المقدمة

تصدر الطبعة الثانية من هذا الكتاب بعد صدور طبعته الأولى بنحو ستِّ سنوات.

وليست السنوات الست بالمدة القصيرة بحساب الحوادث العالمية والتجارب الكبرى في تاريخنا الحديث، وإن تكن قصيرة بحساب السنين، أو بحساب الزمن الذي انقضى بعد إعلان الفلسفة المادية التاريخية في منتصف القرن التاسع عشر.

بل ربما كانت السنوات الست في تاريخ الإنسانية الحديث أحفل بنتائج التجربة العملية من السنين التي نَيَّفَتْ على المائة منذ إعلان الفلسفة المادية؛ لأن تجربة السنوات الستِّ الأخيرة أتت بعد نضج العهد الصناعي الأكبر، الذي جعله أئمة المذهب الماركسي أساسًا لمبادئ مذهبهم ودعامة للنبوءات المحتومة التي تترتب عليه؛ ولأن الحوادث التي ارتبطت بتجربة المذهب المادي التاريخي في الزمن الأخير كانت على نطاقها العالمي الواسع أوفر عددًا وأكثر تنويعًا وأصح دلالة من جميع التجارب الصغيرة التي مرت بالمذهب من منتصف القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين.

وعندنا اليوم من دلائل الاتجاه إلى مصير المذهب في المستقبل تجارب القرن الماضي وتجارب السنوات الأخيرة، وكلتاهما قاطعة في الدلالة على ابتعاد العالم في اتجاهه المستمر عن مبادئ المذهب المادي للتاريخ، ولكن المرحلة الأخيرة — مرحلة السنوات القلائل منذ منتصف القرن العشرين — تشير إلى مسافةٍ أوسع كثيرًا في الاتجاه البعيد عن المذهب، سواء نظرنا إلى تطبيقاته المتعددة، أو نظرنا إلى نبوءاته التي هي أهم من التطبيقات في امتحان الأسس والدعائم التي قام عليها.

فالثابت اليوم أنَّ المذهب الماركسي يحتاج إلى تعديلٍ كبيرٍ في مبادئه الأساسية قبل وضعه في مواضع التنفيذ، وأنه — مع التعديل الكثير قبل الشروع فيه — لا يزال محتاجًا إلى التعديل بعد التعديل في أثناء تطبيقه، ولا يزال كل تعديل من هذه التعديلات الكثيرة يبتعد به مسافة بعد مسافة في الطريق المخالف لطريقه، فلم يبق من الماركسية بعد هذه التعديلات غير أنواع من الاشتراكية الديموقراطية تناقض الماركسية في جوهرها؛ لأن الاشتراكية الديموقراطية بأنواعها جميعًا تقوم على تضامن الأمة بحذافيرها، ولا تقوم على انفراد الطبقة التي يسميها الماركسيون «بالبرولتارية» ولا يشركون معها طبقة أخرى.

أما النبوءات المحتومة فقد كذبت جميعًا، وظهر على الدوام أنَّ نتائج السنين بعد السنين تذهب فيها من النقيض إلى النقيض.

فمن نبوءات الماركسية المحتومة أنَّ البلاد التي تسودها الصناعة الكبرى هي أصلح البلاد لسيادة الماركسية فيها، فإذا بالنتيجة الواقعة في كل مكان أنَّ الماركسية أفشل ما تكون في تلك البلاد، وأن هذه الماركسية تسود بمقدار خلو البلاد من الصناعة الكبرى، لا بمقدار غلبة الصناعة الكبرى عليها، ثم تتغير بها التجربة العملية لا محالة بعد بضع سنوات، فتتقدم إلى الاشتراكية الديمقراطية وتبتعد عن الشيوعية الماركسية بانتظامٍ واطراد.

ومن نبوءات الماركسية المحتومة أنَّ الثروة تنحصر شيئًا فشيئًا حتى تجتمع كلها في أيدي قليل من أصحاب رءوس الأموال، وتتجرد الأمم فيما عدا هذه الطائفة القليلة من كل شيء غير القيود والأغلال.

فإذا بالواقع المطرد أنَّ رءوس الأموال تتوزع بين حملة الأسهم من أصحاب الموارد الصغيرة أو المتوسطة أو الكبيرة بالمئات والألوف، وأنَّ السلطان في تدبير الأموال يتوزع كذلك بين أصحاب رءوس الأموال وبين خبراء الصناعة وخبراء الإدارة وخبراء التسويق والترويج والإعلان، فلا انحصار على اطراد، بل توزيع وتنويع في الكفاية والصنعة على اطراد.

ومن نبوءات الماركسية المحتومة أنَّ العامل المنفرد ينعدم بعد استقرار الصناعة الكبرى، فلا يتسع له مجال الرزق ولا مجال الحياة، فإذا بالعمال المنفردين يزدادون إلى جوار كل أداة صناعية من الأدوات الضخام، وإذا بالعمال المنفردين يصبحون طوائفَ وأنواعًا في كل حرفة من الحرف، بحسب الاختلاف والتنويع في المكنات والأدوات، واختلافهم وهم مجتمعون في داخل المصنع كاختلافهم وهم منفردون متفرقون للاشتغال بصناعاتهم في البيوت والأسواق.

•••

وقد صار بطلان هذه النبوءات أقوى الدلائل على بطلان الأسس التي قامت عليها، وهي تلك الأسس التي أفرط دعاة المذهب في وصفها بصفات التحقيق العلمي، وهي أبعد ما تكون من التحقيق.

ولو كانت النبوءات مما يبدو قبل مضي الزمن المقدور لها لسقطت الصفة العلمية عن هذا المذهب ولم ير فيه أحد من المحققين محلًّا للدراسة الجدية والمناقشة المنطقية، ولكن العلماء أعطوا هذا المذهب المتداعي فوق حقِّه من العناية؛ لأنهم قد اضطروا إلى انتظار النتيجة من تحقيقاته العملية بعد حين؛ ولأنهم من جهةٍ أخرى قد تناولوه بالبحث العلمي عند ظهوره مجاراة لنزعة العصر في القرن التاسع عشر، وقد كان كل شيء فيه أهلًا للدراسة العلمية، بعد أن حلَّ العلماء محل الكهان في «تطويب» الآراء والدعوات.

على أنهم قد أسرفوا في العناية الجدية بهذا المذهب، وهو يحمل أدلة البطلان على وجهه بغير حاجة إلى التعمق الكثير وراء العناوين.

فإن الدعوى المجردة من السند هي صبغة هذا المذهب التي لا تخفى على ناظر إليه من النظرة الأولى؛ لأنه يطلب التسليم بالدعوى من التعريف، ثم يجعل التعريف حلًّا للقضية قبل ثبوته، وقبل ثبوت القضية من باب أولى.

فهو يقرر — مثلًا — أنَّ الإنسان حيوان منتج، ويعتبر هذا التعريف حقيقة مفروغًا منها، ثم يثبت باستناده إليه أنَّ الإنتاج هو قوام كل شيء في المجتمعات الإنسانية.

ولكن المسألة كلها لا تبتدئ بالإنتاج، بل لا بد قبلها من صفات أخرى في الإنسان قبل الوصول إلى هذه الصفة، وتلك هي؛ أولًا: امتيازه بمطالب أخرى غير مطالب الحيوان، وهي ثانيًا: قدرته على تدبير هذه المطالب بالإنتاج، وهي ثالثًا: إنتاجه لما أراده حسب مطالبه وكفاياته، ثم يأتي الإنتاج بعد ذلك كله محكومًا بمقدماته، وليس هو الحاكم لها على الجملة أو على التفصيل.

والماركسيون يُقرِّرون أنَّ المادة مبنية على التناقض، ويعتبرون تعريفها بذلك حلًّا لقضية التناقض، وهو المشكلة التي تحتاج إلى الحل، وليس هو التعريف والحلُّ في آنٍ.

ويُقرِّرون أنَّ الطبقة هي الجماعة من الناس التي تخالف مصالحها مصالح سائر الطبقات، ثم يجعلون تنازع الطبقات سببًا لأطوار التاريخ، ويطلبون التسليم بهذا التطور بعد اشتراط النزاع من الكلمة الأولى في التعريف.

ولقد ضلوا السبيل عن أقرب الطبقات إلى الطبقة البرجوازية، وهي طبقة الإقطاعيين، واسمها باللغات الأجنبية معناه طبقة المتنازعين Feudal، فكيف يصبح الإقطاعي الذي يحارب الإقطاعي مثله حرب المستميت عضوًا في طبقة واحدة؟! وكيف يصبح التابعون للإقطاعي أعداء له، وهم يحاربون في صفه من كان تابعًا للإقطاعيين الآخرين؟!

وهكذا يقوم المذهب كله على تعريفاتٍ سابقة لكل بحث وكل تحقيق، وما كان لأمثال هذه الدعاوى من حق في المناقشة الجدية — باسم العلم لولا نزعة العصر كله أيام المناداة بها، ولولا أنَّ النبوءات الباطلة التي قامت على تلك الدعاوى كانت لا تزال في انتظار التجربة الواقعية، التي لا ننتظرها نحن أبناء العصر الحاضر؛ لأننا نلمس أنقاضها باليدين.

وكل ما بقي اليوم من الماركسية فهو هذه المذاهب الاشتراكية «للديموقراطية» التي قامت في أرجاء العالم على غير أساسٍ من دعاوى الماركسيين، وقد تعاد طبعة هذا الكتاب مرَّةً أخرى وهو من قبيل الكلام التاريخي المحفوظ بغير حاجةٍ من وقائع الزمان إلى برهانٍ عليه؛ لأن الواقع الملموس باليدين سوف يغني عن ذلك البرهان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤