الكلب «ذو الرأس الواحد» …

تهشَّم زجاج البطارية بصوتٍ مسموع … وأطلق الشاويش رصاصةً أخرى، ثم ساد الظلام والصمت … وأسرع «تختخ» يجري في اتجاه السور حيث ترك السُّلَّم، وكان مُتأكدًا أن الشاويش لن يستطيع اللحاق به … ووجد السُّلَّم مكانه فتسلَّقه مُسرعًا … ثم جذبه إلى قمة السور، وألقاه في الناحية الأخرى ونزل … وسمِع «زنجر» يزوم في الظلام … فطوى السُّلَّم مُسرعًا، ووضع المِعطف على كتفَيه، وانطلق في الظلام وهو يفكِّر في كل ما جرى ورأى … ما هو الشيء الذي يبحث عنه الرجلان؟ وهل تَعلَم «مريم» مكان هذا الشيء؟ لقد سمِع صوت سيدة تُجادل الرجلين، ومن الواضح أنهم كانوا يتحدثون كمن يعرفون بعضهم البعض من قبل. فما هو سر العلاقة بينهم؟ وما الذي أتى بالشاويش «علي» في هذه الساعة من الليل؛ هل كان يتبعه أو كان يقوم بعملية الدوريَّة العادية؟ وهل السيدة هي السيدة العجوز صاحبة القصر؟

ظلَّ يفكِّر حتى وصل إلى المنزل، وتسلَّق النافذة، وقفز إلى داخل غُرفته وخلع ثيابه، ثم اندسَّ تحت الأغطية … وأوى «زنجر» إلى كشكه الصغير وهو مُتضايق لأنه لم يشترك في هذه المغامرة بدورٍ هامٍّ كعادته.

•••

في صباح اليوم التالي كان المغامرون الخمسة يعقدون اجتماعهم العادي في حديقة منزل «عاطف» كالمُعتاد، وفي كلماتٍ سريعة مُوجَزة روى «تختخ» مغامرة الليل في القصر القديم … ومشاهداته هناك … وعندما روى ما شاهَده من محاولة الرجلين البحث عن تجويف في الأعمدة قالت «لوزة»: هذا يعني أن الكلب ذا الرأسين وراءه سرٌّ ما … يمكن كشفه عن طريق هذه الأعمدة.

عاطف: هذا واضح طبعًا … ولكن حديث الأعمى يدل على أن المعلومات التي عنده ليست دقيقة … بدليل أنه وزميله لم يستطيعا تحديد العمود المطلوب بالضبط … العمود الذي يُخفي ما يبحثان عنه.

محب: وهذا ما يجب أن نبحث عنه نحن!

تختخ: المشكلة أن الشاويش الآن سيُرابط في القصر … بعد محاولة الأمس من الرجلين، وبعد المطاردة التي تمَّت بيني وبينه … وسيصبح دخول القصر مُتعذرًا جدًّا، وهذه هي المشكلة التي يجب أن نبحث عن حل لها، إذا كنَّا نريد حقًّا حل لغز الكلب ذي الرأسين … وأنا شخصيًّا شديد الرغبة في معرفة حقيقة ما يبحث عنه هذان الرجلان.

ساد الصمت فترةً … وغرِق كلٌّ من المغامرين الخمسة في خواطره … يبحثون عن خطةٍ تمكِّنهم من دخول القصر في غَيبة الشاويش … وفجأةً قالت «نوسة»: هناك خطةٌ بسيطة جدًّا وعملية في نفس الوقت!

والتفت إليها المغامرون فقالت: نستطيع إبعاد الشاويش عن القصر بمكالمة من مجهول!

طرقع «تختخ» بأصبعَيه علامة الموافقة، وقال: تمامًا … لقد فكَّرت في نفس الخطة!

نوسة: ولكي نفتح شهيَّته للحركة … فعلى من يحدِّثه أن يقول له إن المغامرين الخمسة قد عرفوا مكان الرجلين اللذين اقتحما القصر … وإنهم ذاهبون للقائهما!

لوزة: فكرةٌ عظيمة!

تختخ: فليكُن ذلك الليلة … وسأتَّصل بالشاويش تليفونيًّا الآن بعد أن نضع تفاصيل الخطة!

محب: أقترح أن أقوم أنا و«عاطف» بتضليله … ويمكن أن نحدِّد مَوعدًا مُناسبًا ومكانًا بعيدًا، وسيأتي خلفنا، وسنضيِّع وقتًا طويلًا في مغامرات وحركات لا معنى لها … وفي هذه الأثناء يكون «تختخ» في القصر يبحث عن التجويف الذي في الأعمدة!

تختخ: وأين المكان؟

محب: أقترح أن يكون على طريق «حلوان» قرب شاطئ النيل … وسنأخذ معنا بطاريتَين نُطلِق منهما أضواءً مختلفة، بحيث يتصوَّر الشاويش أنها إشارات!

لوزة: إنني أريد أن أدخل القصر مع «تختخ»؛ فمنذ فترة طويلة وأنا و«نوسة» نكتفي بالجلوس في الحديقة والثرثرة كالعجائز!

تختخ: مُوافق … فإنني في حاجة إلى من يُعاونني في البحث؛ فتعالَي معي أنت و«نوسة»!

لوزة: ولا تنسَ سلسلة المفاتيح!

فكَّر «تختخ» لحظات، ثم ضرب جبهته بيده قائلًا: الآن أدركت عن أي شيء كان الرجلان يتحدثان مع السيدة العجوز … لقد كانا يظنَّان أن سلسلة المفاتيح سقطت من «س» في القصر عندما اقتحمه أول مرة … إنهما بالطبع لن يستطيعا فتح باب التجويف إلا بالمفتاح الذي في السلسلة … إن فرصتنا أكبر من فرصة الرجلين، وسوف نُفاجئ الشاويش عندما نضع كل الحقائق بين يدَيه في الوقت المُناسب … وسكت «تختخ» لحظاتٍ ثم قال: سأتحدَّث معه الآن!

ورفع سماعة التليفون، وأدار رقم تليفون قسم الشرطة … وسُرعان ما ردَّ عليه الشاويش، فأخرج «تختخ» مِنديلًا من جيبه، وربطه على فمه سريعًا، وأخذ يتحدث مع الشاويش بصوتٍ مُغاير لصوته الطبيعي. قال «تختخ»: إنني شخصٌ مجهول يُساعد العدالة … لقد سمِعت منذ ساعة ولدَين يتحدَّثان عن مقابلة ستتمُّ عند أول طريق حلوان من ناحية النيل … إنهما سيُقابلان شخصيةً أجنبية … أحدهما لصٌّ اقتحم منزل سيدة عجوز تُدعى «مريم» في «المعادي» … هل تعرف هذه السيدة؟

رد «الشاويش» باهتمام: نعم أعرفها جيدًا!

قال «تختخ»: إنهما يزعمان أن هناك كنزًا في القصر … وأن الرجلين عثَرا عليه!

الشاويش: ولماذا إذن يتقابل الأربعة؟

تختخ: لا أدري … ولكنهم سيتقابلون في الحادية عشرة ليلًا!

الشاويش: هل عرفت اسم الولدَين؟

تختخ: لا … ولكن سمِعت أحدهما يُنادي الآخر باسم «عاطف»!

الشاويش: إنني أعرفه … أعرفه … إنه …

وسكت «الشاويش» ثم عاد يقول: من أنت؟

ولكن «تختخ» اكتفى بما قال ووضع السماعة … وفكَّ المنديل … وضحِك الجميع؛ فقد جازت الخدعة على الشاويش … ولم يبقَ إلا تنفيذ الخطة.

•••

زعم المغامرون الخمسة أنهم مدعوُّون إلى عيد ميلاد صديق لهم … ليتمكَّنوا جميعًا من الخروج من بيوتهم في الليلة الباردة … وإن كانت لحسن الحظ غير مُمطرة. وقد طلب «تختخ» من الجميع أن يلبسوا ملابس قاتمة … وفي العاشرة كانوا مُجتمعين لوضع التفاصيل الأخيرة للخطة، ثم انصرف «محب» و«عاطف» على درَّاجتَيهما … وكم كانت دهشتهما وسرورهما في نفس الوقت عندما لاحَظا أن الشاويش يتبَعهما أيضًا على درَّاجته، وإن حاوَل أن يكون بعيدًا حتى لا يرَياه.

وعندما ابتعد الثلاثة … بدأ «تختخ» و«لوزة» و«نوسة» تحرُّكهم إلى القصر القديم وخلفهم «زنجر»، وسُرعان ما كان «تختخ» ينفِّذ خطته السابقة … سُلَّم الحِبال في نفس المكان … وصعِدت «لوزة» أولًا … ثم «نوسة»، ثم «تختخ»، ونزل الجميع إلى حديقة القصر … ثم تسلَّلوا مُسرعين إلى القصر الصغير … وفي دقائق قليلة كان «تختخ» قد فتح الباب … وتسلَّل الثلاثة إلى الصالة المُستديرة.

وقفت «نوسة» و«لوزة» مبهورتَين أمام المشهد … عشرات من الأعمدة كلٌّ منها يحمل قرب نهايته تمثالًا للكلب ذي الرأسين منحوتًا في الرخام الأبيض الجميل … كان مشهدًا يُدير الرءوس حقًّا … ومشى الثلاثة حتى نهاية المَمر الذي يوصِّل إلى القصر الكبير … كان «تختخ» يريد أن يتأكَّد أن لا أحد هُناك … وأن السيدة العجوز قد أوَت إلى فِراشها … وعندما تمكَّن من فتح الباب الموصِّل إلى القصر الكبير وجد الظلام يَسُود القصر، لا ضوء ولا حتى مجرَّد ضوء خافت … وأحسَّ بالقلق … في مِثل هذا القصر الكبير لا بد أن يوجد ضوءٌ ما … ولو بسيط كما يحدُث في كل البيوت أثناء النوم … هل هو كمينٌ أُعدَّ لهم! … هل الشاويش أبرَعُ مما يتصوَّرون؟ هل اتَّصل برئاسة الشُّرطة وأخبر المفتش؟ ولكن المفتش ليس موجودًا هذه الأيام! ربما ضُباطٌ آخرون!

والتفت إلى «نوسة» و«لوزة» قائلًا: إنني سأمرُّ مرورًا سريعًا في القصر … فإنني أشعر بقلقٍ حِيال هذا الصمت والظلام … هناك شيءٌ غير طبيعي الليلة … قوما أنتما بالبحث … لعلَّكما تجدان التجويف الذي يبحث عنه الرجلان.

ومشى «تختخ» مُحاذرًا وهو يُطلِق شعاع ضوء رفيع من بطاريته الصغيرة … ووصل إلى الصالة الكبيرة، وأخذ يُدير بطاريته في أنحائها حتى وقعت على مِدفأة من الرخام … مِدفأة رائعة لم يرَ لها مثيلًا من قبل … وعلى قِمَّتها كان تمثال الكلب ذي الرأسين … ضخم … ومُخيف … وكأنه يحرس المكان … واقترب منه وأخذ يحدِّق فيه … هل يختفي السر وراء هذا التمثال؟!

لم تكُن هناك إجابة عن هذا السؤال … وعاد يطوف بالقصر … لا أحد هناك … لا ضوء … لا أثر للحياة … شيءٌ غير معقول!

وعاد إلى القصر الصغير … وسمِع حديث «لوزة» و«نوسة»، وبرغم أنهما كانتا تتهامسان إلا أنه أحسَّ بأنهما مُنفعلتان … مُتحمستان أكثر من اللازم في هذا المكان … ودخل مُسرعًا … وسمِع «لوزة» تقول: في هذا المكان يكمُن السر!

وأسرع إليهما قائلًا: ماذا حدَث … هل عثَرتما على شيء؟

قالت «لوزة» بانفعال: تمثال للكلب … ولكنه في هذه المرة ذو رأسٍ واحد!

ردَّد «تختخ» الكلمات دون وعي: الكلب ذو رأسٍ واحد!

نوسة: نعم … تعالَ وانظر!

ومشى معهما ووصلوا إلى أحد الدهاليز التي تتفرَّع من صالة القصر الكبير، وانتهى الدهليز بصالةٍ مُستديرة، ولكن صغيرة … صالة تتَّسع لشخصَين فقط … وقد دارت حول الجُدران تماثيل الكلب ذي الرأسين … ولكن عندما أطلقت «لوزة» ضوء كشَّافها على قمة الصالة حيث تجتمع قِمَم الأعمدة … كانت جميعًا تجتمع عند مجموعة من تمثال الكلب ذي الرأسين … لم يكُن هناك رأسٌ واحد!

قال «تختخ» مُتضايقًا: ماذا حدث؟ … إنه نفس التمثال ذي الرأسين كالعادة ككل التماثيل!

قالت «لوزة»: إنك تعوَّدت أن ترى الكلب ذا الرأسين … ولكن دقِّق جيدًا … هناك كلب ذو رأسٍ واحد!

أخذ «تختخ» يفحص التماثيل التي تتلامس رءوسها في سقف الصالة … ومرةً ثانية قال بضِيق: إنه نفس التمثال …

قالت «نوسة» وهي تُطلِق شعاع بطاريتها إلى فوق: إنك تنظر إلى التماثيل كلَّ اثنين معًا … لهذا تجد دائمًا التمثال المُعتاد … الكلب ذا الرأسين … ولكن عُدَّ هذه الرءوس … عُدَّها …

وأخذ «تختخ» يعدُّ التماثيل … وسُرعان ما أطلق صيحة دهشة … كانت التماثيل المُتعانقة بجوار بعضها تبدو كأنها مجموعة من تماثيل الكلب ذي الرأسين، ولكن الرءوس كانت سبعة فقط … ومعنى ذلك أن هناك ثلاثة تماثيل ذات رأسين، وهناك تمثال له رأسٌ واحد … وهو التمثال الوحيد في عشرات التماثيل التي تملأ القصر الصغير والكبير ذو رأسٍ واحد.

وقال «تختخ» هامسًا: نعم … فهمت … ولكن هل يعني هذا شيئًا؟

ردَّت «لوزة»: لا بد أن يعنيَ شيئًا … المهم أن نصل إليه!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤