٩

يسأل الولدَ: «كيف تسير دروس الموسيقى؟ هل تستمتع بها؟»

– «مِم. هل تعلم؟ عندما يكبر فيدل سوف يشتري لنفسه كمانًا ضئيلًا، ضئيلًا» — يوضح كيف سيكون الكمان ضئيلًا؛ عرض كفَّين — «ويرتدي ملابس بهلوان ويعزف على الكمان في السيرك. هل يمكن أن نذهب إلى السيرك؟»

– «يمكن أن نذهب جميعًا إلى السيرك حين يأتي إلى البلدة في المرة القادمة. ويمكن أن ندعو ألفارو معنا، وربما يوجينيو أيضًا.»

يتجهَّم الولد: «لا أريد أن يأتي يوجينيو. يقول أشياءَ عني.»

– «قال شيئًا واحدًا فقط، إن فيك شيطانًا، ولم يكن هذا إلا أسلوبًا في الحديث. كان يعني أن بداخلك شرارةً تجعلك رائعًا في الشطرنج. عفريت.»

– «لا أحبه.»

– «أجل، لن ندعو يوجينيو. ماذا تتعلم في دروس الموسيقى إلى جانب السُّلم الموسيقي؟»

– «الغناء. هل تحب أن تسمعني أغني؟»

– «أحب. لم أكن أعرف أن إيلينا تعلِّم الغناء. إنها مدهشةٌ جدًّا.»

إنهما في الباص، متَّجهان من المدينة إلى الريف. ورغم وجود عددٍ آخر من الركاب، لا يخجل الولد من أن يُغنِّي. بصوته النقي النَّضر يغني:

من يركب هكذا متأخرًا البخار والرياح؟
إنه أب مع طفله؛
يحمل الولد في ذراعه، يُطعِمه سُكَّرًا، ويُقبِّله قبلاتٍ دافئة.١

– «هذا كل شيء. إنها إنجليزية. هل يمكن أن أتعلم الإنجليزية؟ لم أعُد أريد أن أتحدث الإسبانية. أكره الإسبانية.»

– «تتحدث الإسبانية بشكل جيد جدًّا. وتُغنِّي بشكلٍ جميلٍ أيضًا. ربما تكون مغنِّيًا حين تكبر.»

– «لا. سأكون ساحرًا في سيرك. ماذا تعني، مَنْ يركب هكذا؟»٢

– «لا أعرف. لا أتحدث الإنجليزية.»

– «هل يمكن أن أذهب إلى المدرسة؟»

– «عليك أن تنتظر لبعض الوقت، حتى عيد ميلادك القادم. وحينها يمكن أن تذهب إلى المدرسة مع فيدل.»

يهبطان في محطة مكتوب عليها نهاية الخط؛ حيث يستدير الباص عائدًا. الخريطة التي وجدها في محطة الباص توضِّح المسارات والممرَّات إلى الهضاب؛ وخطتُه أن يتبع طريقًا متعرجًا يؤدي إلى بحيرة، وعلى الخريطة بجانبها نجمة، تدل على أنها بقعةٌ جميلة.

إنهما آخر من ينزل من الركاب، والسائران الوحيدان على الممَر. الريف الذي يمُرَّان به خالٍ. رغم أن الأرض تبدو غنية وخصبة، ليست هناك علامة على سكنٍ إنساني.

يقول للولد: «أليس الجو هنا في الريف هادئًا!» رغم أن الخواء يُذهِله في الحقيقة بكآبته وليس بهدوئه. يمكن أن يوضِّح أن من الأفضل أن يكون هناك حيوانات، ماشية أو أغنام أو خنازير، تقوم بأعمالها الحيوانية. أو حتى أرانب تفعل ذلك.

من حين إلى آخر يشاهدان طيورًا تحلِّق، لكنها بعيدة جدًّا وعالية جدًّا في السماء بشكل يحول دون أن يتأكَّد من نوعها.

يصرِّح الولد: «أنا متعَب.»

يفحص الخريطة. يخمِّن أنهما في منتصف الطريق إلى البحرية. يقول: «سأحملك لبعض الوقت، حتى تستردَّ قوتك.» يؤرجح الولد على كتفَيه. «غنِّ بمجرد أن ترى البحيرة. سوف تكون من حيث تأتي المياه التي نشربها. غنِّ إذا رأيْتَها، غنِّ إذا رأيْتَ أي مياه. أو إذا رأيت أي شخصٍ ريفي.»

يُسرِعان. لكن إما أنه أخطأ في قراءة الخريطة أو أن الخريطة نفسها مخطئة؛ لأنه بعد الارتفاع بحدة ثم الانحدار بشدة، ينتهي المسار بدون تحذير عند حائطٍ قرميدي وبوابةٍ صدئة تعرش عليها لبلابة. وبالإضافة إلى ذلك على البوابة لوحة لونها متآكل بفعل الجو. يقرأ: «البنسيون».٣

يسأل الولدُ: «ما معنى البنسيون؟»

– «البنسيون منزل، منزل فخم. لكن هذا البنسيون نفسه قد لا يكون إلا طللًا.»

– «هل يمكن أن نلقي نظرة؟»

يحاولان مع البوابة لكنها لا تتزحزح. بالضبط وهما على وشك العودة، يأتي صوتٌ شاحب لضحكة تحملها نسمة. متتبعَين الصوت، شاقَّين طريقهما بين الأشجار الكثيفة، يصلان إلى نقطةٍ ينتهي عندها الحائط القرميد بسياجٍ عالٍ من شبكة من الأسلاك. على الجانب الآخر من السِّياج ملعب تنس، وفي الملعب ثلاثة لاعبين، رجلان وامرأة، يرتدون ملابس بيضاء، الرجلان تيشيرتَين وبنطلونَين طويلَين، والمرأة جيبة طويلة وبلوزة بياقةٍ مرفوعة، وقبَّعة بحافةٍ خضراء.

الرجلان طويلان، عريضا المنكبَين، نحيلا الخصرَين؛ يبدوان أخوَين، وربما توءمَين. المرأة منضمة مع أحدهما ليلعبا ضد الآخر. إنهم لاعبون متمرِّسون، يرى ذلك فورًا، بارعون يتحركون برشاقة. الرجل المفرد رائع جدًّا، يحفظ مركزه بسهولة.

يهمس الولد: «ماذا يفعلون؟»

يردُّ بصوتٍ منخفض: «إنها لعبة. تُسمَّى التنس. تحاول أن تضرب الكرة بعيدًا عن خصمك. مثل إحراز هدف في كرة القدم.»

تصطدم الكرة في السِّياج. تلتفتُّ المرأة لتستردَّها، تراهما. تقول وتبتسم للولد: «أهلًا.»

يتحرَّك بداخله شيء. مَن هذه المرأة؟ ابتسامتها، صوتها، مشيتها — فيها شيءٌ مألوف بصورةٍ غامضة.

يقول، وحلقه جافٌّ: «صباح الخير.»

ينادي رفيقُها: «هيا، أسرعي. نقطة المباراة!»

لا يتم تبادل أية كلمةٍ أخرى. في الحقيقة، حين يمسك رفيقُها بالكرة بعد دقيقة ينظر إليهما بسخط، وكأنه يوضِّح أنهما غير مرحَّب بهما، وحتى بأن يتفرَّجا.

يهمس الولد: «عطشان.»

يقدِّم له قارورة المياه التي أحضرها.

– «هل معنا أي شيءٍ آخر؟»

يرد هامسًا: «ماذا تريد — عصيرًا؟» ويندم فورًا على توتُّره. من حقيبته يأخذ برتقالًا ويقطع ثقبًا في القشرة. يمصُّ الولد بشراهة.

يسأل: «هل هذا أفضل؟»

يومئ الولد. «هل سنذهب إلى البنسيون؟»

– «لا بد أن هذا هو البنسيون. لا بد أن ملعب التنس جزء منه.»

– «هل يمكن أن ندخل؟»

– «يمكن أن نحاول.»

– تاركَين لاعبي التنس خلفهما، يغطسان بين الأشجار المتشابكة، يتتبعان الجدار، حتى يصلا إلى طريقٍ قذرٍ يؤدي إلى بوابتَين مرتفعتَين من الحديد. خلف القضبان، خلال الأشجار، يمكن أن يلمحا مبنًى فخمًا من الحجر الداكن.

رغم أن البوابتَين مُوصَدتان لكنهما ليستا مغلقتَين بقفل. يمُرَّان خلالهما ويسيران في دربٍ بعمق الكاحل من الأوراق المتساقطة. هناك لوحة عليها سهم يشير إلى مدخلٍ مقوَّس يؤدي إلى فناءٍ في مركزه تمثال من الرخام، صورةٌ مكبَّرة لامرأة أو ربما مَلَك في ملابسَ فضفاضة تحدِّق في الأفق، ممسكةً بشعلةٍ مشتعلة.

يقول صوت: «مساء الخير سيدي. هل يمكن أن أساعدك؟»

المتحدث رجلٌ عجوز، وجهه مجعَّد، وظهره مَحْني. يرتدي زيًّا أسودَ باهتًا؛ ظهر من مكتبٍ صغير أو غرفة في المدخل.

– «أجل. أتينا للتوِّ من المدينة. أتساءل إن كان يمكن أن أتكلم مع أحد السكان، سيدة تلعب التنس في الملعب في الخلف.»

– «وهل تودُّ السيدة المقصودة الحديث معك، يا سيدي؟»

– «أعتقد ذلك. هناك مسألةٌ مهمة أريد مناقشتَها معها. مسألةٌ عائلية. لكن يمكن أن ننتظر حتى تنتهي المباراة؟»

– «واسم السيدة؟»

– «لا أستطيع إخبارك به، لأنني لا أعرفه. لكن يمكن أن أصفَها. يمكن أن أقول إنها في الثلاثين تقريبًا، وزنها متوسِّط، وشعرها أسودُ تردُّه للخلف بعيدًا عن وجهها. إنها بصحبة شابَّين. وترتدي ملابس كلها بيضاء.»

– «في البنسيون عدد من السيدات بهذا المظهر العام، يا سيدي، عددٌ منهن يلعبن التنس. التنس تسليةٌ شعبية تمامًا.»

يهز الولد كمَّه. يهمس: «حدِّثه عن الكلب.»

– «الكلب؟»

يومئ الولد: «الكلب الذي معهم.»

يكرِّر: «يقول صديقي الصغير إن معهم كلبًا.» هو نفسه لا يتذكر أي كلب.

يقول البواب: «آه!» يتراجع إلى عرينه، ويسحب الباب الزجاجي خلفه. في الضوء الشاحب يشاهدانه يُقلِّب في الأوراق. ثم يُمسِك بتليفون ويطلب رقمًا ويُنصِت، يضع السماعة، ويعود: «آسف، سيدي، لا أحد يرُد.»

– «لأنها في الخارج في ملعب التنس. ألا يمكن فقط أن نذهب إلى الملاعب؟»

– «آسف، لكن ذلك غير مسموح به. مرافقُنا محظورة على الزوَّار.»

– «يُمكِن إذن أن ننتظر هنا حتي تُنهي اللعب؟»

– «يمكنكما.»

– «هل يمكن أن نتمشَّى في الحديقة ونحن ننتظر؟»

– «يمكنكما.»

يتجوَّلان في الحديقة الكثيفة الأشجار.

يسأل الولدُ: «مَن السيدة؟»

– «ألم تتعرَّف عليها؟»

يهزُّ الولد رأسه.

– «ألم تشعر بحركةٍ غريبةٍ في صدرك حين تحدَّثَت إلينا، حين قالت أهلًا — هزة في أعماق القلب، وكأنك رأيتَها من قبلُ، في مكانٍ آخر؟»

يهزُّ الولد رأسه بشك.

– «أسأل لأن السيدة قد تكون الشخصية التي نبحث عنها. هذا، على الأقل، ما أشعُر به.»

– «هل ستكون أمي؟»

– «لا أعرف بالتأكيد. علينا أن نسألها.»

يُكمِلان جولة في الحديقة. يعودان إلى غرفة البوَّاب، ينقر على الزجاج. يسأل: «هل تمانع في الاتصال بالسيدة مرةً أخرى؟»

يطلب البوَّاب رقمًا. يُوجَد ردٌّ هذه المرة. يسمعه يقول: «جنتلمان عند البوَّابة ليراك. أجل … أجل …» يستدير إليهما: «قلْتَ إنها مسألةٌ عائلية، أليس كذلك، يا سيدي؟»

– «أجل، مسألةٌ عائلية.»

– «والاسم؟»

– «لا أهمية للاسم.»

يُغلِق البوَّاب الباب ويستأنف مكالمته. يظهر في النهاية. يقول: «سوف تراك السيدة، يا سيدي. لكن هناك مشكلةٌ صغيرة. غير مسموح للأطفال بدخول البنسيون. أخشى أنه سيكون على ولدك الصغير الانتظار هنا.»

– «غريب. لماذا لا يُسمَح للأطفال؟»

– «غير مسموح للأطفال بالدخول إلى البنسيون، يا سيدي. تلك هي القاعدة. لا أضع القواعد، أطبِّقها فقط. سيكون عليه البقاء هنا وأنت تقوم بزيارتك العائلية.»

يسأل الولدَ: «هل ستبقى مع الجنتلمان؟ سوف أعود بأسرعِ ما أستطيع.»

يقول الولد: «لا أريد. أريد أن آتيَ معك.»

– «أفهم ذلك. لكنني متأكد من أن السيدة بمجرد أن تسمع أنك تنتظر هنا في الخارج ستخرج وتقابلك. هكذا هل ستضحي تضحيةً كبرى وتنتظر هنا مع الجنتلمان، فقط لبرهةٍ قصيرة؟»

– «هل ستعود؟ هل تعِد؟»

– «بالطبع.»

يصمت الولد، ولا ينظُر في عينه.

يسأل البوَّابَ: «ألا يمكن استثناء هذه الحالة؟ سيكون هادئًا جدًّا، لن يزعج أحدًا.»

– «آسف سيدي، لا استثاءات. أين نكون إذا بدأنا بالاستثناءات؟ بسرعة سيرغب كل شخص بأن يكون استثناء، وحينها لن تكون هناك قواعد، هل ستدخل؟»

يقول للولد: «يمكن أن تلعب في الحديقة.» ويقول للبوَّاب: «يُمكِن أن يلعب في الحديقة، أليس كذلك؟»

– «بالطبع.»

يقول للولد: «اذهب وتسلَّق شجرة. هناك الكثير من الأشجار التي يمكن تسلُّقها. سأعود بسرعة.»

متبعًا تعليمات البوَّاب، يعبُر الباحة، ويمر من مدخلٍ ثانٍ، ويطرق على بابٍ عليه واحد.٤ ليس هناك ردٌّ. يدخل.

إنه في غرفة انتظار. الحوائط مغطَّاة بورقٍ أبيض، بموتيفة من قيثارة وزنبق بالأخضر الباهت. من مصابيحَ مغطَّاة ينبعث لونٌ أبيض إلى أعلى بتحفظ. هناك أريكة من الجلد الصناعي الأبيض، وكرسيان وثيران. على طاولةٍ صغيرةٍ بجوار الباب نصف دستة من الزجاجات، وأكواب من كل شكل.

يجلس، ينتظر. تمُر الدقائق. ينهض ويحدِّق في الرواق. لا علامة على وجود حياة. بتكاسُل يفحص الزجاجات. شيري بالكريمة، شيري جاف. فيرموت. الكحول ٤٪ من الحجم. أوفيليدو. أين أوفيليدو؟

ثم تظهر فجأة، وما زالت في ملابس التنس، أكثر روعةً مما بدت في الملعب، ممتلئة تقريبًا. تحمل طبقًا، تضعه على الطاولة. تجلس على الأريكة بدون أن تحيِّيَه، وتضع ساقًا على ساق تحت جيبتها الطويلة. تقول: «أردْتَ أن تراني؟»

– «أجل.» يدق قلبه بسرعة. «شكرًا على حضورك. اسمي سيمون. لا تعرفينَني، لا أهمية لي. جئتُ نيابةً عن شخصٍ آخر، باقتراح.»

تقول: «ألن تجلس؟ تأكل شيئًا؟ تشرب كأسًا من الشيري؟»

بيدٍ مرتجفة يصب كأسًا من الشيري ويأخذ سندوتشًا من السندوتشات المثلَّثة الضئيلة الرقيقة. خيار. يجلس أمامها، تحت تأثير الخمر الحلوة. يذهب مباشرة إلى هدفه. يزول التوتُّر، وتأتي الكلمات باندفاع.

– «أحضرْتُ شخصًا إلى هنا. في الحقيقة الطفل الذي رأيْتِه في ملعب التنس. إنه في الخارج، ينتظر. لم يسمح البوَّاب بدخوله؛ لأنه طفل. هل يمكن أن تأتي وتقابليه؟»

– «هل أحضرْتَ طفلًا ليقابلني؟»

– «أجل.» ينهض ويصبُّ لنفسه كأسًا أخرى من الشيري المعتَّق. «آسف — لا بد أنه أمرٌ مرَّ بك، غريبان يصلان بدون سابق إنذار. لكنني لا يمكن أن أصف لك أهمية الأمر. كنا …»

بدون تنبيه يفتح الباب ويكون الولد نفسه أمامهما، يلهث.

يشير للولد: «تعالَ هنا. هل تتعرف على السيدة الآن؟» يلتفت إليها. يتجمد وجهُها ذعرًا. «هل يمكن أن يصافحكِ؟» وللولد: «تعالَ، صافِح السيدة.»

يقف الولد متجمِّدًا.

الآن يصل البوَّاب نفسه في المشهد، منزعجًا بوضوح. يقول: «آسف، سيدي، لكن هذا ضد القواعد، كما نبهتُك. لا بد أن أطلب منك أن تغادر.»

يلتفت إلى المرأة متوسلًا. من المؤكَّد أنها لا ينبغي أن تخضع للبوَّاب وقواعده. لكنها لم تتفوَّه بكلمة احتجاج.

يقول للبوَّاب: «ليكن عندك قلب. قطعنا طريقًا طويلًا. ماذا إذا ذهبنا جميعًا إلى الحديقة؟ هل يظل ذلك ضد القواعد؟»

– «لا، يا سيدي. لكن لاحظ أن البوَّابات تُغلَق في الخامسة بالضبط.»

يخاطب المرأة. «هل يمكن أن نخرج إلى الحديقة؟ من فضلك! أعطيني فرصة للتفسير.»

في صمت، يمسك الولد يده، ويعبُر الثلاثةُ الباحةَ إلى الحديقة المتشابكة.

يقول، محاولًا تنقية الجو، ومحاولًا أن يبدو راشدًا عاقلًا: «لا بد أنها كانت بنايةً فخمةً ذات يوم. ومن المؤسف أن الحديقة مهمَلة بهذا الشكل.»

– «لدينا بستانيٌّ واحد فقط بدوامٍ كامل. إنها كبيرة جدًّا بالنسبة له.»

– «وأنت نفسك؟ هل أنت مقيمة هنا منذ وقتٍ طويل؟»

– «منذ بعض الوقت. إذا تتبعنا هذا المسار، سوف نخرج إلى بركة بها سمكٌ ذهبي. قد يحب ابنك ذلك.»

– «في الحقيقة لستُ والده. أعتني به. أنا وصيٌّ من نوعٍ ما. مؤقتًا.»

– «أين والداه؟»

– «والداه … هذا سبب وجودنا هنا اليوم. الولد ليس له أبوان، ليس بالطريقة المعتادة. كان هناك حادثٌ على متن السفينة في الرحلة إلى هنا. وضاعت رسالة ربما كانت تفسِّر كل شيء. ونتيجةً لذلك أبواه تائهان، أو إنه، بشكلٍ أكثر دقة، تائه. انفَصَل عن أمه، ونُحاوِل العثور عليها. والدُه مسألةٌ أخرى.»

وصلوا إلى البِركة الموعودة، وفيها حقًّا أسماكٌ ذهبية، صغيرة وكبيرة. يركع الولَد على الحافة، مستخدمًا ورقة بردي في محاولة لإغرائها.

يقول، متحدثًا برقَّة وسرعة: «لأكن أكثر دقة. الولد ليس له أم. منذ نزلنا من السفينة ونحن نبحث عنها. هل تفكِّرين في أخذه؟»

– «أخذه؟»

– «أجل، أن تكوني أمًّا له. أن تكوني أمَّه. هل تأخذينه باعتباره ابنَك؟»

– «لا أفهم. في الحقيقة لا أفهم شيئًا على الإطلاق. هل تقترح أن أتبنَّى الولد؟»

– «ليس أن تتبنِّيه. أن تكوني أمه، أمه تمامًا. لكلٍّ منا أمٌّ واحدة فقط. هل يمكن أن تكوني تلك الأم والأم الوحيدة له؟»

حتى تلك النقطة كانت تُنصِت بانتباه. لكنها الآن تبدأ التحديق حولها ببعض العنف، وكأنها تأمل أن يأتي شخص ما — البواب، أو أحد رفيقَيها في التنس — لإنقاذها.

تقول: «ماذا عن أمه الحقيقية؟ أين هي؟ هل ما زالت على قيد الحياة؟»

كان يظن أن الطفل مستغرق جدًّا في الأسماك الذهبية بحيث لا يسمع. لكنه يصرخ الآن فجأة: «ليست ميتة!»

– «أين هي إذن؟»

يصمت الطفل. ويصمت هو أيضًا برهة. ثم يتحدث: «من فضلكِ صدِّقيني — من فضلك خذيها حقيقة — ليست مسألةً بسيطة. الولد بدون أم. لا أستطيع أن أوضِّح لك ما يعنيه هذا لأنني لا أستطيع أن أوضِّحه لنفسي. لكنني أعدُك، إذا قلتِ نعم ببساطة، بدون تروٍّ، بدون إعادة نظر، كل ما سوف يأتي واضحٌ لك، واضحٌ مثل النهار، أو هذا ما أعتقده. وبالتالي: هل تقبلين هذا الطفل ابنًا لك؟»

تحدِّق في رسغها، ليست فيه ساعة. تقول: «الوقت يتأخر. ينتظرني أخواي.» تستدير وتسرع عائدة باتجاه البنسيون، وجيبتُها تحف في العشب.

يجري خلفَها. يقول: «من فضلك! لحظةً واحدة. ها. دعيني أكتب اسمه. اسمه ديفيد. هذا هو الاسم الذي يحمله، الاسم الذي مُنِح له في المعسكر. وهذا هو المكان الذي نعيش فيه، خارج المدينة مباشرة، في القرية الشرقية. من فضلكِ فكِّري في الأمر.» يضغط قصاصةً من الورق في يدها. تنصرف.

يسأل الطفلُ: «ألا تريدني؟»

– «تريدك بالطبع. أنت ولدٌ وسيمٌ وذكي، مَن لا يريدك؟ لكن لا بد أولًا أن تعتاد على الفكرة. وضَعنا البَذرة في عقلها؛ والآن ينبغي أن نصبر ونسمح لها بالنمو. طالما كان كلٌّ منكما يُحب الآخر، من المؤكَّد أن تنمو وتزدهر. تُحب السيدة، أليس كذلك؟ يمكن أن نرى كم هي طيبة ولطيفة.»

يصمت الولد.

وحين يجدان طريقهما عائدَين إلى المحطة يكون الليل قد حلَّ تقريبًا. في الباص ينام الولد في ذراعَيه؛ عليه أن يحمله، نائمًا، من محطة الباص إلى الشقة.

في منتصف الليل يستيقظ من نومٍ عميق. إنه الولد، يقف بجوار سريره، والدموع تتدفَّق على وجهه. ينتحب: «جائع!»

ينهض، يُدفئ بعض الحليب، ويضع الزبد على شريحةٍ من الخبز.

يسأل الولدُ، وفمه ممتلئ: «هل سنعيش هناك؟»

– «في البنسيون؟ لا أعتقد ذلك. لن يكون هناك شيءٌ أفعله. سوف أصبح مثل نحلة تحلِّق حول الخلية في انتظار أوقات الطعام. لكننا يمكن أن نُناقِشَ الأمر في الصباح. هناك الكثير من الوقت.»

– «لا أريد أن أعيش هناك. أريد أن أعيش هنا، معك.»

– «لن يرغمك أحد على أن تعيش حيث لا تريد. والآن لنعُد إلى السرير.»

يجلس مع الطفل، يمسِّد جسمه برقَّة حتى نام. أريد أن أعيش معك. ماذا إذا تحقَّقَت هذه الرغبة بمرارة؟ هل عليه أن يكون أبًا وأمًّا للطفل، أن يربِّيَه بطرق الخير ويظل يعمل طولَ الوقت في أحواض السفن؟

يلعن نفسه داخليًّا. إذا كان فقط عرض حالتهما بشكل أكثر هدوءًا، بشكل أكثر عقلانية! لكن لا، لا بُد أن يتصرف مثل مجنون، منفجرًا في المرأة المسكينة بتوسُّلاته وطلباته. خذي هذا الطفل! أن تكوني أمه، أمه الوحيدة! كان من الأفضل أن يجد طريقةً لإعطائها الولد في ذراعَيها، جسدًا لجسد، لحمًا للحم. الذكريات إذن تُوجَد أعمق مما قد توقظ الفكرة كلها مرةً أخرى، ويكون كل شيءٍ على ما يُرام. لكن للأسف، جاءت مفاجئةً جدًّا لها، هذه اللحظة العظيمة، مثلما جاءته مفاجئة جدًّا. انفجرَت فيه مثل نجم، وأفشلها.

١  بالألمانية في الأصل.
٢  بالألمانية في الأصل.
٣  بالإسبانية في الأصل La Residencia.
٤  واحد: بالإسبانية في الأصل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤