كافكا

عالم كافكا هو نفس عالمنا.

والعالم الذي عاشه هو نفس العالم الذي بناه. إنه عالم خانق، مجرد من الإنسانية، عالم الغربة. على أنه يعي هذه الغربة، كما يحدوه أمل لا ينتهي، حتى إننا نرى من خلال ذلك الكون الذي تتنازعه الروائع وروح المرح، قبسًا من النور أو مخرجًا.

ويكفينا لكي نعيش بكل جوارحنا تلك الوحدةَ الحية العميقة؛ ألا نضل في متاهات التفسيرات التي تميل دائمًا إلى حشر الأعمال الخلاقة في إطار نظام عقائدي محدد من قبل، ولا يعتبر تلك الأعمال إلا إخراجًا رومانتيكيًّا لفكرة.

وقد قدم علماء اللاهوت عدة نماذج لهذا التفسير الصارم؛ فمنهم من تصور أنه وجد في كافكا آخر أنبياء إسرائيل، ومنهم من تعرف في شخصه على تمزقات روح تسعى إلى الخلاص، فأرادوا أن يقودوه إلى الهداية، ومنهم من اتخذه واحدًا من أتباع كارل بارت، ومنهم من سلك أدبه في اللاهوتية السلبية.

وفي الطرف النقيض ظهرت التفسيرات التي تدَّعي التمسك بالماركسية، وترى في كافكا إما برجوازيًّا صغيرًا مترديًا في تشاؤمية ناخرة كالسوس، وإما رجل الثورة، إن لم يكن رجل الاشتراكية.

وأرادت الوجودية هي أيضًا أن تُدخِل كافكا في نطاق الجهود العبثية لسيزيف، وفي إطار القلق الطاغي عند هيدجر. أما أخصائيو التحليل النفسي فقد أغرتهم «رسالة إلى الأب»، فاعتقدوا أنهم اكتشفوا في شخصه نموذجًا مثاليًّا لعقدة أوديب. وخاض الطب أيضًا في المعمعة، فلم يتردد البعض في العثور على تفسير حاسم ونهائي لرواية «التحول» أو لرواية «المحاكمة»، اللتين كتبهما في عامَي ١٩١٣م و١٩١٤م، من خلال مرض الدرن الرئوي الذي لم يصَب به إلا في عام ١٩١٧م. وبقدر ما لم تعد عظمة أعمال كافكا موضع أخذ وردٍّ، بقدر ما تعددت التفسيرات والتأويلات المنسوجة حولها.

وهكذا ينتاب المرء عند التعرض لأعمال كافكا نفس شعور بطل قصته المعنونة «الأحراش المتأججة»؛ إذ يقول: «وقعت في أحراش معقدة متشابكة، لا مخرج منها … كنت أتجول في هدوء وأنا مستغرق في التفكير، وإذا بي أقع فجأة، فتحاصرني الأحراش من كل جانب. لقد سقطت في أسرها وضعت.»

ويقول له الحارس: «يا بني، لقد بدأت تسلك الطريق المحظور، فتوغلت في هذه الأحراش البشعة، ثم ها أنت تشكو. ومع ذلك، فإنك لست في غابة موحشة، بل في حديقة عامة. سنخرجك من المأزق، ولكن عليك بالصبر، يجب أن أبحث أولًا عن عمال يشقون لك طريقًا، ثم إنه لا بد أن أحصل قبل ذلك على تصريح من المدير.»١

والسمة المشتركة بين كل تفسيرات أعمال كافكا، على تعددها واختلافها هي محاولة التوصل إلى «مفتاح» لها من خلال رواياته، سواء كان هذا المفتاح عقيدة لاهوتية أو لاوعيًا اجتماعيًّا أو نفسيًّا، أو برنامجًا ثوريًّا، أو أعراضًا مرضية معقدة.

ولا يعني ذلك أن هذه التفسيرات جميعًا لا تستفيد من جزء من الحقيقة، على أن الحقيقة نفسها سرعان ما تنقلب خطأ عندما تحول التفسيرات ما قد يكون عاملًا مساعدًا إلى منهج شامل لتفهُّم كل أعماله.

ولا نزاع في أن أعمال كافكا تتضمن وقفات دينية. ولا شك أن وضعه الطبقي ساهم في الحد من أفقه، ومن المؤكد أيضًا أننا لا نستطيع أن نقول إن إحساسه بالوجود ليس قريبًا إلى إحساس كيركجارد والجيل الثاني من الوجوديين.

على أن أعماله لا يمكن أن تكون مجرد تعبير مصور لهذا الرأي أو ذاك؛ فالرواية أو الملحمة ليست فكرة مجردة مغلفة ومزينة بالكنايات.

إنها أسطورة موحية، أي صورة للحياة، تضم السماء والأرض في وحدة واحدة، صورة للحياة بكل أبعادها؛ الأسرة والمهنة، الزواج والدين، المدينة بمتاهات آلاتها ومكاتبها، بأوهامها ومؤسساتها الراسخة، بروائعها الإبداعية وبعاداتها اليومية.

وعالم كافكا من نفس نسيج حياته، وهو على حد قوله: «ليس سيرة ذاتية، بل بحث واكتشاف لعناصر مختزلة إلى أقصى حد ممكن. وسأبني حياتي فيما بعد على هذه العناصر، تمامًا كما يحاول الرجل الذي أصبح بيته متداعيًا أن يبني بيتًا آخر بجواره، مستخدمًا بقدر الإمكان الخامات القديمة. غير أنه من المؤسف حقًّا أن تخونه قواه أثناء البناء فيصبح لديه، بدلًا من البيت الآيل للسقوط والقائم بطوله، بيت نصف قائم وآخر نصف مبني، أي لا شيء على الإطلاق. أما ما يتلو ذلك فهو الجنون الصرف، أي شيء أشبه برقصة القوقازي بين البيتين، تلك الرقصة التي يحفر بها القوقازي الأرض بكعبَي حذائه حتى يسوي لنفسه قبرًا تحت قدميه.»٢

أن تكون مادة العمل الأدبي والحياة شيئًا واحدًا، فهذا أمر مسلَّم به يتضح لنا من خلال الإحساس الملحِّ بمدينة براغ في «وصف المعركة»، ومن خلال العلاقات الحميمة بين «خطاب إلى الأب» وبين جو «الحكم» و«التحول» وبين «القلعة» وخطاباته إلى ميلينا.

ويغرق الإنسان في أنحاء هذا العالم، فيَتيه في اللاإنساني، ويُدمج في تروس آلة حاسمة كل ما فيها محسوب ومدروس.

وفي هذا العالم المجرد من أي تعريف به، والمنظم في تسلسل هرمي للمراتب الاجتماعية، يعيش الإنسان مسلوبًا من مزاياه الفردية، ويتحول إلى مجرد أداة خيالية بائسة، عارية من مقومات الشخصية. ذلك هو عالم رأس المال الذي يتكشف بجلاء طابعه اللاإنساني من خلال النظم البالية الطاحنة التي تقوم عليها الإمبراطورية النمساوية المجرية المحتضَرة.

على أن الالتحام بين الإبداع الشعري والحياة لا ينشأ فقط من كون العنصرين من المادة الأولى نفسها، بل ينشأ عن توليدهما وتعبيرهما عن نفس ردود الأفعال. فعندما يخوض المرء معركة لا يعرف نتيجتها، فإنه يواجه مجتمعًا يطرح قضية الخاص والعام بشكل مؤلم. كان كافكا يجاهد من أجل تحديد مكانه في هذا الكون، ومن أجل إدراكه في شموله، ومن أجل اكتشاف مغزى الحياة والتعرف على دوره كحامل رسالة مزود ﺑ «توكيل لم يعطه له أحد».٣ وهكذا تتداخل وتترادف وتتصادم لحظتا التمرد والإيمان، ولحظتا السخرية والتساؤل.

وعالم كافكا، أي العالم المحيط به وعالمه الداخلي، ليسا سوى عالم واحد. وعندما يكلمنا عن عالم آخر، فهو يحرص دائمًا على أن نفهم في الوقت نفسه أن ذلك العالم الآخر يوجد في عالمنا، بل إنه عالمنا نفسه؛ ذلك أن عالم الإنسان يشمل أيضًا كل ما يتحداه وكل ما نفتقده فيه.

ونفى العالم لحظة من لحظات العالم، وكافكا نفسه من عناصر هذا النفي. وهو يقول بهذا الصدد: «لقد تحملت بكل قوة سلبية العصر الذي أعيش فيه، وهو أقرب العصور إليَّ، وكان الأجدر بي أن أضطلع بمهمة تمثيله لا بمهمة محاربته. أنا لم أورث منه لا الإيجابية الهزيلة ولا السلبية المتطرفة التي تتحول إلى إيجابية … فأنا لست سوى بداية أو نهاية.»٤

وكافكا ليس يائسًا، ولكنه شاهد على عصره، وهو ليس ثوريًّا، ولكنه يفتح العيون.

وتعبر أعماله الأدبية عن موقفة من العالم. وهي ليست مجرد صورة منقولة ومتواكلة، كما أنها ليست نبوءة تسرف في الخيال. ولا تريد أعماله أن تقدم تفسيرًا للعالم، كما لا تريد أيضًا أن تغيره، إنها تكتفي بالإفصاح عن قصوره، وتدعو إلى تخطيه وتجاوزه.

يدور الحوار التالي بين كافكا والقارئ في «كراساته»:

– «تقادُم هذا العالم هو السمة الحاسمة المميزة له … وإذا أردتُ أن أحاربه فعليَّ أن أوجه هجومي ضد سمته الحاسمة، أي ضد تقادمه. وهل أستطيع أن أفعل ذلك في هذه الحياة؟ وهل أستطيع ذلك حقًّا بالاعتماد على أسلحة الإيمان والأمل فقط؟»

ويرد كافكا: أنت تريد إذن أن تحارب العالم بأسلحةٍ أفعلَ من الأمل والإيمان؟! هذا النوع من الأسلحة موجود ولا شك، ولكن التعرف عليه واستخدامه لا يتم إلا وفقًا لشروط معينة، وأريد أن أعرف أولًا إذا كانت هذه الشروط متوفرة فيك.

فيقول القارئ: أنا لا أملكها، ولكن ربما استطعت الحصول عليها.

ويجيب كافكا: بالطبع، ولكني لا أستطيع أن أسدي إليك مساعدة في هذا الشأن.

ويسأله القارئ: إذا كان الأمر كذلك، فلماذا تريد إذن أن تضعني أولًا موضع الاختبار؟

وهنا يقول كافكا: لا لأبين لك ما تفتقر إليه، ولكن لأوضح لك أنك تفتقر إلى شيء.٥

ولكي ينجز كافكا هذه المهمة فقد أقام عالمًا آخر، يصور حقيقة عالمنا؛ ذلك لأنه يحمل في ذاته نقيضه، ويكشف لنا بغموض وإلحاح عن تجرده العميق من الإنسانية.

إنه كفاح ضد الغربة، في صميم الغربة نفسها. وبعبارة أخرى توضح رأي سبينوزا: إنه وعي بالغربة مصحوب بجهل أسبابها، ووسائل التغلب عليها.

وسنتابع الحركة الجدلية الداخلية لأعمال كافكا وحياته، من خلال تعرضنا للقضية الرئيسية، وهي قضية العلاقة بين أعمال كافكا وحياته.

وقد بدأنا انطلاقًا من وحدة عالم كافكا والعالم الواقعي. وسنتعرف من خلال وجوده، أي من خلال العالم الذي عاشه بتناقضاته، على الازدواج الجدلي لعالم الغربة أو لعالم الوعي بالغربة، أي الازدواج الجدلي لعالم «العندية» ولعالم «الكينونة»، أو عالم الإنسان المزدوج الشخصية. ويشبه كافكا بطل «المحاكمة»؛ فهو في آن واحد «المتهم» و«المفوض» و«كيانه وأملاكه ليست شيئًا واحدًا، بل شيئان، ومن يحطم ما يوجد بينهما، يحطمه بالضربة نفسها».٦

ويتم تجاوز هذا التناقض الأول، برفض أول وبنفي أول، يتمكن بواسطته الكائن من نشاطه في مواجهة سلبية عالم «العندية»، ولكن الذات التي تتمكن مرة أخرى من وحدتها على صعيد العالم الداخلي؛ لا تلبث أن تنتج ثنائية جديدة في هذه الوحدة. إن الوعي بالغربة والتوتر الفاجع الناتج عنه بين الذات والموضوع، بين الكينونة والعندية، له مغزًى ملتبس لا ندري؛ هل هو مغزًى ديني أو مغزًى متمرد؟

وتخطي هذا التناقض الثنائي بين التمرد والدين، يتم بخطة تتجه نحو التغلب على النزاع القائم بين التمرد والدين، وذلك بجعل الصراع في الإبداع الفني صراعًا موضوعيًّا؛ لأنه تجربة معاشة لمغزى العالم ولنواقصه في رأي الدين، ولأنه دعوة إلى تجاوزه كما ترى الثورة. ويتكشف التناقض الداخلي على صعيد هذا العالم المشيد، هو تناقض بين اللغة والأسطورة، يبث كلٌّ من وحدتهما وتعارضهما الحياة والحركة في الابداع الفني. إن مهمة كافكا النهائية هي بلوغ السمو الكامل، مما يفرض عليه أداء رسالة مستحيلة بواسطة اللغة، وهو يقول في ذلك: «أحاول دائمًا أن أوصل شيئًا غير قابل للتوصيل، وأن أشرح دائمًا ما يستعصي شرحه …»٧
هذا التناقض الذي لا سبيل إلى حله، والذي ينقله كافكا إلينا، هو تناقض مصيره ورسالته في الحياة: «هذا المسعى يسلك طريقًا يتعدى طاقة البشر، وكل هذا الأدب عبارة عن هجوم على الحدود المفروضة …»٨

(١) العالم المُعاش وصراعاته

كانت التجربة الأساسية عند كافكا في بحثه عن مغزى الحياة هي غربته، وحاجته إلى الحصول على تصريح إقامة في الوجود. وهو يقول لنا في يومياته: «أعيش غريبًا أكثر من الغرباء أنفسهم.»

كان وضعه كيهودي يتكلم الألمانية، ويعيش في بلد تشيكي يرزح تحت سيطرة الإمبراطورية النمساوية المجرية؛ قد فجَّر في نفسه الإحساس بالوحدة، وبأن جذوره مقتلَعة من تربتها. كان كافكا في الرابعة عشرة من عمره عندما اندلعت هبَّة نوفمبر ١٨٩٨م. وقد صاحبَت الاحتجاجَ على سيطرة حكومة فيينا مذابحُ معادية للسامية، فجرب كافكا طوال شبابه الحروب العنصرية الصغيرة التي يقودها القوميون المتطرفون من طلبة المدارس. وكانت الأقلية اليهودية تُسمَّى في صفوفهم «الجنس الأجرب»، كما جاء في خطاباته إلى ميلينا. كانت لغته الألمانية تفصله عن أهالي البلاد من التشيك، ومع ذلك فهو يعتبر نفسه ضيفًا على اللغة الألمانية، وكان يشعر أنه أجنبي في براغ، مسقط رأسه. كان معزولًا عن الأهالي المتكلمين باللغة الألمانية لكونه يهوديًّا، كما كان منفصلًا عن الشعب بوصفه ابنًا لأحد كبار التجار. ومع أن الحي المخصص لسُكنى اليهود وحدهم كان قد هُدم، إلا أن العزل المعنوي ظل قائمًا؛ «إن المدينة اليهودية النتنة مدينة حقيقية تعيش في نفوسنا أكثر مما تعيش المدينة الصحية الجديدة المحيطة بنا. وما زلنا نمشي في حلم بالرغم من أننا مستيقظون تمامًا. فما نحن في الواقع سوى أشباح الأزمنة الغابرة».٩ إن كافكا يحس أنه خارج عن أي جماعة تاريخية بسبب عدم اندماجه اجتماعيًّا، وبسبب انعزاله المعنوي.
وهو منعزل عن أي جماعة روحية أيضًا وغريب عليها. فالرب الوحيد في تصوره هو «يهوه»، الرب الباطش الرهيب في عرف اليهود، الذي لا تُرَد كلمته الصارمة. ويعيش هذا الإله المتباعد عند حدود الغيب؛ ولذا فلن نرى أبدًا في روايات كافكا لا إمبراطور الصين ولا رئيس المحكمة ولا سيد القلعة. وتاريخ إسرائيل في نظره صورة للعلاقة التي تربط الإنسان بالرب. وشعبه هو الشعب المختار، ولكنه الشعب العاصي أيضًا الذي حقت عليه لعنة الرب. وهو يقول: «بالرغم من غرابة أطواري التي أعترف بها، إلا أنني لا أخون جنسي في الواقع، فهذا أمر مفروغ منه … ولكن طباعي وحدها هي الغريبة، ومن الممكن تفهمها بمعرفة الصفات المميزة للجنس الذي أنتمي إليه.»١٠

كان كافكا يهوديًّا صميمًا، ولكنه في الوقت نفسه يهودي مقطوع الصلة بالطائفة اليهودية. ويتسم نقده الموجه ضد الديانة اليهودية بالشراسة والعنف. وهو يقول عن الجالية اليهودية في قصة «داخل معبدنا» إنها تتمسك بمعتقدات وشعائر لا يُفهم مغزاها. والحيوان الغامض الغريب الجاثم على المعبد يرمز إلى غاية غير مفهومة يستعصي تفسيرها، تتجه إليها بإيمان أعمى صلوات المؤمنين بها.

ويتضح هنا الطابع المزدوج لموقف كافكا. ومما يزيد من خطورة هذا الازدواج أن اليهودية تمثل في آن واحد جماعة اجتماعية ودينية؛ فاليهودية ليست مسألة إيمان بعقيدة، ولكنها تجربة حيوية عاشتها جماعة تكيفت وفقًا لهذه العقيدة.١١ وانفصال كافكا عن هذه الجماعة يعني فقدان السماء والأرض في آن واحد، أي قطع العلاقة مع رب اليهود ومع الطائفة اليهودية. إنه يهودي منفصل عن الجماعة اليهودية يشعر بالحنين إليها، وهو موزَّع النفس بين الإيمان باليهودية والتمرد عليها؛ ولذا فهو يعاني آلام الوحدة المبرحة، ويعيش محنة تفرده.
كان كافكا محرومًا من أي جذور تربطه بالأرض، فهو يعاني «افتقاده الأرض والقانون»، ومحاولاته لخلق أرض وهواء وقانون هي في رأيه «مهمته، بل ومهمته الأصيلة».١٢ وهو يقول: «الوطن القديم يكون دائمًا الوطن المتجدد عندما نعيش بوعي، وندرك بوضوح ارتباطاتنا بالآخرين، وواجباتنا إزاءهم. والواقع أن الإنسان لا يتخلى عن ارتباطاته، وهذا أسمى ما تتميز به حياتنا.»١٣

وكافكا ليس كاتبًا تجريديًّا، وقد يبدو ذلك الرجل وكأنه لم يأتِ من أي مكان، وأنه لا ينتمي إلى شيء، بل وأنه يسير نحو العدم، ولكنه يريد أن تكون له جذور أصيلة في أرض البشر. وهو لا يبالي بكل ما لا يرتبط بهذه الرغبة الأساسية.

وكافكا ليس كاتبًا متشائمًا، وكثيرًا ما وصفوه على أنه يائس يَجنَح إلى العزلة، ولكنه يصبو بكل قواه إلى كل ما هو طبيعي وعادي، وإلى كل ما هو صحي وسليم؛ كان يصبو بكل كيانه إلى الاندماج في الناس ليعرف السعادة، وهو يقول: «تنبع كل تشريعاتنا وكل مؤسساتنا السياسية من التطلع إلى أكبر سعادة يمكننا أن نتصورها، وهي أن نحس بدء الْتصاقنا بعضنا ببعض.»١٤
ويحس كافكا دائمًا بهذا الحنين، فيقول في «أبحاث كلب»: «سأُستقبل بكل مظاهر الحفاوة، أنا الذي أحسست دائمًا في طيات نفسي بأني طريد العدالة، وبأني كائن متوحش يهاجم جدران المدينة، سأستمتع بالدفء الذي تحسدني عليه كل الكلاب الملتفة حولي …»١٥
وهذا هو المصدر الجذري لإحساسه بالغربة، سواء بالنسبة للأرض أو السماء، وبالحاجة الملحَّة إلى كيان ووطن وثقة وجذور: «هناك صفة أنفرد وأتميز بها كليةً عن جميع من أعرفهم؛ فكلنا يعرف نماذج نمطية عديدة ليهود غربيين، وبقدر علمي فأنا أكثر هذه النماذج تعبيرًا عنهم، أي إني، مع شيء من المبالغة، لا أنعم بلحظة هدوء أو سلام واحدة، وإني لا أُمنَح أي شيء، وعليَّ أن أستخلص لا الحاضر والمستقبل فقط، بل والماضي أيضًا، ومع أن كل إنسان يحصل على نصيبه من الماضي بلا مقابل، فعليَّ أن أستخلص الماضي أيضًا، وربما كانت هذه المهمة أشقها جميعًا.»١٦

•••

مارس كافكا علاقاته الاجتماعية وأوضاعه كيهودي، وعاشها داخل أسرته بعمق وكثافة فريدة. كانت علاقته بأبيه — ولم تكن شاذة أو مَرضية — من أسباب زيادة التوتر بينه وبين الجالية اليهودية، سواء من ناحية ممارسة الطقوس الدينية أو من الناحية الاجتماعية.

لم تكن خلافاته مع والده صورة لوجهات النظر التي عرضها أخصائيو التحليل النفسي، بل كانت على عكس ذلك تمامًا. فبينما يرى المحللون النفسيون في النزاع الأول بين كافكا وأبيه تجسيدًا مسبقًا لكل خلافاته التالية، نرى نحن أن النزاع مع الأب يلخص ويضاعف من توتر علاقاته بالمجتمع.

يتمتع الأب في الأسرة اليهودية بمركز مقدس. ولم يكن تصور كافكا للرب ناتجًا عن تجربة حياته مع أبيه دون أن يدري ذلك، بل إنه أسقط على شخص والده الصورة التقليدية لعلاقة الإنسان برب التوراة الباطش. ومما أكد طابع هذه العلاقة حرصُ الوالد الشديد على ممارسة طقوس كان يحس كافكا في قرارة نفسه بافتقارها إلى أي مضمون أو كيان داخلي. وكان كافكا نفسه يعتبر أن التحليل النفسي ليس «سوى خطأ ميئوس منه، وأن كل الأمراض النفسية المزعومة … حقائق يؤمن بها الإنسان المتأزم، وأفكار راسخة يتمسك بها كملجأ يربطه بأي أرض أم؛ ولذا لا يجد التحليل النفسي أي شيء سوى أسباب أمراض الفرد عندما يبحث عن الأعماق الأصلية للأديان».١٧
ومن الناحية الاجتماعية كان الصدام بين كافكا ووالده صدام رجل أعمال عصامي كوَّن نفسه بنفسه، مع ابنه الشاعر. كان كافكا يعتبر أباه نموذجًا للرجل المتفوق عليه، ولكنه لا يريد أن يكون مثله، ولا يستطيع أن يكون ذلك. وقد مارس أول تجربة له مع الاستغلال والاضطهاد الاجتماعي في المنشأة التي كان يديرها والده: «أصبح المحل في حد ذاته يصيبني بالغثيان … وأذكر بوجه خاص أسلوبك في معاملة المستخدمين … كنت تسميهم الأعداء الذين يتقاضون أجرًا، وقد كانوا بالفعل أعداء لك، ولكنك أنت الآخر ظهرت لي كعدو يدفع الأجور، قبل أن يكونوا هم أعداء يتقاضون أجرًا … ولذا لم يعد في إمكاني تحمُّل المحل، فهو يذكِّرني بوضعي الشخص إزاءك، وكان لا بد لي أن أنضم إلى حزب المستخدمين.»١٨
كان والده في نظره صورة مصغرة للمجتمع الضاغط الذي يدفع إلى الإحساس بالغربة، ويخنق شخصية الإنسان. فالغربة عند الإنسان نتاج مجموع العلاقات الاجتماعية، وقد عاشها أول الأمر في شكل علاقاته بأبيه: «حرصت المدرسة كما حرص المنزل على محو كل ميزة فردية لي … كانا لا يعترفان بميزاتي الخاصة، وكان كشفي عنها يعني إما أن أكره المستبد، وإما أن أتجاهل تلك الميزات وأعتبرها غير قائمة … ولكن إخفائي لأحد مميزاتي كان يعنى أن أكره نفسي ومصيري، وأن أنظر لنفسي كإنسان شرير أو ملعون.»١٩ أما فيما يختص بوالده فهو يقول بعد تفسيره لإجباره على ممارسة «حياة بشعة مزدوجة جزئيًّا»: «لماذا أردت الخلاص من هذا العالم؟» لأنه «كان لا يتركني أعيش في العالم، أعني في عالمه هو، أما الآن فقد أصبحت مواطنًا في عالم آخر، لا بد وأن يكون أرض كنعان، أرض الأمل الوحيدة بالنسبة لي؛ لأنه لا توجد أرض ثالثة للبشر.»٢٠

وقد أسرَّ كافكا لصديقه ماكس برود أنه ينوي أن يتخذ لكل أعماله عنوان «محاولة للهروب من دائرة الأب». ومن السخف أن نعتبر أعماله مجرد وثائق للتحليل النفسي؛ أولًا لأن كل شيء يتم على صعيد الوعي الواضح، على عكس ما يحدث في حالة عقدة أوديب، وثانيًا لأن «دائرة الأب» تعبر عند كافكا عن الطريقة التي عاش بها لمدة طويلة علاقات الانسلاخ الاجتماعي وعلاقاته الدينية.

كانت صلاته بأبيه تعاني من نفس الازدواج الذي عرفه في علاقاته مع المجتمع والدين؛ فهي علاقات قائمة على الحب والخوف، وعلى التمرد والحنين.

•••

كانت مهنة كافكا من عوامل إقحامه في المجتمع، مما زاد من حدة إحساسه بالغربة وبازدواج شخصيته؛ فقد اشتغل ابتداء من عام ١٩٠٨م موظفًا في «مؤسسة التأمينات العمالية ضد الحوادث في مملكة بوهيميا».

وهكذا اتسقت حياته «المزدوجة جزئيًّا» مع تجربته المهنية، وتعارضت معها في نفس الوقت بشكل موئس، كان كافكا الموظف في الجهاز البيروقراطي مجرد ترس من تروس تلك الآلة القدرية التي تطحن الإنسان، وتخنق ميزاته الفردية. وكان أداة للغربة من خلال عمله الذي يكفل له العيش، ويقتله رويدًا رويدًا كل يوم. وكان يساهم بنفسه في هذا التنظيم المجهول الاسم، المعتمد على التسلسل الهرمي في المراتب والمستويات. فهو يشارك في التشغيل الآلي العبثي وغير المسئول لهذا الجهاز الذي يسحق البشر باسم قوانين عامة مجردة من الإنسانية. كان كافكا يحس من البداية أن الدراسة القانونية التي عكف عليها عبارة عن عملية تعذيب، فقال عنها: «درست الحقوق، أي إني أرهقت أعصابي تمامًا طوال الشهور التي تسبق الامتحان، وتغذيت روحيًّا بنشارة. ومما يزيد الطين بلة أن هذه النشارة لاكتها من قبلي آلاف الأفواه.»٢١
هذه القوانين المنفلتة والغريبة على الإنسان، وتلك الغربة التي يعيشها لا تعبر عن التعارض بين العام والخاص فحسب، بل تفصح أيضًا عن الصراع بين طبقتين، وكان كافكا يدرك ذلك. وقد شرح ليانوش، صديقه، نظام الغربة المميز للرأسمالية، وهو نظام لا يتولد عن الناس، ولكن عن المجتمع الرأسمالي ذاته. وقد قال لصديقه: «الرأسمالية نظام لعلاقات التبعية التي تتحرك من الداخل إلى الخارج، ومن الخارج إلى الداخل، ومن أعلى إلى أسفل، ومن أسفل إلى أعلى. فكل شيء يخضع هنا لتدرُّج هرمي صارم، ويرسف في قيود حديدية. إن الرأسمالية وضع مادي ومعنوي أيضًا.»٢٢

وكافكا الموظف البيروقراطي يعاني من زيف وضعه داخل هذا الجهاز الكابت.

كانت البيروقراطية تبلور كل جوانب الغربة في المجتمع؛ ولذا فهو يُضطر دائمًا إلى التصرف على نقيض ما يمليه عليه ضميره ووعيه. فهو يكتب تارة تقريرًا أو مقالًا يتملق فيه مؤسسة يحتقرها،٢٣ وتارة أخرى يرفض أو يتغاضى عن طلبات أو شكاوى يعلم تمامًا أنها على حق. كان يعمل في الإدارة المكلفة بتقدير جسامة الحوادث، فكانت تتراءى له من خلال كل ملف مآسٍ إنسانية يعيشها عمال تنهشهم الآلات والقوانين وصور حوادث العمل وإصاباته والموت والأرملة، ودهاليز المكاتب التي تهلك الضحية وهي تبحث عن مسئول وسط متاهات هذا المجتمع القاهر والمجرد من الإنسانية. إنه مجتمع يفرض الغموض على العلاقة بين العامل والمكاتب، كما يفرضه على العلاقة بين طالب العدالة والقاضي، وبين الحقيقة والقانون، وأخيرًا بين العمل ورأس المال.
وهكذا ظهرت أمام عينيه آلاف الصور للعلاقة الأساسية التي اتضحت له من قبلُ في المنشأة التي يمتلكها أبوه. وفي هذه المرة أيضًا كان لا بد وأن ينضم إلى حزب العاملين. وقد قال لصديقه ماكس برود: «يا لتواضع هؤلاء العمال! إنهم يلتمسون منا حقوقهم باستعطاف. إنهم يستعطفوننا بدلًا من أن يهدموا المؤسسة على رءوسنا وينتزعوا حقوقهم.»٢٤
ظل رد فعله ضد هذه الأوضاع محصورًا في نطاق التمرد عليها، مما دفعه إلى التردد على الأوساط الفوضوية التشيكية، وبالأخص على قائدهم كاشا. على أن رد الفعل عنده كان أخلاقيًّا ودينيًّا أيضًا، مما عزز شعوره الباطني بالذنب: «ماذا تتوقعون مني؟! أنا من رجال القانون؛ ولذا لا أستطيع أن أتخلص من الشر.»٢٥

وفي مجال الأدب، اهتم كافكا بكل جوارحه بالأعمال التي تتناول عالم العمال الذين تقهرهم الآلات، وتعذبهم التشريعات؛ فقرأ هرتزن وكروبوتكين ودستويفسكي وتولستوي وجوركي.

على أن تمرده الفوضوي أو إحساسه الميتافيزيقي بالذنب لم يقوداه إلا إلى أحلام الهروب من الدائرة اللعينة. وهو يحلم أحيانًا بالتأصل في العالم الحقيقي، وبالإخاء بين الناس عن طريق العمل اليدوي. وقد أفصح ليانوش في عام ١٩٢١م عن رأيه فقال له: «العمل الذهني ينتزع الإنسان من الجماعة الإنسانية، أما الصنعة فهي تقوده، على العكس، نحو بقية البشر. ومن المؤسف حقًّا أني لم أعد أستطيع أن أعمل في ورشة أو حديقة.»

وسأله صديقه: أترغب في ترك وظيفتك هنا؟

فأجابه كافكا: ولم لا؟

– وتترك كل هذا؟!

– أترك كل شيء من أجل الإحساس بأمان وجمال الحياة الخصبة الغنية بمعانيها.٢٦

وفي مرحلة أخرى من حياته، في غضون عام ١٩١١م عثر كافكا على أحد أشكال الحياة الحقيقية عن طريق صداقته مع لوفي، مدير إحدى الفرق المسرحية اليهودية. فوجد في نشاط ممثلي الفرقة — الذين يعيشون على الكفاف، ولا يرتبطون بأي شيء سوى فنهم — صورة النقاء الذي يبحث عنه بكل إلحاح. وجدير بالملاحظة أن هناك رواية واحدة له تنتهي بخاتمة سعيدة، وهي رواية «أمريكا»؛ إذ تنتهي المغامرة الإنسانية لبطلها كارل روسمان بالتحاقه بسيرك أوكلاهوما، حيث يلتقي بأمثاله من «المنبوذين» و«الأذلاء»، الذين صورهم لنا دستويفسكي على أنهم يعيشون في فردوس جميل يؤدي فيه كل فرد الدور الذي حرمته منه الحياة.

لقد استنفد كافكا نفسه في كفاح لا نهائي ضد الغربة في عقر دار الغربة نفسها.

إن الشعر نقيض العالم الذي يحاصره من كل الجهات، والإبداع الفني نقيض الغربة.

فلنُلقِ نظرة على اليوميات الفاجعة لهذا الإنسان الممزق الذي يعاني من الازدواج:

«إن أوضاعي لا تُحتمَل؛ لأنها تتناقض مع رغباتي وميولي الوحيدة، وأعني بذلك الأدب، الأدب هو كياني، ولا أريد ولا أستطيع أن أكون غير ذلك. أوضاعي الحالية لن تتمكن أبدًا من إغرائي، بل إنها لا تستطيع إلا أن تدمرني وتقضي عليَّ تمامًا، وهذا ما سيحدث لي عن قريب» (٢١ أغسطس ١٩١٣م). كما يقول أيضًا:

«إني لأعاني من شعور رهيب؛ فكل شيء مهيأ في أعماق نفسي لإبداع عمل أدبي عظيم. وبالنسبة لي سيكون مثل هذا النوع من العمل بمثابة خلاص فعلي، وانطلاقة حقيقية في الحياة، ولكني أقضي حياتي في المكتب وسط أكوام من الملفات البائسة، وعليَّ أن أنتزع اللحم من جسدي، وهو الخليق بأن يمارس البهجة» (٤ أكتوبر ١٩١١م).

«محال أن أتحمل هذه الحياة، أو بالأحرى استمرارها على هذا المنوال. فعقارب الساعات لا تتوافق مع بعضها، والساعة التي تدق في جنباتي تجري بسرعة شيطانية، بسرعة غير إنسانية على أي حال. أما الساعة الخارجية فتتحرك في سرعتها العادية المتقطعة. أيمكن أن تكون نتيجة ذلك شيئًا آخر غير انفصال بين عالمين مختلفين، أو على الأقل تنازعًا رهيبًا بينهما؟!» (١٦ يناير ١٩٢٢م).

«إنها لحياة مزدوجة رهيبة حقًّا، لا أظن أن هناك مخرجًا آخر منها سوى الجنون» (١٩ يناير ١٩١١م).

كان كافكا يبحث بشوق عارم عن التأصل في الحياة، وعن الارتباط بجماعة اجتماعية وروحية. كان ينتمي، بوصفه يهوديًّا، إلى شعب مختار وإلى شعب منبوذ ومشتت في نفس الوقت. كان يشعر بأنه «ابن عاق» في مواجهة والده، منبوذ من عالمه، فلجأ إلى داخلية نفسه التي تحولت شيئًا فشيئًا إلى وطنه الحقيقي. وكان ممزقًا بين مهنته بالنهار، التي تحوله إلى أداة في خدمة جهاز مميت، وبين ميله في الليل إلى عمل واعٍ يؤرقه ويدوخه، ويبدع فيه بالمادة التي حصل عليها من كوابيس الحياة.

كان يحن دائمًا إلى الالتقاء، إلى «السعادة في صحبة الكائنات البشرية»،٢٧ فراح يدعو بكل قواه إلى «خدمة الناس بكل طاقة ممكنة».٢٨

ويصبو هذا الإنسان، المنفي من كل مكان والغريب في كل وطن، إلى المشاركة.

والحب هو الوسيط في المشاركة، وهو الشفيع أيضًا.

كان هناك أولًا حب أمه، وقد تلمَّسه كافكا: «إنني أشعر كم تجاهد … من أجل تعويض افتقادها الصلة بالحياة» (٣٠ يناير ١٩٢٢م).

لقد تحول «افتقاد الصلة بالحياة» إلى مرض قضى على كافكا، وكان يحلم بتعويضه بالحب.

«لا أجد من يفهمني في شمول كياني. لو كان هناك من يستطيع ذلك، امرأة مثلًا، فسيكون معنى ذلك أن أقف على قدمي، وأن أكون عندئذ عند الرب» (مذكرات، ١٩١٥م). ولم تتحقق هذه السعادة إلا في السنة الأخيرة من حياته مع دورا ديمانت.

«المرأة — أو بمعنًى أدق — الزواج، هو ممثل الحياة الذي يجب أن تتفاهم معه.»٢٩
ويقول كافكا أيضًا: «الحب الجسدي يطمس الحب الروحي، ولكنه لا يستطيع ذلك إلا لأنه يحمل الحب الروحي في طياته، وبلا وعي منه.»٣٠

وكان الحب يعاني عند كافكا من الازدواج نتيجة الجدلية المأساوية لحياته الداخلية؛ كان الحب يقربه من الحقيقة ويبعده عنها، وكان شرطًا للمشاركة وعقبة في سبيلها، وكان إغراء ينأى به عن الهدف ووسيلة للوصول إلى الهدف.

وقد وازن كافكا مرات عديدة بين المبررات التي تدعوه إلى الزواج أو إلى رفض الزواج، في «اليوميات الخاصة» وفي «الكراسات»، ونلاحظ دائمًا نفس التناقض في معنى الحب في جوهر تفكيره.

إن السعي من أجل تحقيق الجوهر يتطلب العزلة، ويستلزم تجميع كل القوى الذاتية: «أنا في حاجة إلى العزلة، وكل ما نجحت في تحقيقه ليس إلا نتاجًا للوحدة. إني أخاف الارتباط، وأخاف فقدان ذاتي في كائن آخر؛ لأني لن أصبح وحيدًا بعد ذلك» (١٢ يوليو ١٩١٣م).

ولكن خوفه الشديد من فقدان ذاته يقابله أمل مجنون في التأصل والارتباط بالمجموع: «لا أكون جسورًا، مقدامًا، قديرًا، ومنفعلًا بشكل مدهش إلا عندما أكتب. آه لو استطعت أن أكون كذلك أمام الناس، بفضل امرأة! …»

ويجري الحوار نفسه وتدور الموازنة نفسها بعد ذلك بثلاث سنوات: «عندما أكون وحيدًا، تكون كل قواي كتلة واحدة. وإذا تزوجت ظللت بعيدًا عن المشاركة، وسلمتُ نفسي للجنون، وتركتها نهبًا للرياح …» (٢٠ أغسطس ١٩١٦م).

والمرأة أقوى رباط بالجوهر، ولكنها أقوى المغريات للابتعاد عنه. ويتخذ أبطال روايات كافكا موقفًا مزدوجًا إزاء المرأة؛ ففي «المحاكمة» يتوقع جوزيف ك أن تكشف له علاقته بليني، خادم الأستاذ هيلد المحامي، عن سر القاضي. ولكن بمجرد تقبيله الرمزي لهذه اليد المصابة بعاهة، والتي تشبه مخالب طائر جارح، فإن ليني تقول له: «أنت ملك لي الآن.» وفي رواية «القلعة» يأمل المساح في التقرب إلى سادة القلعة عن طريق غرامه بفريدا، فيبعده عنها فشله في تحقيق غرضه.

ولعل موقف كافكا المزدوج من الحب يعبر عن المواجهة بين موقفين أساسيين له إزاء الحياة وإزاء الإيمان أيضًا.

والسؤال الآن: هل هو أقرب إلى كيركجارد أو إلى هيجل؟

في الحالة الأولى، تكون جهود الإنسان — التي لا تُقاس إطلاقًا بعدالة الله — بلا قيمة، ويكون كل ارتباط جسدي مجرد سخرية أو «تسلية» بالنسبة للحوار الجوهري بين الذات المنعزلة وبين التسامي، علمًا بأن كافكا قطع علاقته بخطيبته فيليس، كما فعل كيركجارد مع رجينا.

وفي الحالة الثانية يكون الحب البشري بالنسبة للحب الإلهي، ككل أفعال الإنسان الأخرى، كالمتناهي بالنسبة للَّامتناهي، وعندئذ يشكل المتناهي خطرًا أكيدًا يمكن أن ننغرز وأن نضيع فيه. ولكن اللامتناهي لا يتحقق أبدًا إلا من خلال المتناهي، وتحقيق المتناهي هو الطريق الوحيد للوصول إلى الشمول. وقد أحس كافكا مرتين بإمكانية الوجود الشامل وبإمكانية المشاركة من خلال حبه لفيليس، وأمله الكبير في ميلينا، ومن خلال السعادة التي تحققت له بالقرب من دورا.

والقضية بالنسبة لكافكا ليست قضية مواجهة بين نظرتين لاهوتيتين أو فلسفيتين، ولكنها مأساة يعيشها بكل كيانه ووجوده.

ولذا فهو يقول تارة ليانوش: «الحسية تحرِّف أنظارنا عن المعنى.»٣١
وتارة أخرى يكتب لميلينا: «أنا لا أحبك أنت، بل أحب ما هو أكثر من ذلك؛ أحب وجودي الذي يتحقق من خلالك.»٣٢

وفي سبيل البحث عن الوجود الأصيل يشكل الحب والزواج تجربة لا بد من الانتصار عليها؛ فالسعادة لحظة من لحظات الحياة يجب اجتيازها دون التوقف عندها.

ومن الممكن أن يصبح الحب والزواج رابطة بالوجود الأصيل، ومن هنا يصبح كل تفسير وجودي لأدب كافكا ملغيًّا؛ لأن الحرية عنده تتحقق بالارتباط لا بالانفصال.

وقد عرَّف كافكا نفسه قائلًا: «أنا بلا أسلاف ولا زوجة ولا خلف، تحركني رغبة جامحة في أن يكون لي أسلاف وحياة زوجية وذرية» (٢١ يناير ١٩٢٢م).٣٣
وهكذا ترتبط في شخصه بشكل وثيق واجهتا حقيقة واحدة، وهي وعيه بضرورة عزلته مع رغبته العارمة في الارتباط بحياة الجماعة الحقيقية: «إني متأكد تمامًا أن الزواج وتكوين أسرة، وتقبُّل كل الأطفال الذين يولَدون، وإتاحة الحياة لهم في هذا العالم المضطرب، ومحاولة توجيههم بقدر الإمكان؛ هو أقصى درجة لما يمكن أن يبلغه الإنسان.»٣٤ وتعبر قصة «أحد عشر ابنًا» القصيرة عن حنينه إلى أسرة أبوية.
لم يتمكن كافكا من إنجاز هذه المهمة الأولية؛ لأنه كان يعتبر نفسه عاجزًا عن التأصل في الحياة الذي يتيح له إمكانية تكوين أسرة: «الزواج يفترض … الثقة بالنفس»، وإلا فإنه يؤدي إلى «إضافة عزلة جديدة إلى العزلة القائمة، فلا يخلقان وطنًا، بل سجنًا.»٣٥
ومن هنا يكتسب انفصاله عن خطيبته معنًى خاصًّا، على نقيض معنى انفصال برنيقة (برينيس). كتب كافكا في إحدى صفحات يومياته: «كنت أحب فتاة وكانت تحبني، ومع ذلك كان لا بد وأن أهجرها»، مما يذكرنا فورًا بكلمة تاسيت «بالرغم منه وبالرغم منها»، وبتراجيدية راسين. والواقع أن وطأة العالم، وارتباط الإنسان بسلطته وبواجباته وبكل ما يؤصله في الحياة الاجتماعية، وفي قيمها المقدسة؛ هو الذي أدى إلى انفصال تيتوس عن برنيقة،٣٦ أما ما يفصل — على العكس — بين كافكا وخطيبته، فهو إحساسه بأنه يطفو في فراغ، بلا جذور وفي مواجهة العدم.
وهو لا يستطيع أن يستمد القوة الضرورية لتأسيس حبه إلا من خلال المشاركة مع الجماعة الاجتماعية، أي ما يفتقده بالذات: «إن العلاقة مع الشبيه علاقة مع الذات وعلاقة بالجهد، إنها علاقة صلاة، والإنسان يستمد قوة جهده من الصلاة.»٣٧

وقد عمَّق التناقضُ الفاجع بين العزلة والحب الهُوةَ السحيقة المحفورة في لب حياة كافكا، نتيجة وضعه الاجتماعي، ونتيجة لخلافاته مع والده، وللغربة التي يعانيها من التناقض بين مهنته وبين اهتماماته الأدبية.

•••

لقد تجسدت هذه المأساة بشكل مادي، وساقت كافكا إلى المرض وإلى الموت. وقد قال: «لقد مزقت نفسي بنفسي … فهذا العالم الذي تمثله فيليس، وأنا، مشتبكَين في صراع؛ لن يكون له حل وكلانا (أي العالم وكافكا) يشترك في تمزيق جسدي.»٣٨
وزادت الخطبة من حدة الصراع المميت، وكان كافكا يعي ذلك تمامًا، فكتب في ١٥ سبتمبر عام ١٩١٧م، عقب ظهور أول أعراض المرض عليه: «إصابة الرئة ليست سوى رمز لذلك الجرح الذي يسمَّى الْتهابه فيليس، والذي يُدعى عمقه الغائرُ التبريرَ.»٣٩
وقد أعلن فيما بعد لميلينا: «آلام الرئة ليست سوى طفح آلامي المعنوية. أنا مريض منذ أربع أو خمس سنوات، منذ الخطبتين الأوليين.»٤٠
عاش كافكا في توتر دائم بين القلق والخوف. كان الخوف ينتابه حتى أعماق كيانه، وكان يشعر بعبء المسئولية الملقاة على عاتقه، مسئولية حمل رسالة الحقيقة، ومسئولية عجزه عن توصيلها. وقد قال: «يعيش أغلب الناس بلا وعي بمسئوليتهم الفردية، وأعتقد أن هذا هو أساس شقائنا … وتتمثل الخطيئة في النكوص عن أداء الرسالة. الإثم هو عدم الفهم والتعجل والإهمال، ومهمة الكاتب هي توصيل ما هو منعزل وزائل إلى الحياة الأبدية، وتحويل ما هو مجرد مصادفة إلى أمر متفق مع القانون. إن رسالة الكاتب رسالة نبوية.»٤١
وإحساس كافكا بمسئوليته الشخصية بعيد المدى، فهو يعتبر نفسه مكلفًا برسالة نبوية، وإن كان يحس بأنه نبي عاجز، أي نبي خاطئ: «إنه تفويض، وطبيعتي تملي عليَّ النهوض به، مع أن أحدًا لم يكلفني به. وأنا لا أعيش إلا في هذا التناقض، كما لن أستطيع أن أعيش إلا به، وذلك لأني ككل إنسان آخر لن أموت إلا من خلال الحياة.»٤٢
ورسالة النبي هي إصدار الوصايا. أما كافكا فليس إلا نبيًّا سلبيًّا يكشف لنا عن فوضى هذا العالم وعبثه الدفين، ولكنه يعجز عن إرشادنا إلى أرض المعاد. وهو يعاني وطأة هذا العالم الذي ينبذه ولا يعترف به، ولا يستطيع أن يرسم طريق الخلاص من الفوضى. إن قيام الفوضى بمثابة اتهام وإدانة للعالم؛ «لا تصبح الإنسانية مجرد كتلة قاتمة لا شكل لها، ومحرومة من اسمها إلا إذا انفصلت عن الشريعة التي تُكسِبها شكلًا محددًا. وعندئذٍ لا يكون هناك عالٍ أو دانٍ، وتنحطُّ الحياة لتتحول إلى مجرد وجود، فلا تكون هناك دراما أو صراع، بل مجرد استهلاك للمادة وإفلاس».٤٣

وهذا العالم المهجور يسير ببطء نحو الفناء … ويستطرد كافكا قائلًا: «هذا العالم ليس عالم التوراة أو عالم الديانة اليهودية»، ولكنه لا يستطيع أن يدلنا على الإله الذي يملك عكس هذه الحركة ليسير به قُدمًا.

ولا ينعم الإنسان بالنوم الهادئ إلا إذا تناسى واجباته، ولكن «من ذا الذي يعرف واجباته بكل دقة؟ لا أحد. ولذا نشعر جميعًا بوخزات الضمير، فنهرب منه بالإسراع بقدر ما يمكن إلى النوم … وربما كان أرَقي ليس سوى خوف من ذلك الزائر الذي أدين له بحياتي … وربما تخفَّى خوفي العظيم من الموت وراء ذلك الأرق. وربما كنت أخشى أن تهجرني روحي أثناء النوم وتعجز عن العودة. وربما كان أرَقي نتيجة شعوري بالإثم والخوف من أن أُفاجأ بالحساب. وربما كان تمردًا على الطبيعة … والإثم هو جذر كل مرض، وإليه يرجع السبب في حتمية فنائنا.»٤٤

ظل كافكا المصاب بالأرق إنسانًا يقظًا يدعو الناس إلى اليقظة، وإن أدى ذلك إلى هلاكه المنتظم. لقد واجه النوم الذي لا يعرف أحلام الغربة، بأحلام لا تعرف السبات إلى أن توارى.

•••

تلك هي تناقضات عالم كافكا، وتناقضات حياته التي قضت عليه.

هل نحن بصدد إنسان استثنائي لا تتعدى شهادته الإطار الفردي؟ أتكون أعماله الأدبية مجرد انعكاس لحالة فكرية عند فئات اجتماعية ذاوية، أو بالأحرى انعكاس لقلق برجوازية صغيرة مهددة في مراكزها ومستقبلها، تحول قلقها إلى ميتافيزيقيا مطلقة؟

لا شك أن كافكا شخص استثنائي، غير أننا قد نقصد بذلك كونه شاعرًا؛ «فالشاعر يكون دائمًا أضعف وأصغر من المتوسط السائد في المجتمع؛ ولذا فهو يحس أكثر من غيره، وبعمق أكبر، كثافة وجوده في العالم.»٤٥

ولا شك أيضًا أن مفهوم كافكا للعالم متأثر بظروف طبقته، ومحدود بآفاق تلك الطبقة، ومحكوم بتناقضات وترددات لا نهاية لها. وهذا الوضع يَحُول دون كفاح كافكا ضد الغربة بتركيز الهجوم على أسبابها. على أن أوضاعه نفسها لا تسمح لكفاحه بأن يزيد عن إشاحة النائم بيده ليطرد رؤيا. ولكن القوة التي يتعرض بها لكابوس عالم الغربة، والوضوح الذي يميز تصديه لأثقال ذلك العالم الخانق؛ يسمح لنا بأن نلمح من خلال ذلك إمكانية قيام عالم جديد، ويوحي لنا بحاجة عارمة إلى مثل هذا العالم. وهو يقدم لنا أشياء لها مغزًى دون أن يدعي الإيحاء لنا بنظام ميتافيزيقي يحكم «وضع الإنسان»، ولكنه يتجاوز الفرد والطبقة، ويمثل وعيًا بالقانون العميق لعصرنا، ولو في شكل منسلخ.

إن التساؤلات التي تثيرها أعمال كافكا حول مصير الإنسان لها قيمة اعترافات فتى العصر الذي نعيش فيه.

ويتساءل بطل «أبحاث كلب»: «أكنت وحيدًا حقًّا في أبحاثي هذه؟» ويقول «بطل المحاكمة»: «أنا لا أتكلم عن نفسي، وإنما أتكلم من أجلهم.» ويؤكد بطل «سور الصين»: «إني أتكلم باسم الأعداد الغفيرة»، والمساح في «القلعة» يرفع مطلبًا يسعى إليه سكان القرية ويلتفون حوله، بالرغم من عوامل الشك والخوف التي يثيرها هذا المساح في نفوسهم. وفي الصفحة الأخيرة من المحاكمة، وفي لحظة تنفيذ الحكم في جوزيف ك تُفتح نافذة «كما لو كانت ضوءًا متدفقًا»، ويومئ رجل للمحكوم عليه. وهنا يتساءل كافكا: «من كان هذا الرجل؟ هل كان يريد أن يساعده؟ هل كان وحده؟ أم كان نحن جميعًا؟»

يرفض كافكا الأوضاع التي تملي عليه أن يكون مجرد شيء، ويأبي الأوضاع التي تحكم عليه بالغربة. وهو لا يقبل أن يكون مثل «أودراديك»، أي إنسان آلي سخيف، بل يطالب بكل الأبعاد الإنسانية للحياة.

إنه رجل على غرار جوزيف ك في «المحاكمة»، ومن طراز المساح في «القلعة»، لا تثنيه العقبات ولو ظلت تتراكم أمامه إلى الأبد.

إنه إنسان مصرٌّ على «إيضاح الغايات النهائية»، ولا يقبل الحكم على الأشخاص والمؤسسات، وعلى تصرفاته هو نفسه، بالمعايير التقليدية المألوفة، بل يرى لزامًا أن يواجهها بالغايات النهائية.

إنه إنسان لا يتراجع، ولا يعتبر يأسه من الأوضاع الراهنة مبررًا للإذعان. إنه يبحث عن مغزى كل شيء بإيمان لا يتزعزع في إمكانية قيام وجود عادل ونقي، متمشيًا مع الشريعة العظمى للبشر، ومتفقًا دائمًا مع السعي إلى الصحة والعظمة والحياة.

إن كافكا الإنسان الرياضي، الفارس المتمرس على التجديف والسباحة، لا يبحث عن الجانب المظلم في الحياة. وهو يعلن في «الكراسات» للإنسان الرائع الذي تأصلت جذوره في الوجود، وللمواطن الحقيقي في أرضنا: «لا تيئَس حتى مما أنت غير يائس منه، أنت تتصور أنك وصلت إلى نهاية إمكانياتك، ولكن ها هي قوًى جديدة تهرع نحوك، وهذا هو ما يسمَّى حقًّا الحياة …»

«عرض نفسك للأمطار، ودع السهام الفولاذية تخترق جسدك … ولكن ابقَ مكانك برغم كل شيء، انتظر واقفًا، فلا بد وأن تغمرك الشمس فجأة، وبلا حدود.»

تُرى ما هي تلك الشمس التي عرف كافكا كيف يحافظ عليها برغم التناقضات المميتة في حياته وعالمه؟

(٢) العالم الداخلي وازدواجاته

عالم كافكا هو عالم الغربة، عالم النزاع، عالم الإنسان المزدوج. وهو أيضًا العالم الذي يفقد فيه الإنسان وعيه بذلك الازدواج، فيستسلم للسبات. إن قِوام العالم الداخلي لكافكا هو الإحساس بانتمائه إلى عالم الغربة، وبانغماسه فيه، وبرغبته المتأججة في إيقاظ النيام ليعرفوا الحياة الحقيقية.

وهناك قطعة مبتورة بعنوان «ظلمات» ترسم هذه الرسالة التي كرس نفسه لها: «ليل بهيم … ينام حوله الناس. يا لها من مهزلة ضئيلة ويا له من وهم ساذج! أيشعرون بالطمأنينة لمجرد أنهم ينامون على أسرَّة متينة، وتحت سقوف صلبة، يتمرغون فوق الحشايا والملاءات وتحت الأغطية؟! والواقع أنهم لا يزالون متجمعين في صحراء، في معسكر تجتاحه الرياح، كما كانوا في الماضي، وكما سيحدث في المستقبل. إن أعدادهم لا تحصَى، إنهم جيش بأسره، إنهم أمة تعيش على أرض راسخة، وتحت سماء باردة … أما أنت فلا تزال تسهر، أنت واحد من الحراس اليقظين، ترى عن قرب على ضوء الشعلة التي تحملها، النار المشتعلة تحت قدميك … لماذا أنت ساهر؟ يقال إنه لا بد أن يسهر أحد! لا بد من ذلك فعلًا.»٤٦

ويحاول كافكا التغلب على هذا الازدواج الموضوعي بالتزام واحد.

فمهمته كإنسان هي محاكمة الأوهام الباطلة، ونزع النقاب عن أسطورة النظام القائم، وإيقاظ الرغبة عند كل فرد في قيام قانون حي.

وعليه أن يبدأ أولًا بوعيه الواضح بازدواج شخصية الإنسان، وبالجمود المخيف الذي يقف في وجه من يدعو إلى اليقظة.

فجوزيف ك، بطل «المحاكمة»، نموذج للإنسان المزدوج؛ فوظيفته تحدده من الناحية الاجتماعية، فهو «مفوض». ولما كان النظام الاجتماعي مجرد صورة كاريكاتورية مشوهة وكاذبة لنظام آخر إنساني أو كوني أو إلهي، فإن وظيفة أو مهنة جوزيف ك تكتسب أيضًا مغزًى مزدوجًا؛ فهو مزوَّد ببعض السلطات في ذلك العالم الزائف المنسلخ، أي إنه ترس في القدر البيروقراطي الذي يطحن الإنسان، شأنه في ذلك شأن كافكا الموظف في جهاز حكومي آلي للتأمينات. ولكن البطل يحمل أيضًا، مثله مثل كافكا، تفويضًا آخر من العالم الحقيقي، وهذا التفويض لم تمنحه له أي سلطة معروفة. وهو متهم، بل ومذنب؛ لأنه رسول عاجز عن إثبات صحة مصدر الرسالة التي جاء بها. وسيتحكم من الآن فصاعدًا في أعماله وفي حياته، إحساسه بهذه الخطيئة الأولى، خطيئة عدم الحصول على تفويض معترف به، فلن يهدأ له بال حتى يعثر على قاضيه، وحتى يبرئ نفسه.

وليس هناك ما يمكن أن يعاب على جوزيف ك من وجهة النظر الاجتماعية؛ فهو موظف مستقيم وبرجوازي محترم، واستقراره مضمون في عالم تحدده أبعاد النظام القائم.

على أنه يتساءل ذات يوم، وهو يمارس حياته العادية الهادئة التي يوفرها له الوضع المألوف، عن شرعية وجوده، وعن الغاية النهائية التي تسوِّغ هذا الوجود. وهكذا ظهر شرخ عميق في حياته،٤٧ ولن يكف هذا الشرخ عن الاتساع، ليتحول إلى هُوة سحيقة كلما أعاد النظر في الواقع المحيط به.

لقد أصبح متهمًا في ذلك العالم؛ لأن مجرد تعرفه على بُعد إضافي له، بُعد إنساني أو إلهي، أدى إلى إبطال قيمة كل القوانين وكل الأخلاقيات المتعارف عليها. وترنحت كل عدالة، سواء كانت عدالة دنيوية أو سماوية. وبدا كل شيء في تلك العدالة مقززًا؛ فبضربة واحدة من عصًا سحرية، تحولت المكاتب الملحقة بالمحكمة إلى أكواخ، وأصبحت المحاكم نفسها حيًّا يعيش فيه الدجالون. وصدرت الأحكام الخفية في سراديب، على لسان قضاة لا يراهم أحد، فلا يصل منطوقها أبدًا إلى المتهم.

وعندما استيقظ النائم، اختفت كل الزخارف الزائفة لقصر العدالة، وكل الأرواب الأرجوانية التي يتزين بها القضاة، ولم يعد لها وجود إلا في الصور الشخصية الخيالية التي رسمها المصور تيتوريللي، فرمز فيها إلى العدالة بعملية مطاردة للإنسان.

وقد أفسد مساح «القلعة» هو أيضًا البهجة الخادعة؛ فهو يقيس الأراضي، ولكنه يمسح أيضًا عالمًا لا يتقبل أن يُعاد النظر في مقاييسه. إنه مساح عالم لا نعرف له مقاييس أو معايير؛ ولذا لا يعترف أحد بصفته، فيقول له العمدة: «لسنا في حاجة إلى مساح، لن تجد هنا أي عمل تقوم به؛ فكل حدود أملاكنا الصغيرة محددة، وكل أرض هنا مسجلة وفقًا للقوانين، لا يحدث عندنا أي تبديل في الملاك. أما خلافاتنا البسيطة حول الحدود فنحن نصفيها فيما بيننا، ما حاجتنا إذن في هذه الحالة إلى مساح؟!»٤٨

في عالم «الملكية» هذا، يكون كل شيء مسجلًا بدقة، وكل إنسان محصورًا إلى الأبد في الحدود المرسومة له، وسواء كان هذا الإنسان مالكًا أو قِنًّا أو موظفًا، فإن كل محاولة تجرَى من أجل نقل علامات الحدود من أماكنها تُعتبر عملًا هدامًا يثير الريبة والغضب. ولا مكان في هذا العالم المجمد لمساح؛ ولذا تلفظه القرية. فعالم «العندية» يرفض القياس، وعالم «الكينونة» لا مقاييس له. ولكن المساح يتمتع بجاذبية خاصة؛ فبالرغم من أنه خارج على قوانين القلعة والقرية، إلا أنه يجسِّد في شخصه آمال الأحياء منذ آلاف السنين. وهو يذكِّرنا بليني، خادم المحامي في «المحاكمة»، التي تلاحظ أن «كل متهم وسيم»، فهذا المساح يثير الريبة والخوف، ولكنه في نظر المستسلمين للسبات والقانعين بحالهم، أشبه بمبشر بحياة جديدة، تحيط به هالة من الضياء والغموض.

ولا تظهر المقاييس الحقيقية للأشياء إلا بنظرة منه؛ فبمجرد ظهوره تتمزق الزخارف السطحية، وتتكشف الحقائق الساخرة خلف الأبهة الظاهرية والأسطورية: «واصل «ك» السير في طريقه وعيونه مصوبة نحو القلعة … ولكن ظنه خاب عندما اقترب منها. لم تكن هذه القلعة في نهاية الأمر سوى مدينة صغيرة بائسة، ومجموعة من العشش الريفية التي لا تتميز عن بعضها …» بل إن القلعة نفسها لا تحتمل المقارنة ببرج الأجراس المتواضع في قريته التي وُلد فيها: «كان برج الأجراس واثقًا من نفسه، يرتفع في خط مستقيم بلا أدنى تردد … وبالطبع كان البناء دنيويًّا — فهل نستطيع أن نبني شيئًا غير ذلك؟! — ولكن غايته كانت أعلى من مجموعة الأكواخ، وكان تعبيره أسطع وسط الأيام الحزينة، والعمل اليومي الرتيب. كان البرج … متميزًا بشيء غريب، وكان ينتهي بما يشبه منصة ذات زخارف غير منتظمة ومتهدمة كأنها أسنان منقوشة في السماء الزرقاء رسمتْها يد مرتعشة، أو يد طفل مهملة. ويُخيَّل للرائي أن البرج ساكن بائس أُجبرَ على الإقامة في أقصى غرفة في المنزل، فحطم السقفَ ورفع نفسه ليظهر أمام العالم.»٤٩

وكافكا نقيض للساحر؛ فهو لا يحوِّل الكوخ إلى قصر، أو الأسمال إلى ملابس أميرة، بل يُجري التحولات في الاتجاه العكسي. فعندما تواجَه الأوهام البراقة بمطالبتها بتسويغ غاية وجودها فإنها تتمزق وتتهاوى، وتكشف بعُرْيها عن حقيقة بائسة تبعث على القلق.

وعندئذٍ يتخذ هذا العالم مسالك خيالية بعد أن كان في تصورنا عالمًا حقيقيًّا. وقد قال كافكا لصديقه يانوش: «المحاكمة عبارة عن شبح ظهر في الليل … وهي ليست سوى إدراك للانتصار المحقق ضد الشبح، ومن هنا فهي تأكيد للانتصار.»٥٠
والقائمون بأكثر الأعمال اتسامًا بالطابع الرسمي، ابتداء من القاضي حتى الجلاد، ليسوا في وسط عالم الغربة سوى دمًى، أو «مشخصين» من الدرجة الثانية. وقد رسم كافكا الشخصَين المكلفين بتنفيذ الإعدام في ملامح مهرجي مسرح براغ. ويقول «ك» لنفسه: «لقد أرسلوا لي ممثلَين قديمَين. إنهم يريدون التخلص مني بأبخس ثمن»، وقد سألهما: «في أي مسرح تمثلان؟» فتساءل أحدهما: مسرح؟! وهو يوجه أنظاره نحو زميله يرجو منه النصيحة، فتصرف الآخر كأنه أبكم يحاول التغلب على عصيان لسانه. وقال جوزيف ك في نفسه: «لعلهما غير مدربَين على الإجابة على الأسئلة.»٥١

إن الانصهار الرائع بين المعنى المقصود والحقيقة الإنسانية والشكل، يعبر عن وضوح رؤية كافكا للعالم المحيط به بكل أساطيره المقننة؛ فالمكلفون بتنفيذ «ما لا يقبل الفناء»، بتنفيذ القانون الداخلي للعالم السياسي والاجتماعي، القانون الكوني للنظام الإلهي، القانون الشامل، سواء كانوا قضاة أو كهنة، هؤلاء المكلفون مزودون بتفويض من سلطة أو من دين. وقد طوى النسيانُ وشوَّه منذ زمن بعيد المغزى الإنساني أو الإلهي العميق لذلك التفويض، ولا زال هؤلاء قائمين على الطقوس نفسها بعد أن تجردت من مضمونها، كأي بيروقراطيين طغاة ضيقي النظرة.

ويهيم الإنسان وحده في المتاهات المقفرة لعالم تزدهر فيه عمليات التحريف الساخر والمهين للقانون. والحياة في عالم الموت لا تقل استحالةً عن الحياة في عالمنا؛ ففي قصة «ضيف عند الأموات»، يظل الزائر إنسانًا أجنبيًّا يسير دون أن يتمكن من التوقف في عالم أُسقطتْ عليه الأوضاع نفسها، والوظائف نفسها القائمة في الحياة، والتي تدعو إلى السخرية والاستهزاء. وعلى العكس من ذلك، فإن الميت في «جراكوس القناص» يتمكن من بلوغ شاطئ الأحياء، ويرتدُّ إليه دائمًا كلما ابتعد عنه.

وهكذا يسود تجاهل الفرد وتجاهل الشخصية في هذا العالم وفي العالم الآخر أيضًا؛ ففي عالم الموت يسود صمت مُطبِق هائل يتخلف عن افتقاد الرب، وفي الأرض تموج كائنات لم تعد بشرًا؛ لأن عجلات الغربة سحقتها.

قدم لنا عالم كافكا نماذج صارخة لعبث الحياة عندما تفتقر إلى غاية أو قانون، في صورة الحيوان الغريب الذي يهيم في المعبد كتعبير ساخر عن العقائد المندثرة، والطقوس المجردة من مضمونها الأصلي، وفي صورة ضابط مستعمرة الأشغال الشاقة، العاجز عن تقديم تفسير لتشغيل آلة التعذيب، وفي صورة حارس خط سكك الحديد في «كالد»، وهو خط لا يوصل إلى هدف.

أما القانون بوصفه مبدأ داخليًّا حيًّا قادرًا على التحكم في الوجود الإنساني الحقيقي، فقد حجبه جهاز بشع، قِوامه المجتمع والدولة والكهانة.

وتتمثل ملحمة كافكا في محاولة الكشف عن مغزى الحياة المفتقَد والمنزوي في غياهب النسيان، من خلال تجاوز النظام الاجتماعي والديني الزائف، الذي يحاول أن يبدو كنظام إنساني.

فالمجتمع بقوانينه، والدين بشعائره وعقائده الثابتة، ما كلٌّ منهما إلا رماد بارد يتعين علينا أن نبحث تحته عن الشعلة الأصيلة. وعلينا أن نتفهم الشمول الحي؛ لأننا سنكتشف بواسطته معنى وحياة كل التفاصيل والحقائق. وفي أعمال كافكا تتردد الدعوة إلى الطموح في الشمول الحي، مع كل صرخة موجِعة يوحي بها إليه كل إنسان يعاني من التفتت والتمزق والوحدة، ويتحول إلى مجرد حطام أو رماد. ويظهر هذا الطموح أحيانًا في شكله الإيجابي على صفحات اليوميات الخاصة والكراسات: «الحياة معناها أن نكون وسط الحياة، وأن نرى الحياة بالنظرة التي خلقناها بها. لا نستطيع أن نعتبر العالم طيبًا إلا من المكان نفسه الذي تصورناه له.»٥٢ ويظهر هذا الطموح إلى الشمول الحي بإضفاء جزالة غريبة على أسلوبه في فلتات نادرة من أعماله، عندما يشير إلى الأمل الكبير في التمكن من النظرة العامة الشاملة؛ فهو يكلمنا في «سور الصين» عن «الجموع التي تبحث بكل وسيلة عن الوحدة من أجل غاية واحدة»، وعن سعي كل فرد إلى أداء «المهمة الصغيرة التي كان يضطلع بها كل منا داخل البناء الكبير»؛ ولذا تتجه كل الأنظار، وكل آمال الرجال نحو قاعة المجلس الكبير: «أين يوجد المجلس؟ من هم أعضاؤه؟ لا أحد يدري لكي يقول لنا! ففي هذه القاعة كانت تدور كل الأفكار وكال آمال الرجال، كما كانت تلف في دائرة عكسية كل الإنجازات وكل غايات الإنسان. على أن روعة العوالم الإلهية كانت تنعكس من خلال النوافذ على الأيدي المهيبة لقادة المجلس وهي ترسم الخطط.»٥٣

وفي مناسبة أخرى يتكلم كافكا عن «السعادة في الإحساس بالتوافق التام مع النهار المشرق».

وفي مراحل مختلفة من حياته، تفتحت أمام عينيه طرق مرسومة من قبل؛ فقد وضع في عام ١٩١٨م مشروعًا لجماعات عاملة غير مالكة،٥٤ يرسم الخطوط العامة لجماعات الكيبوتز في دولة إسرائيل المرتقبة. وكان يواظب في نهاية حياته على دراسة اللغة العبرية بكل جدية، وانضم بتأثير من دورا ديمانت إلى حركة «الحاسدية»، وهي مذهب متصوف يقول إن الإنسان يكتشف بالتأمل الداخلي أن الله موجود في كل شيء، وأن لا شيء لا يتواجد فيه. وقد ظهرت بوادر هذا التصوف في كراساته إذ يقول: «لا داعي لأن تخرج من مسكنك، امكث أمام المنضدة واستمع، بل لا تستمع واكتفِ بالانتظار في مكانك، بل لا تنتظر واكتفِ بالبقاء على انفراد، صامتًا، فسيأتي العالم إليك بنفسه لكي يحسر النقاب عنه، وسينتابه الذهول، ولن يستطيع إلا أن يتلوى أمامك.»٥٥

على أن محاولة التجسيد الاجتماعي للصهيونية، أو النورانية الداخلية للحاسدية، لم تستطع أن تقود حركة كافكا نحو التأصل الحقيقي، سواء في المجال الدنيوي أو الديني.

فهو يصطدم في كلتا الحالتين بالمعضلة التي يواجهها مساح «القلعة»؛ إما أن يندمج في سكان القرية، فيعمل ويتزوج ويغرق معهم في خمود الغربة، وإما أن يظل يطالب، بلا جدوى، بإجابة على السؤال الذي وجَّهه من قبل إلى القلعة؛ ما هو وضعه الحقيقي؟ ما هو النظام المفروض عليه اتباعه؟ ما هي الغاية النهائية للحياة؟

ظل المساح موزعًا بين السماء والأرض، بين القلعة والقرية، ففقد كلًّا منهما؛ حرَّفه السؤال الملحُّ الذي لم يكفَّ عن توجيهه إلى القلعة عن ماهيته الاجتماعية ومهمته الإنسانية، أما ارتباطاته بالقرية فقد حالت بينه وبين اكتشاف الكلمة السحرية التي تفتح له أبواب القلعة. وهو متردد بين السماء الخاوية (القلعة)، والأرض الميتة (القرية)، وسيظل متأرجحًا بينهما حتى يموت دون أن يحصل على جواز الإقامة في الوجود، ولا على الاعتراف به كمساح.

أما حكاية المهاجر في رواية «أمريكا»، فهي استمرار في تأمل القضية نفسها، أي قضية التأصل في «العالم الجديد» بعد التجارب السابقة التي نستطيع أن نسميها «مجموع إخفاقات الإنسان»، وهو مجموع لم يكتمل بعد.

تتمثل مشكلة كافكا في اكتشاف نقطة الْتقاء الخاص بالعام، والتقاء الفرد بالمجموع، أي في الكشف عن الموهبة الوحيدة لكل فرد، وعن مكانه الحقيقي وسط الجماعة، والعمل وفقًا للقانون الذي يحدد وضعه.

يقول المساح: «أعتقد أن هناك شيئين يجب أن نميز بينهما؛ أولًا: ما يحدث داخل الإدارات، وما هي الدوافع التي تجعلها تفكر على هواها بهذه الطريقة أو تلك، وثانيًا: شخصي أنا، شخصي الحقيقي الموجود خارج المكاتب، والذي تهدده المكاتب بأذًى جنوني، حتى إني لا أستطيع أن أصدق أبدًا حقيقة خطورته.»٥٦
يريد كافكا أن «ينقذ» الخصائص الفردية لكل شخص من كلٍّ من البيروقراطية الدنيوية والسماوية: «لا يمكننا أن نصل إلى الرب إلا بشكل فردي؛ فلكل منا حياته الخاصة وإلهه الخاص الذي يدافع عنه ويحكم عليه، أما الكهنة وطقوسهم فليسوا سوى عكازات الروح المصابة بالشلل.»٥٧
وفي ظل الفردية العميقة الجذور التي يدعو إليها كافكا من خلال جدلية العلاقة بين الخاص والعام، فإن الله لا يتمثل للإنسان إلا في شكل فردي. وهو يقول في هذا الصدد: «سيظهر المسيح عندما يصبح من الممكن تحقيق الإيمان الفردي الكامل.»٥٨

•••

هل يمكن الحفاظ على الخصائص الفردية بالانطواء على الذات؟ هناك قصة صغيرة بعنوان «الجحر» تجيب على هذا السؤال القلق، وتعبر عنه أكثر مما تعبر ثلاثية العزلة المتمثلة في «المحاكمة» و«أمريكا» و«القلعة»، التي نُشرت بعد وفاته.

تنطوي الدابة المنطوية تحت الأرض في جحر «عنديتها»، حيث تنعم في أول الأمر براحة جبانة؛ لأنها لم تعد تشعر بثقل الأشياء أو بمقاومتها: «غيرت مكاني وغيرت عالمي ونزلت في جحري، فشعرت فورًا بآثاره. إنه عالم جديد يمنحني قوًى جديدة، وما كان يرهقني في الأرض لم يعد كذلك هنا.»٥٩
وهكذا نترك العنان للأوهام الداخلية، فيتعطل الواقع، ويبدو لنا كل شيء سهلًا يسيرًا في الفراغ الخادع والأثيري للروحانية الصرفة: «كنت أعتبر نفسي سعيدة إذا تمكنت من تهدئة نوازعي الداخلية.»٦٠
إن البناء النظري الهش، المنطوي على «العندية»، حتى لو كانت هذه «العندية» ذهنية بحتة؛ ليس سوى دفاع ضعيف ضد الحياة. فالقلق يعود من جديد: «إنه حدث كان يجب أن أتوقعه، لقد جاء شخص ما … هل كانت كل المخاطر الصغيرة التي ضيعتُ وقتي في التفكير فيها شيئًا يُذكَر بالنسبة لهذا الخطر الجديد؟ هل كانت صفتي كمالك للجحر تمنحني سلطة في مواجهة هذا التدخل؟ للأسف لا! لما كنت بالذات صاحب هذا العمل الكبير الهش فقد وجدت نفسي بلا حماية إزاء أي هجوم جاد نوعًا. لقد أفسدتني نعمة امتلاكه، وجعلتني هشاشة الجحر حساسًا وهشًّا، وأصبحت جروحه تؤلمني كما لو كانت جروحي أنا … كان يجب ألا أفكر في الدفاع عن نفسي فقط … ولكن عن الجحر أيضًا.»٦١
كيف يمكن مواجهة الحياة بقوى التصور وبالمنهج الفلسفي وحدهما؟ إن حيوان الخُلْد، المتقمص الصفة الإنسانية، والمنزوي في حياته الضحلة المنظمة بتفاهة؛ يفصح عن كل دواعي قلقه في هيئة عدو واحد: «لم يعد أمامي حل سوى الاعتراف بوجود حيوان واحد كبير، خاصة وأن ما قد يبدو تكذيبًا لهذا الافتراض لا يثبت أبدًا استحالة وجوده، بل يؤكد فقط أنه أخطر بمراحل مما قد نتصور.»٦٢

ونجد الفكرة الأولي لهذه القصة القصيرة، ولهذا الوصف للعالم المغلق والمنطقي والمحدود الأفق؛ في خطاب له كتبه لميلينا يشرح لها فيه الحكاية: «الحق أن الإنسان أشبه بحيوان الخُلْد القديم، فهو يحفر دائمًا دهاليز جديدة.»

ومن فرط حرص الإنسان على إعداد مسكن له فإنه يختلط هو نفسه بالنظام الذي أقامه، ومع النظريات التي يجهزها لكي يسد بها الشقوق التي تفتحها الحياة في أفكاره، وهكذا تكون الغربة شاملة.

وعندئذٍ يدرك الإنسان أن عالمه لا يستقيم مع نفسه، وهذا هو ما يفرق بين فكرة بناء برج بابل وفكرة بناء سور الصين. يعبر تشييد برج بابل عن طموح بروميثيوسي عند الإنسان الذي يريد أن يبلغ عنان السماء اعتمادًا على قوته الذاتية: «جوهر المشروع هو بناء برج يلمس السماء، أما ما عدا ذلك فثانوي. وبمجرد ما نشأت هذه الفكرة العظيمة، لم تختفِ أبدًا، فطالما وُجد الإنسان على الأرض فستكون هناك أيضًا تلك الرغبة المتأججة، الرغبة في بناء البرج.»٦٣
أما سور الصين فهو على عكس ذلك تمامًا، إنه عبارة عن متراس لا تزال تتخلله شقوق؛ لأن بناءه تم على مراحل، وتلك هي «المسألة الرئيسية».٦٤ لم نعد هنا بصدد هجوم الإنسان في اتجاه السماء، ولكن بصدد «وسيلة دفاع لمواجهة بدو الشمال» … «لحماية الإمبراطور» من الشعوب الكافرة التي تطلق عليه «سهامها السوداء» … ولكن «ما قيمة المتراس إذا تخللته الثغرات؟»٦٥
وكُتل البناء غير المكتملة في هذا السور تشبه الحياة التي تتخللها شقوق النفي والشك السوداء. يبحث الإنسان عن معنى وجوده بالمشاركة في عبء أسطوري ولا نهائي يتمثل في بناء السور الذي يضرب به نطاقًا حول حياته لتنغلق على نفسها. وسيدرك داخل هذا السور شمول القضية المشتركة التي تضفي معنًى على أعمال كل فرد، وتوجد لها مبررًا. غير أن بلوغ هذا الهدف محال؛ «فهناك غاية ولكن لا يوجد طريق إليها».٦٦ ويعالج كافكا الفكرة نفسها في «الرحيل» عندما يوجه له أحدهم السؤال التالي: «إلى أين يذهب السيد؟»

– «لا أدري، ولكن كل ما أبتغيه هو البعد عن هذا المكان، فهذا هو سبيلي الوحيد للوصول إلى هدفي.»

وسألني الرجل: «أتعرف هدفك إذن؟»

فأجبت: «نعم، ألم أقل لك إنه بعيد عن هنا؟! فهذا هو هدفي!»٦٧

إنه هدف بلا طريق، وطريق بلا هدف، وهذا شأن الإنسان في نضاله من أجل السمو.

«في الماضي كنت لا أفهم كيف يمكن أن يتركوا سؤالي بلا إجابة، واليوم لا أفهم كيف اعتقدت في يوم ما أني أستطيع أن أوجه السؤال. على أني لم أومن بذلك إطلاقًا، بل كنت أسال فقط.»٦٨

وهنا يحدث تغيير عكسي عند كافكا، فهو لم يعد ذلك الخلد الكامن في جحره، بل الكائن الذي يهاجمه.

لم يعد الحيوان المنطوي على نفسه، ولا الشعب المقيم للمتراس، ولكنه غدا الكافر الذي يطلق سهامه السوداء، والبدوي الذي يهاجم الحدود، إنه المتحمل سلبية زمنه.

وهو يشعر في هذا الوضع بعزلته: «لماذا لا نظل متجهين نحو ما يمكن أن يجمع بيننا لا نحو ما ينزعنا حتمًا من الجماعة الشعبية؟ … إني لأفكر الآن دائمًا وأعيد التفكير في حياتي أكثر فأكثر. إنني أبحث عن الخطأ الأساسي، أبحث عبثًا عن مصدر كل الشر، عن الشر الذي ارتكبته بكل تأكيد.»٦٩
إن التوافق الحقيقي الذي يوحد بين نوازع الإنسان يمر بالجانب الخالد في البشر، أي بلحظة العزلة والضياع: «إن الجانب الخالد واحد ومشترك بين البشر، ومن هنا تنبع تلك الرابطة التي لا تنفصم، والتي لا نعرف لها مثيلًا.»٧٠ على أن الوصول إلى هذا التوافق يتطلب سلوك طريق لا نهائي ومنعزل، يطغى عليه قلق يفرضه فراغ لا يمكن تفسيره.
ويبدو أن هذه العزلة تحرِّفنا في كل لحظة عن الجماعة التي ننشدها: «ما الحياة إلا انحراف دائم لا يسمح لنا حتى بأن نعرف ما هو الشيء الذي يحرفنا عنه.»٧١

وهكذا نجد أن كل المسائل تسير عند كافكا في ازدواج متعارض؛ المشاركة والوحدة، والإيمان ونفيه.

•••

وقد دفع هذا الإحساس العميق بجدلية الحياة عند كافكا، دفع كثيرًا من المعلقين إلى التساؤل حول علاقة تفكيره ﺑ «نظرية الأزمة» التي استهلَّها كيركجارد، وانتهت عند كارل بارت.

وتدور «نظرية الطفرة» حول مفهوم العلاقة بين الإنسان وربه، من زاوية عدم وجود مقاييس مشتركة بين عدالة الله وبين القيم الأخلاقية الإنسانية. فالإنسان لا يستطيع أن يخلص نفسه بنفسه؛ لأن القيم الأخلاقية والثقافية لا تمثل أي شيء أمام المطلق؛ فالمعرفة والعمل، بل وحتى الحب، لا يمكن أن تشكل طرقًا للوصول إلى الرب.

وقد حاولوا إيجاد نوع من التماثل بين مفهوم كافكا وبين النظرية المجددة لأفكار كالفان، استنادًا إلى أن «المحاكمة»، و«التعليق على الرسالة الموجهة إلى الرومانيين» الذي كتبه كارل بارت؛ قد صدرا في وقت واحد تقريبًا، واستنادًا إلى أن كل شيء يمثل حياة جوزيف ك اليومية — مهنته، أعماله، حياته العاطفية — قد انمحى تمامًا، وأصبح كل شيء غير مهم ما عدا حكم الله.

وهكذا تكون الرواية قد عرضت بشكل رمزي المبدأ الأساسي في نظرية الطفرة، الذي يقول إن أي مجهود يقرب الإنسان إلى الله.

أما الحجة الثانية فهي مستخلصة من تفسير قصة الكاتدرائية في «المحاكمة». يقول الكاهن لجوزيف ك: «اترك هنا كل ما هو غير جوهري»،٧٢ ثم يشرح له ما هو الجوهري بحكاية رمزية تقول إن الحارس الواقف على باب «القانون» يمنع دخول الأجنبي؛ لأن هذا الباب ليس مفتوحًا لكل الناس. وقد تصور البعض أن الباب يرمز هنا إلى فكرة الجبر القدري، وإلى عجز الإنسان عن تغيير مصيره بمبادرته أو بجهوده الذاتية.

وأخيرًا، فقد صوروا مراودة سورتيني الفاحشة لأماليا، واللعنة العامة التي انصبَّت على الجميع من جراء رفض الفتاة الانصياع له، على أنها ترديد لقصة تضحية إبراهيم كما جاءت في التوراة؛ فقد طلب الله من إبراهيم ارتكاب جريمة حقيقية، وهي قتل ابنه. وهكذا فإن حكمه عليه يتوقف على مدى استعداده للطاعة، مما يؤكد علو الوصايا الإلهية الأكيد على كل تصرف إنساني.

على أن هذا التشبيه ينصبُّ في رأينا على المظاهر الخارجية، ولا يمس المصدر الحقيقي لرؤية عالم كافكا.

ونستطيع أن نرجع هنا أولًا، وبشكل مباشر، إلى حكم كافكا على كيركجارد، خاصة وأنه قرأ له على الأقل مؤلَّفَين، هما: «إما … وإما» و«الخوف والرعشة».

ورد اسم كيركجارد لأول مرة في كتابات كافكا في يومياته الخاصة بتاريخ ٢١ يوليو ١٩١٣م، ليؤكد اختلاف اتجاهيهما بصدد أوضاع متشابهة: «تسلمت اليوم كتاب كيركجارد الذي يحمل عنوان «القاضي» (وهو النص نفسه الذي تُرجِم إلى الفرنسية تحت اسم «إما … وإما»)، وكما توقعت، فإن حالتي تشبه حالته بالرغم من الاختلافات العميقة بينهما. وهو يشجعني مثل صديق.» أما الحالة التي يشير إليها كافكا فهي العلاقة بالأب (كان كيركجارد يشارك والده في العذاب المعنوي، أما عذاب كافكا فكان ناتجًا بالذات من تحصُّن أبيه ضد القلق)، والانفصال عن الخطيبة (وإن كان انفصال كيركجارد عن رجينا تضحية تشبه تضحية إبراهيم، أما كافكا فقد تخلى عن فيليس لأنه اكتشف أنها ستكون عقبة في طريق اهتماماته، ولأنه لا يريد أن يفرض عليها هذا العبء). على أن الاختلاف بينهما أعمق وأهم من هذه المسألة الأخيرة.

فكافكا لا يقبل إطلاقًا المعضلة الأساسية؛ إما … وإما، ويقول بهذا الصدد: «يواجه كيركجارد القضية التالية: إما أن ينعم جماليًّا بالوجود، وإما أن يخوض تجربة أخلاقية. وأعتقد أن طرح القضية بهذا الشكل خاطئ؛ فهو يقسم ما لا بد أن يكون موحدًا، وهذه المعضلة لا وجود لها إلا في مخيلة سورين كيركجارد. والحق أننا لا نتوصل إلى التمتع جماليًّا بالوجود إلا من خلال تجربة أخلاقية، وبلا غرور.»٧٣
وهكذا يتبين لنا أنه يعترض على الموقف الأساسي لكيركجارد، وهو موقف يخلق بينهما هُوة يستحيل اجتيازها. ويركز كافكا في خطاب له موجه إلى ماكس برود، لا على عجز الإنسان، ولكن على ثرواته الأخلاقية، وإمكانياته في العمل الإيجابي، فيقول له: «ما إن يظهر رجل يحمل معه شيئًا أصيلًا حتى يُقال له: يجب أن نتقبل العالم كما هو … بدلًا من أن يُقال له: ليكن العالم كما يريد، فأنا متمسك بالأصالة، ولن أتخلى عنها لإرضاء الناس. وما إن يظهر مثل هذا الرجل، وما إن يستمع العالم لهذه الكلمات حتى يتغير الوجود. وهذا ما يحدث بالضبط في قصص الجان، فبمجرد نطق الكلمة تنفرج أبواب القلعة التي ظلت خاضعة لفعل السحر عدة قرون من الزمن، كما تدب الحياة في كل شيء. وتجد الملائكة أعمالًا تقوم بها، فتنظر في فضول لكي تتبين ما سيحدث؛ لأن الأمر يعنيها. وفي الجانب الآخر، تقف على أقدامها فجأة الشياطين المنحوسة، وتتمطى بعد أن كانت تقضم أظافرها، بلا عمل، لقد سنحت لها الآن الفرصة المناسبة …»٧٤

لا نستطيع أن نفسر إذن «المحاكمة» على أنها قصة ترمز إلى العجز الجذري عند الإنسان، وإلى انتفاء فعالية مبادراته وجهوده.

كما لا نستطيع بالأحرى أن نفسر حكاية الكاتدرائية على أنها تعبير عن النظرية اللاهوتية عند الكالفينيين الجدد، وإلا تجاهلنا كلمات رئيس الدير للحارس عندما يقول له: «لسنا مجبرين على أن نؤمن بصحة كل ما يقوله»،٧٥ ولتجاهلنا أيضًا الجملة الأخيرة التي تعترف بنصيب المبادرة الكبيرة؛ إذ يقول رئيس الدير إن عدالة الله «تتولاك عندما تُقبِل، وتتركك عندما تنصرف».٧٦
وأخيرًا فإن موقف كافكا يختلف تمام الاختلاف عن موقف كيركجارد فيما يختص بتضحية إبراهيم ومغزاها، من التعسف أن نعتبر حكاية سورتيني وأماليا في «القلعة» النظير لتضحية إبراهيم في «الخوف والرعشة» عند كيركجارد؛ وذلك لأننا بصدد صيغة روائية ﻟ «حادث» يحكي لنا مسلك قائد معاصر تجاه فتاة تعمل في حامية نمساوية مجرية، ولأن الخط العام ﻟ «القلعة» لا يسمح لنا بأن نستنتج أن كافكا يتخذ موقفًا محافظًا يبرر به ادعاء السلطة حقها في فرض الطاعة العمياء، كما لا يسمح لنا بأن نعقد مقارنة بين موقف كافكا وموقف جوزيف دي ميستر في «امتداح الجلاد». وأخيرًا فإن تعليقات كافكا على إبراهيم تختلف في حكمها عليه عن حكم كيركجارد؛ إذ ينتقد «فقره الروحي».٧٧

وتدور المناقشة بين كافكا وكيركجارد حول مسألة محددة، وهي المبادرة الإنسانية. لا شك أن هناك انفصالًا عنيفًا بين عدالة الله وعدالة الإنسانية، كما لا يوجد أي شيء مشترك بين المجتمع المنسلخ وبين ملكوت السماء. وكان كافكا أكثر تمسكًا بالتاريخ من كيركجارد، فلم يعتبر النظام القائم نظامًا أبديًّا، وبالتالي فإن أي نظام إنساني آخر يكون مستحيلًا: «نحن أضعف من أن نعترف في كل لحظة بهذا النظام الحقيقي، ولكنه موجود. والحقيقة واضحة في كل مكان، وهي تخترق ثغرات الواقع المزعوم.»

وهذا ما لخصه كافكا في صيغة واحدة: «التقرب إلى الله وسلوك الحياة العادلة عبارة عن شيء واحد.»

وجدير بالذكر أن كافكا يعدد لنا، وهو يكلمنا عن بروميثيوس، كل أشكال العقاب دون أن يصدر أبدًا حكمه على تصرف بروميثيوس.٧٨

وعندما يشير كافكا في «مستعمرة الأشغال الشاقة» إلى سمو الحكم الإلهي على كل شيء، فإننا لا نجد مشقة في تبين صرخة غضبه في هذا النص؛ فالعقوبة لا تنصبُّ إلا على خرق القانون دون أي اعتبار للظروف المخففة، أي دون أدنى اعتبار للإنسان أو الفرد. فالآلة العمياء تنفذ وتسجل أحكامًا مجردة على جسد المحكوم عليه بحروف من دم: «أطع رئيسك!» «كن عادلًا!»

على أننا نجد ولا شك في «طبيب القرية» الوجه المقابل لقصة بروميثيوس، إن الإذعان لإغراءات الفرد ولو من أجل رسالة الحب معناه السماح بإقرار شر أكبر؛ فقد انتقل الطبيب على عربة عجيبة إلى جوار مريض، وارتضى أن يخاطر حتى آخر لحظة بحياته من أجله، بينما كان سائس إسطبله يفرض إرادته ويعتدي على روزا. ويصرح الطبيب: «خُدعتُ، خُدعتُ! يكفي أن أخطئ مرة واحدة، لقد ارتكبت غلطة بالاستجابة للاستدعاء في الليل … ولن أتمكن أبدًا من تداركها.»٧٩
على أن استحالة الالتقاء والتوافق بين العام والخاص، والنتائج المميتة الناجمة عن ذلك، لا تؤدي إلى يأس كافكا. ولا شك بالطبع أنه يعاني العزلة والتجرد من أي سلاح. وهو يتساءل: «لمن ألجأ في هذا الفراغ الكبير؟»٨٠ ولكنه يضيف فورًا أن القوة الوحيدة تكمن في الجماعة؛ لأنها «المعرفة كلها، ومجموع كل الأسئلة والإجابات … فلا تسأل فقط، بل قدم الإجابة أيضًا، فمن ذا الذي يستطيع أن يقاومك إذا تكلمت؟» وعندئذٍ سيضم المجتمع «صوته إلى صوتك كما لو كان لا ينتظر إلا هذه اللحظة! وستحصل على الحقيقة وعلى الوضوح، وعلى الاعتراف بكل وفرة! وسيتفتح في وجهك سطح هذه الحياة الدنيئة التي طالما لعنتها … وسنرتقي جميعًا إلى الحرية السامية.»٨١
يقول كافكا في «الكراسات» إن «الحقيقة لا تتمثل إلا في الصوت الجماعي»،٨٢ متخطيةً أكاذيب وأقنعة كل فرد.

والإيمان عند كافكا هو الأمل والثقة في قدرة الإنسان على تجاوز الغربة، حتى ولو كان لا يرى بوضوح إلى أين يقوده هذا التخطي. فالوجود الإنساني الحقيقي ممكن خارج نطاق الغربة التي يشن عليها كافكا هجومه في كل أعماله: «الإيمان يعني تحرير الجانب الخالد في نفوسنا، أو بدقة أكبر، التحرر، أي أن نكون خالدين، أو بعبارة أدق أن «نكون».»

هل سيقال إن هذه الحرية وذلك الوجود يتجاوزان، في نظر كافكا، حدود الموت، أي الحدود الفاصلة بيننا وبين عالم آخر؟ إن الموت نفسه لا يكشف عن ذلك الأمل، بل الرغبة في الموت هي التي تكشف عنه، وهذه الرغبة نفسها ليست نهاية مطاف، بل الإشارة الأولى إلى إرادة انتزاع الحرية: «إن الإشارة الأولى لبداية المعرفة هي الرغبة في الموت؛ فهذه الحياة لا تُحتمل، والحياة الأخرى ليست في متناول يدنا، ولذا فإننا لا نخجل من رغبتنا في الموت …»٨٣

ويتمثل مركز الثقل عند كافكا في الإنسان دائمًا وفي حياته، بما في ذلك أيضًا رغبته في تجاوز حدودها.

وأقدس شيء عنده في كل الأحوال هو نضال الإنسان: «مهما كان مدى بؤس أعماقي … وحتى لو افترضنا أني أبأس إنسان في هذا العالم، فلا بد أن أسعى للوصول إلى الأحسن بالوسائل التي يتيحها لي العالم، والقول بأننا لا نستطيع أن نصل بمثل هذه الوسائل إلا لشيء واحد، وهو اليأس؛ ليس إلا سفسطة بحتة.»٨٤
ونجد أحيانًا في تأكيد كافكا لضرورة النضال نغمة جديرة بجوته، وكان كافكا يكنُّ له إعجابًا لا حدود له: «وحتى لو لم يأتِ الخلاص، فإني أريد مع ذلك أن أكون جديرًا به في كل لحظة.»٨٥
إنه لتذكير واعٍ جدًّا بكلمات الرجل الذي اعتبره كافكا أستاذًا له: «لقد قال جوته إن كل شيء في الوجود كفاح وصراع، وإن الحب والحياة لا يستحقهما إلا من يعمل يوميًّا من أجل اكتسابهما … لقد قال كل ما يعنينا تقريبًا، نحن البشر.»٨٦ ولا شك أن هذا الإعجاب لا يستقيم بالطبع مع مفهومات الحياة اليائسة أو المستسلمة.
ويتساءل كافكا، وهو يقدم كشفًا بالتدميرات التي أجراها على نفسه وهو يبحث عن الجوهر، وعن الجانب الذي لا يتحطم في الإنسان، إذا لم يكن قد أخطأ في اختياره طريق البحث، فيقول: «إذا كنت لم أتعلم شيئًا، وإذا كنت قد تركت العنان لهلاكي الجسدي — والمسألتان مترابطتان — فذلك لأن في ذهني نية معينة. كنت لا أريد أن تنحرف أنظاري بالاستمتاع بالحياة كإنسان سليم ومفيد. ولكن ألا يحرِّف أنظارنا كلٌّ من المرض واليأس؟»٨٧
وقد أكد كافكا هذا الجانب بإصرار وقوة عندما أصبح على مشارف الموت، فقال: «لا يوجد عندي أي أثر لإدانة هذا الجيل.»٨٨
وقد عرف مهمته ككاتب في «البحث عن السعادة»؛ ولذا فهو يكشف لنا ويوضح بنظرة جديدة الجوانب الرائعة في الحياة: «من الممكن أن نتصور تمامًا أن تنتشر روعة الحياة حول كل شخص، ولكنها محتجبة بعيدًا في الأعماق اللامرئية. هذه الحياة توجد هناك، دون أن تكون جامحة أو معادية أو صماء، ولو استدعيناها بالكلمة الصحيحة، وباسمها الحقيقي، لجاءت إلينا؛ فهذا هو طابع السحر الذي لا يُخلَق، ولكنه يُستحضر.»٨٩

ذلك هو عالم كافكا بكل ازدواجاته. وهو ليس متفائلًا؛ لأنه لا يتبين ولا يرسم وسائل تغيير العالم باجتثاث جذور الغربة، ولكنه ليس متشائمًا أيضًا؛ لأنه لا يتقبل في أي لحظة عبث هذا العالم أو لعنته. وهو لا يعرف طريق الاستسلام؛ إذ كتب يقول في يومياته: «أنا أكافح، ولا أحد يعلم ذلك … والتاريخ العسكري يذكر الرجال المحاربين المتميزين بمثل هذا الطابع.» وبطل «المحاكمة» لا يهدأ له بال حتى يجد قاضيه، ولا يستسلم للذبح إلا عندما يسقط من الإعياء. ويخوض بطل «القلعة» كفاحًا مريرًا لكي يستقر في القرية ويفرض الاعتراف به.

وقد كتب كافكا في الصفحات الأخيرة من حياته: «الكفاح يملؤني سعادة تفوق قدرتي على الاستمتاع وقدرتي على المنح، ويبدو لي أني لن أسقط في النهاية تحت وطأة الكفاح، بل تحت وطأة الفرح.»٩٠
لم يكن كافكا ثوريًّا، ومع أنه يدعو الناس إلى إدراك غربتهم، ويدفعهم إلى الإحساس بأن وطأة القهر لا تُحتمل، إلا أنه لا يوجه لنا في الوقت نفسه أي نداء للنضال، ولا يفتح أمامنا أي آفاق؛ لأنه لا يجد، هو نفسه، أي حل للمأساة التي تكشفت له، ولو كان هذا الحل طوباويًّا. وعندما قامت ثورة أكتوبر ١٩١٧م، قال: «يحاول الناس في روسيا بناء عالم عادل تمامًا»، ولكنه سرعان ما أضاف: «إنها مسألة دينية.»٩١ وعندما نزل العمال إلى الشوارع في براغ، أحس فورًا بتعاطف تلقائي نحو المتظاهرين: «هؤلاء القوم واعون تمامًا بأنفسهم، وفي غاية الانشراح! إنهم سادة الشارع، ويعتقدون أنهم سادة العالم.»٩٢ ثم استطرد قائلًا: «إنهم واهمون»، فهو لا يؤمن بقدرات الجماهير، ويرى من خلال مستقبل كفاحها حتمية لا رادَّ لها، تتمثل في طغيان شخصية دكتاتورية، مثل بونابارت، أو في قهر جهاز بيروقراطي لا يمكن تفاديه. ولكن كافكا ليس من أنصار الثورة المضادة؛ فهو يكنُّ حقدًا دفينا للسلطات القاهرة، ولادعائها أنها تستمد سلطتها من الله. وقد فطن إلى المصالح الرأسمالية المتخفية وراء الصيغ والمؤسسات المرائية: «أعتقد أن عصبة الأمم ليست سوى قناع لأرض جديدة للمعركة؛ فالحرب مستمرة، ولكنها تستخدم حاليًّا وسائل أخرى، لقد أحلوا مصارف التجار محل الفرق العسكرية، واستقرت الطاقة النضالية للمال في مكان الطاقة الحربية الكامنة في الصناعات. وعصبة الأمم ليست عصبة للشعوب، بل مركزًا للمناورات وللتفاعل بين مختلف المصالح.»٩٣

وفي قصة «المصابيح الجديدة» حاول كافكا أن يرمز إلى الفاصل الجذري بين عالم «الطبقات العليا» وعالم «الطبقات الدنيا»، واعتمد في ذلك على فكرة التعارض الطبقي بين أصحاب الأعمال وبين مندوبي عمال المنجم. فقد أصيب العمال بضعف في قوة الإبصار من جراء استخدام مصابيح رديئة، فرفعوا أصواتهم بالاحتجاج على مصير طبقتهم. أما المتكلم باسم الإدارة فلا يراه أحد، ويعمد إلى تمييع المسئوليات بين عدد كبير من الوسطاء حتى يصبح من المستحيل التعرف على المسئول عن تدمير الحياة في جهاز القهر العام الذي لا يعلم أحد اسمه.

يقاوم كافكا النظام الراهن المميت، ويكشف عن محتواه اللاإنساني عن طريق أسطورة يقيمها. لقد فجر هاشيك المعاصر له وابن وطنه، فجر الجانب القبيح والبشع المتخفي وراء المؤسسات والبشر، عن طريق الخدع والحيل في «الجندي الشجاع شفيك». وقدم شارلي شابلن في «الأزمنة الحديثة» صورة ملحَّة وموحية لثورة الإنسانية على أوضاعها. إنها ردود فعل فنية مختلفة للإنسان ضد عالم الغربة.

ولم يكن كافكا ملحدًا؛ لأن حساسيته وتفكيره، بل وكل عالمه الداخلي، قد شكلته العقيدة اليهودية، وقراءاته المستمرة لباسكال ودستويفسكي وليون بلوي وكيركجارد، وبالأخص التوراة. ودراسته للُّغة العبرية وللتلمود وشغفه بالمسرح الديني اليهودي، كل هذا يؤكد انجذابه لعالم الإيمان بوصفه أبرز تعبير مأساوي وفردي عن الغربة التي يعانيها. ولكن كافكا لم يكن أيضًا متصوفًا؛ فالعالم الآخر مطموس المعالم بالنسبة له، ولا يتدخل الله في حياة الإنسان، في رأيه، إلا من خلال افتقاده، فكل حياة كافكا تنصبُّ على الإحساس بكل ما يفتقده الإنسان، أي على الإحساس بنواقص العالم وبنفيه. وسواء تعلق الأمر بسادة القلعة أو بقضاة المحاكمة، فإن السؤال الكبير الذي يثيره الإنسان يصطدم دائمًا بإجابتين مخيبتين للآمال؛ إما أن السيد لا وجود له، ومن ثَم يصبح من يضطلعون بمهمة خدمته أسيادًا بحكم تدجيلهم، وإما أن السيد موجود فعلًا، ولكنه لا يظهر إلا من خلال العذابات التي يفرضها علينا خدمه حتى يجبرونا على ألا نتوقف أبدًا. ولكن، هل الإيمان طريق بلا هدف أم هدف بلا طريق يوصل إليه؟

«يوجد هدف ولكن لا طريق للوصول إليه، والتردد هو ما نسميه طريقًا.»٩٤

لا يحاول كافكا التحرر من ازدواجات هذا العالم الداخلي إلا من خلال الإبداع الفني، ومن خلال بناء الأسطورة.

ولكن هل الإبداع الفني هو وسيلة كافكا الحرفية للتخلص من الغربة؟ وهل سيمكِّنه من التغلب على تناقضات الوجود؟ هل سيكون الإبداع طريق تخطي حدود الإنسان؟ وهل سيكمل الفن رسالة الإيمان؟ وهل سيحقق النبوءة الشاملة للحياة؟ لقد واجه كافكا الموت بالتحدي التالي: «أنا أكتب بالرغم من كل شيء، وبأي ثمن، فالكتابة كفاحي من أجل البقاء.»٩٥

(٣) تناقضات العالم المبني

كانت كلمة «الأدب» تعني عند كافكا، بمعناها الدارج، فن الهروب. فالأدب في رأيه «فرار من الواقع».

وقد سأله صديقه يانوش: القصص الخيالي يعني إذن الكذب؟

فأجابه كافكا: لا، الخيال تكثيف للواقع، وتحويله إلى خلاصة مركزة. أما الأدب فهو، على العكس، عملية تذويب، ووسيلة ترفيه تخدر وتخفف من وطأة الحياة غير الواعية.

– والشعر؟

– الشعر على النقيض من ذلك، إنه يوقظ.

– يقترب الشعر إذن من الدين؟

– لا أقول ذلك. ولكن من المؤكد أن الشعر يتجه نحو الصلاة.٩٦
وهذه الفكرة متأصلة بعمق عند كافكا: «الكتابة شكل من أشكال الصلاة»،٩٧ واللغة الأساسية للصلاة هي «العبادة والمشاركة الشديدة في آن واحد.»٩٨

وعلى نقيض رأي فلوبير، لا يعتبر كافكا الفن غاية في حد ذاتها؛ لأنه مكرس من أجل واقع ومن أجل حقيقة أسمى من ذلك. ولا يكتسب الفن أي معنًى إلا بكونه مشاركة مع الحقيقة ومع الكائن الأصيل، وإلا بوصفه رسالة موجهة إلى الجماعة الإنسانية.

ومهمة الفن هي تغيير الإطارات التقليدية للحياة، ولفت الأنظار — من خلال التشققات والشروخ — إلى حقيقة أسمى، أو الدعوة إليها، أو بث الأمل في قيامها. وقد كتب في «أقواله المأثورة»: «الفن هو أن تبهر أنظارَنا الحقيقةُ، فليس هناك ضوء حقيقي إلا الضوء الساقط على الوجه القبيح المتراجع … الفن يحوم حول الحقيقة وهو عاقد العزم على أن يحترق بها. وتتمثل موهبته في البحث، في الفراغ المظلم، عن مكان لم يُعرَف من قبل، نحجز فيه بقوةٍ أشعةَ الضوء.»

وبهذا المفهوم، يفرض الفن التقشف الصارم الجدير بلاعب العقلة (الترابيز) «الذي لا يحركه في أول الأمر سوى الطموح في الإتقان، ثم تحركه العادة التي تستبدُّ به»؛٩٩ والتقشف الجدير بالصائم: «أنا مضطر للصوم، ولا يمكنني أن أفعل غير ذلك؛ لأنني لا أجد الغذاء الذي يروق لي»؛١٠٠ وتقشف المغنية جوزيفين: «لقد اختفى من عندها كل ما لا يخدم الغناء، وكل نشاط وكل إمكانية للحياة … إنها لا تعيش إلا من خلال الغناء.»١٠١

والإبداع الفني ليس انطواء على النفس، بل إنه، على عكس عملية حفر السراديب، سراديب الجحر اللانهائية والباطلة، إنه نظرة موضوعية للعالم، ومشاركة وتلاقٍ مع الآخرين.

«يا له من عالم هائل يموج في رأسي! ولكن كيف أحرر نفسي وأحرره دون انفجار؟ على أني أفضل الانفجار ألف مرة على كبته أو دفنه في طيات نفسي. وأنا لا أشك إطلاقًا في أن ذلك هو مبرر وجودي.»١٠٢

ولا يبلغ الفن رسالته بوضوح، ولكنه يستطيع أن يوقظ الناس، وأن يجبرهم على السير قدمًا بأن يصبحوا الصورة المرئية للحقيقة. تلك هي قوة الأسطورة التي لا تكتفي بأن تتكلم عما يوجد، ولكنها تتكلم عن حركته أيضًا، وعما يفتقده وما يصبو إليه.

ينتمي كافكا، بوصفه إنسانًا، وبحكم نشأته، إلى عالم الغربة. وقد بدأت حياته الحقيقية مع الخلق الإبداعي عنده، مع تلك الحركة التي لا تقاوَم، والتي تدفعه إلى النزوع نحو المطلق، ومن خلال سلسلة من حالات الفشل والإقصاء. وهذا الانتقال من العالم المعاش إلى العالم الداخلي، ومن العالم الداخلي إلى عالم الأسطورة التي يبنيها هو، أشبه بعملية التناسخ.

وأعمال كافكا ليست تعبيرًا موضوعيًّا عن ذاته، أو تعبيرًا خارجيًّا عن عالم من إبداعه يقتصر على أن يكون مجرد نقيض عالم الغربة. إن أعماله رسالة لا تكتسب معناها الشامل إلا بالجمهور الموجهة إليه؛ لأن إيقاظ الجمهور هو مهمة هذه الأعمال: «أستطيع أن أنعم برضاء عابر من أعمال لي، مثل «طبيب القرية» … ولكني لن أبلغ السعادة إلا إذا استطعت أن أثير العالم لكي يندفع نحو الحق والنقاء والثبات.»١٠٣
وهذه العلاقة الوثيقة بين الفنان والشعب هي التي تُكسِب وحدها رسالة الإبداع الفني مغزاها الكامل: «الفرق هائل بين قوة الشعب وقوة الفرد، يكفي أن يحتضن الشعب الفنان لكي يهيئ له الحماية الكاملة.»١٠٤
فمساح «القلعة» محاط بنشوة تعتمل في نفوس أهل القرية، وتشبه تلك النشوة التي تسبب إشراقة السعادة عند المغنية جوزيفين. كان لسؤاله صدًى في نفوس الجميع؛ لأنه كان كامنًا في نفوسهم، «لعلهم أرادوا أن يجدوا فيه شيئًا عجزوا عن التعبير عنه.»١٠٥

•••

التعبير الفني عند كافكا هو إسقاط وإظهار موضوعي لعالمه الداخلي، إنه ينقل عالمه الخفي إلى عالم المرئيات؛ فكل نص كتبه، وكل ذكرى عاشها، وكل حلم أو خيال راوده هو انعكاس للحياة الحقيقية للمؤلف الذي يتخلص بهذه الطريقة من الأشباح التي تسكن ذهنه. وهو يقدم لنا أعماله في «رسالة إلى الأب» على أنها بكل بساطة تعبير موضوعي عن انفعالاته المكبوتة؛ فهو يقول لوالده: «أنت المقصود بكل كتاباتي، أنا أشكو فيها مما لم أستطع أن أشكوه لك وأنا على صدرك.»١٠٦ وهناك معنًى أعم لهذه الحركة المنطلقة من الداخل إلى الخارج: «إنها لسعادة كبيرة أن يتمكن المرء من أن يدفع الحركة الداخلية إلى الخارج … وما نكتب ليس إلا زبد ما عشناه … وهو ليس فنًّا بعد … والواقع أن هذا «التنفيس» عن الانطباعات والعواطف ليس إلا طريقة جبانة في تلمُّس العالم وتحسُّسه … والفن مسألة تخص دائمًا الشخصية بأسرها؛ ولذا فهو مأساوي في جوهره.»١٠٧

وهكذا يكون كل عمل من أعماله وثيقة وشهادة، لا نسخة أو نقلًا حرفيًّا لحالة نفسية أو لحدث. إنه إجابة على سؤال تطرحه الحياة، وتمرد على غربة العالم. إنه عالم مبني بمواد عالم الغربة، ولكن وفقًا لقوانين أخرى.

ورد الفعل هذا عند الإنسان يتجاوز بكثير مجرد الرغبة في الكتابة: «أود اليوم أن أَنزع من نفسي، بالكتابة، كلَّ حالة القلق، فأنقلها من أعماقي إلى أعماق الورق، أو أكتبها بحيث أستطيع أن أدخل في نفسي كل ما هو مكتوب … وهذه ليست رغبة فنية.»١٠٨

كانت الكتابات الأولى لكافكا مجرد مناجيات داخلية يترجم بها انطباعاته وأحاسيسه، وينسج بها لغة تعبر عن رغباته. وقد توقف منذ كتابة «الحكم» في ١٩١٢م عن الاكتفاء بوصف ما يدور في نفسه لكي يقيم أعمالًا حقيقية، أي أساطير يعبر فيها عن لحظات اكتشافه للواقع وتناقضاته، وحركته الداخلية، ونواقصه ودعاوى تجاوزه.

والصلات وثيقة بين القضايا التي تطرحها الحياة وبين رواياته، حتى إننا كثيرًا ما نعثر في «اليوميات الخاصة» و«الكراسات»، وفي كلماته على مفاتيح أعماله الكبيرة.

ومما يؤكد أن المحاكمة تجيب على قضايا أثارتها حياة كافكا شخصيًّا؛ فكرة عارضة جاءت على لسانه وهو يجيب على سؤال وجَّهه إليه يانوش حول قيمة قصائده:

– أنا لست ناقدًا. لست سوى إنسان يصدرون أحكامهم عليه.

– والقاضي؟

– صحيح أني أخدم المحكمة، إلا أني لا أعرف القضاة. لا شك أني لست سوى خادم ضئيل لقاضٍ بالنيابة، ليست لي وظيفة محددة.١٠٩
ونجد الفكرة الأولى التي أوحت بقصة «بطل الصيام» في جزء مبتور من كراساته، حيث يقول: «بعض الزاهدين هم أكثر الناس شراهة، إنهم يُضرِبون عن الطعام في كل مجالات الحياة، ويريدون بذلك الحصول في الوقت نفسه على النتائج التالية … إلخ.»١١٠
أما فكرة «سور الصين»، والإمبراطورية الهائلة التي تبتلع صحراواتها الرسل ورسالاتهم، فلا شك أننا نجدها في تأملاته حول الخطيئة إذ يقول: «لقد وضعوهم أمام أحد الاختيارين التاليين؛ أن يصبحوا ملوكًا أو رسلًا للملك، فاختاروا كلهم أن يكونوا رسلًا للملك، على طريقة الأطفال؛ ولذا فليس هناك سوى رسل يجوبون العالم. وبما أنه لا يوجد ملوك، فإنهم ينقلون بعضهم لبعض أخبارًا غدت سخيفة. وبودهم أن يضعوا نهاية لحياتهم، ولكنهم لا يتجاسرون على ذلك بسبب يمين الطاعة الذي أقسموا عليه.»١١١

وسيتبين لنا فيما بعد كيف تولدت فكرة رواية «أمريكا» من تأملاته حول ديكنز.

ففي هذا الإسقاط الأسطوري يتحول الحدث العارض إلى نموذج، ويكتسب المعنى العام للرسالة. وهو يقول بهذا الصدد: «بعيدًا، بعيدًا عنك تدور أحداث تاريخ العالم، أحداث تاريخ روحك.»١١٢

وهكذا تتحول قصة رجل، أو بالأحرى ملحمته، إلى لحظة من التاريخ، أي من تاريخنا.

•••

كل عمل من أعمال كافكا ليس سوى عنصر من عناصر ملحمة واحدة تدور حول نفس البطل.

فأحداث كل عمل من الأعمال ليست استكمالًا للحدث السابق أو تمهيدًا للحدث القادم، كما يحدث في التسلسل المنطقي للروايات، فكل حدث عبارة عن «كل»، وتتابع الأحداث لا يهم إلى حد كبير كما هو الحال في الملاحم.

وفي مقابل ذلك، نلاحظ أن هناك مواضيع أساسية تبرز في كل أعماله، وتحتل مركزًا رئيسيًّا، وهي موضوع «الحيوان»، وموضوع «البحث»، وموضوع «عدم الاكتمال».

ولا شك أن أوضحها جميعًا هو موضوع «الحيوان»؛ ﻓ «التقرير المقدم للأكاديمية» من وضع قرد أصبح إنسانًا، و«التحول» يتعلق بتحول إنسان إلى صرصار، و«أبحاث كلب» و«المغنية جوزيفين» و«شعب الفئران» و«الجحر»، وكثير من كتاباته المتناثرة؛ تتناول قضايا الإنسان من خلال حياة حيوان.

ويرتبط موضوع الحيوان أولًا بمسألة اليقظة. كيف نبع الإنسان من الحيوان؟ كيف حدثت هذه اليقظة من خلال بلادة العادات والتقاليد، ومن خلال الحياة التي لا تزال حيوانية لأنها محكومة بعادات؟ كتب كافكا يقول لشقيقته: «لكي يصبح الطفل رجلًا، يجب أن ننتزعه في أسرع وقت ممكن من الحيوانية.» فالحيوانية في رأيه هي الوسط العائلي الذي يعفي الإنسان من المسئولية، ومن المبادرة الإنسانية الحقيقية، ومن التساؤل حول الغاية النهائية لوجوده.

ويوضح القرد الذي تحول إلى إنسان في «التقرير المقدم إلى الأكاديمية» أمام الجمهور من العلماء «الناحية التي دخل منها قرد سابق في عالم البشر، وطريقة استقراره في هذا العالم».١١٣
ويتعرض كافكا بسخرية لاذعة في أول الأمر للحنين الشهير للحرية وللتلقائية الحيوانية الزائفة في الغرائز؛ إذ «تجعل كل من يسير على قدميه، ابتداء من الشامبانزي الصغير حتى أخيل، يشعر ﺑ «أكلان» في قدميه».١١٤

ويبدأ الانتقال إلى الإنسانية بالعبودية وبشعور واحد، هو أنه ليس هناك مخرج. ويعيش كل فرد أسير شبكة من التقاليد المتعارف عليها، تمامًا كما تعيش القرود في الأقفاص؛ ولذا فليس أمامه إلا أن يعمل مثل الآخرين.

والذوبان في الجموع هو البديل الأول للحرية:

«كنت أرى هؤلاء الأشخاص يروحون ويغدون بنفس الوجه، وبنفس الحركات في أغلب الأحوال، وكثيرًا ما كان يُخيَّل لي أني كنت لا أرى إلا شخصًا واحدًا. كان هذا الرجل، أو هؤلاء الرجال، يتحركون بحرية. ولم يَعِدني أحد بأن الباب الحديدي سيُفتح عليَّ إذا أصبحت مثلهم … ولكن … ما أسهل محاكاة الناس! لقد تعلمت البصق منذ الأيام الأولى.»١١٥
وعندئذٍ يكون هناك «مخرجان» محتملان؛ حديقة الحيوان أو قاعة الموسيقى. وتمتاز قاعة الموسيقى على الأقل بعدم وجود قفص ولو من الناحية الظاهرية. وهكذا لم يتحول القرد إلى إنسان فحسب، بل وإلى فنان له مندوبون ومدير أعمال وأحاديث يدلي بها: «آه من التقدم! إنه المعرفة التي تسقط أشعتها من كل صوب لتنير المخ المتفتح! … لقد حصلت على الثقافة المتوسطة للأوروبيين بمجهود لم يحدث مثيله حتى الآن على الأرض. لم يكن هذا شيئًا هامًّا في حد ذاته، ولكنه يُعتبر ضربًا من التقدم؛ لأنه سمح لي على الأقل بالخروج من القفص، وهيأ لي إمكانية التحول إلى إنسان … ولم يكن أمامي أي حل آخر ما دمنا قد استبعدنا الحرية.»١١٦
وتنتهي هذه السخرية المريرة بلمسة ضارية؛ ففي المساء يلتقي الفنان بعد عرض البرنامج بآنسة من الشامبانزي، فينغمس معها «في شهوات جنسنا. ولا أريد أن أراها بالنهار، فقد ظهر في عينيها بالفعل شرود جدير بالحيوان المدرب. وكنت الوحيد الذي لاحظ ذلك، وهذا ما لا أستطيع أن أتحمله».١١٧
على أن مجرد تواجد الغير يكون بمثابة أغنية تتعرف بها الشعوب على بعضها، وتميزها بخصائص ترقى بها على الحيوانية البسيطة عند الفرد. وصوت جوزيفين الرفيع وهي تغني بين شعب الفئران، «ألا يشبه تقريبًا، وسط همومنا، الحياة البائسة التي يعيشها شعبنا وسط صخب العالم المعادي؟ … ويحلم الشعب في الاستراحات القصيرة، التي تفصل بالنسبة لنا بين معركة وأخرى … إن الصفير لغة شعبنا، على أن بعضنا يصفر طَوال حياته دون أن يدري، بينما يبدو الصفير هنا متحررًا من قيود الحياة اليومية، فيحررنا نحن أيضًا لبعض الوقت.»١١٨ لن تحصل جوزيفين أبدًا على تحررها من عمل الجماعة، ولن يكون للأغنية مغزًى إلا بانصهارها في أعمال شعبها وفي حياته.
إن العزلة أو الثقافة الفنية أو الفكرية المنعزلة لا تدعو إلا إلى عذابات وإلى قلق لا منتاهٍ، إنها أشبه بعزلة الخُلْد أو الظَّرِبان القابع في جحره ليخوض معركة مميتة ضد خطر مجهول. ويقول الخلد: «تركت العالم ونزلت في جحري … وسأكون سعيدًا لو استطعت أن أهدِّئ صراعاتي الداخلية.»١١٩ وفي هذه المتاهات اللانهائية للدهاليز الجديدة التي حفرها الخلد، يتضح له عدم جدوى نظام الحماية أمام «شيء كان يجب أن أَحذَره، وأن أستعد له دائمًا؛ لقد حضر أحدهم».١٢٠ إن البنايات الهائلة التي يقيمها الفكر ليُحِل بها نظامًا رشيدًا ومغلقًا محلَّ الواقع؛ لا يمكنها أن تنجِّي هذا الحيوان من صفته الأصلية، فهو دائم القلق على مدخل جحره؛ لأن هذا المدخل هو نقطة الاتصال الحتمية بالعالم الخارجي. ومع ذلك فقد خُيِّل للخلد أن الغرفة الرئيسية في حصنه التي سيستخدمها كملجأ أخير في حالة الخطر، لا يمكن أن يصيبها شيء. ولا يمكن أن يتحقق مثل هذا الأمان إلا في فراغ كامل؛ لأن وطأة الواقع اللامحدود تحطم مواقع الدفاع المتمثلة في أفكارنا المغرورة والسخيفة عن العزلة، فنحن لم نتخلص بعدُ من حيوانيتنا.
وفي «أبحاث كلب»، يتقمص كافكا وعي حيوان لكي يتفهم لحظة الإشراف على الإنسانية، أي لحظة اليقظة؛ لأنها لحظة التساؤل الكبير حول الغاية النهائية للوجود: «حتى متى سترضى بسكوت مجتمع الكلاب وبصمته الأبدي؟ حتى متى سترضى بذلك؟ تلك هي قضية حياتي الأساسية التي تعلو على جميع القضايا التفصيلية جميعًا.»١٢١ وتتسبب الأسئلة التي لا تستقيم مع «عبث الوجود الصامت» في انعزاله عن بقية الكلاب، وتثير قلقها وشكوكها نحوه. ومع ذلك لا يحاول أحد إسكاته: «كانوا يفضلون إغلاق فمي بحشوة … على أن يتحملوا أسئلتي، ولكن لماذا لا يطردونني ويمنعونني من إثارة الأسئلة؟ لا، لم يكن ذلك غرضهم، لا شك أنهم ما كانوا يودون الاستماع إلى أسئلتي، ولكنهم كانوا مترددين في طردي بسبب هذه الأسئلة بعينها.»١٢٢ ذلك أن أسئلة هذا «الخارج على القانون» و«المتمرد على الأوضاع الطبيعية» تحرك في أعماق كل شخص شيئًا يعود إلى آلاف السنين الغابرة، شيئًا معاصرًا للإنسان منذ مولده ونشأة وعيه.

وهذا الشعور نفسه هو الذي يجعل الوجوه تتجه نحو المساح، ونحو السؤال الكبير الملحِّ المطروح من قبلُ في «القلعة».

هذا السؤال المحتَّم، المتخفِّي في طيات نفس كل إنسان، هو السؤال الذي تثيره اليقظة، بوصفها أول «شرخ» في عالم الغربة المغلق، الشرخ الذي يصنعه في عالم الملكية السؤال التالي: من أكون؟ وما هي غاية حياتي التي تضفي عليها معنًى؟

«ذات صباح، يستيقظ جريجوار سامسا (بطل «التحول») على أثر حلم مضطرب، فيجد نفسه قد تحول إلى حشرة حقيقية.»١٢٣ وهكذا يبدأ التحول. كان هذا الصبي لا يفكر إلا في التجارة، كان لا يزال متمسكًا بكل قوته بعالم الملكية، عالم الحيوانية والغربة، ولكنه لم يحتجْ إلى أكثر من لحظة يعي فيها بكيانه لكي يشعر بأنه غريب عن نفسه، حتى إن جسمه أصبح مشابهًا لجسم حشرة. ومنذ هذه اللحظة تحطمت حوله كل العلاقات الإنسانية. كان مجرد وعيه بأن وجوده ليس سوى أكذوبة ومظهر وهمي للوجود الإنساني؛ سببًا في قطع كل علاقة اجتماعية به، وفي تحويله إلى كائن منفِّر لا يُحتمل. لقد أصبح تابعًا لعالم آخر. ويقول جريجوار، المنشغل البال، وهو يستمع إلى الأصوات الصادرة من أفواه المدعوين وهي تلوك الطعام على مائدة الأسرة: «أنا جائع حقًّا، ولكني لا أشعر بالجوع إلى مثل هذه الأشياء.»١٢٤ ومات جريجوار جوعًا، كما مات الصائم في «بطل الصيام». وقد التفَّت الجماهير حول السيرك بعد موت الصائم، حول الفهد النابض بالحياة الذي حل محله. وعندما مات جريجوار وجفَّت شرنقته، كان مصيره إلى صندوق القمامة، أما والداه فقد عاد إليهما هدوء النفس، وإذا بهما يبديان إعجابهما ﺑ «اكتمال أنوثة» أخته جريتا، وبدا لهما من تصرف ابنتهما أنها تؤكد أحلامهما الجديدة، وتشجع نواياهما الطيبة، وذلك عندما وصلا إلى نهاية رحلتهما، فكانت الفتاة أول من وقف ليتمطى.١٢٥

إنه عَود إلى الحياة الحيوانية بمجرد انزواء السؤال. فما دام الإنسان لا يؤدي وظيفة في عالم الملكية، فإنه لا «يكون» أي شيء من الناحية الاجتماعية، بل مجرد حشرة أو جثة.

ومع انتقال الكائن بهذا السؤال إلى عالم الإنسانية، تبدأ الدورة الثانية، دورة البحث.

•••

«البحث» هو موضوع الثلاثية الكبيرة المكونة من «المحاكمة» و«أمريكا» و«القلعة».

وهذه الأعمال الثلاثة الكبيرة عبارة عن إسقاط لقضايا وعذابات كافكا، في قالب أسطوري. وهي حكايات تجمع بين قصص السحرة والملاحم. «لا توجد إلا قصص سحرة دامية؛ فكل حكاية من حكايات السحرة تنبع من أعماق الندم والخوف. وهذا هو العنصر المشترك بين كل هذه الحكايات حتى لو اختلفت المظاهر. فقد لا تكون القصص الواردة من الشمال عامرة بالحيوانات كما هو الحال في القصص الأفريقية، ولكن النواة والرغبات الدفينة واحدة».

ففي كل حكايات السحرة تكون الغاية التي يسعى إليها البطل هي الحصول على أداة سحرية يترتب على استحواذه عليها تغيير في حياته وفي حياة شعبه. وطريق الوصول إلى هذا الهدف مليء بالعقبات والمغريات، ولكن البطل المنتصر لا يكون إلا أنقى إنسان، وأقل الناس انغماسًا في أمور الدنيا.

نجد كل هذه الجوانب في أعمال كافكا الكبيرة، سواء كنا بصدد قصة سحرة حقيقية مثل «المحاكمة»، أو بصدد «رواية تعليمية» مثل «أمريكا»، التي تذكِّرنا ﺑ «سنوات تدريب ويلهيم مايستر» لجوته، وﺑ «دافيد كوبرفيلد» لشارلز ديكنز، أو بملحمة مثل «القلعة»، التي تعيد إلى الأذهان القصائد الملحمية حول البحث عن كأس «جرال» الذي جُمع فيه دم المسيح، و«دون كيشوت» و«رحلة الحاج» لبونيان.

والغاية المطلوبة هنا ليست أداة سحرية، بل رؤية روحية تغير الواقع، وتسمح بتفهمه بعد تجاوز مظاهره، ويكون «الخلاص». والهدف عند كافكا ليس بلوغ السماء بمواجهة الامتحانات والصعاب، كما يحدث في «رحلة الحاج»، فالبطل عند بونيان يعرف ما هو مطلوب منه ويتساءل: هل أنا قادر على تحقيق ما هو مفروض عليَّ؟ أما عند كافكا فيكون السؤال مختلفًا، سواء في «المحاكمة» أو في «القلعة»، وهو: ما هو المطلوب مني إنجازه؟ أي إنه يتعين على البطل أن يحصل على تصريح بالوجود من خلال عملية البحث.

أما العقبات التي تعترض الطريق عند كافكا، فتتمثل في متاهات المدينة العديدة والمنهكة، بما في ذلك أجهزتها وبيروقراطيتها، والتدرج الهرمي في مراتبها ومناصبها الذي يؤدي إلى تمييع المسئولية وطمسها. والسير في هذه المتاهات أشد عناءً من مسيرةِ دون كيشوت، الفارس ذي الوجه الحزين، فوق أراضي قشتالة الوعرة. وينتشر موضوع المتاهة في أعمال كافكا بوصفه الباعث على الكابوس. ومن الأمثلة التي تصور هذا الموضوع المؤلم، بحث كارل روسمان (بطل «أمريكا») عن مخرج من سلسلة الدهاليز في الباخرة، أو بحثه عن مفتاح مسكن برونلدا لكي يهرب. وفي «المحاكمة» يتيه جوزيف ك بين الممرات والسلالم بحثًا عن مقر المحكمة، ولا ينجح في الوصول إلى باب الكاتدرائية. ويظل المساح (في «القلعة») هائمًا في الطرق المغطاة بالجليد، فيعجز عن الوصول إلى القلعة أو العودة إلى الفندق.

أما الأماكن الأسطورية التي تدور فيها أحداث ملاحم كافكا فتحمل أسماء رمزية لها معناها المقصود، مثل فندق الجسر، فندق السعادة.

ويبحث جوزيف ك في هذه الصحراء البشرية عن نص «القانون» في مقر المحكمة التي لا يرى قضاتها أبدًا. وعندما يفتح، بكل قلق وأمل، الكتب الموضوعة فوق منصة القاضي، فلا يجد أثناء تصفحه لأحدها سوى صور خليعة، كما يلاحظ عنوان كتاب آخر: «العذابات التي عانتها مارجريت من زوجها»؛ فيقول جوزيف ك: «ها هي كتب القانون التي تُدرس هنا! وها هم الرجال الذين سيحاكمونني!»١٢٦

إنه يبحث عن القانون، وعن القواعد التي تحكم الحياة وسط أكواخ ومخازن العدالة التي تفوح منها رائحة «النتانة»، وهو لا يصادف أبدًا في طريقه إنسانًا يتشابه وجهه مع القناع الذي يتخفَّى وراءه، ولا مع الوظيفة التي ينتحلها لنفسه، فهو لا يحصل على معلومات عن قضيته عن طريق المحامي، ولكن عن طريق مصور يرسم من خياله وجوه القضاة الذين لا يراهم أحد. ولا ينتهي كابوس هذه الرحلة عبر كل ما هو مجرد من الإنسانية إلا بالموت، وينفِّذ حكمَ الإعدام مهرجو المسرح.

ويريد كارل روسمان أن تَرسُخ قدمه في «العالم الجديد»، وأن يندمج في الحياة، ولكنه لا يجد أول بوادر سعادته — بعد نهاية مطافه، وسلسلة حالات فشله وخيبة أمله المتكررة — إلا على خشبة مسرح متجول يمثل فوقها الذين لفظتهم الحياة، الأدوار التي لم تتحها لهم الدنيا. ومساح القرية هو أيضًا رجل غريب عن القرية، يبحث عن نقطة ارتباطه بالعالم. لم يكن يطمع في السلطة أو الشباب أو المعرفة، كما كان يريد فاوست أو جوليان سوريل (الأحمر والأسود، ستندال) اللذان عبرا عن بداية القرن التاسع عشر المبشر بأحلام البرجوازية الناشئة. لا، إنه لا يرغب إلا في شيء واحد بسيط، وهو أن «يكون».

على أن المساح، ذلك الفارس التائه الجديد، ينزلق شيئًا فشيئًا في هذا العالم الذي يُدار — ابتداءً من القرية حتى القلعة، ومن الأرض حتى السماء — كأنه شركة مساهمة غير اسمية، ترمز تمامًا إلى نظام وإلى عصر بكل ما فيه من موظفين فاسدين وطغاة لا يمكن الوصول إليهم، وبكل ما فيه من روح الخضوع والاستسلام والتدهور الأخلاقي الذي يفرضه على ضحاياه.

هذا العالم مثال لأقصى ضروب الانحطاط الاجتماعي والمعنوي للحياة. إنه عالم «الكونت دي وست وست»، عالم الغرب الأقصى الذي تأفل فيه الشمس.

وهذا البطل الذي تسيطر عليه فكرة وحيدة، وهي إنجاز مهمة واحدة، كما هو الحال في الأساطير والملاحم الشعبية، ليس بالرجل المؤمن الذي يبحث عن إلهه، بقدر ما هو إنسان يبحث عن نفسه وعن نظام إنساني. فسيِّد القلعة غائب أبدًا، ولا يجب أن نبحث عن العظمة في شخصه، بل في الطاقة البشرية للشخص الذي يواصل البحث حتى مماته عن الغاية النهائية، أي في شخص المساح الذي لا يقبل إلا المطلق كوحدة للقياس.

وتجري المأساة بأجلى معانيها في إطار يذكِّرنا بإمارة إقطاعية ألمانية قديمة، لا يزال يتمتع فيها سادة القلعة بحق قضاء الليلة الأولى مع عروس القِن، إنها مأساة العلاقات بين السادة والأتباع في الشكل الاجتماعي الجديد للشركات الرأسمالية غير الاسمية، وفي الشكل الديني لرسالات مزيفة وموظفين مزيفين في خدمة إله مشكوك في وجوده. وهكذا تتمثل العلاقات الاجتماعية في وشائج تخرج عن نطاق الدنيا، وتتخذ العلاقات الزائفة بين الناس مظهرًا أسطوريًّا لعلاقة الله بعباده.

ويخوض المساح كفاحًا غامضًا ضد هذا النظام الزائف القائم في السماء وفي الأرض، لكي يكتشف القانون الحقيقي للحياة، أي القانون الإنساني. ويخر المساح صريعًا في هذه المعركة.

•••

ما هي إذن تلك القوة الخفية التي يتقهقر أمامها الفرسان الساعون إلى اللامتناهي؟ وما هي تلك الحقيقة التي يبذل الشهداء أرواحهم من أجلها؟

لا يمكن حل رموز هذا الواقع وتلك الحقيقة، وعزلهما بعيدًا عن الأسطورة التي يعيشان فيها. لا يمكن فصل القصة عن المعنى؛ لأن العمل الأدبي ليس رداء روائيًّا لأفكار مجردة، ولأن المواقف ليست شعارات، ولأن الشخصيات ليست مجرد شطائر بشرية تُحشَى بالشعارات أو بالنصائح الأخلاقية.

لا يتخذ العمل الخلاق شكل الرمز إلا لأن الكاتب لا يستطيع أن يعبر بطريقة أخرى عما يريد أن يقول، ولأن المعرفة لا يمكن أن تنفصل عن الصورة التي تتجسد فيها: «وكل هذه الرموز لا تعني في واقع الأمر إلا أنه لا يمكن إدراك ما يستحيل إدراكه.»١٢٧

فمن العبث مثلًا أن نبحث في شخص قائد «مستعمرة الأشغال الشاقة»، أو في شخص إمبراطور «سور الصين»، أو في شخص سادة «القلعة»؛ عن رموز بسيطة للأب ولرأس المال ولتصور كيركجارد للرب. ولو أن أعمال كافكا تتلخص في هذه الرموز البسيطة لكان من الأفضل له أن يكون أخصائي تحليل نفسي، أو رجل اقتصاد، أو من رجال اللاهوت، فيقول بوضوح وصراحة كل ما يتراءى له. لم يكن كافكا فيلسوفًا، بل شاعرًا، أي إنه آلى على نفسه ألا يعرض علينا فكرة معينة أو أن يحاول إثباتها، بل عزم على أن يوصل لنا نظرة شاملة ومعينة للعالم، وأسلوبًا في الحياة نختبره دون أن نذوب فيه.

وككل مبدعي الأساطير الكبار، رأى كافكا وبنى عالمًا بالصور والرموز، واكتشف وعرض علاقات قائمة بين الأشياء، ووحد كلًّا من الحلم والخيال والسحر أيضًا في وحدة لا تتجزأ، وذكَّرنا — من خلال تشابك أو ترادف المعاني — بالخطوط الخارجية للأشياء، وبالأحلام المطمورة، وبالأفكار الفلسفية أو الدينية، وبالرغبة في السمو.

ومنظر الثلوج في «القلعة» وفي «طبيب القرية» وفي «سور الصين»، ليس مجرد صورة تشكيلية أخاذة تذكِّرنا بتقشفها، وبقوة إيحائها بلوحة بروجيل «القناصة وسط الثلج»، بل إنها توحي إلينا بالتأمل الحزين حول عزلة الإنسان وافتقاده الكينونة: «هذا الجليد وذلك الضباب الشمالي الذي لا يمكن أن نتصور أي وجود إنساني وسطه». وهكذا يُشعِرنا هذا الجو البارد أننا نعيش، في صميم كياننا، افتقادنا «الأرض والهواء والقانون». فالصورة هنا لا ترمز إلى الفراغ أو العدم، ولكنها هي نفسها العدم والفراغ والمعاناة من افتقاد شيء ما.

لا يمكننا أن ننساق إذن في تفسيرات تلمودية لتفاصيل قصص كافكا؛ فلا يوجد أي توافق حرفي معقول بين التطور الملموس للرمز وبين معناه المجرد. إننا بصدد شخصيات نابضة ومتفردة، تتحرك في إطار عام للرمز، ولا تتنافى واقعية التفاصيل مع الرمزية، بل تضفي عليها حياة.

ويفكر كافكا، بوعي تام، في ديكنز في روايته «أمريكا». وها هو يقول في كراساته: «كوبرفيلد ديكنز. السائق عبارة عن محاكاة حقيقية لديكنز. وينطبق ذلك بشكل أكبر على الرواية التي أنوي كتابتها؛ حكاية الحقيبة، والساحر الذي يجلب السعادة للناس، والأعمال المنزلية، والمرأة المحبوبة في المزرعة، والمنازل القذرة … إلخ. ولكن هناك المنهج بشكل خاص. كان غرضي — كما اتضح لي الآن — هو كتابة رواية على غرار ديكنز، مع إثرائها بأضواء أكثر حسمًا استعرتها من العصر الراهن، وبأضواء أخرى حيادية استخلصتها من ذاتي. فهنا فقرات من ديكنز قوية وغنية كالسيول العارمة، ولكن تعقبها فقرات أخرى ضعيفة بشكل فظيع، يكتفي فيها بعجن كل ما حصل عليه بيد متراخية. هذا المجمع العبثي يوحي بإحساس بربري. وأقول الحق، إني تجنبته بفضل افتقاري إلى القوة، وبفضل الدروس التي استفدتها بوصفي من أفراد الجيل الثاني.»١٢٨

لقد حاكى كافكا ديكنز تمامًا. كما حاكى بيكاسو، وديلاكروا أو فيلاسكيز، مع وعي ثاقب بشروط وقواعد الإبداع، ومع العزم على إعادة خلق توافقات جديدة، لمرحلة جديدة من التاريخ عن طريق نسخ توافقات الماضي.

ويدرك كافكا تمامًا ما يعود إلى ديكنز وما يميزه عنه. إن جهاز القانون المعقد الرامز إلى المجتمع الذي يعمل في خدمته، يسحق بلا شفقة ضحاياه بواسطة تروسه الغريبة. كان ديكنز معاصرًا للرأسمالية وهي لا تزال يافعة، وكان مواطنًا في الأمة التي تحتل مركز الطليعة في هذا النظام. وحظيت كلمته بجمهور عريض من المستمعين إليها. أما كافكا، فقد عاش تجربة انحطاط النظام، وأحس بذلك بشكل حاد من خلال النظام الملكي النمساوي المجري بمؤسساته البالية. وهو يعلم أن صوته كيهودي يتكلم الألمانية سيُخنَق، وأنه لن يصل في حياته إلا لجماعة محدودة في أحسن الأحوال.

وكان ذلك من أسباب زيادة الطابع الخيالي للإسقاط الأسطوري لتجربته المعاشة.

يتحاشى كافكا، بشكل منتظم، وصف حياته الداخلية بشكل مباشر في أعماله الكبيرة، إنه يكتفي بعرض الأشياء التي تومئ إلى انطباعاته، وإلى العقبات التي تقف في وجه رغباته. وهو يؤدي ذلك بالدقة الباردة الجديرة بمحضر جلسة أو تقرير إثبات حالة، ومن هنا فإن وصفه الموضوعي للعبث يثير الحيرة بسبب جفافه. ولا شك أن أسباب إعجابه بجوركي تكشف لنا عن اتجاهه: «مما يؤثر على النفس أن ترى كيف يرسم جوركي ملامح أي إنسان دون أن يصدر عليه أي حكم. أود أن أقرأ ذات يوم ملاحظاته التي كتبها عن لينين.»١٢٩
والموضوعية هي النموذج الذي يستوحي منه ملاحظاته: «يتكلم أشميد عني بوصفي بنَّاء، ولكني لست سوى رسام متواضع لا يحسن أداء عمله. يقول أشميد إني أضفي جوًّا غريبًا على الأحداث اليومية العادية، وهذا خطأ كبير؛ فالأحداث اليومية هي في حد ذاتها أشياء خارقة، ومهمتي تقتصر على توصيلها.»١٣٠

والواقع الاجتماعي الذي يشهد عليه كافكا، ويعانيه كضحية، ويقيم له المحاكمة، لا يقل وهمية عن المجتمعات السحرية أو الأسطورية عند الإنسان البدائي. لم تعد غربة الإنسان وليدة عجزه عن مواجهة قوى الطبيعة، بل تنشأ اليوم من إحساسه بالعجز أمام قوًى أجنبية معادية. ومن الممكن أن ينقضَّ الطوفان في أية لحظة ليُغرِق الناس ومنجزاتهم وأحلامهم وقيمهم. وفي ظل الغربة تجري الحياة اليومية في جو من القلق والخوف من الكارثة الداهمة، وهذا ما يُشعِرنا به كافكا بشكل مباشر وملموس. وهو لا يحتاج إلى وسيط، بل يكتفي بوصف الواقع كما هو بلا أية إضافات خارجية، أي بوصف الواقع بآلاته المعقدة المصانة بعناية، وأيضًا بتهديداته وضغوطه التي يفرضها، وبالمخاوف ودواعي السخرية والتمردات التي يثيرها في رءوس الرجال وقلوبهم. وهكذا يوحي إلينا كافكا، من خلال هذا الوصف وحده، بضرورة قيام عالم آخر، هذا بالرغم من أن الحركة الذاتية التي تحقق الانتقال من هذا العالم إلى عالم آخر؛ لا تتراءى له.

يقدم لنا كافكا مأساة الوجود في الإطار الظاهري للحياة اليومية، بأشعار لا تعرف التسامح مع عالم الغربة وعالم ضياع الذات. وهو يعرض لنا هذه المأساة بدقته في تشريح أجهزة هذا العالم المعقد، مع إبراز جوانب غموضه ودواعي الشعور بعدم الطمأنينة. ولا تدَّعي موضوعيته في وصف العالم اللاإنساني أنها تقدم إجابات للمشكلات التي تطرحها قضايانا، ولكنها تدفعنا دفعًا إلى البحث عنها. تَحسُر موضوعيةُ كافكا النقابَ عن الوجه الزائف لهذا العالم الذي يدَّعي أنه يحقق الأمان، ليكشف عن حقيقته الفظة المتجهمة، وعن تفسخ وتصدع البناء المهزوز الذي يدعي الشموخ والخلود. وتجبرنا هذه الموضوعية على الإحساس بأن هذا العالم لا يستقيم مع نفسه، وتدفعنا إلى الوعي بحالة الغربة التي نعيشها.

ونجد دائمًا فيما يحكيه لنا كافكا العالمَ المألوف بكامله، ولكننا نحس منذ الوهلة الأولى أن هناك أمرًا شاذًّا يغير من الأضواء المسلطة على كل شيء. وتوقظنا هذه الهزة؛ فها نحن بصدد أسرة برجوازية صغيرة مطمئنة، فإذا بابنها، المندوب التجاري الهادئ، يتحول فجأة إلى حشرة ذات أرجل عديدة، إنه «التحول» في كل العلاقات القائمة بين الأشياء وبين الناس. وجوزيف ك، المندوب المفوض الذي لا يمكن أن يأخذ عليه القانون أو الرأي العام أي شيء، يُقبَض عليه لحظة استيقاظه بلا سبب ظاهر، حتى إنهم يطلقون سراحه فورًا. غير أنه لا يزال متهمًا؛ ولذا فقد انقلب مجرى حياته تمامًا كما انقلبت علاقاته بالمؤسسات وبالناس. فحياته تجري الآن وفقًا لمنطق آخر، لا صلة له بالمنطق العادي. ولكن التحول الذي أجراه كافكا ليس ضربًا من التعسف، مما يُشعِرنا لا بالغربة، ولكن بالدهشة الكاملة. وهكذا يتجلى لنا جمود التقاليد والالتزامات والقيم المتعارف عليها، مما يدعونا إلى النظر في أمرها. كما نشعر أيضًا بأن المفاهيم الاجتماعية والتقليدية لم تعد تقنعنا، وأننا مطالَبون بإيجاد مبررات أخرى غير حكم العادة.

وتلك هي رسالة المُوقِظ التي آلى كافكا على نفسه الاضطلاع بها، واضعًا ثقته في البشر، حتى إنه كان يقول عن أسوأ الناس في الدنيا: «إنهم أناس يمشون وهم نيام، لا أوغاد.»١٣١
وبعد أن يحدث الشرخ من جراء أول سؤال، وأول يقظة، يَحُول كافكا بيننا وبين النكوص إلى الوراء. وتظهر قدرة كافكا على فتح عيوننا من إصراره الدائم على تحطيم كل ما هو روتيني في ذكرياتنا وآمالنا: «فماضينا ومستقبلنا يتحكمان فينا.»١٣٢

وقد آلى على نفسه أن يحطم هذه الشبكة، وأن يعيدنا إلى حاضرنا بلا قصد ولا تدبير منه. وهذا الحاضر لا يشكل نقطة انتقال في مسيرة، بل حق دائم لنا في رجوعنا إلى أنفسنا. إننا منكبُّون تمامًا على عادات الحياة. لم تعد الأحداث تتعاقب أمامنا كما كان يحدث، وكما عودَنا الواقع السلبي، لقد جرد كافكا هذه الأحداث من ثيابها المتهرئة التي تسمَّى المنطق بحكم تقليديتها، والتي لم تعد تسبقها الأسباب ولا تعقبها التفسيرات.

وفي هذا الحلم أو الكابوس المنسوج من نفس خيوط حياتنا اليومية، يمسك بتلابيبنا كلٌّ من التعسف والشذوذ، ونعجز عندئذٍ عن الاستشهاد بسابقة، فتجبرنا بذلك لامنطقيةُ ما يبدو معقولًا على أن نشعر بكياننا وبمسئوليتنا.

وفي مواجهة الغربة التي تفرضها الحياة الآلية، يقدم لنا كافكا عالمًا غير مكتمل، عامرًا بالأحداث التي تتركنا دائمًا معلَّقين. إنه لا يحاول نقل العالم ولا تفسيره، بل بناءه في شموله ليبرز لنا عيوبه، ويوحي لنا بضرورة تجاوزه، وضرورة البحث عن الوطن المفقود.

وهنا يتخلى كافكا عنا، فقد قادنا في دروب الجحيم المتشابكة، وأرشدنا من بعيد إلى تجربة النور من خلال نفق طويل لا نهاية له، ثم تركنا عند هذه النقطة. فعالم كافكا هو عالم الغربة، وعالم الوعي بالغربة.

وعالمه هو عالم اللغة، ولكنها لغة تم تشكيلها في قالب من عالم الملكية، ولا تستطيع إلا أن تُلمِّح إلى عالم الكينونة. إنها تعجز عن إرشادنا إلى عالم الكينونة كما تعجز عن الكلام عنه.

لم يخرج كافكا من عالم الغربة؛ ولذا فهو يرى أن العالم المحسوس وعالم الغربة شيء واحد. وتظل اللغة أسيرة له: «عندما تُستخدم اللغة في التعبير عما يوجد خارج العالم المحسوس، فلا بد من استخدامها بطريقة التلميح لا بطريقة التشبيه؛ لأن اللغة في عالم المحسوسات لا تخص سوى الملكية وعلاقاتها.»١٣٣
وأقصى ما يستطيعه كافكا هو أن يوحي بما ينقصنا وما نفتقد. وحكايات كافكا، شأنها شأن بعض قصائد مالارميه وريفردي، ليست سوى حكايات لما نفتقد. «لا توجد ملكية، لا يوجد سوى كائن يطالب بوجوده حتى النفس الأخير وحتى الاختناق … وعندما قالوا له إنه قد يكون مالكًا ولكنه لن «يكون كائنًا»، كانت إجابته ارتعاشة ودقة قلب.»١٣٤
لقد قادنا كافكا إلى حدود الغربة، وظل يهاجم هذه الحدود دون أن يتمكن من تخطيها أو اختراقها. ولم يكن عدم استكماله أغلب أعماله، وعلى رأسها أعماله الثلاثة الكبرى؛ محضَ صدفة؛ فقد جاب كافكا كل رحاب الغربة، ووصل إلى مشارف أرض المعاد، أرض الكينونة، دون أن يتمكن من دخولها. على أن ما أقدم عليه يؤكد وجوده، وهذا هو أقصى ما وصل إليه. وهو يقول في «المحامي الجديد»: «في عهد الإسكندر كانت أبواب الهند بعيدة المنال، إلا أن سيف الملك كان يشير على الأقل إلى وجهتها. وقد انتقلت هذه الأبواب الآن، وأصبحت أبعد وأعلى مما كانت بكثير، ولكن ما من شخص يشير لنا إلى اتجاهها. وما أكثر عدد الذين يحملون سيوفًا، على أنهم يكتفون بالتلويح بها، والعيون التي تريد أن تتبعها تتيه!»١٣٥ فهذا الفن يريد أن يوعز إلينا بتجربة اللامتناهي المعاشة، من خلال انتفاءاته. وعدم اكتمال هذا الفن هو قانونه.

يخلق كافكا في كل عمل من أعماله ما يشبه «النموذج»، على غرار ما يفعل العلماء الآن لكي يدرسوا الظواهر. ولذا فهناك معانٍ كثيرة تتراكم معًا؛ فالمجاز القضائي في «المحاكمة» قابل للتفسير الطبي أو النفسي أو الديني أو الأسطوري. على أن كلًّا من هذه التفسيرات أو مجموعها معًا، لا يعبر عن المعنى المقصود في أعماله؛ وذلك أولًا لأن الرمز لا ينفصل أبدًا عما يرمز إليه في كل عمل خلاق، في الأدب كما في التصوير والشعر. وأهم ما تتميز به الأسطورة هو قدرتها على الإيحاء لا بالتفسير، ولكن بالرؤية وبالتجربة المعاشة. وثانيًا لأن بناء النموذج ابتداءً من وصف مجموع علاقات إنسانية هو إشارة أو رمز للواقع يتجاوز كل التأويلات، فالمستقبل ينعكس في العالم الصغير الذي تخلقه الأسطورة.

والشعر هو بالذات فن تفتيت الوقائع الحاضرة إلى أساطير ورموز لما لم يحدث بعد، بل إننا نستطيع أن نقول عن طيب خاطر: إن الشعر هو التجربة المعاشة ﻟ «المفارقة»، ولو أن هذه الكلمة ترتبط في الأذهان بمعناها اللاهوتي. لسنا بصدد الحنين الديني إلى عالم آخر، ولكن بصدد شحذ إحساسنا باللامتناهي. وكافكا، كأي فنان آخر أصيل، شاهد على أبعاد هذا اللامتناهي.

إن إمكانيات الإنسان اللامتناهية قادرة على فتح كل الأبواب والنوافذ المغلقة. والفن الحقيقي طريقة للتذكير باللامتناهي، وكانت مهمة الأساطير العظيمة هي التذكير دائمًا باللامتناهي، وبإثارة السعي إليه. ولا توجد أي جوانب لاهوتية في الرغبة في كسر دائرة العالم المغلقة، وفي عدم التخلي عن كل ما يتعدى التحليل الواضح الرشيد للحاضر.

إن المطالبة بالشمول في البحث عن معنى الحياة، وفي إرادة بنائها وفقًا لقوانين أفضل؛ تجعلنا في معركة مع ما سنكون، أي في معركة مع ما ينقصنا حتى الآن وما نجهله بالضرورة عن أنفسنا، ومع ما لا نستطيع أن نفكر فيه أو أن نقوله الآن، دون أن نتخلى مع ذلك عن قوله أو التفكير فيه.

لا بد أن تُترجم لغة هذه «المفارقة» الإنسانية بتعبيرات الإنسانية العظيمة المتفتحة على المستقبل؛ أن تترجم بهذه التعبيرات الخطوات الغامضة للَّاهوتية السلبية التي تكتفي بسرد ما يتنافى مع المطلق، ما دامت لا توجد لغة للتعبير عنه بشكل إيجابي.

يتحاشى كافكا ذكر الله، ولا يكاد يطلق هذا الاسم للإشارة إلى سعي الإنسان من أجل تجاوز الوضع الراهن بالبحث عن قانون أجمل للحياة وباكتسابه وإقراره. ولكي تكون لغته لغة «المفارقة» الحقيقية، فهو يرسم في أفق الإنسان ما كان يسميه ياسبرز «رمز الفشل». ويبدو أنه كان يتمرس على «تجربة لوجود من خلال الفشل».١٣٦ إن مفترق الطرق لكل أنواع العبث والشقاء الممكنة يشير في حد ذاته إلى قانون جديد، ويولِّد في نفوسنا حاجة لا تُقهر إلى بثِّ الحياة في هذا القانون.

وتتمثل عظمة كافكا في نجاحه في خلق عالم أسطوري لا ينفصل عن عالمنا الواقعي، بل يكوِّن معه وحدةً واحدة. والواقع أن الفن عبارة عن خلق إبداعي يتجلى فيه الواقع من خلال الوجود الإنساني. لقد خلق كافكا عالمًا خياليًّا بمواد عالمنا هذا، مع إعادة ترتيبها وفقًا لقوانين أخرى، تمامًا كما فعل المصورون التكعيبيون في الفترة نفسها؛ إذ كشفوا الشاعرية الكامنة في أبسط الأشياء اليومية عن طريق نسخها بوعي. وإذا أردنا أن نعرف كافكا فليس هناك ما هو أفضل من تطبيق حكمه شخصيًّا على أعمال بيكاسو. قال يانوش عن بيكاسو في أول معرض تكعيبي له في براغ: «إنه يشوِّه بإرادته»، فأجابه كافكا: «لا أظن ذلك، إنه يسجل التشويهات التي لم تدخل بعدُ في مجال وعينا؛ فالفن مرآة «تتقدم» كما تتقدم الساعة.»

١  عن مجموعة القصص القصيرة «سور الصين»، الناشر: جاليمار، ص٢٢٠.
٢  كراسات، في «الاستعدادات لحفل زواج في الريف»، ص٢٣٥-٣٣٦.
٣  يوميات خاصة، الناشر: جراسيه، ص٢٢٢.
٤  يوميات خاصة، الناشر: جراسيه، ص٢٢١.
٥  ثماني ملازم من ١٦ صفحة، في «الاستعدادات لحفل زواج في الريف»، ص١٠٣.
٦  الإغراء في القرية، الناشر: جراسيه، ص٤٧.
٧  خطابات إلى ميلينا، ص٢٥٠.
٨  يوميات خاصة، ص٥٢٩.
٩  يانوش: «كافكا قال لي»، ص٥٨.
١٠  «أبحاث كلب»، في «سور الصين»، الناشر: جاليمار، ص٢٣٢.
١١  يانوش: «كافكا قال لي»، ص١٦٣: «شعب التوراة عبارة عن تجمع أفراد من خلال شريعة. غير أن الجماهير تعترض اليوم على هذا التجمع وتنزع إلى الانفصال؛ لأنها لا تشعر بالترابط الداخلي».
١٢  خطابات إلى ميلينا، ص٢٢١.
١٣  يانوش: «كافكا قال لي»، ص٩١.
١٤  «أبحاث كلب»، في «سور الصين»، الناشر: جاليمار، ص٢٣٣.
١٥  «أبحاث كلب»، في «سور الصين»، الناشر: جاليمار، ص٢٧٠.
١٦  خطابات إلى ميلينا، ص٢٤٨.
١٧  خطابات إلى ميلينا، ص٢٤٧.
١٨  رسالة إلى الأب في «الاستعدادات لحفل زواج في الريف»، ص١٧٨، ١٧٩.
١٩  يوميات خاصة، ص٢٣٧–٢٤١.
٢٠  المرجع السابق، ص٥٤١.
٢١  خطاب إلى الأب، في «الاستعدادات لحفل زواج في الريف»، ص١٩٥.
٢٢  يانوش: «كافكا قال لي»، ص١٤١.
٢٣  يوميات خاصة: كتابة مقال «كله مغالطات» … في صف مؤسسة أو ضدها، ص١٣١.
٢٤  ماكس برود، «فرانز كافكا» (أفكار)، ص١٣٢، ١٣٣.
٢٥  يانوش: «كافكا قال لي»، ص٢٦.
٢٦  يانوش: «كافكا قال لي»، ص١٥.
٢٧  خطابات إلى ميلينا، ٢ فبراير ١٩٢٢م، ص٢٠٧.
٢٨  المرجع نفسه، ١٣ فبراير، ص٢١١.
٢٩  ملازم من ١٦ صفحة، (٢٣ يناير ١٩١٢م)، في «الاستعدادات لحفل زواج في الريف»، ص١٠٥.
٣٠  يوميات خاصة، ص٢٦٩.
٣١  يانوش: «كافكا قال لي»، ص١٧٥.
٣٢  خطابات إلى ميلينا، ص١٠٩.
٣٣  نجد هذا المعنى نفسه في يومياته الخاصة في أول نوفمبر عام ١٩١١م؛ ١٧ أكتوبر ١٩٢٢م؛ ١٩ يناير ١٩٢٢م: «السعادة اللانهائية، السعادة الدافئة المحررة، هي أن يجلس الإنسان بجوار مهد الطفل، في مواجهة الأم. هذا الشعور لا يتوقف علينا اللهم إلا إذا سعينا إليه. أما شعور الإنسان الذي لا طفل له فهو متوقف عليه، وفي إمكانه أن يحدده … كان سيزيف أعزب.»
٣٤  خطاب إلى الأب، في «الاستعدادات لحفل زواج في الريف»، ص١٠٩.
٣٥  خطابات إلى ميلينا، ص٢٦٥.
٣٦  أحبَّ الحاكم الروماني تيتوس الأميرة اليهودية برنيقة، وأراد أن يتزوجها، إلا أنه اضطُر إلى إعادتها إلى مسقط رأسها «بالرغم منه وبالرغم منها»؛ حتى لا يثير غضب الشعب عليه. (المترجم)
٣٧  يوميات خاصة، ص٢٢٣.
٣٨  يوميات خاصة، ص٢٢٣.
٣٩  المرجع نفسه، ص١٨٣.
٤٠  خطابات إلى ميلينا، ص٦١.
٤١  يانوش: «كافكا قال لي»، ص١١٩ و١٦٢.
٤٢  يوميات خاصة، ص٢٢٢.
٤٣  يانوش: «كافكا قال لي»، ص١١٩ و١٦٢.
٤٤  يانوش: «كافكا قال لي»، ص٦٤ و١٣٧.
٤٥  المرجع نفسه، ص١٧.
٤٦  «ظلمات»، في «سور الصين»، الناشر: جاليمار، ص١٧٤.
٤٧  هذا ما حدث أيضًا مع الكلب عندما تساءل عن علة وجوده: «لقد تغيرت حياتي … لقد اكتشفت شرخًا بسيطًا وأنا أنظر إليها عن كثب، كان هناك دائمًا شيء على غير ما يرام، نوع من الضيق»، إلى أن جاءت لحظة «خرجت لهم فيها بأسئلتي بكل غطرسة، وبأعلى صوتي وسط الجلبة». عن «أبحاث كلب»، في «سور الصين»، ص٢٣١ و٢٣٨.
٤٨  «القلعة»، ص٧١.
٤٩  «القلعة»، ص١٤ و١٥.
٥٠  يانوش: «كافكا قال لي»، ص٣٠.
٥١  المحاكمة، ص٣٦٠.
٥٢  ملازم من ١٦ صفحة، في «الاستعدادات لحفل زواج في الريف»، ص١٠٢.
٥٣  «سور الصين»، الناشر: جاليمار، ص١٠٤.
٥٤  الاستعدادات لحفل زواج في الريف، ص١١١.
٥٥  ملازم من ١٦ صفحة، ٢٦ فبراير ١٩١٨م، في «الاستعدادات لحفل زواج في الريف»، ص١٠٩.
٥٦  القلعة، ص٧٨.
٥٧  يانوش: كافكا لي قال، ص١٥٥.
٥٨  يوميات خاصة، الناشر: جراسيه، ص٢٩٧.
٥٩  «الجحر»، في «مستعمرة الأشغال الشاقة»، جاليمار، ص١٣٧.
٦٠  المرجع نفسه، ص١٥٢.
٦١  المرجع نفسه، ص١٥٦.
٦٢  المرجع نفسه، ص١٥٤.
٦٣  «أسلحة المدينة»، في «سور الصين»، جاليمار، ص١٢٨.
٦٤  سور الصين، ص١٠٢.
٦٥  المرجع نفسه، ص٩٥–٩٩.
٦٦  ملازم من ١٦ صفحة، في «الاستعدادات لحفل زواج في الريف»، ص٧٧.
٦٧  «الرحيل»، في «سور الصين»، الناشر: جاليمار، ص١٧٢.
٦٨  «تأملات حول الخطيئة والألم والأمل»، في «الاستعدادات لحفل زواج في الريف»، ص٤٠.
٦٩  «أبحاث كلب»، في «سور الصين»، ص٢٣٤ و٢٩٠.
٧٠  «تأملات حول الخطيئة والألم والأمل»، في «الاستعدادات لحفل زواج في الريف»، ص٤٤ و٤٥.
٧١  يوميات خاصة، الناشر: جراسيه، ص٢٩٠.
٧٢  المحاكمة، ص٣٤٢.
٧٣  يانوش: «كافكا قال لي»، ص٥٩.
٧٤  ماكس برود: فرانز كافكا، ص٢٧٠.
٧٥  المحاكمة، ص٣٥٦.
٧٦  المرجع نفسه، ص٣٥٨.
٧٧  ملازم من ١٦ صفحة، في «الاستعدادات لحفل زواج في الريف»، ص١٠٩.
٧٨  «بروميثيوس»، في «سور الصين»، الناشر: جاليمار، ص١٣٥.
٧٩  «طبيب القرية»، في «التحول»، الناشر: جاليمار، ص١١٩.
٨٠  «أبحاث كلب»، في «سور الصين»، ص٢٤٦.
٨١  «أبحاث كلب»، في «سور الصين»، ص٢٤٧.
٨٢  ملازم من ١٦ صفحة، في «الاستعدادات لحفل زواج في الريف»، ص٣٠١.
٨٣  «تأملات حول الخطيئة والألم والأمل»، ص٣٨؛ انظر أيضًا «اليوميات الخاصة»، ص٣٦: «أعيش في هذا العالم كما لو كنت واثقًا تمامًا من أن هناك حياة أخرى.»
٨٤  يوميات خاصة، (١٦ أكتوبر ١٩٢١م)، ص١٨٧.
٨٥  يوميات خاصة، (٢٥ فبراير ١٩١٢م)، ص١٦٦.
٨٦  يانوش: «كافكا قال لي»، ص٥٢.
٨٧  يوميات خاصة، (١٧ أكتوبر ١٩١٢م)، ص١٨٧.
٨٨  المرجع نفسه، (١٩ يناير ١٩٢٢م)، ص٢٠٢.
٨٩  يوميات خاصة، (١٨ أكتوبر ١٩٢١م)، ص١٨٩.
٩٠  يوميات خاصة، ص٢٢٠.
٩١  يانوش: «كافكا قال لي»، ص١٠٧.
٩٢  المرجع نفسه، ص١٠٨.
٩٣  يانوش: «كافكا قال لي»، ص١١٧.
٩٤  «تأملات حول الخطيئة والألم والأمل»، في «الاستعدادات لحفل زواج في الريف»، ص٣٩.
٩٥  يوميات خاصة، (٣١ يوليو ١٩١٤م)، ص٦٠.
٩٦  يانوش: «كافكا قال لي»، ص٤٠.
٩٧  كراسات مختلفة في «الاستعدادات لحفل زواج في الريف»، ص٣٠٥.
٩٨  المرجع نفسه، ص١٠٦.
٩٩  «الحزن الأول»، في «مستعمرة الأشغال الشاقة»، ص٥٣.
١٠٠  «بطل الصيام»، في المرجع السابق نفسه، ص٨٣.
١٠١  «المغنية جوزيفين»، في المرجع نفسه، ص٩٠.
١٠٢  كراسات، ٢١ يونيو ١٩١٢م.
١٠٣  «أقوال مأثورة»، سنة ١٩١٧م.
١٠٤  «المغنية جوزيفين»، في «مستعمرة الأشغال الشاقة»، ص٩٣.
١٠٥  القلعة، ص٣٤.
١٠٦  «خطاب إلى الأب»، في «الاستعدادات ﻟ …»، ص١٩١.
١٠٧  يانوش: «كافكا قال لي»، ص٣٥–٣٧.
١٠٨  يوميات خاصة، ٨ ديسمبر ١٩١١م.
١٠٩  يانوش: «كافكا قال لي»، ص١٠.
١١٠  «كراسات مختلفة وأوراق متناثرة»، في «الاستعدادات لحفل زواج في الريف»، ص٢٩٥.
١١١  «تأملات»، المرجع السابق، ص٤٢.
١١٢  «كراسات مختلفة وأوراق متناثرة»، المرجع نفسه، ص٢٤٨.
١١٣  «تقرير مقدم للأكاديمية»، في «التحول»، ص١٦٥.
١١٤  المرجع نفسه، ص١٦٤.
١١٥  المرجع نفسه، ص١٧٧.
١١٦  المرجع نفسه، ١٧٦.
١١٧  المرجع نفسه، ص١٧٧.
١١٨  «المغنية جوزيفين»، في «مستعمرة الأشغال الشاقة»، من ص٩٦ إلى ص١٠١.
١١٩  «الجحر»، في «مستعمرة الأشغال الشاقة»، ص١٣٧ و١٥٢.
١٢٠  المرجع نفسه، ص١٥٦.
١٢١  «أبحاث كلب»، في «سور الصين»، ص٢٤٦.
١٢٢  المرجع نفسه، ص٢٤٥.
١٢٣  التحول، ص٧.
١٢٤  التحول، ص٧١.
١٢٥  التحول، ص٨٩.
١٢٦  المحاكمة، ص١١٥.
١٢٧  «عن الرموز»، في «سور الصين»، ص١٣٠.
١٢٨  الكراسات، أورد هذه الفقرة ماكس برود في كتابه «فرانز كافكا»، ص٢١٧-٢١٨.
١٢٩  يانوش: «كافكا قال لي»، ص٧٩.
١٣٠  المرجع السابق، ص٥١.
١٣١  يانوش: «كافكا قال لي»، ص٨٢.
١٣٢  «خياليات»، في «إغراء القرية»، ص٤٩.
١٣٣  «تأملات حول الخطيئة والألم والأمل»، في «الاستعدادات …»، ص٨٠.
١٣٤  ملازم من ١٦ صفحة، في «الاستعدادات»، ص٨٠.
١٣٥  «المحامي الجديد»، في «التحول»، ص١٠٩.
١٣٦  كارل ياسبرز، الفلسفة، المجلد الثالث، ص٢٣٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤