الكلب ذو الرأسين …

اقتربت «لوزة» من «تختخ»، وأخذت تتأمل السلسلة هي الأخرى … كانت مُنفعلة لأن الشيء الذي جاءت تبحث عنه وجدته … وأنه لا بد أن يكون أحد الأدلَّة المهمَّة في حكاية اللص الهارب … ولكن «تختخ» كان يفكِّر بطريقةٍ أخرى … إن وجود السلسلة في هذا المكان ليس معناه أن لها صلة بالحادث … فقد تكون قد سقطت من أيِّ شخص مرَّ بالمكان قبل ذلك … بل قد تكون سلسلة الدكتور «عبد اللطيف»، ولكنه تذكَّر أن «لوزة» قالت له إنها شاهَدت الشيء اللامع قبل وصول الدكتور «عبد اللطيف» … وهذا يعني أنها ليست له.

كان يتأمل السلسلة في إعجاب … ﻓ «الميدالية» التي تنتهي بها قطعةٌ فنية من الواضح أنها ليست من النوع الذي يمكن أن يُباع في المحلَّات … إنها شيءٌ خاص. وقلَبها على الوجه الآخر، ووجد صورة لقلعةٍ منحوتة … تُشبِه القِلاع القديمة في «أوروبا»، وتذكَّر أن الرجل كان يتحدث الإنجليزيَّة … فهذه السلسلة في الأغلب لها علاقة بالحادث.

قالت «لوزة»: ما رأيك؟

ردَّ «تختخ»: إنني لم أكوِّن رأيًا بعد، وليس من المستبعَد، على كل حال، أن يكون لهذه السلسلة علاقة بالحادث … وقد لا يكون … هيَّا بنا.

وسارا مُسرِعين صامتين … وكلٌّ منهما يفكِّر في السلسلة … وفي سلسلة الأحداث الغريبة التي مرَّت بهما.

ووصلا إلى منزل «لوزة»، وانتظر «تختخ» حتى اطمأنَّ أنها دخلت، ثم سار إلى منزله، وعن طريق الشجرة دخل غُرفته ثم أغلق النافدة، وخلع ثيابه، ولبس ملابس النوم، ووضع «الميدالية» أمامه، وأخذ يتأملها بوضوحٍ أكثر وبدقةٍ أكثر … ومرةً أخرى أثارت إعجابه ودهشته … كانت قطعةً فنية فعلًا صاغَها صائغٌ ماهر … ولم يعُد يشكُّ أنها من الفضة الخالصة … ولاحَظ وجود كتابة تحت تمثال القلعة … واستطاع أن يقرأ حرفَين كبيرين «د. ك» باللغة الإنجليزية … ثم أعاد النظر إلى الوجه الآخر … الكلب ذو الرأسين … كان يبدو كحيوانٍ خُرافي من حيوانات الأساطير … رقبةٌ واحدة ورأسان … كلٌّ منهما يفتح فمه كأنما ينبح … وتذكَّر كلام الشاويش «علي» … لقد قال إنه سمِع نُباح كلب حزين قُبَيل الاعتداء عليه … وأحسَّ «تختخ» برعدةٍ تَسري في جسده … هل هناك علاقة بين كلب «الميدالية» ذي الرأسين وبين الكلب الذي ينبح؟

شيءٌ غريب بدأ يُسيطر على «تختخ» … إحساس بأنه شِبه خائف … وكأنه في غابةٍ كثيفة في ليلةٍ مُظلِمة وحده … وأخذ يستسلم لشيء من الوهم … إن هذه «الميدالية» وما عليها من تماثيل وحروف شيءٌ سِحري خارق … ولكن سُرعان ما هزَّ رأسه وابتسم؛ فهو ما زال في غُرفته … في منزله … في المعادي … وليس في الغابة … وليس مع سحَرة الغابة.

انتقل بعد ذلك إلى تأمُّل المفاتيح الثلاثة … واحدٌ كبير كُتِب عليه بخطٍّ واضح كلمةُ «جاجوار»، وهي طِرازٌ شهير من السيَّارات الإنجليزية الفاخرة. وواحدٌ صغير طويل ومدبَّب عليه اسم «سيف» بالإنجليزية. أما المِفتاح الثالث فكان مِفتاحًا غريب الشكل، من الواضح أنه شديد القِدم، وأنه قد تم تنظيفه حديثًا … وعندما تأمَّله جيدًا وجد شعار القلعة محفورًا عليه.

وقال «تختخ» محدِّثًا نفسه بصوتٍ مُرتفع: شيءٌ غريب … لم أرَ في حياتي شيئًا واحدًا يحمل كل هذه الرموز مثل سلسلة المفاتيح هذه.

وضمَّ قبضته على السلسلة، ومدَّ بصره عبر الغُرفة، وأخذ يفكِّر في حادث الليلة … هل كان هذا الرجل مجرد لص؟ أو خلفه قصةٌ أكبر وأخطر؟! هذا الرجل الذي يتحدث الإنجليزية … ويحمل سلسلة مفاتيح عليها قلعةٌ إنجليزية في الأغلب، ومعه مِفتاح سيارة إنجليزية … أشياء غريبة … غريبة.

وانسحب «تختخ» تحت الأغطية وهو ما زال يقبض على السلسلة العجيبة … ثم مدَّ يده وأطفأ النور، ومرَّت فترةٌ طويلة قبل أن يتمكَّن من النوم.

•••

استيقظ «تختخ» في صباح اليوم التالي على يدٍ تهزُّه … فتح عينَيه مُتضايقًا؛ فقد كان ما زال يُحسُّ رغبة في النُّعاس … ورأى وجه «عاطف» الباسم يقول له: إن الشمس في الخارج مُصرَّة على أن تراك … ومن العيب أن تُخلِف مَوعدك معها.

ونظر «تختخ» فوجد بقيَّة المغامرين يُحيطون بفِراشه … ثم شاهَد «زنجر» يقفز بقدمَيه الأماميتين على الفِراش وهو يُهَمْهم في سعادة.

قال «تختخ»: كم الساعة؟

ردَّ «عاطف» ضاحكًا: الساعة خمسة وعشرون!

ردَّت «نوسة»: صباح الخير يا «توفيق»، الساعة العاشرة وعشر دقائق. ولحُسن الحظ نحن في إجازة نصف السنة … إلا …

ارتكز «تختخ» على مرفقَيه وجلس في الفِراش … ونظر إلى أصدقائه وكأنه لا يُصدق أنهم هم … كانت أفكار الليلة الماضية تُسيطر عليه … وقد ظل فترةً طويلة يحلُم بها … لهذا احتاج إلى بعض الوقت ليستعيد نفسه … ووجد يده اليمنى مقبوضة، ففتحها ووجد سلسلة المفاتيح … فمدَّ يده إلى الأمام بها قائلًا: هل روَت لكم «لوزة» ما حدَث أمس؟

ردَّ «محب»: نعم … أحداثٌ غريبة!

تختخ: هذه هي سلسلة المفاتيح … أرجو أن تفكِّروا ماذا تعني بالنسبة لكم حتى أغتسل وأُفطر وأعود إليكم.

نوسة: سننزل إلى الحديقة … فالشمس دافئة!

وأسرعوا جميعًا ينزلون، وقام «تختخ» بالاغتسال، ثم تناول إفطارًا سريعًا … وحمل معه صينية عليها إبريق الشاي والأكواب، وخرج إلى المغامرين في الحديقة.

كان الحديث مُحتدمًا بينهم حول السلسلة … وكانت «نوسة» هي التي تتحدث عندما وصل «تختخ» وسمِعها تقول: في إمكاني أن أعرف بعض المعلومات عن القلعة التي على وجه «الميدالية» … إن عندنا كما تعرفون دائرة المعارف البريطانية … وسأطلب من والدتي مساعدتي في البحث عن القلعة وترجمة المعلومات الخاصة بها!

قال «عاطف»: ليس مهمًّا القلعة، المهم حقًّا هو الكلب ذو الرأسَين … ماذا يعني هذا الكلب … وهل يمكن أن يكون حقيقيًّا؟

رد «تختخ» على هذه الملاحظة بقوله: بل من المهم جدًّا أن نعرف حكاية القلعة، ولعلَّنا عن طريقها نستطيع أن نصل إلى معنى «الكلب ذو الرأسين» … وهو في الأغلب رمز لشيءٍ ما … لمعنًى ما … ولكنه بالطبع ليس حيوانًا حقيقيًّا … صحيحٌ أنه يحدُث أحيانًا أن تلد كلبة كلبًا ذا رأسَين، كما نقرأ في الجرائد عن الحيوانات — بل الناس — الذين يُنجبون مواليد شاذَّة … ولكن هؤلاء لا يعيشون طويلًا … ويصبحون مجرَّد حالات للدراسة ولا شيء آخر …

وسكت «تختخ» وهو يصبُّ الشاي … وقالت «لوزة»: إن ما يهمُّني معرفته الآن هو ماذا كان يسرق هذا اللص.

رد «تختخ» على الفور: سؤالٌ هام جدًّا … من الواضح أنه لصٌّ غير عادي … لصٌّ لا يتحدث إلا الإنجليزية … من الممكن طبعًا أن يكون مجرَّد لص عادي … ولكن الأرجح أنه لم يأتِ من بلاده ليُمارس السرقة في بلادنا … خاصَّةً سرقة المَنازل … لهذا أظنُّ أنه كان يُحاول سرقة شيء معيَّن!

نوسة: ولعلَّه لم يكُن لصًّا على الإطلاق!

تختخ: ليس هذا بمستبعَد … ولكن كيف تفسِّرين وجوده داخل منزل لا يسكُن فيه … وليس فيه أحد من معارفه … في هذه الساعة من الليل؟

محب: إنني أقترح أن نقوم بجولةٍ حول مكان الحادث … نسأل فيها كل من يمكن سؤاله عن الظروف التي شُوهِد فيها الرجل، وماذا كان يفعل بالضبط … ولعل صديقتك يا «لوزة» التي أنبأتك بحِصار اللص يمكن أن تُفيدنا.

قالت «لوزة»: إن «سلوى» لن تتردد في مساعدتنا … المهم ألا تكون قد ذهبت إلى القاهرة؛ فقد كان عندها أمس صديقتاها «راندا» و«داليا»، وفهمت أن «سلوى» ستذهب لقضاء اليوم عندهما في مدينة الصحفيين حيث تسكُنان في فيلَّا هناك، وهما أيضًا قد شاهَدتا ما حدَث!

تختخ: لنتَّصل بها تليفونيًّا ونرى!

وأسرعت «لوزة» إلى داخل الفيلَّا، وعندما عادت بعد دقائق قالت: إنها فعلًا قد ذهبت مع صديقتَيها إلى مدينة الصحفيين، وقد حصلت على العنوان ورقم التليفون … هل أتَّصل بها هناك؟

تختخ: نعم … فما دامت «راندا» و«داليا» قد شاهَدتا ما حدث فسيكون عندنا ثلاثة شهود يمكن أن يُساعدونا كثيرًا!

عادت «لوزة» لدخول الفيلَّا والحديث إلى صديقتَيها في مدينة الصحفيين … ثم عادت مُبتهجةً وقالت: إن «راندا» و«داليا» ترحِّبان بزيارتنا لهما … خاصَّةً وأن عندهما معلوماتٍ مهمَّةً عن أحداث الليلة الماضية … ﻓ «راندا» هي أول من شاهَد اللص وهو يقفز فوق سور إحدى الفيلَّات.

تختخ: عظيم … ولا داعي لأن نذهب جميعًا … وأقترح أن تذهب «لوزة» و«محب» فقط … ونقوم نحن الباقين بالبحث حول مكان الحادث، خاصَّةً وأنه يجب أن نزور الشاويش «علي» للاطمئنان على صحته!

ولكن قلق «تختخ» على صحة الشاويش لم يكُن له داعٍ … ففي هذه اللحظة سمِع المغامرون الخمسة و«زنجر» طبعًا أقدام الشاويش وهي تدقُّ أرض الشارع، ثم ظهر عند باب الحديقة وقد بدا شاحبًا، ورأسه ما زال مربوطًا بالقطن والشاش … وقف الشاويش لحظات، فأشار «تختخ» ﻟ «محب» و«لوزة» بالتحرُّك للذهاب إلى مقابلة «سلوى» وصديقتَيها … وفعلًا تحرَّك الاثنان، وأسرع «تختخ» بحركةٍ لا شعورية يُخفي سلسلة المفاتيح في جيبه.

وتقدَّم «تختخ» يرحِّب بالشاويش الذي دخل بخطواتٍ مُضطربة، وألقى تحيَّة الصباح على الأصدقاء في إعياءٍ ظاهر.

قال «تختخ»: لماذا غادرت الفِراش يا شاويش … ألم يطلب منك الدكتور «عبد اللطيف» أن تبقى مُستريحًا فترة؟

قال الشاويش وهو يستلقي على أحد المقاعد: كيف أرتاح وقد هرب منِّي لص، وسوف أُسأل عن هذا أمام رؤسائي!

تختخ: إنك لست مسئولًا؛ فقد تعرَّضت لحادث اعتداء، ولم يكُن في إمكانك أن تفعل شيئًا!

الشاويش: سأحتاج لشهادتك أنت و«لوزة» إذا أُثيرت المسألة!

تختخ: هل حدث شيءٌ جديد؟

الشاويش: نعم … تقدَّمت سيِّدة بشكوى من أن اللص قد اقتحم مَسكنها، وأنها عندما أحسَّت به صرخت … وهذه السيِّدة تسكن في الفيلَّا التي تقع خلف العمارة الزرقاء … حيث قبضت على اللص قبل أن يهرب مني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤