شيء في مكان الحادث …

أسرع «تختخ» إلى جِوار الشاويش بعد أن أعطى البطارية ﻟ «لوزة» وانحنى عليه. كان الشاويش يتأوَّه ويئنُّ وهو يُحاول النهوض دون أن يستطيع … وصاح «تختخ»: شاويش «علي»؟!

ورفع الشاويش عينَيه إلى «تختخ» وكانت مياه الأمطار تسيل على وجهه وقد بَدا مذهولًا … وعاد «تختخ» يقول: شاويش «علي» … هل أنت بخير؟

هزَّ الشاويش رأسه، وقد بدت عليه علامات الألم الشديد، فقال «تختخ»: هل تستطيع أن تقف؟

أشار الشاويش برأسه علامة الموافقة، فمدَّ «تختخ» ذراعه تحت ذراع الشاويش وأخذ يُساعده على النهوض … وكانت «لوزة» ترقُب المشهد وقلبها يدُق سريعًا، وأخذ ذهنها اللامع يفكِّر بسرعة فيما حدَث … وفجأةً سمِعت صوت سيارة مُقبِلة تسير ببطء خشيةَ الأرض الزَّلِقة، فالتفتت إليها وأضاءت البطارية بضع مرَّات متقطِّعة … وأسرعت في اتجاه السيارة. شاهَد السائق الفتاة الصغيرة تجري ناحيته وهي تُشير له بالوقوف فتوقَّف … وكانت مفاجأةً عندما تبيَّن وجهها تحت أضواء السيارة … كان يعرفها … وعندما اقتربت منه وفتح الزجاج ليحدِّثها كانت مفاجأة لها … فهي تعرفه … إنه جارهم الدكتور «عبد اللطيف».

قالت «لوزة»: يا لها من صُدفة يا دكتور!

قال الدكتور بدهشة: ماذا تفعلين خارج منزلك في هذا الجو؟

لم تضيِّع «لوزة» وقتًا في شرح موقفها، بل قالت على الفور: إن الشاويش «علي» مُصاب، وقد عثرت عليه الآن … ومعي «توفيق»!

الدكتور: ماذا حدَث له … صدمته سيارة؟

لوزة: لا أدري … ساعِدْنا!

وتقدَّم الدكتور بسيارته، وسلَّط أضواءها إلى حيث أشارت «لوزة»، وشاهَد الشاويش و«تختخ» يُساعده على الوقوف … فنزل الدكتور سريعًا، وكشف على «الشاويش»، ثم طلب نقله إلى السيارة، وأسرع يركب السيارة مرةً أخرى.

تقدَّم الدكتور قليلًا بالسيارة حتى حاذت الشاويش و«تختخ»، ثم أوقفها وفتح الباب … فأسرع «تختخ» يُساعد الشاويش على دخول السيارة، في حين فتحت «لوزة» الباب الثاني وقفزت إلى السيارة.

قال الدكتور: ماذا حدَث؟ هل الإصابة خطيرة؟

تختخ: لا أظن!

الدكتور: هل أذهب بك إلى المستشفى يا شاويش؟

قال الشاويش بصوتٍ يرتعش: لا … إلى منزلي من فضلك، إنني على ما يُرام!

أخذ «تختخ» يصف للدكتور «عبد اللطيف» مكان منزل الشاويش، وسُرعان ما استدارت السيارة، وأخذت طريقها إلى وسط المعادي حيث يسكُن الشاويش … وبعد نحو ربع ساعة توقَّفت، ومرةً أخرى ساعَد «تختخ» الشاويش على النزول … ونزل الدكتور «عبد اللطيف» ومعه حقيبته الطِّبية … وفتح الشاويش باب منزله ودخل … وساعَده الدكتور و«تختخ» على استبدال ثيابه، ثم تمدَّد في فِراشه وهو يتأوَّه، مُشيرًا إلى رأسه.

أسرع الدكتور «عبد اللطيف» يكشف عن مكان الإصابة، وسُرعان ما كانت أصابعه الخبيرة تتحسَّس ورمًا كبيرًا في مؤخِّرة الرأس … ففتح حقيبته وطلب من «تختخ» تسخين بعض الماء …

شمَّر الطبيب عن ساعِدَيه، وأخذ ينظِّف الإصابة … ثم ربط رأس الشاويش بالقُطن والشاش قائلًا: إنها إصابةٌ سطحية، ولكن الضربة كانت عنيفة … وقد كان من الممكن أن تؤدِّيَ إلى ارتجاج في المخ.

وبعد أن انتهى الطبيب من عمله قال للشاويش: يجب أن ترتاح فترةً من الوقت، وقد كتبت لك بعض الأدوية البسيطة.

وغادَر الدكتور «عبد اللطيف» منزل الشاويش مُسرعًا … فقد كان في الطريق لعيادة أحد مَرضاه … وأصبح الثلاثة معًا؛ الشاويش و«تختخ» و«لوزة»، وجاء أوان الحديث … ولاحَظ «تختخ» أن الشاويش ينظُر باستمرار إلى سقف الغُرفة كأنما يريد ألا تلتقيَ عيناه بعينَي «تختخ» … ولكن «لوزة» لم تُلاحظ شيئًا، وانطلقت تقول: أين اللص؟

التفت إليها الشاويش وقد بدا عليه الانزعاج، وقال: اللص!

قالت «لوزة» ببساطة: نعم … ألمْ تقبض الليلة على لصٍّ يتحدث اللغة الإنجليزيَّة، وكان مُختبئًا في منور العمارة الزرقاء!

أغمض الشاويش عينَيه لحظاتٍ ثم قال: لقد هرب!

صاحت «لوزة» مُرتاعةً: هرب!

الشاويش: نعم … بعد أن قبضت عليه وكانت السماء تُمطِر طلبت من الناس التفرُّق، وقد تفرَّقوا فعلًا خوفًا من البلل واتقاءً للبرد، وأمسكته وسِرت تحت المطر.

قالت «لوزة» مُتسرعةً: ولكنه غافَلك وهرب!

قال «تختخ» برفق: دعي الشاويش يروي كيف حدَث كل شيء.

أحسَّت «لوزة» بالخجل وقالت: إنني آسفة!

عاد الشاويش إلى إغماض عينَيه وقال: لم يُغافلني … ولكن كان معه شخصٌ آخَر ساعَده على الفِرار.

ومضى الشاويش يقول: لقد استدعَوني من المنزل ولم يكُن معي سلاح، فلبست ملابسي مُسرعًا وذهبت إلى هناك … ووجدت الرجل وقد أغلقوا عليه أبواب المنور، وهو حبيسٌ يُشبِه الحيوان في القفص …

وبدأت الدماء تندفع إلى وجه الشاويش وهو يقول: ولم أتردَّد في الدخول عليه، وأخذ يحدِّثني مُشيرًا بيدَيه، ولكنني لم أفهم منه شيئًا، وطلبت منه أن يسير معي إلى القسم فاستسلم، وخرجنا من المنور إلى الشارع، وبدأت السماء تُمطر، وبعد أن سِرنا مسافةً سمِعت نُباح كلب في مكانٍ قريب … نُباح غريب يُشبِه النواح … ولا أدري لماذا أحسست أن شيئًا غريبًا يدور حولي … وبعد نباح الكلب سمِعت كأن أقدامًا مُسرعةً خلفي … وسمِعت هَمهَمة كلب … وكِدت ألتفت عندما هوَت على رأسي ضربةٌ قوية، فدارت الدنيا بي … ولم أُفِق إلا عندما وجدتك أمامي.

ساد الصمت الغُرفة، ومرَّت لحظاتٌ ثقيلة، ثم قال «تختخ»: سأُعدُّ لك كوبًا من الشاي ثم أنصرف لتوصيل «لوزة» إلى منزلها!

ابتسم الشاويش لأول مرة وقال: أشكركما على ما قمتُما به من جهد!

وذهب «تختخ» إلى المطبخ، وظلَّت «لوزة» بجوار الشاويش الذي سألها: كيف عرفت بحكاية هذا اللص؟

لوزة: صديقة لي اتَّصلت بي وروَت لي ما حدَث، فاتَّصلت ﺑ «تختخ»، ثم لم أستطع مقاومة فضولي فنزلت لأرى!

عاد الشاويش إلى طبيعته الخشنة وقال: ألم أقُل لكم عشرات المرَّات ألا تحشروا أنفُسكم فيما لا يعنيكم؟

واحمرَّ وجه «لوزة»، وكادت تقول له إنه لولا وجودها و«تختخ» لكان حتى الآن مُلقًى في الأوحال تحت المطر … ولكن منعها وجه الشاويش الشاحب، ودخول «تختخ» بالشاي.

وضع «تختخ» الشاي بجوار الفِراش، ثم نظر إلى ساعته وقال: لقد تأخَّرنا؛ فالساعة الآن بعد منتصف الليل بقليل … هيَّا يا «لوزة»، تصبح على خير يا حضرة الشاويش …

ردَّ الشاويش بإعياء: شكرًا لكما.

ولم يستطع الشاويش أن يملك نفسه، فقال بصوتٍ مُرتفع: ولا تتدخَّلوا بعد ذلك في عملي … إنكم تعطِّلون سير العدالة!

وابتسم «تختخ» ولم يرد، وهمس في أذن «لوزة» وهما يُغادران منزل الشاويش: إذا لم يقُل هذه الجملة لظننت أن الضربة قد أثَّرت على تفكيره.

وضحِكت «لوزة» وخرجا مرةً أخرى إلى الظلام والبرد … وكانت مياه المطر تلمع على أرض الشارع، ولا أثر لمخلوق في هذه الليلة الباردة المُمطرة.

سارا مُسرِعين … وكلٌّ منهما غارق في خواطره … وفجأةً قالت «لوزة»: هل عندك مانع يا «توفيق» أن نذهب إلى مكان الحادث مرةً أخرى، إن معي مِفتاح باب المطبخ، ولن يشعر أحد بغيابي.

تختخ: ولكن لماذا نذهب إلى هناك مرةً أخرى؟

لوزة: عندما أعطيتني البطارية لأُنير لك مكان الشاويش … لاحظت أن الضوء قد وقع على شيءٍ لامع في مكان الحادث … ولا أدري لماذا أُحسُّ أنه شيء له علاقة باللص الهارب والاعتداء على الشاويش …

تختخ: قد تكون قطعة زجاج أو صفيح مُتخلفة عن عمليات الهدم والبناء في الشارع.

لوزة: لن نخسر شيئًا بالذهاب إلى هناك!

تختخ: سنخسر ساعة تقريبًا.

لوزة: فلنُحاول … فقد نجد شيئًا هامًّا.

تختخ: ولماذا لم نفحص هذا الشيء ونحن هناك؟

لوزة: لقد شاهدت سيارة الدكتور «عبد اللطيف» … فنسيت كل شيء إلا الاهتمام بالشاويش.

أمام إصرار «لوزة» … لم يجد «تختخ» بدًّا من الذهاب معها … خاصَّةً وقد خفَّت حِدَّة المطر وتحوَّل إلى رذاذٍ خفيف.

سارا مُسرِعين برغم الأرض الزَّلِقة … وكان الكشَّاف يكشف لهما أماكن المياه والطين، وسُرعان ما اقتربا مرةً أخرى من مكان الحادث … وأحسَّت «لوزة» بتوتُّر وهي تقترب من كومة الطوب التي وجدا الشاويش خلفها، ووقفا معًا، وأخذت «لوزة» تُدير البطارية هنا وهناك … مُحاولةً أن تتذكَّر أين رأت هذا الشيء اللامع … ولكن البطارية لم تكشف شيئًا لامعًا مُطلَقًا … وأحسَّت «لوزة» بالخجل وهي تلتفت إلى «تختخ» يائسةً … ولكن «تختخ» قال: لا بأس! إن ساعةً زيادة لن تؤثِّر في حياتنا.

وكادا يستديران ويسيران لولا أن «لوزة» صاحت وهي تركِّز ضوء البطارية في مكان بجِوار الطوب: هذا هو الشيء الذي رأيته!

وأسرعت تجري ناحية كومة الطوب، ولكن قدمها انزلقت وفقدت توازُنها، وكادت تقع لولا أن «تختخ» أسرع يُسندها قائلًا: على مهلك!

وانحنت «لوزة» على الأرض … وبين الأوحال بدا شيءٌ لامع تحت ضوء الكشَّاف، ومدَّت «لوزة» يدها وأمسكت به … وصاحت مُنتصرةً: ألم أقُل لك إنه ليس قطعة من الزجاج أو الصفيح … إنها سلسلة مفاتيح!

وناولت «لوزة» السلسلة إلى «تختخ»، وركَّزت عليها ضوء البطارية، فأخذ «تختخ» يقلِّبها بين أصابعه … كانت سلسلةً ثمينة، في الأغلب من الفضة، بها ثلاثة مفاتيح، وعليها شعارٌ غريبٌ جعل أنفاس «تختخ» تتسارع وهو يُتمتم قائلًا: شيءٌ غريب … كلبٌ ذو رأسَين!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤