في مصيدة الظلام …

نزل «تختخ» سريعًا كالقط … فطالما خرج ودخل من النافذة عن طريق الشجرة، وعرف موضع أقدامه خلال عشرات من الممرَّات … وكان يسمِّي هذه الشجرة «الممر السري» برغم أنها ليست ممرًّا. وسُرعان ما كان يهبط على أرض الحديقة بملابسه السوداء، وقد تغطَّى حتى رأسه تحت مِعطف ذي طاقية من النايلون اتِّقاءً للمطر الذي أخذ يتزايد تدريجيًّا … وفي جيبه سلسلة المفاتيح العجيبة ذات الثلاثة مفاتيح.

كان يُحسُّ بمتعةٍ خاصة وهو يجتاز باب الحديقة إلى الشارع … فهذه ربَّما كانت أول زيارة ليلية له دون خوف من شيء … فليس هناك عصابةٌ تُطارده … وهو لا يتوقَّع أيَّة مفاجآت … أكثر من هذا أن المكان الذاهب إليه، وهو قصر «جيمس كورنويل»، ليس به إلا السيدة العجوز «مريم» … وهي الآن تحت الأغطية تغطُّ في نومٍ عميق.

فضَّل ألا يستخدم الدرَّاجة … وحاوَل أن يذهب بدون «زنجر» … ولكن الكلب الأسود الذكي خرج من كشكه الصغير، وسُرعان ما كان يسير في أعقاب صاحبه، فقال «تختخ»: ألم يكُن من الأفضل أن تبقى في مكانك الدافئ بدلًا من الخروج في هذا المطر والبرد؟

زام «زنجر» مُتضايقًا، وكأنه يقول ﻟ «تختخ»: ألست مُغامرًا أنا الآخر.! أليس من واجبي أن أشترك في هذه المغامرة كما اشتركت في عشراتٍ غيرها؟!

على كل حال لم يهتمَّ «زنجر» باعتراض «تختخ»، ومضى خلفه يشقَّان الطُّرق المُمطرة الخالية من المارَّة … وبعد نحو نصف ساعة أشرفا على القصر … وكانت زيارة «تختخ» الصباحية له قد جعلته يضع خطته بدقة، دار حول السور حتى أصبح خلف القصر مباشرةً … وهي منطقةٌ مهجورة من صحراء المعادي الواسعة … وأخرج «تختخ» من جيب المِعطف سلَّمًا من الحِبال له خطَّافان … وسُرعان ما أدار السُّلَّم في يده لحظاتٍ ثم قذف به إلى حافة السور … وجذبه، ولكن الخطاف لم يشتبك بالجدار … فجرَّب مرةً أخرى … وفي المرة الثالثة ثبَّت الخطاف، وجذبه «تختخ» مرَّات ليتأكَّد من تثبيته جيدًا … ثم قال ﻟ «زنجر»: ستبقى هنا ومعك المِعطف … فخُذ حذرك، ونبِّهني إذا لزم الأمر.

هزَّ الكلب الذكي ذيله … فإن هذه المهمَّات ليست جديدة عليه، إنه يعرف أن صاحبه يقوم بمغامرة ويحتاج إلى من يحميه … وتسلَّق «تختخ» سُلَّم الحِبال … وفي لحظاتٍ كان يعتلي قمَّة السور … ثم جذب السُّلَّم وألقاه في الناحية الأخرى بعد أن ثبَّته في الجدار وهبط إلى أرض الحديقة.

كان استخدام السُّلَّم ضروريًّا في تلك الليلة بسبب الأرض الزلقة من المطر … وقد كان «تختخ» سعيدًا لأن خطته تسير على ما يُرام.

توقَّف قليلًا ينظر حوله … كانت الحديقة المُترامية الأطراف غارقةً في الظلام والصمت، إلا من صوت حبَّات المطر وهي تهطل على أوراق الأشجار … ولم يكُن في القصر الكبير أي علامة على الحياة.

كان هدف «تختخ» المبنى الصغير المُلحَق بالقصر … ويُشبِه القصر الصيفي الصغير … فأكثر جُدرانه من الزجاج … وتغطِّيه النباتات المُتسلقة … وبينه وبين القصر الكبير دهليزٌ مغطًّى بالزجاج الملوَّن السميك … اقترب «تختخ» بهدوء مُحاذرًا برغم كل شيء، حتى وصل إلى الباب الجانبيَّ للقصر الصغير … وأخرج أدواته، وأخذ يعمل ببراعة … وبعد دقائق قليلة سمِع تكَّة القُفل وهو يفتح … وأحسَّ بالدماء تندفع إلى رأسه … إن عنده ثقة في أنه قريب من حل لغز الكلب ذي الرأسين، وهذا الكنز الذي تحدَّث عنه والده، والذي يُحاول «س» والأعمى الوصول إليه … أخذ يدفع الباب تدريجيًّا حتى لا يُحدِث صوتًا … ثم اجتاز الباب ودخل … كان القصر الصغير غارقًا في الظلام، فأخرج «بطاريَّته»، وأطلق خيطًا رفيعًا من الضوء أخذ يمرُّ به على المكان … وجد نفسه في صالةٍ مُستديرة، جُدرانها مكوَّنة من أعمدةٍ رخاميَّة منحوت عليها جميعًا شعار الكلب ذي الرأسين … وخفق قلبه مرةً أخرى … إنه الآن في قلب اللغز … فهل يصل إلى حلِّه؟! وكانت الصالة مفروشة بمقاعد وكنبات تدور حول الجدار، ويتفرع من الصالة أربعة دهاليز … كلٌّ منها يسير في اتجاه … وسار «تختخ» في الدهليز الذي تصوَّر أنه يؤدي إلى القصر … ووجد على جانبَي الدهليز حُجرتَين مُلتصقتَين … ثم سار وهو يُطلِق خيط الضوء الرفيع … وكان شعار الكلب ذي الرأسين يتكرَّر دائمًا فوق الأعمدة … نفس الكلب ذي الفم المفتوح والنظرات العجيبة محفور في رخام الأعمدة … وظلَّ «تختخ» يسير حتى وصل إلى بابٍ تأكَّد أنه الباب الموصِّل إلى القصر … واقترب من الباب وهو يسير على أطراف أصابعه، ووضع أذنه على فتحة القُفل، وأخذ يستمع … وعلى الفور سمِع حديثًا يدور في الغُرفة التالية كان صوت رجل يتحدَّث في توسُّل … وصوت سيدة تتحدث في حِدَّة وضِيق … وكان الحديث بالإنجليزية. وبرغم إجادة «تختخ» لها فإنه لم يستطع تبيُّن الكلمات لبُعدِ المتحدِّثين والباب الخشبي السميك، ولكنه تأكَّد أن الرجل يطلب شيئًا، وأن السيدة ترفض … ثم سمِع صرخةً مكتومة … وصِراعًا خفيفًا، ثم زمجرة كلب … وساد الصمت … وبعد لحظاتٍ سمِع وقْعَ أقدام مُقبِلة نحو الباب الذي يقف خلفه … فأسرع يتراجع جاريًا حتى وصل إلى الباب الذي دخل منه … وخرج وترك الباب مفتوحًا قليلًا ليرقُب ما يحدُث في الداخل.

ومرَّت فترة و«تختخ» واقف في مكانه … ثم سمِع صوت الأقدام مرةً أخرى في الصالة المُستديرة … وسمِع بوضوح شخصًا يتحدَّث قائلًا: لقد فحصنا المكان من قبل يا سيدي!

ردَّ صوتٌ عميق: حاوِلْ مرةً أخرى … إن الوثائق تؤكِّد وجود المكان في القصر الصغير … وليس هناك قصرٌ سِوى هذا.

وغامَر «تختخ» ونظر من فتحة الباب … وشاهَد الأعمى واقفًا في وسط الصالة مُمسكًا بالكلب، والرجل الآخر الذي أطلقوا عليه «س» واقفًا يُدير رأسه في المكان، وفي يده حقيبةٌ مُتوسطة الحجم … أخرج منها عصًا من الحديد مغطَّاة بالمطَّاط، وأخذ يدقُّ الأعمدة الرخامية ويستمع … وكأن الأعمى فقدَ بصره، فأخذ هو الآخر يتحسَّس الأعمدة بأصابعه ثم يدقُّ عليها بعصاه … ومضى الوقت دون أن يبدوَ أنهما عثَرا عمَّا كانا يبحثان عنه.

وقال «س»: لقد انتهيت من فحص جميع الأعمدة … وليس في الصالة المُستديرة شيء … هل ننتقل إلى غُرفةٍ أخرى؟

صمت الأعمى دون أن يرد … وفي هذه اللحظة سمِع «تختخ» صوت أقدام ثقيلة آتية من ناحية القصر، وبخبرته بالشاويش «علي» لم يشكَّ لحظةً في أن القادم هو.

وكان الرجلان يتَّجهان إلى غُرفةٍ جانبية عندما سمِعا صوت الأقدام … ثم سمِع «تختخ» صوت الشاويش وهو يقول بصوتٍ مُرتفع: هل ما زالا هنا؟

واندفع الرجلان يجريان … ودُهش «تختخ» لقدرة الأعمى على الجري دون أن يتعثَّر، واتَّجها فورًا إلى الباب الذي يقف خلفه «تختخ» … فأسرع يتوارى خلف شجرة وراءهما، وهما يتَّجهان ناحية السور، ثم تلاشَيا في الظلام … ثم بعد فترة شاهَد الشاويش يخرج من نفس الباب يحمل سلاحه بيد وبطارية باليد الأخرى … وبدأ الشاويش يمشي مُحاذرًا بين الأشجار وهو يُلقي ضوء بطاريته هنا وهناك، وأحسَّ «تختخ» بالتوتُّر؛ فقد كان من الممكن في أيَّة لحظة أن يتَّجه الشاويش ناحيته، ولن يستطيع مُطلَقًا تبرير وجوده في هذا المكان … في هذه الساعة … ولم يكُن يستطيع الحركة؛ فبرغم أن المطر كان ما زال يهطل … إلا أن صوته الرقيق على الأرض لم يكُن يمكن أن يُخفيَ أيَّة حركة تصدُر من «تختخ».

وبدأ ضوء البطارية يتَّجه ناحية «تختخ» فعلًا … وبرغم خطورة موقف «تختخ» إلا أنه استمتع برؤية قطرات المطر وهي تلمع في أشعة البطارية الكبيرة التي كان الشاويش يُطلِقها في كل اتجاه … وفجأةً سمِع «تختخ» صوت نُباح طويل عميق … ثم صوت محرِّك سيارة يدور … وأدرك أن الرجلين قد ابتعدا … وفكَّر لماذا لم ينطلق خلفهما! لماذا لم يُحاول الالتحام معهما! … وأدرك أن شعورًا خفيًّا في نفسه أكَّد له أنهما ليسا لصَّين … وأنهما يبحثان عن شيء يخصُّهما … بل بالتحديد يخصُّ الرجل الأعمى.

كانت اللحظات القليلة التي سرح فيها خيال «تختخ» فيما يفكِّر فيه كافية لأن ينسى الخطر المُحدِق به … وكافية أيضًا لكي يعثُر الشاويش في طين الحديقة على آثار أقدام «تختخ»، ثم يطلق ضوء البطاريَّة فيقع على قدمَيه … ولم يُفِق «تختخ» من تأمُّلاته إلا عندما وجد أشعة البطارية أمامه فتحرَّك مُسرعًا … وسمِع الشاويش يقول: قِف مكانك!

ولكن «تختخ» أطلق ساقَيه جاريًا … وخلفه انطلق الشاويش وضوء الكشَّاف يشقُّ الظلام.

ووضع «تختخ» خطته … إنه لن يفر … سيُحاول فقط تضليل الشاويش، ولكنه كان واهمًا … فقد أطلق الشاويش مسدَّسه … ودوَّت الطلقة في الظلام مُنذرةً «تختخ» … إن الحكاية ليست لعبًا … وإن الشاويش لن يتردَّد في إصابته إذا تمكَّن من ذلك.

وقرَّر على الفور أن يُسارع بالهرب … ولكن للحظ السيِّئ كان الشاويش يتحرَّك قرب المكان الذي ترك فيه «تختخ» السُّلَّم … وكان عليه في هذا الوحل الزَّلِق أن يُحاول القفز إلى قمَّة السور … ولم يكُن ذلك سهلًا؛ فقد كان السور مُرتفعًا، ولا بد من وجود جزء من السور بجواره شجرةٌ عالية يستطيع تسلُّقها.

واستمرَّت المحاورة بين «تختخ» والشاويش … اختفاء خلف شجرة ثم الانتقال منها إلى شجرةٍ أخرى … ودهش «تختخ» لبراعة الشاويش في المطاردة، فلم يستطع أبدًا أن يضلِّله … وبدأت المطاردة تقترب من نهايتها عندما استطاع الشاويش أن يُحاصر «تختخ» قرب السور … وأصبح انتقال «تختخ» من شجرة إلى شجرة مسألةً مُستحيلة، خاصَّةً وأن الشاويش كان شاهرًا مسدَّسه، مُستعدًّا لإطلاقه إذا وقعت عينه على «تختخ» … ولم يعُد أمام «تختخ» إلا أن يسلِّم نفسه، أو يفقد الشاويش الشيء الذي يعتمد عليه في المطاردة، وهو البطارية الضخمة.

وقرَّر أن يلجأ إلى الحل الثاني أولًا … وبدأ يدور بخفَّة ليقترب من الشاويش دون أن يكشف نفسه … وأخيرًا استطاع أن يقف بجِوار شجرة قريبة من يسار الشاويش، وأخذ يتحسَّس الأرض بقدمه حتى وجد غصن شجرة طويلًا … فمدَّ يده وأمسكه وكمن في الظلام … وأخذ الشاويش يقترب ويقترب حتى أصبح في إمكان «تختخ» أن يوجِّه ضربته التي أراد منها أن يُصيب زجاج البطارية، فيكسره ويكسر اللمبة، وفي الظلام يستطيع أن يهرب … ورفع الغصن إلى فوق … حتى إذا أصبح في متناول يده هوى بالغصن على البطارية!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤