مُفاجأة السيِّدة العجوز …

قالت «نوسة»: إن سقف الصالة مُرتفع، ولن نستطيع الوصول إليه!

تختخ: لقد شاهدت أثناء تجوُّلي سلَّمًا … سأذهب لإحضاره …

وأسرع «تختخ» ووجد السُّلَّم بجوار الباب الذي يَفصِل القصر الصغير عن القصر الكبير … ولا يدري لماذا أحسَّ كأن وجود السُّلَّم في هذا المكان كان مدبَّرًا … ولكنه حمله وعاد به … كان سلَّمًا ذا ضلفتَين يُشبِه رقم ٨ … وضعه «تختخ» في وسط الصالة وصعِد عليه … في حين قامت «نوسة» و«لوزة» بتوجيه ضوء الكشَّافين إلى حيث تجتمع رءوس الكلاب النابحة.

وقف «تختخ» عند آخر درجة في السُّلَّم وأخذ يتأمل الكلاب … كلها مُتشابهة … وكلٌّ منها يصحُّ أن يكون مُنفردًا أو مُزدوجًا … ولم يكُن الضوء كافيًا لإدراك أي فارق بين الرءوس السبعة … وفكَّر «تختخ» أن يُضيء نور الصالة … ولكنه خشيَ أن يتنبَّه البواب لهذا الضوء … فأخرج كشَّافه وأخذ يتأمل كل كلب على حِدة … وخُيِّل إليه أن عيون الكلاب السبعة تنظر إليه جميعًا نظرةً واحدةً شرِسة … وأحسَّ أن رأسه يدور، وأنه سيسقط … فأغمض عينَيه لحظات وفكَّر في المِفتاح الذي معه … ما هو المكان الذي في رأس الكلب يصلُح لدخول المِفتاح؟ وكانت الإجابة واحدة … العين! ودقَّ قلب «تختخ» سريعًا … أحد هذه العيون السبعة هو ثقب المِفتاح … وبسرعةٍ أخرج سلسلة المفاتيح من جيبه … ومدَّ يده وأخذ يجرِّب كلًّا منها … ووصل إلى الكلب الخامس … وأحسَّ أن المِفتاح يكاد يدخل في العين … وحاوَل مرةً أخرى … وفجأةً وجد المِفتاح يدخل في دائرة العين تمامًا … وارتعدت يد «تختخ» وسمِع شهقة «لوزة» … وأدار المفتاح في الثُّقب … وتوقَّع «تختخ» أن ينفتح شيء … ولكن شيئًا من هذا لم يحدُث … ظلَّت الكلاب السبعة تنظر إليه … ولم يسمع تكَّةً ما تدلُّ على فتح باب … وحاوَل إدارة المفتاح مرةً أخرى، ولكنه لم يدُر … لقد دار دورةً واحدةً كاملة ثم توقَّف وانتهى الأمر … وأحسَّ «تختخ» بخيبة أمل … وقال بصوتٍ هامس: أديرا البطاريَّتَين حول الجُدران!

ودار شعاع الضوء في الصالة الصغيرة … ولكن لم يكُن هناك شيءٌ غير عادي … وأخذ عقل «تختخ» يعمل سريعًا … إن وجود الكلب … والمفتاح دليلٌ على أنه يفتح شيئًا ما … فأين هذا الشيء؟! أخذ يتحسَّس رءوس الكلاب كلها … ولكنها كانت صُلبة تمامًا … ودقَّ عليها بطرف البطارية … ولكنه لم يشعر مُطلَقًا أن هناك شيئًا غير عادي.

وفجأةً طافت بذِهنه صالة القصر الواسعة … وتمثال الكلب ذي الرأسين … هذا التمثال الكبير المُنفرد فوق المِدفأة … ونزل «تختخ» تاركًا المِفتاح مكانه، وعندما وصل إلى نهاية السُّلَّم قال ﻟ «لوزة» و«نوسة»: لا شيء هنا … ولكن هناك أملًا أن نجد شيئًا في الصالة الكبرى في القصر … قلبي يحدِّثني أن التمثال الكبير هناك يعني شيئًا.

وتسلَّل الثلاثة بهدوء … ووصلوا إلى الصالة الكبيرة … وبقلبٍ مُرتجف وجَّه «تختخ» شعاع الضوء إلى التمثال الكبير … ولم يستطع تمالُك نفسه لما شاهَده، وصدرت منه صيحةٌ خافتة … كان أحد الرأسين مفتوح الفم تمامًا … وقد بدا بين الفكَّين تجويفٌ مُظلِم … إذن لقد صدَق حَدسُ «تختخ» … وأن المفتاح عندما يدور في عين الكلب في الصالة الصغيرة، يفتح فم الكلب الكبير فوق المِدفأة!

أسرع «تختخ» وخلفه «لوزة» و«نوسة»، ومدَّ «تختخ» يده ليدخلها في التجويف، وفي هذه اللحظة حدث شيءٌ خطير … أُضيئت أنوار الصالة كلها … وسمِع الثلاثة صوتًا هادئًا يقول: شكرًا لكم … لقد انتهت مهمَّتكم!

وقف الثلاثة في أماكنهم كالتماثيل … ثم التفتوا إلى مصدر الصوت … وشاهَدوا سيِّدة عجوزًا تقف بجوار لوحة الإضاءة مُبتسمةً … وهي تستند على عصًا زرقاء.

كانت يد «تختخ» ما تزال داخل التجويف، فقالت السيدة: أرجو ألا تمدَّ يدك أكثر … وتعالَوا نتحدث!

وبهدوءٍ شديد تقدَّمت السيدة، ولاحظت «نوسة» أنها برغم سنها جميلة، شديدة الأناقة، قوية الشخصية …

واختارت السيدة كرسيًّا جلست فيه، وأشارت إلى المغامرين الثلاثة الذين أحسُّوا أمام شخصيَّتها القويَّة أنهم يجب أن ينفِّذوا أوامرها، فتقدَّموا وكأنهم تحت تأثير مِغناطيس وجلسوا.

قالت «السيدة»: إنكم ثلاثة فقط … وقد سمِعت أنكم خمسة!

ردَّت «لوزة»: إننا فعلًا خمسة … ولكن شقيقي «عاطف» و«محب» شقيق «نوسة» في مهمَّةٍ أخرى!

ابتسمت «السيدة» وقالت: لا بد أنهما يضلِّلان الشاويش!

صاحت «نوسة» مُندهشةً: كيف عرفت؟

قالت «السيدة»: لقد أخبرني الشاويش أن شخصًا مجهولًا اتصل به وأخبره أنكم ستُقابلون سير «كورنويل» وسائقه على شاطئ النيل … وأنه سيذهب للقبض عليكم جميعًا هناك، وقد تصوَّرت أنها خدعة … وقلت له ذلك، ولكنه لم يصدِّقني!

تحدَّث «تختخ» لأول مرة قائلًا: ولكن من أين عرفت أننا خمسة؟

قالت «السيدة» وهي تعتدل في جلستها: الفضل للشاويش … فعندما حضر للحديث معي أول مرة حذَّرني من مقابلتكم … وقال إنكم خمسة من الأولاد والبنات تتدخَّلون في عمله، وإنكم قد تحضُرون وتُحاولون دخول القصر … وإنني يجب أن أُخطِره إذا رأيتكم!

لوزة: وهل ستُخطِرينه الآن؟

ردَّت «السيدة»: ذلك مُتوقف على أشياء كثيرة … أولها ماذا يوجد في هذا الفم المفتوح!

تختخ: ألا تعرفين؟

السيدة: لا … وقد سمعت عندما اشترى أبي هذا القصر أن فيه كنزًا من المجوهرات … وقد حاوَل عشراتٌ قبلكم العثور على هذا الكنز … ولكن لم يستطع أحدٌ الوصول إلى الحقيقة حتى الآن … إنكم في الحقيقة غاية في الذكاء … وإنني أهنِّئكم على المجهود الذي قمتم به …

تختخ: أليس من حقِّنا أن نعرف ماذا في فم الكلب ذي الرأسين؟

السيدة: ستعرفون طبعًا … حتى لا أحرمكم من ثمرة مجهوداتكم. إن هناك قصةً أخرى عن هذا الكنز … والقصة الثانية تؤكِّد أنه ليس كنزًا، ولكنه شيءٌ آخَر!

قالت «لوزة» باهتمام وتسرُّع: ما هو؟ هل له علاقة بالرجلَين … الأعمى والآخَر؟

ردَّت «السيدة»: نعم … وهي قصةٌ مؤلمة … أتمنَّى أن تبقى سرًّا بيننا إذا وجدنا في فم الكلب ما يُثبِت صحَّتها!

وتقدَّمت السيدة في وقار وهي تستند على عصاها حتى وصلت إلى التمثال الرخامي الكبير وعيونُ المغامرين الثلاثة معلَّقة بها … ثم مدَّت يدها فخفَقت القلوب الثلاثة … وخرجت يد السيدة وبها لفَّةٌ صغيرة من الجِلد الأسود … عادت بها إلى حيث جلس الأصدقاء، ثم أخذت تفتحها بأصابع مُرتعدة.

كانت عيون المغامرين الثلاثة مثبَّتة على اللفَّة الجلدية السوداء … وانتهت السيدة من فكِّ الأربطة … وأخرجت ما كان في اللفَّة … وأُصيبَ المغامرون الثلاثة بضِيقٍ شديد … لم يكُن هناك كنز … ولا مجوهرات … بل مجموعة من الأوراق الصفراء المُتآكلة!

وقالت «السيدة»: إن القصة الثانية هي القصة الحقيقية … فليس هناك كنز … إنها مجموعة من المستنَدات يبحث عنها سير «كورنويل»!

تختخ: وما هي حكاية المستنَدات هذه؟ ولماذا هي مهمة إلى هذا الحد؟

تنهَّدت السيدة قائلةً: إنها قصةٌ طويلة … يمكن أن ألخِّصها لكم في كلمات.

وتطلَّعت إلى المستنَدات لحظات، وأخذت تقلِّبها في يدها وتقرأ ما بها، ثم قالت: سيَسعَد سير «كورنويل» بها كثيرًا … وأعتقد أنه سيدفع لكم مُكافأةً سخيَّة.

قالت «نوسة»: إننا لا نتقاضى مكافآت عمَّا نفعل، كل ما يهمُّنا أن نصل إلى الحقائق.

السيِّدة: يا لكم من أولادٍ أذكياء … وكُرَماء أيضًا!

لوزة: ما هي القصة لو سمحت؟

السيدة: إنك مُتحمسة جدًّا يا صغيرتي الجميلة … القصة حدثت أثناء الحرب العالمية الأولى؛ أي التي وقعت أحداثها بين عامَي ١٩١٤ و١٩١٨. لقد انتشرت شائعة في إنجلترا تتَّهم لورد «كورنويل» بأنه خائن … حتى أطلقوا عليه لقب الكلب ذي الرأسين … لأن المفروض أنه كان جاسوسًا لإنجلترا على ألمانيا عدوَّتها … ولكنه كما قالت الشائعة … كان يتجسَّس للطرفَين … أي إنه جاسوسٌ ذو وجهَين … أو جاسوسٌ مُزدوج … حتى أطلقوا عليه اسم الكلب ذي الرأسين لهذا السبب … وضاق الرجل بالشائعات، فجاء إلى مصر وأقام بها، وبنى هذا القصر كما ترَون … وملأه بتماثيل الكلب ذي الرأسين … كأنه يتحدى الذين يُشيعون عنه هذا الكلام … وقيل يومها إنه هرَّب كنزًا من المجوهرات وأخفاه في القصر … ولكن الحقيقة أن هذا الكنز لم يكُن سِوى مجموعة من المستنَدات تؤكِّد براءته من التُّهمة … وكان ينوي نشرها بعد انتهاء الحرب … ولكنه مات دون أن يتمكَّن من إثبات براءته.

وصمتت السيدة لحظاتٍ ثم عادت تقول: وقد حاوَل ابنه أن يبرِّئ والده … وظلَّ يبحث عن هذه المستنَدات حتى علِم أنها في هذا القصر.

تختخ: هل هو الأعمى؟

السيدة: نعم … لقد كان بطلًا من أبطال الحرب العالمية الثانية، وأُصيبَ أثناء العمليات وفقدَ بصره … ولقد تركت له في العام الماضي حُرية البحث في القصر كما يشاء … وقضى فترةً طويلة في الشتاء الماضي يبحث دون أن يصل إلى شيء … ثم جاء هذا العام أيضًا، ولكنِّي رفضت أن يُحاول مرةً أخرى.

وابتسمت وهي تقول: بصراحة … كنت أظنُّ أنه كنز … وحاولت أن أحصل عليه لنفسي، ولكن الآن أشعر بالأسف … لأنني اضطررته إلى محاولة دخول القصر خِلسةً للبحث، وأظنُّه سيكون أسعد إنسان عندما يرى هذه المستنَدات التي تُثبِت براءة والده، وسأتَّصل به الآن.

وقبل أن تمدَّ السيدة يدها إلى التليفون … سمِع الجميع جرس الباب يدقُّ بشدة في الصمت، فنظر «تختخ» إلى السيدة التي قالت: أرجو أن تفتح لنرى من القادم في هذه الساعة!

وأسرع «تختخ» يفتح الباب … وأخذ ينظر إلى القادم في دهشة … فلم يكُن إلا الشاويش «علي» الذي بدا مُجهَدًا وغاضبًا، فصاح ﺑ «تختخ»: أنت؟! ماذا تفعل هنا؟ إنني أقبض عليك!

ولكن قبل أن يُتمَّ جملته قالت السيدة: ادخل يا شاويش من البرد … وأرجو أن تشترك معي في شكر أصدقائنا المغامرين الذين حلُّوا لغزًا عمره أكثر من خمسين عامًا … وفشلت جهود عشرات الرجال في حلِّه!

الشاويش: ولكن … إن … الذي …

السيدة: لا شيء يا شاويش … لا، لكن … ولا إن … ولا الذي … إنني صاحبة هذا القصر … وأُحبُّ أن أبلِّغك أن شيئًا لم يُسرَق منه … وأن هؤلاء الثلاثة ضُيوفي!

والتفتت إلى الأصدقاء قائلةً: بالمناسبة أرجو أن تتناولوا معي الغداء غدًا … وسيكون معنا سير «كورنويل»؛ فقد تكون عندكم أسئلة تُحبُّون أن يُجيب عنها.

ووقف الثلاثة … وتبادلوا التحيَّة مع السيدة، ثم انسحبوا خارجين … في حين وقف الشاويش مكانه مفتوح الفم … لا يصدِّق ما سمِعته أُذناه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤