مقدمة

أعتبر هذا الكتاب حدثًا.

باعتبار ما يقوله، وباعتبار الرجل الذي كتبه، واللحظة التي ظهر فيها، ولأنه ضمان للمستقبل. فهذا الكتاب نهاية مطاف وبداية انطلاقة؛ لأنه يحطم أشياء ويفتح الباب لغيرها، فهو في آنٍ واحد رفضٌ وفتح.

يجب أن نتعرض أولًا للرجل؛ لأننا بصدد كتاب من تأليف إنسان معين، يتكلم من موقعه، حيث يعيش ويعمل، ومن وجهة نظره التي يراها سليمة ومتمشِّية مع أعماله ومع المبادئ التي تستند عليها. لسنا بصدد إنسان عكف بالمصادفة على الكتابة لمجرد إعجابه الطارئ بقصيدة لسان جون بيرس أو بلوحةٍ لبيكاسو، فهذه المسائل أساسية في رأيه، وهي ترتبط بفكرته عن الخير والشر، وبمبررات وجوده وفنائه، وبوقوفه إلى جانب الأغلبية الساحقة التي تعاني وتتألم. وما يقوله هنا ليس أبدًا أهواء أو مشاعر أو ضربًا من التعسف، بل مسئولية يتحملها تجاه نفسه وتجاه الآخرين، وإيمان راسخ منه بأن الخطأ في هذا الميدان انعكاس لأخطاء ومواقف أخرى، وهو تصحيح لخط السير، وتأكيد للفكر السليم.

لا شك أننا نحكم على الناقد بآرائه التي أَلِفناها، أي بما يدافع عنه، وبتذوُّقه لما يتعرض له، وبمدى حساسيته. وسيكون على حق في نظرنا إذا رأى قبلنا أشياء تأكدت قيمتها ولم تعد موضع نزاع. ولكننا لا نبالي كثيرًا بمجموع أفكار هذا الناقد، لقد قرأتْ أجيال متعاقبة لسانت بوف لأنه عرَّفنا بشعراء البلياد أو بالرومانتيكيين. على أن هذه الأجيال نسيت تمامًا أنه كان من أتباع سان سيمون.

ولكن الأمر يختلف بالنسبة لجارودي؛ فحتى الذين لا يعتبرون أن كافكا اكتشاف جديد، يهمهم أن يتكلم عنه هنا رجل ماركسي، وبصفته هذه.

ولا شك أن ذلك يرجع إلى طبيعة الماركسية نفسها؛ فكل نقد ينبع من مفهوم عام للعالم، وقد نلحظه بدرجة أو أخرى، والكاتب يتفاهم مع قرائه عن طريق هذا المفهوم السائد، ومن هنا يستمد الناقد نفوذه فيؤثر على الأفكار المقررة، أو الأفكار التي في طريقها لأن تصبح كذلك. ويعبِّر الناقد، بلغة شعبه، عن رأي الأمة، في إطار نظام اجتماعي معين، وفي مرحلة معينة، وهذا معيار عظمة ما يقول وتلك حدوده أيضًا؛ فالخير والجمال ليسا الشيء نفسه بالنسبة للإسباني الذي عاش في العصر الذهبي، أو للفرنسي المعاصر لعهد لويس الرابع عشر. وهل كان بوالو يستطيع أن يفهم جونجورا أو حتى شكسبير، وهو الذي اعتبر كل ما جادت به بلاده قبل ماليرب مجرد نفاية؟ هذا بالرغم من أنه كان هناك مفهوم عام للأشياء، يرمي إلى الشمول والكونية، على الأقل في جزء من العالم، ويتسمَّى لهذا السبب بالكاثوليكية١ بَيد أن التفرد ظهر من جديد داخل إطار هذه الكونية. ولم تكن الانقسامات والفِرق البروتستانتية التي تطبَّعت بالسمات المميزة للبلدان التي نمت وتطورت فيها، هي السبب الوحيد لهذا التفرد؛ لأنه ظهر أيضًا بين أتباع الديانة نفسها. فالهُوة التي تفصل بين القديس يوحنا الصليبي وبين بوسويه لا تقل عن تلك التي تفصل بين كالدرون وراسين.

لا شك أن الماركسية كانت أول محاولة، بل المحاولة الوحيدة، التي تُلزِم من يعتقد بها ألا ينسى أبدًا أنه لا يوجه كلامه إلا لمن يحيطون به فقط، وهو ملمٌّ بظروف حياتهم التي يشاركهم فيها، بل ويخاطب كل الناس، كما هم، على اختلافهم عنه، وفي ذهنه أبعاد مستقبلهم.

يتكلم الماركسي منطلقًا من افتراض علمي معين، وكل خطأ يقع فيه ويؤدي إلى التشكيك في ذلك الافتراض؛ يُعَد في نظره جريمة في حق الإنسانية.

أكتب هذا الكلام في وقت تُفضح فيه وتُكشف أخطاء من هذا النوع بطريقة لم تُعهد من قبل، في وقت يُضطر فيه الذين ينسبون أنفسهم للماركسية إلى غربلة كل «معتقداتهم»، أي أفكارهم التي اعتبروها صحيحة، لا تقبل الجدل، تمامًا كما يحدث أثناء الحرب، إذ يتبنى رجال هذا المعسكر أو ذاك مفهومات عن العنف يَعجبون منها عندما يعود السلام. لا أدري ما إذا كان يجوز للمسيحي أن يبرر الأعمال غير الإنسانية التي تفرضها عليه السلطات، وأن يحاول التوفيق بينها وبين ما يمليه عليه إيمانه، فأنا لا أريد أن أناقش هذه القضية، ولكني أعرف أن الأخطاء والجرائم لا يمكنها أن تجد لها مكانًا طبيعيًّا في الماركسية، فهذا تحريف لها وخيانة وتشويه.

ولا شك أن ذلك هو سبب الطابع الفريد الذي تميز به فضح الانحرافات عن الماركسية بعد مرحلة الاستالينية.

لسنا بصدد مراجعة الماركسية، بل بصدد تنقيتها من الشوائب، وتخليصها من التطبيق العقائدي الجامد، سواء في مجال التاريخ أو العلوم أو النقد الأدبي، ومن الحجج الدامغة والاستشهاد بالكتب «المقدسة» التي تكتم الأفواه، وتجعل المناقشة مستحيلة. وسأكتفي هنا بمثَل في الحقل الأدبي، فما أكثر ما استُخدمت نصوص لإنجلز التي تحدد الوضع السليم لبلزاك، لسحق كل ما هو لغير بلزاك. وهكذا جاء من توهموا أنهم ماركسيون، بنظام تدرُّج هرمي لا يمكن المساس به، غافلين عن أنه إذا كان إنجلز لم يتكلم عن ستندال، فذلك لأنه لم يقرأه. ولم يدرك هؤلاء أن المثَل الذي ضربه إنجلز ببلزاك ليس «النص» أو «القول الفصل» في بلزاك، بل مسلك إنجلز إزاءه، وأن الاقتداء بهذا المثل لا يجوز أن يتحول إلى تلاوة لصلاة، بل يعني القدرة على استيعاب أفكار ماركس وإنجلز في مواجهة حدث آخر.

•••

أعتبر هذا الكتاب حدثًا لأنه يتعرض لمسائل أساسية في حياتي وفي فكري. وأريد أن أتكلم هنا من وجهة نظري الشخصية.

إن معركة حياتي تتلخص في التعبير عن أشياء خارج كياني، سبقتني إلى هذا العالم، وستظل بعد أن أتوارى عنه. وهذا ما تسميه اللغة المجردة «الواقعية» التي نحاول أن نتكلم عنها بلهجة غير مأساوية، مع أني مهيَّأ للانسياق وراء هذه اللهجة؛ فالإنسان الواقعي يُقدِم على رهان، وهو نفسه موضوع ذلك الرهان، وإذا خسر من انغمس في هذا المضمار فإنه يفقد كل شيء؛ لأنه لا يبقى منه أي شيء … ومهما ادعيتم فإن كل إنسان يحتفظ في قرارة نفسه برغبة دفينة، وهي أن يبقى منه شيء يحيا من بعده، ويترك أثرًا منه. وما أكثر الذين ينقشون أسماءهم على الأشجار والأحجار! إن مأساتي لا تختلف عن مأساتهم.

وكلمة الواقعية أو الواقعي قد تؤدي إلى الخلط، أو قد تلتبس معانيها على أقل تقدير. وهناك فنانون كبار يمقتون هذه الكلمة مع أن الفضل في بقائهم يرجع إلى الجانب الواقعي في أعمالهم. وأذكر على سبيل المثال الفنان مانيس؛ إذ كان يقول إنه ينطلق من الواقع، وإنه لا يستطيع أن يستغني عنه. ومع ذلك كان ماتيس لا يتفوَّه بكلمة «الواقعية» دون أن يتحامل عليها. إنها مأساة … مأساة المفردات. وبوسعكم أن تعتبروا كلمة الواقعية وصمة عار، ولكني لن أتخلى عنها أبدًا؛ فالموقف الواقعي في الحياة أو الفن هو مغزى حياتي وفني، وهناك كثيرون يشاركونني هذا الموقف. غير أن إساءة استخدام الكلمة ولصقها ببعض الأشكال المبتذلة (وهذا ما حدث بالنسبة لنوع من المادية)، وإسراف تجار الصورة والكلمة في انتهاكها في عصرنا هذا؛ ساهَم إلى حد كبير في الحط من شأنها. وليست القضية بالنسبة لي مجرد ابتكار طارئ ينتشر ثم يزول، فلن أخجل من موقفي الواقعي أو أتخلى عنه؛ لأنه لا يتوقف على صراخ أعداء الواقعية، ولا على الإنتاج الرخيص لأدعياء الواقعية. أنا لم أولد واقعيًّا، كما أن المسألة لم تكن وحيًا هبط عليَّ، لقد أصبحت الواقعية انحيازًا لفكري لا أستطيع أن أحيد عنه بحكم خبرة حياتي كلها، وقد يدرك الناس في يوم من الأيام ما ضحيت به من أجلها.

يحدد هذا الكتاب موقف الواقعية، ويطالب بإعادة تقييمها بما يتفق مع ما اعتمل في الفكر الإنساني منذ حوالي ستين عامًا. وهو في نظري أكثر من مجرد قراءة شيقة … إنه يمس شيئًا أساسيًّا، يمس مصير الواقعية. وهذا المصير ليس أمرًا مقررًا تم البتُّ فيه نهائيًّا، بل إنه لا يمكن أن يظل قائمًا بمعزل عن الأحداث الجديدة. أيمكننا أن نتقبل مثلًا الواقعية التي لا تفهم العالم إلا كما تصوَّره الذين اعتقدوا أن الأرض مسطحة وأن الشمس تدور حولها؟ ينطبق هذا المثل أيضًا على كل من يتجاهلون الاستكشافات الأخيرة للواقع، كالنسبية والرادار وتركيب الذرة. ومع ذلك فكثيرًا ما نُدعى إلى اعتناق هذه الواقعية الجامدة. أيجب أن تكون واقعية المستقبل التي ستناسب الناس الذين سيحكمون علينا هي الواقعية القديمة نفسها، والأنماط الجامدة نفسها؟ ما القول إذا كانت زعزعة معرفتنا بالواقع جاءت على أيدي رجال، ومن قِبل أعمال لم تنسب نفسها للواقعية ولم تختر طريقها، مثال ذلك ماتيس وجويس وجاري.

وأنا لم أذكر جاري جزافًا؛ فإنتاج ألفريد جاري من بين الأعمال التي غذَتْ رأسي الشاب دون أن أتبين مصدر قيمتها في إلهامي. هل كنت أستطيع أن أكتفي بذلك التفسير المُبتسَر الذي يعتبر «أوبو» مجرد أستاذ فلسفة في جامعة رين؟ ليست الفكاهة و«المقالب» التي تبرز أمام أعيننا سوى تفسير مؤقت لهذه الشخصية. فعندما قدم المسرح الوطني الشعبي مسرحية «أوبو ملكًا»، لم يكتفِ شباب اليوم بالتصفيق للكلمات في حد ذاتها، كما كنا نفعل في الماضي، بل صفق أيضًا لشيء جديد، شيء تولَّد عن التاريخ، وهو ذلك الكائن المشوَّه الذي يجعل الجمهور نفسه يستقبل «صعود أرتورو أوي الذي لا يمكن مقاومته» بطريقة مختلفة عني أنا مثلًا، لأني شاهد على أحداث تلح عليَّ بتفاصيل صورة عهد عاصرته … لم تعد شخصية «أوبو» المقدمة على خشبة المسرح الوطني الشعبي مجرد نموذج يسخر منه الطالب، أو فضيحة يثيرها التلفظ بكلمة مبتذلة في الأيام الأخيرة من القرن الماضي. لقد اكتسبت هذه المسرحية، بسبب ظروف لاحقة، نغمة واقعية وسَّعت من أبعاد أفقها مئات المرات، برغم أن المؤلف نفسه ما كان يتخيل ذلك في يوم من الأيام.

وتجري هذه الظاهرة أيضًا على كافكا؛ فقد تصورنا في أول الأمر أن عالمه نتاج خيال سقيم، فإذا به يصبح مطابقًا للواقع التاريخي. ونصادف الظاهرة نفسها مرة أخرى في مسرح ماياكوفسكي؛ إذ تحولت مبالغات عام ١٩٢٨م و١٩٢٩م إلى هجاء مباشر للبيروقراطية يفوق تأثيره بمراحل ما تخيله المؤلف منذ خمس وثلاثين سنة. وهذا الهجاء له خطره الكبير؛ لأن بيروقراطيي اليوم، من أمثال «بوبيدونوسيكوف»، يتعرفون في هذه المسرحية على أشخاصهم، ويحاولون إنكار صورتهم الواضحة، فيدَّعون أن هذا الواقع لا وجود له، وأنه غير طبيعي ولا يشبه ما لدينا، وأنه يتعين علينا أن نعيد النظر في هذا العمل الفني فنحوِّره ونخفِّفه ونجعله أكثر شاعرية وأقل حدَّة.

هل تستطيع الواقعية أن ترفض فنًّا لا يدَّعي أنه يناصر الواقعية ولو أكد الواقع نفسه ذلك بكل قوة؟ هل ستقف الواقعية في صف من يطالبون بتحويرها وتخفيفها وجعْلها أكثر شاعرية وأقل حدَّة؟ هذه القضايا تثور في الأذهان، في أذهان أمثالي عندما نفكر في أبولينير أو كلوديل أو رفردي أو حتى في باريس وكيبلنج، كما يطرحها التصوير أيضًا بالنسبة لبروجيل وجويا، تمامًا كما يثيرها اليوم بالنسبة للوحة «جيرنيكا» لبيكاسو.

إن الرفض الحاسم لكل ما هو ليس «واقعيًّا» في مفهوم العقائدية يؤدي إلى تشويه الواقعية ويقلل من شأنها، كما يلقي بالأخص ظلال الغموض على قضايا مستقبل الفن الأساسية، أي قضايا التراث الثقافي، كما يسمونها. أبوسعنا أن نرفض ما يمكن أن يصبح في الغد تعبيرًا عن الواقع التاريخي (فالستاف، فيجارو المفتش العام، أوبو، بوبيدونوسيكوف …) وأن ندَّعي في الوقت نفسه أننا ندافع عن التراث الشعبي في مجال الثقافة؟ لا شك أن رفض الوطن الاشتراكي (تشيكوسلوفاكيا) الذي انتمى إليه كافكا، لهذا الموقف الساذج منه، بعد سنوات من إساءة تقييم وتقدير أعماله؛ لَدليلٌ على أن هذا التفكير لا يمكن أن يقف على قدميه ويؤكد الثقة في مستقبل الفكر الإنساني. لا أريد أن أخوض هنا في تفاصيل المناقشات الدائرة الآن، على أنه يتعين علينا أن نعترف، عن طريق مثل هذه النماذج، بأن مناقشة قِيم الفن يجب أن تتم بأسلوب آخر غير أسلوب الحروب، الأهلية منها وغير الأهلية. ولا يمكن أن نتصور أبدًا أن الفكر الإنساني سينمو، وأن الثقافات الوطنية ستزدهر برفض المناقشة العنيفة في أغلب الأحوال، وإن كان العنف هنا يختلف عن عنف الدولة؛ لأنه إذعان الفرد للأغلبية.

وسواء كان الفنانون واقعيين أم غير واقعيين، فلن تنفضَّ خلافاتهم، ولن ينتهي إنكار بعضهم لبعض، والسِّلم الظاهري في هذا الميدان ليس سوى واجهة، فمن ذا الذي يستطيع أن يتكلم عن التعايش السلمي بين الأيديولوجيات؟ إن التعايش السلمي في الفن عبث، شأنه في ذلك شأن الاتجاه نحو توحيد الفكر الخلاق، وإخضاعه للقوانين المنزَّلة التي أبدعها أمثال أوبو وبوبيدونوسيكوف.

أعتبر كتاب روجيه جارودي حدثًا في عالمنا هذا، وفي مواجهة التعسف المستتر خلف قناع العلم، والجمود الذي يلبس رداء الفن. وإني لأحيِّي هذا العمل الجَسور الهادئ لا بوصفي واقعيًّا فحسب، بل بوصفي واقعيًّا اشتراكيًّا. ويسعدني أن أتخيل الشباب الذي غضَّ الطرْف عن الواقعية، باعتبارها اتجاهًا ولَّى، قُضي عليه ومقبور، وهو يرى في هذا الكتاب استهلالًا لتأمل إيجابي يساهم فيه الفن في تغيير العالم.

أراجون
١  الكاثوليكية مشتقَّة من كلمة يونانية تعني الكونية. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤