سان جون بيرس

في مسرحية «المدينة» لكلوديل، تقدِّم إحدى شخصياتها التعريف التالي للشعر:

يا بني! عندما كنت شاعرًا بين البشر
ابتكرت بيتًا لا وزن له ولا قافية،
واستوعبت في طيات قلبي وظيفة مزدوجة متبادلة،
أستنشق بها الحياة لأردها
كلمةً مسموعة
في زفير أسمَى.

والواقع أن هذا التعريف بالشعر يشمل القضية التي يطرحها شعر سان جون بيرس، أو بالأحرى التحدي الذي تثيره أعماله. فما هي العلاقة بين الحياة التي يستنشقها هذا الشاعر وبين الكلمات التي يطلقها زفير أشعاره؟ ما هي العلاقة بين عالم أشعاره وبين تجارب حياته؟

إن دراسة شعر سان جون بيرس تعني أولًا البحث في قوانين تحول تجربته إلى عمل إبداعي.

•••

على أن هذه المهمة تكون شاقة بشكل خاص عندما يتعلق الأمر بشاعر حرص دائمًا على الحيلولة دون الربط بين شخصيته الاجتماعية وبين أعماله الشعرية. ولو أننا وافقناه على هذا، لما عقدنا أي صلة بين أشعار سان جون بيرس وبين ألكسيس ليجيه (اسم سان جون بيرس الأصلي)، الرجل الذي حرك سياسة فرنسا الخارجية سنوات عديدة، بالرغم من تعاقب عدة وزارات.

لقد كتب يقول في عام ١٩٤٨م، في خطاب له مرسل لماكس بول فوشيه: «أرجو أن تُعفيني بالذات من الإشارة إلى حياتي الدبلوماسية. لم يكن عبثًا أن اخترت اسمًا أدبيًّا مستعارًا لنفسي، وأن مارست باستمرار الازدواج الواضح في شخصيتي … والواقع أن أي ربط بين سان جون بيرس وألكسيس سان ليجيه، لا بد أن يؤدي إلى تشويه نظرة القارئ والإضرار بتفسيره للشعر.»

على أنه يتعين علينا التصدي لهذا التحدي، والتغاضي عما حظره علينا، لكي نحاول استخلاص معنى أعمال سان جون بيرس الشعرية التي هي من أعظم ما كتب في العصر الراهن.

فما تشهد عليه الأعمال الإبداعية له وزن أكبر من إرادة مؤلفها. وهناك حقيقة بديهية أولى تفرض نفسها؛ كل مادة العالم الشعري لسان جون بيرس مستعارة من تجارب حياة ألكسيس ليجيه؛ فالصور التي اختارها، والكلمات التي حكى بها هذه الصور، ومسلك صاحب هذه الاختيارات والمعبر عنها، وكل كنز الأحاسيس والذكريات والالتزامات التي تدخل في بناء شعره … كل ذلك مستقًى من أعماق حياته.

كانت طفولته طفولة أمير حديث السن يعيش في جزيرة صغيرة تزين بحر الأنتيل، حيث «كان الماء شمسًا خضراء» (١: ١٧).١ وقضى صباه أيضًا في نفس المقر الساحر بأبهته الطبيعية، وبهائه الإنساني، وخصوبته الوافرة، وأسرار جماله التلقائي؛ ففي قلب الجزيرة كان يرقد ذلك القارب الذي قذفه الإعصار، فنمت فوقه خضرة مدارية طاغية أضفت عليه حياة برية غريبة يقول فيها الشاعر:
وفي التو حاولت عيوني أن تصور
عالمًا يتأرجح بين مياه لامعة،
وتعرفت على قمة الصاري الأملس،
ومصطبته المغطاة بالأوراق،
وحبال من عُلَّيق
أفرطت أزهارها في الطول فأصبحت
أطرافها صيحات الببغاء.
(١: ٢٠)

إن المواد الأولية التي بنى بها بيرس عالمه الشعري مستقاة من حياته كلها، بكل تفاصيلها البسيطة، وبكل مصادفاتها الغريبة.

على أن حياته هذه لا تشمل طفولة أمير فحسب، بل ومهنة أمير أيضًا؛ إذ أتاحت له القيام بجولات طويلة في صحراء جوبي على صهوة جواده، وبرحلات في المحيط الهندي، وهيأت له النفي أيضًا على شواطئ أمريكا عندما استبعده الماريشال بيتان. وهكذا اتسع مجال انطباعاته وتجاربه. لقد عاش بيرس أميرًا متجولًا يقطع الفيافي والبحار طولًا وعرضًا، ليلتقط منها الآثار والشواهد على عظمة الإنسان من خلال الثقافات والحضارات المندثرة، وليتأمل أيضًا في ممارسة السلطة، وفي النفي بعيدًا عن الوطن، وفي البحر وفي الصحراء، وفي الغضب وفي الأمل، وفي الأغنية التي تجمع كل ذلك في قلب الإنسان.

ولغة بيرس خير شاهد على حياته، سواء في اختيار الألوان والنباتات التي أحاطت بطفولته، أو في انتقاء الصور والكلمات والألفاظ وتراكيب الجمل المستوحاة من مكاتب السفارات، ومن النصوص المنقوشة على اللوحات الحجرية.

على أنه من الصحيح أيضًا (وهذا ما سيساعدنا على فهم إصرار سان جون بيرس على الفصل بين العالم الذي عاشه، وبين العالم الذي أبدعه) أنه بالرغم من استخدامه هذه المواد، إلا أن قوانين البناء لا تختلف، بل وتتعارض مع تلك المواد نفسها؛ ولذا كان بيرس شخصًا واحدًا وشخصًا مزدوجًا في آن واحد. وحياته كل لا يتجزأ وإن كان التناقض قانونها.

•••

كتب بيرس يقول: «لقد واظبت دائمًا على ممارسة الازدواج التام في شخصيتي.» وهذا الرجل الممزق إلى جزأين يمثل عصره، عصر ازدواج شخصية الإنسان.

وكثيرًا ما ذكَّرني بسان جون بيرس بطلان في رواية أراجون «الأحياء الجميلة». هذان البطلان هما: كيسنل وجريزانداج؛ أحدهما رجل أعمال ناجح، والآخر من كبار موظفي الدولة، مثل ألكسيس ليجيه. وكلا البطلين مواظب تمامًا على حياة أخرى خارج حياته العامة؛ الأول يحلم بالحب، والثاني يعشق شعر رامبو. يقول كيسنل في الرواية: «الحكومة والأعمال والأرقام، كل ذلك ليس سوى مظهر زائف. أنا أفكر فيما لا أقول … نحن أناس مزدوجون كالآخرين، نعيش في مرحلة تاريخية ربما اصطلحوا في يوم من الأيام على أنها عصر ازدواج الإنسان. لقد قسمت حياتي دائمًا إلى جزأين …» (ص٢٦٧). تلك أيضًا لغة ومأساة سان جون بيرس.

ويقول جريزانداج، صديق كيسنل: «نحن اليوم أناس مزدوجون … أحدهما يؤدي وظيفة في المجتمع، والثاني لا يمت بصلة إلى الأول، بل يحتقره أحيانًا، وهو في تناقض دائم معه … والإنسان الاجتماعي يتقبل الكوارث الضرورية ببرود، أما الإنسان الحقيقي فلا يستسلم لها … ويتمثل دفاعي كله في التمسك بهذا الازدواج، وفي الحفاظ على واحة لي … على شيء لا يسري عليه القانون الحديدي الصارم المتحكم في الحياة» (ص٢٨٣–٢٨٥).

ألم يعش بيرس مأساة مشابهة؟

كان على رأس سياسة فرنسا الخارجية في السنوات السابقة على الحرب العالمية الثانية، عندما كفَّت فرنسا عن أن تكون دولة كبرى. وقد عاش بيرس هذا التدهور والاحتضار. ولن نتناول بالتحليل هنا دوره أو مسئولياته، على أننا سنضع في اعتبارنا وعيه بهذا الفشل، بوصفه أحد العناصر المفيدة في تفهم شعره. لقد عاصر بيرس منذ عام ١٩٣٣م طوفان الهتلرية، وقابله بالنظرة نفسها التي رآه بها أريستيد بريان؛ إذ كان بيرس من أقرب المتعاونين معه.

لا نجد أبدًا في التحليلات السياسية لهذا الدبلوماسي الشاعر أي أثر لذكر القوى أو المصالح الطبقية التي خانت الأمة الفرنسية، وتسببت في هزيمة عام ١٩٤٠م، ولكن الشاعر يثور على جهاز الدولة الضخم الذي يلتهم الرجال، مع أنه من التروس الأساسية في هذا الجهاز بوصفه الوكيل العام لوزارة الخارجية. إنه يعاني وطأة الغربة بعد أن أصبح ألعوبة تتقاذفها وتسحقها قوًى خارجية غريبة ومعادية. وهو يعيد النظر في قرن كامل من حياة الإنسان. وكانت كارثة عام١٩٤٠م من عوامل إدراكه ووعيه الحاد بالفوضى الشاملة وبالغربة، ومن هنا نبعت أجمل قصائده. كان أول رد فعل له الانفصام والرفض: «لا تفاهم مع ما كان» (٢: ١٠٩)، كما كتب في قصيدة «رياح».

وها هو يقول:

«آه! ما كان أحسن الذي استبشرناه من خطى الإنسان على الحجر … آه! ما كان أكثر الذي توقعناه من الإنسان تحت القناع» (٢: ١٦٧).

«إن ما يزيد عن قرن من الزمن يتستر بزلات التاريخ» (١: ١٧٨).

«ألا ترون فجأة أن كل شيء يتدانى، كل ما يزن المركب، وكل ما يجهزه، والقلاع جميعًا تحجب وجهنا، وكأنها شقة كبرى من الإيمان الميت، وكأنها شقة كبرى من ثوب العبث ومن غشاء الزيف، وأن الأوان قد آن لنمسك بالفأس فوق سطح المركب؟!» (٢: ٣١).

ولهذا التعبير الشعري دلالته الواضحة؛ فالملكية تقف في وجه الكيان الإنساني. إنه يقول لنا في قصيدة «مرارات»: «إنما فخر الحياة في اقتحامها، لا في استهلاك الشيء ولا في تملكه» (٢: ٢٤٣).

وتلك هي المسألة الأولى في الغربة التي صاغ كارل ماركس قانونها الأساسي بقوله: «بقدر ما يزيد ما عندك، بقدر ما يتناقص كيانك.»٢ فعالم الملكية والغربة الذي تتخذ فيه العلاقات الإنسانية مظهر الأشياء المنفصلة عن الإنسان، الغريبة عنه، المعادية له والمسيطرة عليه، يُطبِق بكل ثقله على الكائن، ويقف في وجه انطلاقه.

وهذا التناقض قائم في قلب الإنسانية البرجوازية من أيام جوته حتى أيام سان جون بيرس.

حطمت البرجوازية طغيان الإقطاع، والقيود التي فرضها على ازدهار الإنسان، فأيقظت بذلك الحلم الكبير في قيام الإنسان الكامل المتمكن؛ إنسان هيجل وجوته. لقد كتب فورباخ آنذاك يقول: «يجب أن يكون مَثلنا الأعلى هو الإنسان الكامل، الحقيقي، المتطور أبدًا.»

على أن الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي هيأت إمكانية التطور الكامل للإنسان كفرد له كيانه الموحد والشامل، خلقت في الوقت نفسه إمكانية سحق وتشويه الأغلبية الكبيرة من أفراد المجتمع. وإذا كان التناقض الأساسي في جدلية التطور التاريخي يدل على عظمة الإنسانية البرجوازية، فهو يرسم في الوقت نفسه حدود هذه الإنسانية. فقد أنجب المجتمع البرجوازي الإنسانية العظيمة، ولكنه حكم عليها أيضًا بالغرق.

وتصوِّر أعمال جوته، ابتداء من فرتر وبروميثيوس حتى ويلهم مايستر وفاوست، مأساة الإنسانية البرجوازية المتمثلة في النزاع الدائم بين الحلم العظيم بالتطور الحر والعالمي للإنسان، وبين المجتمع البرجوازي نفسه. فازدهار الشخصية الإنسانية، وقيام التعاون المتسق والمثمر بين الناس؛ يصطدم بقوانين المجتمع البرجوازي، بصراعه الطبقي، وبمنافساته الدامية، وبالتقسيم المميت للعمل، وباستغلال واضطهاد الأغلبية الساحقة من الأفراد. وكان الوعي بهذا التناقض، الذي لن يجد له حلًّا أبدًا في إطار نظام رأس المال؛ كان مصدر العظمة المأساوية في واقعية بلزاك وستندال. وكانت السمة المميزة للرومانتيكية، ابتداء من روسو حتى السريالية، هي محاولة الهروب من هذا التناقض بخلق عالم مكمل لعالم الواقع.

ومأساة سان جون بيرس الخاصة، تتمثل في ذلك الازدواج الذي يفرضه قانون العالم الذي يعيش فيه، وقانون الطبقة التي ينتمي إليها؛ فهو لا يستطيع أن يحول نشاطه في المجال العام إلى شعر، ولا يستطيع أن يحول شعره إلى عمل. فحياته لن تكون شعرًا يعبر عن أعماله، كما لن تكون أيضًا عملًا يعبر عما يصبو إليه شعره.

ويشمل هذا الازدواج مرحلة تاريخية بأسرها، وهي مرحلة الإنسانية البرجوازية. وقصائد سان جون بيرس هي أقصى ما توصلت إليه هذه الإنسانية حتى الآن، وهي على نقيض نشاطه، مع أنها تلازمه دائمًا.

وهذا الانقلاب الكبير في وظيفة العمل والحلم الناشئ عن استحالة قيام التوافق بين الإنسان الذي يعمل ويتصرف، وبين الإنسان الذي يحلم؛ سمة تميز بها الشعر الفرنسي طوال قرنين من الزمن.

•••

منذ بداية الازدهار الكبير للرأسمالية، والشعر يضع على عاتقه مهمة إعلاء شأن الكائن على حساب الملكية. وهو يعبر عن الحاجة إلى تحقيق الكيان الإنساني في مواجهة كل ضروب الانسلاخ. وتتحكم حركة عصرنا في حركة الشعر؛ فبقدر ما يتحول الإنسان إلى جزء من الكون يتضاءل رويدًا رويدًا، بقدر ما يعبر الشعر عن الحاجة إلى ربط الأنا بالحياة الشاملة التي نحياها كوجود وكارتقاء بالكائن. ويتغاضى الشعر شيئًا فشيئًا عن نقل الواقع أو التعبير عنه لكي يخلق ويتغنى بعالم أكثر صدقًا.

غدا الشعر وسيلة للمعرفة وللكشف، وتحولت الجماليات إلى أخلاقيات وإلى وسيلة للتغني بالحياة ولتجاوز الإنسان. ويقول بول فاليري: «إن الشعر يدعونا إلى الصيرورة أكثر مما يدعونا إلى الفهم.»

وشعر سان جون بيرس نهاية مطاف لتطور عرفه الشعر منذ بداية القرن التاسع عشر. فحتى هذا التاريخ كان الفنان لا يطرح قضية وجود عالم خارجي أو داخلي يشكل نموذجًا يجب على الفن أن يوصل إلينا واقعيته بوسائله الخاصة.

ومع ظهور الرومانتيكية أصبحت هذه البديهية موضع أخذ وردٍّ.

بدأ الفنان يغض الطرف شيئًا فشيئًا عن الموضوع كما عرفتْه وثبتته بل وحجَّرته التقاليد والمجتمع واللغة. وصاحَب هذا التباعدَ التدريجي عن الموضوع اهتمامٌ أكبر فأكبر بالذات. ولم تعد مهمة العمل الفني التعرض للعالم القائم فعلًا بقدر ما أصبحت مهمته السعي إلى خلق عالم آخر. وهكذا يكون الشعر، بمعناه اللغوي، عملية خلق حقيقية.

تقدم لنا الطبيعة، بالطبع، الألوان والأشكال والمظاهر، ولكنها مجرد مواد خام فقط. ولا يقبل الفنان الالتزام بتمثيل أي شيء أو محاكاة أي موضوع، بل يعمل على تجريد عناصر الواقع من معانيها التقليدية الشائعة، ليبني بها عالمًا آخر.

وعندما يدير المصورون والشعراء ظهورهم للواقع المرفوض فإنهم يخضعون، بلا وعي منهم، لقانون التطور التاريخي، وللتناقضات الداخلية المحركة للتطور.

كان لوتريامون يحس دائمًا بالحاجة إلى «سماء مقابلة». وكشف رامبو عن «عصر السفاكين» في محاولة منه للخروج من التناقض بين الحياة الواقعية والشعر، ولكنه آثر في نهاية الأمر طريق السكوت، ورحل إلى هرر، حيث اندفع في مغامرة يائسة، واشتغل بالنخاسة بسبب عجزه عن مواصلة حياته كإنسان وشاعر في فرنسا، التي انتصر فيها أعداء ثورة باريس في عام ١٨٧١م. أما جيرار دي نرفال فقد عثر في اختلال الأعصاب وفي الموت على مخرج له من الأزمة. وراح بودلير يبحث عن عالم آخر لعجزه عن الحياة في العالم القائم، كما يتضح من قصيدة «طائر الألبتروس» الذي تمنعه أجنحته الهائلة من السير على الأرض. وقد اقتفى مالارميه أثر بودلير في قصيدة «البجعة اليائسة». أما ألفريد جاري فقد اعتمد على ضحكات الأب آوبو العريضة، وكلف الدكتور فوسترول، عالم «الباتافيزيقيا»، بمهمة دراسة «القوانين المنظمة للاستثناءات وتفسير العالم الملحق بعالمنا هذا».

وأيًّا كانت أوجه الاختلاف أو عدم التساوي بين عبقريات هؤلاء الفنانين، إلا أنهم ينتمون جميعًا إلى معسكر واحد، وإلى أسرة واحدة تعتبر، بكل بساطة، أن كل ما يوجد في عالمنا أضحى عاديًّا ودارجًا. وفي رأيهم، تتمثل العظمة في رفض كل مفهوم نفعي ووضعي للعالم (وإن كانوا لا يعون أنهم بصدد عالم رأس المال بالذات)، وفي خلق عالم إنساني. وسان جون بيرس واحد من أفراد هذه الأسرة.

فالشعر بالنسبة لهم جميعًا امتداد للفلسفة عندما تصل إلى المسلَّمات النهائية، وعندما تصبح شكلًا للوجود في العالم.

•••

يبدأ كل شيء عند بيرس بالنفي وبالتمرد، وبالوعي بأن هذا العالم غريب عن الإنسان: «كنت أحس أني أعيش عند الناس، وإذا بالأرض تفوح بروحها الغريبة» (١: ٢٠١)؛ «هذا العالم معتوه» (١: ١٣٩)؛ «إنه عالم من التجار، وبلاد كبيرة ينادي عليها الدلَّال لتُباع تحت الشمس المحرقة، والهضاب العالية تُقمع، والأقاليم يُقدَّر لها سعر وسط رائحة الورود المهيبة» (١: ١٤٢)؛ «ثم جاء رجال المقايضة والتجارة، رجال وفدوا من بعيد وقد وضعوا في أيديهم قفازات من الجلد إمعانًا في التعسف. وجاء كل رجال العدالة الذين يجمعون الشرطة ويجنِّدون الحرس …»

«ثم رجال البابوية، الساعون إلى منصب القاصد الرسولي …»

«هكذا كنا نحلم بين آلهة حائرين» (٢: ٧٠ و٧١).

«الكتب قرأناها والأحلام انتهت، أهذا كل ما في الأمر؟ أين هو الحظ إذن وأين المخرج؟ … إن العرافة قد كذبت …»

«وكان الشرف يتهرب من أنصع الجباه شهرة» (٢: ١٨٥ و١٨٦).

فهناك إذن عالم بأسره يترنح ويتصدع، وهذا العالم هو عالم شاعرنا. وهو لا يحاول الهرب منه بالالتجاء إلى فراديس مصطنعة.

أما معنى العالم، فهو لا يستطيع أن يبحث عنه خارج نفسه، كما فعل كلوديل؛ لأنه ليس متصوفًا.

على أنه لا يفقد الثقة في أي لحظة في الحياة وفي مستقبل الإنسان. وهو يحتفظ وسط الكارثة بأمل وتفاؤل طاغٍ، وبثقة في النصر الأخير للإنسان وحضارته وفتوحه. ونجد عند بيرس التفاؤل النبوئي المعروف عند بعض الرومانتيكيين عشية عام ١٨٤٨م، والإيمان الإنساني الملحوظ في قصيدة «اليهودي التائه» لإدجار كينيه، والإحساس الملحمي بعظمة الإنسان الذي ألهم والت ويتمان أو فيرهارين.

وتمتد أصول هذا الإيمان إلى التحالف الطويل المدى بين الإنسان والأشياء، وإلى التمسك بالمادة الموجودة في الطبيعة؛ لأنها كانت بداية أمجاد الإنسان. وقد عاش بيرس الالتصاق بالمادة في فردوس طفولته، حيث أحس مباشرة بارتباط الإنسان بالطبيعة الرائعة: «عليَّ أن أفتح من جديد موطني الجميل، والمملكة الجميلة التي لم أعد أراها منذ الطفولة، وعليَّ أن أذود عنها في نشيدي» (٢: ١٤٥).

بدأ شعر سان جون بيرس بصيحة الفرح وبحب الحياة، ولو أنه كان مؤمنًا لكانت قصائده صلوات شكر، ولكنها ظلت قصائد «ثناء» في الطبيعة، كما سمى أول ديوان له. وقد كتب يقول لأندريه جيد: «هذا العنوان رائع حقًّا، حتى إني لا أريد أن أطلق اسمًا غيره على كل أعمالي، سواء نُشرت في كتاب واحد أو في عدة كتب.»٣

إن الوقوف بكل حماس إلى جانب قوى الحياة هو الفضيلة الكبرى، ونقصد الحياة هنا بجميع أبعادها، ابتداء من سرَيان كل عصارات الطبيعة في عروقنا حتى الإحساس بالطاقة البشرية العظمى المنتشرة عبر تاريخ الإنسان، والتي تمنحه الثقة في مستقبل أسمى.

ويشيع هذا الإحساس باستمرار في كل أعمال سان جون بيرس، فكأنها من سبيكة واحدة أو قصيدة طويلة أو ملحمة فريدة للإنسان من خلال تجاربه وحضاراته. إنها «أسطورة العصر» المناسبة لعهدنا الراهن؛ لأنها تجعلنا نحسُّ ونعيش تلاطم أمواج التاريخ، وتدفع انطلاقاتنا نحو الطموح ونحو النشوة بالحياة.

في بداية الأمر، اتخذت هذه الثقة المتفائلة بالإنسان شكل الوجود الخصب للعالم المداري والانطلاقة الحية باسم «قانون اللذة الغامض، بوصفها جوهر فكرة الشعر».٤

وقد غذت طفولته السعيدة، الجديرة بأمير صغير، غذت هذه الحماسة الأولية: «ما أكثر أسباب التغني!» (١: ٢٦)؛ «ناديت كل شيء مترنمًا بعظمته، وناديت كل حيوان قائلًا إنه جميل وطيب» (١: ١٩). كان بيرس قد أمضى كل صباه في جزر الأنتيل، التي قال عنها كريستوف كولومبوس إنها أجمل أرض شهدتها عين الإنسان، فعرف كيف يقدم أروع صورة لها. وتميل قصائده التي تحكي ذكرياته إلى خلق جمال يضارع جمال هذه الطبيعة.

غير أن هذه التجربة النابضة، التي لا تخلو من تأثر بأندريه جيد، لم تكن سوى بداية عند سان جون بيرس. فهو لا يرى أن علاقات الإنسان بالطبيعة هي علاقات سلبية، ولا يكتفي بأن تتغلغل في نفسه نشوة الدنيا، بل يعتبر العمل شكلًا أشمل وأرفع لالتحام الإنسان بالطبيعة.

فالعمل هو قانون العالم المحرك للإنسان وللطبيعة.

والفكرة الرئيسية في نظرة سان جون بيرس للعالم هي فكرة الصيرورة عند هيراقليطس، أي فكرة الهدم والبناء اللامتناهي لكل الكائنات. وقصيدة هيراقليطس هي أقرب القصائد إلى أعمال سان جون بيرس، سواء في المعنى الكوني الذي ترمي إليه، أو في شكلها النبوئي. كان هيراقليطس يقول: «هذا العالم لم يخلقه آلهة أو بشر. كان العالم، وهو الآن، وسيكون دائمًا نارًا حية إلى الأبد تشتعل وتنطفئ وفقًا لقوانين محددة … والحاجة هي محرك العالم، والشبع هو احتراق له … وأيًّا كان الطريق الذي تقطعه فلن تصل أبدًا إلى حدود الروح … وللساهرين عالم واحد مشترك والذين ينامون، يستغرق كل منهم في عالم خاص … والعراف الأكبر، صاحب محراب دلف لا يتكلم ولا يكتم شيئًا، إنه يشير.»

هذه بعض مقتطفات من هيراقليطس الإيفيزي الذي يذكِّرنا أسلوب كتابته وطريقة عرض أفكاره، باللوحات الحجرية التي تشهد على الحضارات المندثرة. وكأن سان جون بيرس قد حل نقوش هذه اللوحات، وترجمها إلى أشعار أضفت عليها حياة وشبابًا جديدين.

والإنسان لا متناهٍ متحرك، شأنه شأن البحار والرياح. وأهم قصائد بيرس تحمل عنوانَي: البحر والريح، بوصفهما رمزين للإنسان اللامحدود: «ولن يكون البحر ذاته هو الموضوع، بل إحساس الإنسان بالبحر وتملكه لفؤاده» (٢: ١٣٥)؛ وهو يحدثنا عن «المبشرون بالحلم وبالعمل، المتحدثون المتلهفون إلى الأبعاد الرحبة …» (٢: ٦٧)؛ وعن «كبار المغامرين في فيافي الروح» (٢: ٨١)؛ و«الباحثون عن الطرقات والحياة الحرة» (٢: ٦٧).

هذه المقتطفات من أشعار بيرس تذكِّرنا بالوجود في التصور الهيراقليطي، وتدعونا إلى الأخذ به.

«لقبوني بالغامض، وكان البحر مقصدي» (٢: ١٦١).

والبحر هو الموضوع الرئيسي في أشعار بيرس، تغنَّى به كما تغنت الأوديسة من قبل، فالبحر عنده نداء وقضاء، وتسامٍ ولا متناهٍ.

إنه دعوة إلى البحث عن أرض جديدة لرواد فاتحين جدد:

«يا بحر بالبوا … البحر نفسه منبثقًا! يا أنشودة قوة وعظمة، يطلق الإنسان فيها ذات ليلة وحشته المرتعشة … فإن يكن كل شيء معلومًا لديَّ، فما حياتي إلا رؤية جديدة … ودائمًا أبدًا، ستسبقيننا أيتها الذاكرة إلى كل الأراضي التي لم نرتَدْها بعد» (٢: ٩٩).

والبحر ضرورة عند الإنسان، عند كل من «لا يعقد السلام مع نفسه أبدًا» (١: ٣٦).

وإذا كانت وظيفة الشعر الأولى هي الوقوف في وجه إلحاحات الشك، فإنه يؤجِّج الرغبة والتعطش إلى اللامتناهي، وإلى الشمول الذي «تَدفع به إلى حدودنا وإلى ما بعد حدودنا حركةٌ عارمة» (٢: ٣٢).

«ودروب الدنيا كافة تلتهمنا في كفها» (١: ١٢٢).

والبحر عنده تجاوز يشبه التجاوز في الحب. كان أراجون يقول إن «الحب هو أن نخرج أولًا من نطاق أنفسنا.» ويرى سان جون بيرس، كما يرى أراجون والسرياليون، أن الحب وسيط بين الإنسان وكل الأشياء والتاريخ: «أنت المتنفس بين بحر الأشياء وبيني …» (٢: ٢٥٢).

تمتزج دائمًا صور البحر والحب عند بيرس لأنها تبشر باللامتناهي نفسه.

«… الوحدة في قلب الإنسان. يا له من إنسان غريب بلا شاطئ، بجوار امرأة تعيش على الشاطئ!» (٢: ٢٢٨).

«والإنسان مطارد من حجر إلى حجر، حتى آخر مهماز من الصوان والصخر، ينعطف إلى البحر القديم ويرى في ألق قرون الزمن المسطحة، الفرج المتشنج الهائل، وبه آلاف التضاريس السيالة، وكأنه الأحشاء الإلهية وقد عريت في لحظة ما» (٢: ٣٠١ و٣٠٢).

وحب المرأة وحب البحر، كلاهما غني باللامتناهي نفسه، وهما رمز ووعد بالخلق وبالخصوبة وبالعمل، قبل أي شيء آخر: «ها هي الريح تهب. ومهماز العداء يجري على الماء الحي. والبحر المحصن هو الآمر دائمًا! … وهل هناك حب كبير لا يتأمل في العمل؟» (٢: ٢٦٥).

«والحب أيضًا عمل! وأُشهِد الموت على ذلك، الموت الذي لا يغضبه سوى الحب …» (٢: ٢٦٨).

ويعرف الشاعر كيف يحس من أجلنا بالظمأ إلى الأشياء الغريبة، وإلى السيطرة على القوى، وإلى تحرير المنابع، وإلى إبهار أنفاسنا في سعيها اللامتناهي من أجل اقتلاع الأسوار وتحطيم الحدود المرسومة.

وتحركه الحاجة إلى الكمال لا الحاجة إلى الهرب، الحاجة إلى كل ما ينقص الشكل الإنساني حتى الآن. إنه واثق تمامًا من الإنسان ومستقبله، فينظر بلا وجل «من فوق كل أرض جديدة، تحت شعار زوبعتها …»

«كل الأرض البكر القوية، تحت أقدام الأجنبي، تفتح أسطورة عظمتها لأحلام ومباذخ زمان آخر.»

«وأسمع عظام عهد جديد للأرض وهي تنمو …»

«والإنسان يرعى ظله على منحدرات الارتحال العظيم» (٢: ٦١).

ولا ينتمي سان جون بيرس إلى زمرة الأنبياء الزائفين المبشرين بالشك وباللامعقول وباليأس، أولئك الذين يقدَّمون، من باب المسايرة والمجاراة، إلى الشباب كأساتذة. يبشر بيرس بفن العظمة والسعادة، بفن مشجع يدعو إلى بذل الجهد بالاعتماد على الحركة الصاعدة للإنسان خلال العصور. وهو يعتبر التغيرات الهيراقليطية للطبيعة مسرحًا يشيد بملحمة الإنسان وبالعمل الخلاق.

«ليكن مشهد البحر دافعًا لوعود بأعمال جديدة؛ أعمال حية وجميلة، لا تكون إلا جميلة وحية، أعمال متمردة مندفعة تخلق لنا من جديد طموح الحياة الإنسانية …» (٢: ١٧٨).

والإشادة بالإنسان وبعمله عند بيرس ليست إشادة بالفرد المنعزل، كما أن الإشادة عنده بالإنسان كفاتح وقائد تقلُّ شيئًا فشيئًا من ديوان «الأناباز» إلى قصائد «رياح» و«مرارات». وبالطبع لم يبلغ بيرس الطريق الذي سلكه إيلوار الذي استطاع أن ينتقل من «أفق فرد إلى أفق الجميع».٥ فطريق الكفاح والشعب لم يكن في يوم من الأيام سبيله.

على أن مفهوم بيرس الأرستقراطي الصرف للحياة وللتغني بها لا يَحُول دون أن يكون شاعرًا ملحميًّا قبل كل شيء آخر. وكل الملاحم الشامخة، والأساطير الهندية العظيمة، والخرافات الاسكندنافية، والتوراة والإلياذة وأغنية رولان؛ لم تكن أبدًا من إبداع إنسان بمفرده، بل من خلق شعب، ولا يستطيع أن يلتقط هذا الخلق سوى شاعر.

لا غنى عن روح شعب بأسره للارتفاع إلى مستوى أعاصير الطبيعة والتاريخ، ولفكِّ رموز المعاني العظيمة الكامنة في هذه الروح، والانطلاق بصداها نحو المستقبل.

ومن يروم التغني بقصيدة شعب لا يكون وحده أبدًا، بل يجب أن يكون مع الجموع، وأن تدفعه الجموع. «الرجل الذي تحاصره الأفكار الجديدة من كل ناحية، والذي يُسلِم قياده لثورة موجات الفكر العاتية» (١: ٢٠٩).

«والشاعر معنا أيضًا، على قارعة الطريق مع رجال عصره.»

«ولنسرْ بسرعة عصرنا، بسرعة الريح العظيمة.»

«ومهمة الشاعر بيننا، توضيح الرسالات» (٢: ٨٦).

«الصرخة! صرخة الإله المدوية! فلتستبد بنا وسط الجماهير لا في الغرف.»

«ولتنشرها الجماهير حتى تنعكس علينا إلى حدود الإدراك» (٢: ٨٧).

«وستنطلق قصائدنا في طريق الإنسان تحمل البذرة والثمرة إلى سلالات إنسان ينتمي إلى عصر آخر.»

«حتى الشطآن البعيدة حيث يهرب الموت» (٢: ١٢٠).

وإذا كانت الثقة تتفجر في هذه القصائد، حتى إنها تترنم بأغنية عصرنا الماضي في طريقه إلى عصر آخر للعالم؛ فذلك لأن سان جون بيرس أعار «أذنيه للَّغط البعيد للشعوب وللغاتها الخالدة» (٢: ٢٩٩)، واستوعب آثار حضارات الماضي التليد، وكل ما يشهد على مسيرة الإنسان الصاعدة في كل عصر، كما أصغى دائمًا «لصرخة الإنسان عند حدود البشر» (٢: ١٤٣). «وعبثًا ترسم لنا الأرض القريبة حدودها؛ فالعالم تجتاحه موجة واحدة منذ طروادة، موجة تطوي ردفها حتى تدركنا، وهناك، في أقصى البقاع وأبعدها عنا، انطبع هذا النفس …» (٢: ٢٢٥).

وهكذا يقذف بنا كل تاريخ الإنسان في حركة مدِّه الصاعد نحو مستقبل أعلى، ولكن هذا التقدم لا يصيبنا وحدنا، بل يشمل الجميع.

يحيِّي سان جون بيرس العالم الجديد الوليد ويناديه. وقد حملته تلك الاندفاعة النابعة من أعماق العصور الغابرة، ومن معارك الإنسان وإنجازاته. ولنستمع إليه وهو يقول:

«الشاعر معكم، وأفكاره كأبراج المراقبة معكم. فليواظب على المراقبة حتى المساء، وليثبت نظره على حظ الإنسان!»

«وستحولون الأحلام التي تجاسر عليها إلى أعمال» (٢: ١١٥ و١١٦).

وأود أن أذكر هنا ما يشهد به بيرس من أجل الإنسان:

«الإنسان يرسم ظله على قارعة طريق البشرية.»

«ودخان الإنسان فوق السقوف وحركته دائبة على الطريق.» «إنه لأمل مبذور بالعيون، وبما لم يعهده الناس من قبل، ونضوج مفاجئ لعالم آخر، في أوج ظهيرة ليلنا …»

«وكل الذهب المكدس في مصارفكم وفي خزائن الدولة لا يكفي لشراء مثل هذا الصيد» (٢: ٨٣).

لا أدري شيئًا عن ذلك العالم الذي يحيِّيه بيرس ويدعو له بكل هذه الحرارة والايمان، ولا أعلم شيئًا عن العقبات التي يضعها الذهب في الطريق، ولا أعرف ما هي تلك البلاد التي يرفضها بكل غضب. غير أنه يتعين عليَّ، بوصفي إنسانًا مكافحًا، وباسم عظمة الإنسان، والثقة التي يتغنى بها في هذه القصائد، أن أبرز وجه الآمال النابضة عند الإنسان. فهذا الإنسان قد نهض، ولن تنحني جبهته أبدًا بعد الآن في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. إنه يطرق حديد إرادته ليتخلص من «ما قبل التاريخ»، وليبني مستقبلًا اشتراكيًّا للبشرية.

ولا يهمني في شيء أن يرمي سان جون بيرس إلى أحلام وآفاق أخرى للإنسان؛ فهذه الأحلام والآفاق التي يتغنى بها تجيش بها نفسي، وتخلق بيننا صداقة رجال تجمع بين كل من يحبون المستقبل، ويتخطَّون كل حواجز الشك واللامعقول واليأس التي تفصل بين الناس.

أحب الشاعر الذي يتكلم عن الماضي بمثل هذه التعبيرات:

«وأناس آخرون، واجهوا وسط الرياح أسلوب الحياة نفسه، والصمود الشاق» (٢: ٧٠).

وأحب الشاعر الذي يحيي المستقبل بهذه الكلمات:

«أيتها الشمس المرتقبة! يا صرخة الملك! … يا قائدة ومشرفة على ثكنات الحدود!»

«تحكمي في بهيميتك المرتجفة أمام أول هجمة بربرية …»

«سأكون هنا بين الأوائل من أجل بزوغ الإله الجديد …» (٢: ٧٣).

يريد سان جون بيرس أن تنبثق من كلمات شعره حضارة مثالية جديدة، نابعة من كل عهود التاريخ العظيمة، حضارة تعكس كل تاريخ الإنسان، وكل مكتسباته ومآثره، وكل أبعاد العظمة الإنسانية.

هذا الشعر ليس مجرد تعبير عنيف عن الرغبة في الوجود، ولكنه يفصح عن إرادة هيجلية تريد أن تخلق الإنسان الكامل المستوعب لكل تاريخ البشرية، الإنسان الذي يتخذ من الماضي علامة ودلالة لضرورة تخطي الماضي، ويستخلص من هذه الملحمة قوًى جديدة للسير قدمًا بالحياة. وأسلوب هذا الشعر أسلوب للحياة نفسها. ولكن لماذا لا يثير هذا الشعر في نفسي، أنا الرجل المناضل، معنًى مختلفًا عن المعنى الذي بثه فيه صاحبه؟

وما شأني أنا إذا كان المؤلف لا يقبل المستقبل الذي يمنح بناؤه مغزًى لحياتي، وإذا كانت الأغاني التي كتبها تصاحبنا نحن في طريقنا الذي نشقه؟ إن عيون بيرس تتجه نحو الشمس المشرقة، أما نحن فنقوم بمهمة الإنسان المجهول الذي يعمل من أجل أن يظهر النهار، وإن بدا للشاعر أو للمتنبئ أنه يستحيل التكهن بهذا النهار.

وأنا لا أضم إلينا، نحن الماركسيين، إنسانًا أبعد ما يكون عنا، لا لكونه دبلوماسيًّا في وزارة الخارجية الفرنسية، ولكن بسبب كتاباته. على أن السيمفونية البطولية لمسيرة الإنسان المتمثلة في أعمال سان جون بيرس الشعرية تنبض بالتفاؤل وبحب الإنسان، وترسم صورة الحياة الصاعدة، وتمجد الإنسان اللامحدود. وكل هذه العناصر وثيقة الصلة بنا، تعيش في فكرنا، وتسهم أعمالنا في إحيائها وفي تخطيها من خلال الحياة اليومية. فهناك عناصر مشتركة بيننا وبينه:

«مسيرة ظلال مايو الزرقاء الكبيرة، في أعماق السهول، تنقلنا في هدوء من السماء إلى الأرض … فنحن رعاة المستقبل» (٢: ٣٣٩).

«ونحتضن في طرف الساعد، وعلى كفوف أيدينا، قلب الإنسان الغارق في ظلمات الرغبة المتلهفة والمتأججة والحب غير المعلن، كأنه أفراخ وليدة …»

«ولتسمع أيها الليل في الساحات الموحشة، وتحت السقوف المهجورة، وبين الأطلال المقدسة، والأوكار القديمة المتهدمة؛ الخطى الكبيرة الواثقة للروح التي لا عرين لها.»

«أيها العصر العظيم، ها نحن ذا، فلترتقِ إلى مصافِّ قلب الإنسان» (٢: ٣٤٣).

نعم، إني أحب هذه الإنسانية التي لا تحتاج إلى وسيط، والتي يقدمها لنا شاعر يتغنى بالسعادة والعظمة. فهو يحمل بين جنباته كل ماضي الإنسان ولا يرتوي بالحاضر.

والشعر بالنسبة له، هو كل ما يعبر عن الإنسان، وعن العالم الذي لا تتوقف أبدًا حركة بنائه.

وتنبع كل شاعريته من التزامه بهذه القيم.

•••

في القرن الثامن عشر، توصل دالمبير للمسلَّمة التالية: «أعتقد أن القانون الدقيق الصحيح الذي يفرضه عصرنا على الشعراء هو الآتي: أنه لا يعترف بأن ما يُكتب يكون شعرًا جيدًا إلا إذا وجده رائعًا في النثر.» وقد أورد بول فاليري هذا النص٦ مؤكدًا، عن حق، أن الشعر هو بالذات عكس «نظرية دالمبير».

فالقصيدة لا تكون جميلة على طريقة الرسم الهندسي أو الخطب، أي إن جمالها لا ينبع من كمال ما تمثل أو ما تشرح. إنها تؤثر فينا كما لو كانت كائنًا حقيقيًّا، مثل البحر والشمس، وهي جميلة لا فيما تقرر، بل جميلة كالشجرة.

ويقول بيير ريفردي: «لم يعد المطلوب اليوم التأثير عن طريق العرض العاطفي لأي حدث عادي، ولكن يجب أن يكون هذا التأثير بنقاء واتساع تأثير السماء المرصعة بالنجوم، وتأثير البحر الهادئ العظيم والفاجع، وتأثير المأساة الكبيرة الصامتة التي تسطرها السحب تحت الشمس.»٧

وهكذا أصبحت مهمة اللغة مطروحة على بساط البحث؛ فمنذ حوالي ثلاثة أرباع قرن من الزمن وقيمة الكلمات لم تعد تعبر بقدر ما اكتسبت من قيمة إبداعية. لم تعد مهمة لغة الشعر محاكاة الطبيعة أو تقديم شروح على غرار الخطابة أو القصة، بل إبراز حقيقة جديدة. لم تعد الكلمات مجرد اصطلاحات، بل غدت جزءًا من الأشياء نفسها. «اللغة لم تعد وسيلة، بل غدت كائنًا»، كما قال جاك ريفيير في دراسته عن حركة الدادية.

ومهمة الكلمة ليست محاكاة الأشياء والتشكل عليها، بل مهمتها، على العكس، تفجير تعريفاتها وحدودها النفعية، ومعانيها التقليدية الشائعة الاستعمال، لنستخلص منها إمكانيات غير متوقعة، وآمالًا ومعاني كامنة مدهشة تحملها في طياتها، تحول الوقائع المعروفة بابتذالها الشديد إلى مادة تخلق الأساطير.

ويتضمن الواقع أكثر مما ينهل منه العمل المباشر واليومي، وأكثر مما خط من طرق، وأكثر من التواطؤات والتسترات المطمئنة التي بثتها العادة فيه.

والأشياء ليست سوى جزء مما تعنيه هي نفسها. وكان العالم المحسوس بالنسبة لبودلير مخزنًا للصور والإشارات، وقاموسًا للأشكال يستخلص من توافقاتها رنينًا غير متوقع.

ونجد هذا التوافق بين مختلف الأحاسيس عند سان جون بيرس حينما يشير إلى «الأسماك السائرة كالمقطع الذي يتردد على طول الأغنية» (١: ٤١). ونجد التوافق بين الأشياء وبين رغباتنا عندما يقول إن «الحكمة تتخذ اليوم شكل شجرة جميلة» (١: ٥٨)، وأيضًا التوافق بين الأشياء وبين مغزاها بالنسبة لمجموع الكون: «يسأل كل ركن من أركان الأرض ليفهم مغزى هذا الغموض الكبير»؛ «ويسأل قاع النهر ومياه السماء وتشابكات نهر الظلال على الأرض، وقد يثور لعدم حصوله على رد» (٢: ٨٢).

وتسود مسألة مغزى الكلمات في كل شعر سان جون بيرس، شأنه في ذلك شأن بول كلوديل. ولكن هناك فارق أساسي بينهما؛ فالمعاني التي يقصدها كلوديل تقع في نطاق الأبعاد الكاثوليكية، وهي موجودة أصلًا في الكون، وعلى الإنسان أن يحل رموزها كما يفسر الكتب السماوية، أما الإنسانية الملحمية عند سان جون بيرس، فإن قيمها الوحيدة ليست سوى أعمال الإنسان وإبداعاته الخلاقة. فسلطة الإنسان «تمتد إلى كل الدلالات على الأرض» (١: ١٥٠).

فالإنسان لا يعتمد في انطلاقاته إلا على مآثر الماضي، وعلى الأعمال السابقة.

«لقد تواجد هذا الخصب دائمًا، لقد تواجدت هذه العظمة دائمًا.»

«هذا الشيء التائه في الأرض، هذه الرجفة العالمية للعالم، على كل السواحل الرملية، تنطق بنفس واحد، وفي موجة واحدة.

جملة وحيدة، طويلة، بلا وقفات، ولكنها تستعصي على الفهم …»

«… وتعلو كل ليلة على هذا الصخب الصامت عند عتبتي، وتعلو كل ليلة على صحوة الأزمنة المندثرة تحت القشرة.»

«وعلى كل الشواطئ الرملية في العالم، مقطع متوحش لا يشبعه كياني! …» (١: ١٧١ و١٧٣).

وعندما تكون مهمة الشعر التقاط هذه المعاني، ونقل رسالتها أو إلهاماتها، فإنه يتعذر صبه في القوالب الكلاسيكية المعروفة لبيت الشعر المقفى أو الموزون. وتتخذ بالضرورة هذه اللغة النبوئية أو الموحية شكلَ آيات، ابتداء من آيات التوراة، حتى آيات زرادشت، وابتداء من آيات كلوديل حتى آيات سان جون بيرس.

لقد نهل بيرس من كل المأثورات والأديان، ومن كل الطقوس والأساطير، ومن كل مؤسسات الإنسان وجساراته، وجمع بين أطراف هذه المسيرة البطولية في ملحمة واحدة، بالكشف عن آثارها وعن معالم ماضيها التليد. وأسلوب هذا الصرح الذي يشهد على عظمة الإنسان، لا يبدو له صاخبًا أو خطابيًّا أو متغطرسًا. على أن الكلمات تبدو لنا أحيانًا فخمة متكلفة، و«اللغة عامرة بالنبوءات» (٢: ١٣).

«إن مجدي فوق الرمال! إن مجدي فوق الرمال! … وليس من الضلال أيها المسافر الغريب.»

«أن تطمع في العراء لتجمع إلى خلجان المنفى قصيدة كبرى صنعت من لا شيء.»

«صفري يا مقاليع في أرجاء الدنيا، وغني يا أصداء فوق المياه!»

«لقد بنيت فوق الهاوية، فوق غيام ودخان الرمال. أرقد في الآبار، وفي السفن المجوفة،

وفي كل مكان عديم الجدوى، ماسخ الطعم، يضطجع فيه مذاق العظمة» (١: ١٦٨-١٦٩).

وتعبر إحدى قصائده الأخيرة في ديوان «مرارات» عن جوهر شاعريته:

«آه، لقد كانت لدينا كلمات من أجلك، ولم يكن لدينا ما يكفي من الكلمات،
وها هو الحب يجعل موضوع هذه الكلمات مختلطًا علينا،
فلم تعد كلمات بالنسبة لنا؛ لأننا لم نعد نتشاور أو نزدان بها،
بل أصبحت صميم الشيء الذي تشير إليه، وصميم الشيء الذي تزينه.
فنصبح القصة نفسها عندما نتلوها،
ونصبح الشيء الذي لم يكن قابلًا لأن يتوافق معنا؛ النص نفسه وحركته الأشبه بحركة البحار،
والثوب الكبير المنظوم الذي نرتديه.»
(٢: ٣٠٧-٣٠٨)

إنها للغة مبتورة، موحية تكاد تبلغ حد الغموض، شأنها شأن لغة النبوءات والوصايا، ولغة الترانيم الشعائرية بابتهالاتها و«تعزيماتها»، وهنا، يكون كلٌّ من الصورة والإيقاع، والمعنى والجرس، شيئًا واحدًا.

وهذا التوافق الفريد بين الموسيقى والفكر عند سان جون بيرس، يفرض علينا الوجود والحركة. ولا شك أن هذا التوافق لا يشكل المقياس الوحيد، ولكنه على أي حال مقياس أساسي. وتفرض علينا حركة القصيدة ترتيبًا إيقاعيًّا وموسيقيًّا يجرفنا بنوع من الإلحاح الضروري القسري. وأي توقف أو مجرد عرقلة أو انحراف في هذه الحركة يكون أشبه بشرخ في قطعة من البلور، على حد قول بول فاليري. ولنستمع إلى هذه القصيدة عن البحر:
«يا بحر بعل، يا بحر مأمون، ويا بحر كل العصور يحمل كل اسم!
يا بحر أحلامنا الوافدة من المنبع نفسه، ويا بحرًا تسكنه الأحلام الحقيقة،
يا جرحًا غائرًا في الأحشاء، ويا جماعة المنشدين القدامى على بابنا،
أنت الإساءة وأنت السَّنا! أنت الجنون وأنت الرخاء.»
(٢: ٣١٠، ٣١١)

يجب أن أتوقف هنا، حتى يتردد في نفوسكم طويلًا صدى هذه الموسيقى التي تشبه ذبذبات قطعة بلور، نستمع إليها دون أن نلاحظ أنها كفت عن التذبذب.

على أنه يتعين عليَّ أن أقول لكم كلمة أخيرة، وأن أقولها بالأحرى لنفسي حتى أطمئنها، فكأني أدافع بذلك عن غرابة هذا الحب لأنه موجَّه نحو شاعر أبعد ما يكون عني، سواء في مجال الفلسفة أو النضال.

لقد احتجت لوقت طويل لأقنع نفسي بأن حياتي كمكافح تسمح باستيعاب هذا الحب، أي حب هذا الشاعر، وبأن تفكيري كفيلسوف ماركسي يسمح بتقبله.

ولا أود أن أنهي كلامي بما يشبه الرجاء من أجل التفهم السليم لشعر سان جون بيرس، على أني أريد أن أسرَّ إليكم بالطريقة التي توغل بها هذا الشعر في كياني.

لقد أحسست مرتين، خلال الشهور الأخيرة، بحاجة مادية ملحَّة إلى شعر سان جون بيرس.

كنت قد انتهيت من كتابة دراسة طويلة عن فلسفة هيجل، وأردت أن أتخلص من الانجذاب الذهني لمنهجه الفلسفي الذي يُعتبر آخر المناهج وأكثرها تأثيرًا على الفكر، كنت في حاجة إلى النقيض، نقيض التصور الذي يسكرني. ولكن هيجل يلقننا الحاجة الهائلة إلى العظمة، حتى إننا لا نكاد نجد غذاء لها من فرط صعوبتها. وتستجيب أشعار سان جون بيرس المتعالية لهذه الحاجة دون أن تقلل من ضرورتها.

وجدت في شعر بيرس الصورة المعكوسة لملحمة الإنسان عند هيجل؛ فهنا أيضًا يعي العالم نفسه داخل الإنسان، ويحل محل الآلهة القديمة بكل جرأة. لا شك أن المستقبل الذي يبشر به سان جون بيرس من أعمال الخلق الأسطورية، بكل ما يتضمنه هذا الشعر من سحر ومن عقيدة بدائية في القدرة المباشر للكلمة. وهذا الوهم الذي يفترض القدرة السحرية للكلمة، والوحدة التامة بين الكلمة والعمل، من أعمال الخلق التي انحرفت عن الطريق.

فلا شك أن أحلامنا لا تتساوى في قيمتها مع يقظتنا، ولا شك أيضًا أن خير وسيلة للسمو وتقمص روح الشعر تتمثل في النضال من أجل المستقبل.

ولكني أكتشف أكثر فأكثر كل يوم في هذا الشعر، وفي لغته النبوئية، وفي نورانيته؛ أبعادًا وآفاقًا نتجه نحوها بجميع قوانا مع رفاقنا في النضال.

لقد سافرت أخيرًا إلى كوبا، ولم أحمل معي سوى كتابين، هما كل شعر سان جون بيرس الذي يقع في جزأين. وكنت حتى هذه الزيارة قد رأيت ثورات تم إنجازها، ولكني، لأول مرة، انغمست وأنا في كوبا في ثورة ما زالت في طور التنفيذ. وكنت أصطحب معي في كل ليلة بعد يوم العمل في هذا العالم الذي يتشكل من جديد؛ قصائد بيرس، تلك القصائد العامرة بالإيمان الكامل بالإنسان، فأجد فيها إيقاعًا مرحًا طاغيًا يتدفق مع مسيرة الثورة.

وقد يبدو الربط بين هيجل والثورة الكوبية غريبًا، ولكن شعر سان جون بيرس بدا لي «مضبوطًا» معهما بالمعنى الموسيقي لهذه الكلمة؛ ولذا أردت، بلا شك، أن أعبر عن احترامي غير المتوقع لهذا الشعر الذي تلاقيت معه في أرفع لحظات حياتي كفيلسوف وكمناضل ثوري، وكلاهما شيء واحد بالنسبة للإنسان الماركسي.

وربما أحببنا في سان جون بيرس، قبل أي شيء آخر، كلماته التي ننهي بها حديثنا عنه عندما يحدثنا عن:

«… الباحثون بطرف المِجَس عن الصلصال الأحمر القابع في الأعماق ليشكلوا به وجه أحلامهم.» (١: ١٨١).

«والمنقبون عن الفكرة الجديدة في نضارة الهاوية، والنافخون في الأبواق على أبواب المستقبل.» (١: ١٨٧).

١  في كل استشهاد بشعر لسان جون بيرس، سيرمز الرقم الأول، وهو ١ أو ٢، إلى الجزء الأول أو الثاني من مجموعة أعمال الشاعر. أما الرقم الثاني فسيشير إلى الصفحة.
٢  كارل ماركس، مخطوطات عام ١٨٤٤م، الجزء السادس، ص٥٤.
٣  كراسات البلياد، العدد العاشر، ١٩٥٠م، ص٢٦.
٤  خطاب إلى فاليري لاربو.
٥  عنوان مجموعة قصائد لإيلوار في ديوانه «قصائد سياسية». (المترجم)
٦  بول فاليري، أعماله، لابلياد، المجلد الأول، ص١٢٩٢.
٧  بيير ريفردي، «القفاز المصنوع من شعر الخيل»، مطبوعات بلون، ١٩٢٦م، ص٤١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤