في ليلةٍ شديدة البرد …

إذا كانت سِمنة «تختخ» من أسباب مَشاكله أحيانًا … فهي في أحيانٍ أخرى نعمة لا شكَّ فيها … هكذا كان يفكِّر في ليلةٍ باردة من ليالي شهر فبراير … وهو يجلس في غُرفته يقرأ … كان «البارومتر» المعلَّق في صالة المنزل يُشير إلى درجة حرارة ٧ … وكان والداه يرتجفان بَردًا … ويجلسان أمام المِدفأة وهو في ملابسه العاديَّة … وقد استأذنهما أن يصعد ليُكمِل قراءة كتاب عن الحضارة العربية استهواه فيه أنه مكتوب بأسلوبٍ مبسَّط … وحمل معه كوبًا من الحُلبة باللَّبن … وهو شرابٌ يفضِّله والده عن الشاي ليلًا … ولم يكَد يجلس ويفتح الكتاب حتى سمِع جرس التليفون في الدور الأرضي يدُق … وأخذ يستنتج كعادته شخصية المتحدِّث … ولكن آخِر شيء خطر بباله أن يكون واحدًا من المغامرين الخمسة … فقد كانوا معًا في الصباح … ولم تكُن هناك أيَّة مواعيد ليلًا … خطر بباله هذا عندما سمِع والده يُناديه: مكالمة لك يا «توفيق»!

وقفز من مكانه وأسرع ينزل … وكان والداه مُنهمِكَين في مشاهدة فيلم قديم في التليفزيون … فأمسك سماعة التليفون وأخذ يُنصِت … كانت المتحدِّثة هي «لوزة» … وقال «تختخ» في نفسه إن «لوزة» وحدها بين المغامرين الخمسة التي يمكن أن تفكِّر في الاتصال به في هذه الساعة … وفي هذا الجو … لتطلب منه النزول.

كان صوت «لوزة» لاهثًا وهي تقول: «تختخ» آسفة لطلبك في هذه الساعة … ولكن أحداثًا مُثيرة تحدُث!

تختخ: أحداثٌ مُثيرة … أين؟

لوزة: في شارع رقم ١٣٣ عند العمارة الزرقاء!

تختخ: إنه من الشوارع الجديدة!

لوزة: نعم … هناك صديقة لي تسكُن في نهايته … وقد حدَث بجِوار منزلهم شيءٌ مُثير … لصٌّ حاصَره السُّكان في منور العمارة الزرقاء … وقد أرسلوا لاستدعاء الشاويش «علي» الذي يُنتظر أن يصل بين لحظة وأخرى.

تختخ: إنها أحداثٌ عادية يا «لوزة» … فماذا تريدين؟

لوزة: ألا نذهب لنرى ما يحدُث هناك؟!

تختخ: سيقوم الشاويش بالقبض على اللص طبعًا … ولا شيء أكثر من هذا!

لوزة: هناك شيءٌ هام … إن اللص لا يتحدث اللغة العربيَّة!

فكَّر «تختخ» لحظات ثم قال: إنه شيءٌ غريب … لصٌّ أجنبي؟!

لوزة: نعم … فهو يُشير بيدَيه ويتحدث باللغة الإنجليزيَّة؟!

تختخ: هل عرفَت صديقتك ماذا كان يسرق؟

لوزة: لا!

تختخ: شيءٌ مُدهِش … ماذا يفعل لصٌّ أجنبي في المعادي؟

لوزة: ألمْ أقُل لك إنه شيءٌ يستحقُّ أن نذهب لنراه … إنه شيءٌ مُثير يا «تختخ»، ويجب ألا يفوتنا.

تختخ: لا تذهبي أنت … وسوف أُحاول الخروج على طريقتي الخاصة!

وضع «تختخ» سماعة التليفون ثم فكَّر قليلًا … هل يذهب؟ ماذا سيفعل هناك؟ … وبفرض أنه شاهَد عملية القبض على اللص، ما فائدة هذا للمغامرين الخمسة؟!

سينتهي كل شيء في لحظات … وإذا كان هناك معلوماتٌ مهمَّة فسوف يسمعون بها غدًا من الشاويش أو المفتش «سامي».

كاد «تختخ» يعود إلى جلسته الهادئة … ولكن دماء المغامرة التي تسري في عروقه دفَعته إلى أن يقفز إلى صوان ملابسه، فيرتدي بعض الملابس الثقيلة، ثم أخذ بطَّاريته الصغيرة، وفتح النافذة ونظر إلى الخارج … كانت الشوارع خالية من المارَّة … والريح تعصف، وتسلَّلت الرياح الباردة إلى غُرفته، فأحسَّ برعدةٍ تسري في بدنه، ولكنه برغم هذا لم يتردَّد. تجاوَز حافة النافذة … وتدلَّى لحظات حتى وصلت قدمه إلى أحد أفرُع الشجرة الضخمة التي تقف تحت نافذته، ونزل بحذر، وبعد عدة تنقُّلات يحفظها عن ظهرِ قلبٍ كانت قدماه قد وصلتا إلى الأرض … ثم اندفع خارجًا من باب الحديقة … وسُرعان ما كان يُسرِع الخَطو إلى العنوان الذي ذكَرَته «لوزة».

كانت المسافة بعيدةً بينه وبين المكان … ولكنه قدَّر أن وصول الشاويش والقبض على اللص سوف يستغرقان بعض الوقت … وأنه سيصل في الوقت المُناسب … وأخذت الريح تشتدُّ شيئًا فشيئًا … وأحسَّ برذاذٍ خفيفٍ يتساقط من السُّحب المُنخفِضة … وأدرك أن السماء ستُمطِر بعد قليل، فضاعَف من سرعته … ولكن لم تَمضِ لحظات حتى تحوَّل الرذاذ إلى مطرٍ غزير … وأخذ «تختخ» يجري مُحتميًا ببعض الشُّرفات البارزة … وهو يلعن اللحظة التي قرَّر فيها الخروج.

بعد نحو ثلث ساعة وصل إلى المكان الذي حدَّدته «لوزة»، ولكن لم يكُن هناك ما يُشير إلى لصٍّ مُحاصَر … كانت أبواب البيوت ونوافذها مُغلَقة بفعل الأمطار الغزيرة … ولا شيء … ولا شخص يمكن سؤاله عن الحادث.

توقَّف «تختخ» بجِوار باب إحدى العمارات، وأخذ ينظر حوله … هل أخطأ العنوان؟ أبدًا … إنه شارع رقم ١٣٣، في نهايته عند العمارة الزرقاء وفي هذا المنور كان المفروض أن يجد اللص … ويسمع صيحات السُّكان … ولكن كل شيء كان هادئًا … فهل هو مَقلبٌ دبَّرته «لوزة»؟

لم يكُن من عادة «لوزة» أن تدبِّر مِثل هذه المقالب … ولو كان «عاطف» هو المتحدِّث لكان من الممكن أن يكون هذا مقلبًا في هذه الليلة الباردة.

وفي اللحظة التي قرَّر فيها العودة إلى منزله … شاهَد شبحًا صغيرًا يجري في المطر … وبرغم ضعف الإضاءة في المنطقة نتيجةَ كسرِ لمبة عمود النور … إلا أن «تختخ» لم يُخطئ شخصية الشبح … كان «لوزة».

وخرَج «تختخ» من مَكمنه في الظلام، وصاح بصوتٍ مُرتفع: «لوزة» … «لوزة»!

وغيَّر الشبح اتجاهه … وأخذ طريقه إلى «تختخ»، وتحت الأمطار الْتَقى المُغامران!

قالت «لوزة»: أين اللص؟

تختخ: أيُّ لص؟! … لا شيء هُنا مُطلَقًا … ويبدو أن صديقتك دبَّرَت لك مقلبًا!

لوزة: ألمْ ترَ اللص؟

تختخ: لم أرَ سِوى المطر … هل يمكن أن تدبِّر لك صديقتك مقلبًا في هذه الليلة الباردة المُظلِمة؟

لوزة: مُطلَقًا … إنها فتاةٌ طيِّبة لا يمكن أن تفكِّر في مقلب من هذا النوع!

تختخ: لقد جئت منذ نحو عشر دقائق … ولم أجد شيئًا مُطلَقًا!

لوزة: هناك حلٌّ واحد!

تختخ: ما هو؟

لوزة: إن صديقتي تسكُن في المنزل المُجاور للعمارة الزرقاء … وسأصعد للحديث معها وأعود لك فورًا.

أسرعت إلى مدخل العمارة، ووقف «تختخ» وحيدًا … في حين صعِدت «لوزة» إلى شقَّة صديقتها … وأخذ «تختخ» يفكِّر في هذه الليلة العجيبة … ما الذي دفعه إلى الخروج في هذه الساعة من الليل في هذا البرد والمطر … وكيف استطاعت «لوزة» الخروج من منزلها وحدها … هذه المُغامِرة الصغيرة النشيطة التي لا تكفُّ عن الحركة!

كان المطر يزداد عنفًا … والريح تعصف بوحشيَّة … وأحسَّ «تختخ» أنه كان أغبى إنسان في العالم لخروجه بسببٍ تافهٍ مِثل هذا السبب … القبض على لص لا علاقة له به … لا يعرفه … وليس مُشتبكًا معه في صِراع … وهناك كل يوم مئات اللصوص يُقبَض عليهم … وليس من واجبه في هذا العالم أن يحضُر القبض على كل لص …

وبينما هو سارح في خواطره … سمِع أقدام «لوزة» على السُّلَّم، وعندما وصلت قالت بأنفاسٍ مُتسارعة: لقد كانت الواقعة صحيحة … وقد حضر الشاويش، وقبض على اللص وانصرف!

تختخ: في أي اتجاه انصرف؟

لوزة: في اتجاه قسم الشرطة ناحية المحطَّة!

تختخ: لقد تأخَّرنا … على كل حال لا بأس … فقد كانت فرصةً أن أراك … لكن لم تقولي لي كيف خرجت؟

لوزة: بعد أن دخلت تحت الأغطية وكِدت أستسلم للنوم، تصوَّرتك وحدك في هذا البرد والظلام والمطر، وأحسست أنني مسئولة عن خروجك وحدك، وما قد تتعرض له من مَخاطر … فتسلَّلت من الفِراش، ولبست ملابسي، وأخذت مِفتاح المنزل من المطبخ، وخرجت من باب المطبخ الخلفي، ولم يُحسَّ بي أحد!

تختخ: يا لكِ من مُغامِرة يا «لوزة» … هيَّا بنا قبل أن يستيقظ أحد من منزلكم ويبحث عنك، وأرجو ألا تكرِّري ذلك مرةً أخرى.

لوزة: لا أظنُّ أن أحدًا سيستيقظ في هذه الليلة الباردة، ومع ذلك هيَّا بنا!

وغادَرا مَدخل العمارة … وكان منزل «لوزة» في نفس الطريق الذي سار فيه الشاويش «علي».

وضعت «لوزة» يدها تحت ذراع «تختخ»، وسارا وهما خائفان أن ينزلقا على الأرض اللَّزِجة … وقد أضاء «تختخ» بطَّاريته … وكانت الشوارع في هذه المنطقة مملوءة بالحُفَر والمطبَّات … والأرض مفتوحة على الجانبَين لتركيب كابلات الكهرباء ومواسير المياه … وقد ارتفعت أكوام من الطوب والرمل في كل مكان.

سارا دون حديث، وفجأةً خُيِّل إليهما أنهما يسمعان في الظلام صوت أنين بعيد، وتوقَّفا لحظات، وقال «تختخ»: هل تسمعين؟

ردَّت «لوزة»: نعم … إنه صوتُ شخصٍ يئن!

أشار «تختخ» ببطاريته في اتجاه بعض أكوام الزلط والرمال، وقال: أظنُّ أن الصوت يصدُر من هذا المكان!

وأسرعا في اتجاه مصدر الصوت … وبطارية «تختخ» تُلقي ضوءها في مختلف الاتجاهات، وفجأةً توقَّف الضوء عند شيء يتحرَّك … وصاحت «لوزة»: الشاويش «علي»!

لم يكُن هناك شك … إنه حِذاء الشاويش «علي» … هذا الحذاء الضخم الذي يعرفه المغامرون … وامتدَّ ضوء البطارية حتى شمِل جسد الشاويش الذي كان مُلقًى على الأرض المبتلَّة بملابسه الرسمية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤