبع. لكن إذا كان من الطبيعي لماذا أتيت إلى العيادة؟ ماذا تتوقع مني؟»

– «ألا تعتقد أنه ينبغي أن تسمع قلبي؟ ألا تعتقد أنه ينبغي أن تُجري اختبارًا للأنيميا؟ ألا تعتقد أنه ينبغي مناقشة أوجه النقص المحتملة في نظامي الغذائي. أخلع قميصي؟»

ينزع قميصه. يضغط الطبيب سماعة على صدره، يوجِّه نظرته إلى السقف، ويسمع. يفوح من نفسه رائحة ثوم. يقول في النهاية: «لا يُوجد خللٌ في قلبك. إنه قلبٌ جيد. سوف يبقى لسنواتٍ طويلة. يمكن أن تعود إلى العمل.»

ينهض. «كيف تقول ذلك؟ أنا مُنهَك. لستُ في حالتي الطبيعية. صحتي العامة تتدهور يوميًّا. لم أتوقع هذا حين وصلتُ. المرض، الإنهاك، التعاسة — لم أتوقع شيئًا من هذا. أشعر بنذير شؤم — ليس مجرد نذير شؤم عقلي لكنه نذير شؤم جسدي حقيقي — أنا على وشك الانهيار. جسدي ينذرني، بكل الطرق الممكنة، بأنه ينهار. كيف تقول إنني سليم؟»

صمت. بعناية يضع الطبيب سماعته في حقيبتها السوداء ويضعها في درج. يضع مرفقَيه على مكتبه، ويعقد يدَيه، ويُريح ذقنه على يدَيه، ويتحدث. يقول: «رائع يا سيدي، أنا متأكد من أنك لم تأتِ إلى هذه العيادة الصغيرة متوقعًا معجزة. إذا كنت تأمل في معجزة، يمكنك الذهاب إلى مستشفًى حقيقي بمختبرٍ حقيقي. وكل ما يمكن أن أقدِّمه النصيحة. نصيحتي بسيطة: لا تنظر إلى أسفل. تصيبك هذه النوبات من الدُّوار لأنك تنظر إلى أسفل. الدُّوار مسألةٌ سيكولوجية، وليست مسألةً طبية. النظر إلى أسفل هو ما يسبِّب النوبة.»

– «هل هذا كل ما يمكنك اقتراحه: لا تنظر إلى أسفل؟»

– «هذا كل شيء، إلا إذا كانت لديك أعراضٌ لها طبيعةٌ موضوعية يمكنك أن تخبرني بها.»

– «لا، ليس لديَّ مثل هذه الأعراض. ليس لديَّ مثل هذه الأعراض إطلاقًا.»

يسأله ألفارو حين يعود: «كيف سارت الحال؟ هل وجدتَ العيادة؟»

– «وجدْتُ العيادة وتحدثتُ إلى الطبيب. يقول ينبغي أن أنظر إلى أعلى. طالما أنظر إلى أعلى، سيكون كل شيء على ما يُرام معي. بينما إذا نظرتُ إلى أسفل، قد أسقط.»

يقول ألفارو: «تبدو نصيحةً جيدةً عامة. ليس فيها شيءٌ خيالي. الآن لماذا لا تأخذ اليوم إجازة وتستريح قليلًا؟»

رغم تناول الفاكهة الطازجة من محل البرتقال، رغم تأكيد الطبيب أن قلبه سليم وليس هناك سبب لا يجعله يعيش سنواتٍ طويلة، يواصل الشعور بالإنهاك. ولم ينقطع الدُّوار. ورغم أنه يتبع نصيحة الطبيب بعدم النظر إلى أسفل وهو يعبُر اللوح الخشبي، لم يتمكَّن من منع الصوت المهدِّد الذي تُصدِره الأمواج وهي تضرب الرصيف الزيتي.

يُطمئِنه ألفارو، وهو يضربه ضربةً خفيفةً على الظهر: «مجرد دُوار. يعاني منه الكثير من الناس. لحسن الحظ أنه في عقلك فقط. ليس حقيقيًّا. تجاهَلْه وسوف يزول بسرعة.»

ليس مقتنعًا. لا يصدِّق أن ما يغمُّه سوف يزول.

يقول ألفارو: «على أية حال، لن تغرق إذا انزلقتَ وسقطتَ صدفة. سينقذك شخصٌ ما. سأنقِذُك. ما فائدة الرفاق إذن؟»

– «ستقفز وتنقذني؟»

– «إذا كان ضروريًّا. أو أرمي لك حبلًا.»

– «أجل، إلقاء حبل يكون أكثر فعالية.»

يتجاهل ألفارو حدةَّ الملاحظة، أو ربما لم يفهَمها. يقول: «عملي أكثر.»

يسأل ألفارو في مناسبةٍ أخرى: «هل هذا ما نفرغه إلى الأبد — القمح؟»

يردُّ ألفارو: «القمح والشوفان.»

– «لكن هل هذا كل ما نستورده عَبْر أحواض السفن؛ الحبوب؟»

– «يعتمد الأمر على ما تعنيه بكلمة نحن. رصيف اثنَين لحمولات الحبوب. تُفرغ حمولاتٍ مختلطة إذا عملتَ على رصيف سبعة. تفرغ الصُّلب والأسمنت إذا عملتَ على رصيف تسعة. ألم تتجوَّل حول أحواض السفن؟ ألم تستكشف؟»

– «استكشفتُ. لكن الأرصفة الأخرى كانت خالية دائمًا. كما هي الآن.»

– «حسنًا، لهذا معنًى، أليس كذلك؟ لا تحتاج دراجةً كل يوم. لا تحتاج حذاءً كل يوم، أو ملابسَ جديدة. لكن لا بُد أن تأكل كل يوم. وبالتالي نحتاج إلى كمياتٍ كبيرةٍ من الحبوب.»

– «وبالتالي إذا انتقلتُ إلى رصيف سبعة أو رصيف تسعة فسوف أقضي الوقتَ بشكلٍ أسهل. أستطيع أن آخذَ أسابيعَ كاملةً إجازةً من العمل.»

– «صحيح. إذا عملتَ على سبعة أو تسعة فسوف تقضي الوقت بشكلٍ أسهل. لكن أيضًا لن تحصل على وظيفة بدوامٍ كامل. وهكذا — على العموم — أنت أفضل حالًا على رصيف اثنَين.»

– «أفهم. من أجل الأفضل، رغم ذلك، أن أكون هنا، على هذا الرصيف، في هذا الميناء، في هذه المدينة، في هذه الأرض. كله من أجل الأفضل في هذا العالم الذي هو أفضل العوالم المحتمَلة.»

يعبس ألفارو. يقول: «هذا ليس عالمًا محتمَلًا. إنه العالم الوحيد. سواء كان هذا يجعله الأفضل أم لا، ليس أمرًا تُقرِّره أو أقرِّره.»

يستطيع أن يفكر في عدة ردود، لكنه يمتنع عن إعلانها.

ربما في هذا العالم الذي هو العالم الوحيد، من الحكمة أن يضَع السخريةَ خلفه.

١  بالإسبانية في الأصل Clínica.
٢  بالإسبانية في الأصل Cirugía.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤